لِيَخز طالِبو نَفْسي و يَفتَضحوا ولْيَرتَدَّ إِلى الوراء مُضْمِرو الشرّ لي و يَخجَلوا ( مز 35 /4)
3- توطئة كتاب الوردية - جنود مريم
يمرّ العالم اليوم بأسوأ مرحلة من تاريخه، من الناحيتين الاجتماعيّة والخلقيّـة. بحيث فُقدت المحبّة، وأصبحت المادّة مسيطرة على القيم الإنسانيّة، وطغت المصلحة الذاتيّة على روح الأخوّة والتعاون بين الناس، حتّى جاز القول بأنّ العالم اليوم في عصر من الانحطاط الروحيّ والاجتماعيّ.
وبعد تأمّل قصير بغاية الله لخلق الإنسان على صورته ومثاله، وهي العمل على تمجيد اسمه تعالى وشكره ومحبّته من خلال محبّة البشر لبعضهم بعضًا والسير على طريق السلام والبرّ والصلاح، بعد هذا التأمّل بواقع الحال، نجد عمق الهوّة بين الإنسان وربّه، تلك الهوّة التي تعمل الخطيئة باستمرار على اتساعها.
لقد ضلّ الإنسان عن طريق الخير، عندما استعمل كلّ طاقاته المعطاة له نعمًا من الله لخيره وسلامه، في طرق الشرّ والحروب والفتك والدمار، والتفنُّن بفعل الفساد بمختلف وجوهه البشعة.
أعطاه العقل ليسمو به نحو الكمال، فكان استعماله لفعل الخطيئة والسير بها نحو الهاوية. أصبح الإيمان فاترًا في النفوس إن لم يكن معدومًا، وروح المسيح والإنجيل تتلاشى من قلوب المؤمنين يومًا بعد يوم، ولا أحد يسأل عن المصير. الإلحاد والإباحة والفجور والانغماس في الملذّات الدنيويّة، وجميع المفاسد على الإطلاق، حلّوا محل المحبّة والتواضع والتجرّد والتقشّف وفعل الإماتة وحمل الصليب والصلاة. والفساد يتضاعف سنة بعد سنة، ترى ماذا سيكون الحال بعد خمس أو عشر سنوات على هذه النسبة؟
إنّها بالتأكيد كارثة روحيّة واجتماعيّة رهيبة!
وإلى أين يتّجه العالم، ولا من رادع يردع، وأي نهاية تترتّب على كلّ هذه الميول والمفاسد الشريرة؟ إنّنا نسير بأرجلنا نحو الهاوية ونحو الهلاك الأبديّ لا محال! إلاّ إذا عدنا عن ضلالنا، وبدأنا نتتبّع الطرق الخلاصيّة التي رسمها لنا الله، من خلال يسوع ومريم أمّه.
والعمل بروح الإنجيل المقدّس هو خير سبيل للنجاة من الموت المؤبّد: "من يسمع كلامي ويعمل به يرث الحياة الأبديّة". وكذلك الصلاة هي عنصر مهمّ في الكمال الروحيّ وواسطة مهمّة للخلاص، وغذاء للنفس يؤهّلها للسمو أكثر وأكثر نحو الآب.
بالصلاة يعطينا الآب كلّ ما نريد، شرط أن تكون نابعة من القلب: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم..."،
"صلّوا ولا تملّوا".
وبالصلاة ننجو من التجارب: "اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في التجربة...". بالصلاة نقدّم المديح والسجود والإكرام لله، ونجسّد محبّتنا وخضوعنا له، واعترافنا به دائمًا بأنّه إلهنا وأبانا: "أبانا الذي في السموات...".
والعذراء مريم لما بشّرها الملاك جبرائيل بقوله: "السلام عليكِ يا مريم...". جسّدت أيضًا محبّتها لله وخضوعها له عندما أجابت: "أنا أمة للرب فليكن لي بحسب قولك". وبهذا الجواب "نَعَمْ" بدأت مرحلة الخلاص بيسوع المسيح.
ولم ينتهِ دور العذراء بانتقالها إلى السماء، بل ظلّت دومًا معنا ولا تزال ترشدنا وتذكّرنا بكلّ وسائط الخلاص المعطاة لنا، لأنّها الأم الرؤوف الغيورة على إنقاذنا، تحمل إرادة الله للبشر؛
فكانت هديّتها الكبيرة للعالم وسيلة خلاص ترجوها لكلّ أولادها، هديّة محبّة تجسّد بها أمومتها لنا وسهرها الدائم علينا، وتفكيرها المتواصل بنا.
هذه الهديّة هي المسبحة الورديّة، حملتها للعالم سلاحًا ينجيه من مكائد الشرير الذي ملأ الأرض بشروره وفساده. حملتها له عندما أصبح على حافّة الهاويّة، وأسرعت لإغاثته بكلّ ما تحمل من عطف وحنان صارخة صرخة الأم المفجوعة وهي ترى أولادها يسعون للهلاك بأنفسهم.
ألا يحقّ لتلك الأم المملؤة بالعاطفة كلّ تعظيم وإكرام. وأيّ إكرام أحبّ إلى قلبها من الإكرام الذي هي أشارت إليه، وأعطتنا إيّاه وهو "المسبحة الورديّة المقدّسة".
فهل نرفض هديّتها، وخصوصًا أنّ غايتها هي إنهاضنا من الخطيئة، ووضعنا على طريق الخلاص! وإن كانت طويلة وصعبة، فهي مشت عليها طوال حياتها على الأرض، وما تزال ترافقنا وتحثّنا على حمل الصليب،
وتذكّرنا دومًا بكلام يسوع: "من أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ويكفر بنفسه ويتبعني". لأنّ الملكوت لا يعطى، بل يُغْصَب، وهي تساعدنا على كسبه وانتزاعه بشتّى الوسائل الخلاصيّة.
فكانت صلاة الورديّة، من بين تلك الوسائل التي أعطانا إياها الله على يد مريم، تعبّر عن محبّته لنا ومصالحته معنا، وعندما نتقبّلها نعبّر أيضًا عن محبّتنا له ومصالحتنا معه.
الورديّة هي أجمل صلاة لله من خلال مريم.
فالصلاة الربية التي علّمنا إياها المعلّم الإلهيّ يسوع المسيح، تكون مقبولة لدى الله أكثر من الصلوات التي ألّفها العلماء من البشر.
والسلام الذي ألقى به الملاك جبرائيل من قبل الله، يكون لدى العذراء أطيب وقعًا على قلبها من كلام الناس.
بالإضافة إلى أنّ الورديّة هي تأمّل دائم بحياة يسوع ومريم على الأرض، من خلال أسرارها الخمسة عشرة، التي هي موجز لكلّ المحطّات المهمّة في حياة المسيح، (ولادته آلامه وصلبه قيامته وصعوده إلى السماء).
فتصبح الورديّة عندئذٍ ينبوعًا من النعم، نحصل عليها عندما نتلوها بكلّ خشوع وتعمّق بأسرارها، وخير إلهيّ دُفِق علينا يجب أن نتقبّله بكلّ خضوع بنويّ.
كما أنّها أفعل وسيلة وأقوى سلاح لمحاربة الخطيئة، والتغلّب عليها، وبالتالي كسب النعم الإلهيّة والسلام الداخليّ في النفوس في العائلات وفي الأوطان.
إذن هي طريق تؤدّي بنا إلى الخلاص، وسلّم نصعد به نحو السماء.
وأخيرًا هي شكر ليسوع ولأمّه على كلّ النعم المعطاة لنا، ومن خلالها نتّحد مع يسوع عندما نتأمّل به ونعيش معه في كلّ مرحلة من حياته على الأرض. وهذا الاتحاد غاية التجسّد الإلهيّ، فقد حمل الله جسد إنسان وتأنّس، وهو الإله ليرفعنا أكثر وأكثر نحوه. لذلك علينا أن نسعى دائمًا للاقتداء به والاتحاد معه، فنحقّق إرادة الله في دعوته الجميع للقداسة والكمال: "كونوا كاملين...".
ولقد لبّى أجدادنا عبر الأجيال الماضية هذه الدعوة ، والمسبحة الورديّة في أيديهم سلاحًا يتلونها دائمًا، فأعطتهم الثبات والقوة في الإيمان، ممّا أوصل الكثيرين منهم إلى الخلاص والقداسة.
ونذكر منهم القدّيس شربل قدّيسنا الكبير وفخر الكنيسة، الذي عاش حياته كلّها اقتداء تامًا بالمسيح، ودائمًا المسبحة في يده يتلوها كلّ يوم أمام صورة العذراء شفيعته المحبوبة. فكانت له أجمل رفيق درب أوصلته بأمان وثبات إلى ما يسمو إليه قلبه، وهو الاتحاد بيسوع المسيح، فحصل على نعمة القداسة باستحقاق كبير.
تلك هي الرسالة التي تحملها العذراء للعالم، وتسعى إلى تحقيقها دائمًا من خلال صلاة الورديّة. من هنا ندرك أهميّتها في حياتنا الروحيّة، فلنواظب على تلاوتها كلّ يوم، في البيوت والكنائس ونقدّمها لأجل السلام في العالم، لأجل ارتداد الملحدين والخطأة للإيمان الصحيح، لأجل عودة الروح المسيحيّة والإيمان الحارّ إلى النفوس، ولأجل الأنفس المطهريّة المنتظرة دومًا صلاتنا لها.
وخصوصًا لأجل كلّ من يحاول أن يشوّه صورة مريم، بطعن طهارتها وبتوليّتها، ونقاوتها من كلّ دنس، وكلّ من يقلّل من قيمتها، وينكر شفاعتها ودورها الأساسيّ في رسالة الخلاص الإلهيّة.
والعذراء بدورها تتشفّع بنا لدى الله، وتطلب لنا منه الغفران والمسامحة والنعم السماويّة. وهي ترافقنا دائمًا أبدًا، ترشدنا إلى الطريق الصحيح الذي به نصل للخلاص، رجاؤها الدائم لجميع أبنائها على السواء.
ولنكن بالفعل أبناءً لها، متخذينها شفيعة دائمة بتلبية رغبتها الملحّة، فنتلوا الورديّة بكلّ خشوع. وهي تحتضن بين ذراعيها كلّ من التجأ إليها، وتنجّيه من كلّ شرّ وتكون عونه في التجارب، وفي كلّ عثرات الحياة.
"ومن كان للعذراء عبدًا، لن يدركه الهلاك أبدًا".
من كتاب :
الورديّـــة نشأتها وتاريخها
دورُها وأهميّتها في الحياةِ الرّوحيّة
جمعيّة "جنود مريم"