أَنشِدوا للِرَّبِّ وبارِكوا اْسمَه بَشَروا مِن يَومٍ إِلى يومٍ بِخَلاصِه (مز 96 /2)
18- دور الورديّة وأهميّتها في الحياة الروحيّة - جنود مريم
دور الورديّة وأهميّتها في الحياة الروحيّة
بعد هذه الشهادات في مدح الورديّة، من الطبيعيّ أن نسأل لماذا العذراء المجيدة والبابوات والقدّيسين، يعلّقون أهميّة كبرى على الورديّة المقدّسة.
وفي البدء، يمكننا أن نشرح ما تقدّم شرحًا طبيعيًّا. ألسنا نقول أنّ التاريخ معلّم الحياة؟
أنستطيع أن نجد معلّمًا للحياة المسيحيّة أقدر من حياة يسوع المسيح وأمّه العذراء المجيدة؟
هذا وأنّ الورديّة هي أسلوب للصلاة غايته الدقيقة أن يذكّرنا ويجعلنا نتأمّل في أسرار الدين المختلفة، أي الأحداث الأكثر بروزًا في حياة يسوع ومريم. ومن ذلك نفهم عمق الفائدة والخير الذي يولده في سيرتنا هذا التأمّل المتكرّر والخشوعيّ في مثال عجيب سام.
إنّ هذا الأسلوب في الصلاة يحملنا على استعمال التنبيهات التي أوصلنا إليها مخلّصنا الإلهيّ، فتصير طلباتنا مسموعة من ذات نفس الفعل.
لقد جاء في الإنجيل المقدّس "أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه، وهذا كلّه (أي النعم الأرضيّة المفيدة)، يزاد لكم" (متى 6: 33). واسألوا فتعطوا، أطلبوا فتجدوا، اقرعوا فيفتح لكم" (متى 7: 7).
والحال أنّ تلاوة المسبحة الورديّة بخشوع، ولو كانت نيّتنا متّجهة إلى النعم الأرضيّة، تجعلنا نطلب بصراحة ومباشرة وقبل كلّ شيء ملكوت الله وبرّه، وذلك بواسطة تأمّلنا في أسرار حياة المسيح وأمّه المحبوبة. فعندئذٍ تقبل نفوسنا إلى طلب الحقائق العمليّة التي تقودنا في طريق البرّ والقداسة المسيحيّة.
وأخيرًا بواسطة تكرارنا الملحّ تجعلنا نقرع بإيمان باب أبينا السماويّ، وأمّنا العذراء الممتلئة نعمة. وهذا هو السبب، الذي من أجله يحصل الذين يتلون الورديّة بخشوع وإدمان على النعم الروحيّة، ومن المحال بعدئذٍ أن نتسامح مع نفوسنا في السقوط بالخطيئة. وهكذا إذا تعمّمت تلاوة المسبحة في العائلات والمدن والبلدان يتبعها تجدّد في العادات الحميدة، وابتعاد الخطيئة فينجينا الله من التجارب والويلات.
وإنّ الغاية الرئيسيّة والداخليّة من تلاوة المسبحة الورديّة أن تجعلنا نتمثّل بيسوع، ونضاعف حبّنا له، وتدفعنا إلى الاقتداء به في حياتنا المسيحيّة، ونصل أخيرًا بشفاعة مريم على نعمة المعرفة والمحبّة والاقتداء، تلك النعمة التي ما من شيء يساويها على الأرض.
ولكي نصل إلى هذه الغاية يَلزمنا أن نفعل أمرين، قبل كلّ شيء التأمّل في الأسرار والتعمّق بها. ومن ثمّ المحافظة على إرادة مستيقظة ترافقنا طوال مدّة تلاوتنا لهذه الصلاة السامية والعميقة والحارّة "الأبانا والسلام والمجد".
هكذا من يمتنع عن تلاوة الأبانا والسلام والمجد، ويتأمّل فقط بالأسرار، لا يقوم بتلاوة المسبحة. ومن يتمتم الأبانا والسلام والمجد حسب نظام وضعها، ولا يتأمّل في الأسرار لا يفي تلاوة الورديّة.
فعلى الأقل يجب أن يكون عنده نيّة للتأمّل. وهذا هو أقلّ شرط تضعه لأبنائها الكنيسة الأم الحنون والمشجّعة التي لا تريد أن ينحرم أولادها من النِعَم والغفرانات العديدة المعلّقة على تلاوة الورديّة. لأنّ ثمرات الخلاص توازي دائمًا العناية التي نبذلها في تأمّل أسرار الورديّة.
والعذراء تريد أن توصلنا بيدها إلى ينبوع الحياة الوارد في الإنجيل، بصفتها أمًّا صالحة أحبّت أن تسهّل العمل على أولادها، فطلبت منهم أن يتلوا دائمًا المسبحة بخشوع وتوجّع وندامة على الخطايا. ولكي تجعلنا دائمًا بحالة التوبة وطلب الغفران طلبت إلينا من خلال ظهوراتها في فاطمة أن نزيد هذا الدعاء الصغير بعد كلّ بيت:
"يا يسوع اغفر لنا خطايانا نجّنا من نار جهنّم والمطهر، وخذ إلى السماء جميع النفوس خصوصًا تلك التي هي بأكثر حاجة إلى رحمتك".
هذا الدعاء يجذب قلوبنا إلى الحياة المسيحيّة التي تقوم على الإيمان بيسوع المسيح ومحبّته والاقتداء به. وهذا الدعاء يثير في نفوسنا:
1. فعل اتضاع عميق يعرّفنا أنّنا خطأة وأثمة نستحقّ نار جهنّم، وبهذا يُنـزع منّا الكبرياء التي هي العائق الأساسيّ الذي يقف في وجه الحياة المسيحيّة.
2. فعل إيمان بيسوع المسيح وتعليمه، عندما يمثُل لعقلنا عقائد إيمان تخالف طبيعتنا "نار جهنّم".
3. فعل رجاء بيسوع المسيح مخلّصنا، عندما ندعوه باستحقاقات أسراره، كي يخلّصنا من خطايانا وعواقبها المريعة.
4. فعل حبّ ليسوع مخلّصنا "يا يسوع..."، لأنّ الحبّ يميل إلى النداء وإظهار ما في القلب.
5. فعل محبّة لإخواننا الأحياء، إذ نفتّش عن مصالحهم كما عن مصالحنا "اغفر خطايانا نجنا..."، كما أنّه بالوقت نفسه فعل محبّة لإخواننا الأموات "خذ إلى السماء جميع النفوس...". وكلّ هذا هو الإيمان بيسوع المسيح ومحبّته والاقتداء به.
وجوب تكريم العذراء لا سيّما بتلاوة ورديّتها
إنّ تكريم العذراء مريم هو واجب على جميع المؤمنين لكونها أمّ الله. وإنّ أفضل تكريم لها ما أشارت هي إليه، وألحّت على تحقيقه من خلال أكثر ظهوراتها في العالم، ألا وهو تلاوة الورديّة.
على أنّ تكريمها لا يتمّ بالأقوال فقط بل يجب أن ترافقه الأعمال والسيرة الصالحة.
والله تعالى هو السابق إلى تكريمها، والبادئ في رفعة مقامها لأنّه منذ سقط آدم ووعده بالمخلّص لقيامه من سقطته، أشار إلى العذراء بأنّها هي التي تسحق رأس إبليس وتنجّي آدم وذريّته من نير عبوديّته. وتلك الإشارة قد عرفت منذ ذلك العهد وشاهده قول أشعيا "ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابنًا اسمه عمانوئيل".
فالعذراء التي تلد المخلّص المنتظر أما تستحق الإكرام. ثمّ إنّ الله لمّا بلغ ملء الزمان وحان الميعاد لإرسال المخلّص، بعث ملاكه جبرائيل إلى العذراء يبشّرها بتجسّد ابنه في أحشائها ويستطلع رضاها، ورعاية لحرمة عهدها بحفظ بتوليّتها، أبان لها أنّ روحه القدّوس يحلّ عليها وقد قال لها: "إنّها ممتلئة من النعمة وأنّ الربّ معها وأنّها مباركة بين النساء".
أليس هذا تكريم لها من الله وتعظيم لا مزيد عليه، فكيف لا تستحقّ تكريم البشر!
وإن كان المسيح يعدّ كلّ ما يصنعه الإنسان لأخيه الإنسان من أعمال البرّ كأنّه معه يصنعه، ويَعدُ بالمكافأة عليه أضعاف الأضعاف، فكيف لا يكافئ من أعطته من جسمَها ولحمه، وحملته في أحشائها وغذّته ثدياها ورافقته في جميع مراحل حياته، مشارِكة له في كلّ أحواله.
أو كيف لا يرضى بتكريمها على اسمه؟! وإن كان لا يرضى بذلك فلماذا أولاها أن تعمل ما قد عملت من العجائب الباهرة، وتعطي ما أعطته من المواهب الكثيرة للذين يكرّمونها.
وإنّ الكنيسة المقدّسة منذ نشأتها أقامت على اسمها المعابد، ورفعت صورها في المناسك والهياكل وهؤلاء جماهير علمائها وأوليائها قد ملؤوا الكتب بل المكاتب ممّا كتبوا وقالوا في حقّها.
وأكثرهم قدّيسون قد تأيّدت أقوالهم وأعمالهم بالآيات والعجائب السامية وكلّهم قد هاموا في إكرامها، وحرّضوا الناس على ذلك.
ومن قال بأنّ تكريم العذراء المجيدة وغيرها من أولياء الله يُنقص من عبادة الله جلّ جلاله أو يحطّ من مكانة إجلاله، فقد أخطأ كثيرًا وضلّ عن الصواب. لأنّ تكريم هؤلاء إنّما هو لأجل الله، إذ يزيد في عظمته ومكانة عبادته. على أنّ من يكرّم عبيد الملك لأجل سيّدهم، لا يهينه وينقص من كرامته لا بل ذلك مبالغة في كرامته لأنّه عائد إليه.
وإنّ تكريم المؤمنين للعذراء له طرق عديدة، ولم يكن ليتسنّى لنا معرفة ما هو أفضلها لديها وأحبّها إليها لو لم تصرّح هي لنا بذلك. فإنّها عليها أشرف السلام، قد أعلنت لعبدها الأمين القدّيس عبد الأحد، أنّ صلاة الورديّة أحبّ ما يكون إليها وإلى ابنها يسوع المسيح له السجود والتسبيح، وحرّضته كثيرًا على نشرها، فانتشرت بسرعة.
وعملت السيّدة من العجائب لكلّ الذين أقبلوا على تلاوة ورديّتها هذه، ما لم يدع مجالاً للريب في سمو شرف هذه العبادة، خصوصًا أنّها تتألّف من الصلاة التي ألّفها يسوع المسيح نفسه، والسلام الذي أرسل من الله إلى العذراء بفم ملاكه جبرائيل مع تسبحة الثالوث الأقدس.
وقد نظّمت هذه الصلوات الشريفة بسلك من درر الفداء، حتّى صارت كأنّها عقد من لآلئ فاخرة أو إكليل مرصّع بجواهر كريمة. وأي صلاة تكون أكثر قبولاً عند ابن الله يسوع المسيح من الصلاة التي ألقاها على تلاميذه وأمرنا أن نصلّيها. وهل يروق والدته المجيدة من كلام الناس مثلما يروقها سماع ذلك السلام المرسل من لدن الله. وأي شيء أشدّ تأثيرًا في قلب المسيحيّين من تذكّر أسرار فدائه، والتفكير بما كان من السيّد المسيح ووالدته مدّة حياتهما بشأن خلاصه. فإنّ تذكّر تلك الأسرار من سرّ البشارة حتّى سرّ الصعود، يشعل في القلوب السليمة نارًا سماويّة تذوب الروح عندها ندمًا على خطاياها، وهيامًا في حبّ مولاها، وارتياحًا إلى التعلّق بأذيال سيّدة الورديّة هذه.
وخلاصة القول فإنّه يتبيّن وبوضوح، أنّ صلاة الورديّة أحبّ الصلوات إلى العذراء، بعدما أيقنّا أنّ تكريمها ضروريّ لا بل واجب على كلّ مؤمن. وكلّ الأقاويل التي تحاول إسقاط هذا التكريم لهي باطلة ومرذولة، ومصادرها أصبحت معروفة من الجميع، ولا تخفى على أحد غايتها الدنيئة من تضليل أبناء الكنيسة الحقيقيّة "الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة".
لذلك علينا أن لا نسمح لتلك الأقاويل الخاطئة بأن تؤثّر على إيماننا الحقيقيّ، إيمان آبائنا وأجدادنا وإيمان القدّيسين الذي تثبّت بقداستهم. ممّا لم يعد هنالك مجالاً للشكّ بصحة إيمانهم وفي صلبه تكريم العذراء مريم أم الله.
وعلينا أيضًا أن نقوّي إيماننا، ونُقبل بحرارة أكثر على تكريمها خصوصًا بتلاوة ورديّتها بخشوع، طالبين إليها أن تساعدنا على ردّ أصحاب تلك البدع الذين يعملون على إفساد روح الإيمان الحقيقيّ في النفوس، إلى طريق الصواب والحقيقة، وإلى أحضان الكنيسة الأم جسد المسيح السريّ والمعصومة عن الخطأ.
من كتاب :
الورديّـــة نشأتها وتاريخها
دورُها وأهميّتها في الحياةِ الرّوحيّة
جمعيّة "جنود مريم"