فإِنِّي تَحَمَّلتُ العارَ مِن أَجلِكَ و غَطَّى الخَجَلُ وَجْهي (مز 69 /8)
السيادة في المسيح - الأرشمندريت توما بيطار
السيادة في المسيح
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي دوما
عظة أُلقيت في دير مار يوحنا دوما، الخميس التاسع من متّى، في 18 : 8 : 2005
يا إخوة :
الربّ يسوع يعطينا صورة أخرى مختلفة عن السيادة في هذا العالم. لا مانع أبداً أن يسعى كلُّ واحد لأن يكون سيِّداً. كلُّنا، في الحقيقة، مطبوع على التماس السيادة والعظمة. هذا من نِعَم الله. كل إنسان يشاؤه الربُّ الإله أن يصير إلهاً. إذاً، العظمة شيء مبارَك. الله عظيم. ونحن إذا ما كنّا على صورته ومثاله فلا يمكننا إلاّ أن نكون عظماء نظيره.
لكن سيادة الله أو، بالأحرى، الصورة التي رسمها الربّ يسوع، عن السيادة، بدمه، هي صورة مختلفة عن السيادة كما نعرفها في هذا الدهر. في هذا الدهر، رؤساء الأمم يسودونهم وعظماؤهم يتسلّطون عليهم. هذا لا يشاؤه الربّ الإله أن يكون بين الذين يؤمنون به. لمّا قال الربّ يسوع لتلاميذه:
"لا تدْعُوا لكم سيِّداً على الأرض لأنّ سيِّدكم واحد في السماء"، تنكّر، بالكامل، لكل سيادة من هذا الدهر وأحلّ محلّها، على الأرض، سيادة من نوع آخر، مستمددة من سيادة الآب في السماء".
الربّ يسوع المسيح أبرزَ هذه الصورة في جسده بشكل لا يقبل الالتباس. لم يشأ أن يتسلّط على أحد البتّة. لذا جاء كإنسان عادي. وُلد في مذود حقير. لم يكن له مكان يسند إليه رأسه.
إذاً، صورة العظمة في هذا الدهر لم تكن منطبقة عليه. الصورة التي عكسها كانت، بحسب هذا الدهر، صورة الخادم، صورة مَن يريد أن يبذل نفسه عن أحبّته. على هذا اقترنت صورة السيادة الجديدة بالصليب. بكلام آخر، مَن أراد أن يصير سيِّداً، بحسب المسيح، في هذا العالم، كان عليه أن يعدّ نفسه للموت من أجل الذين يريد أن يتسيّد عليهم.
من جهّة أخرى، مَن أراد أن يكون أوّلاً، بمعنى الكلمة، كان عليه أن يتّخذ صورة الخادم، أن يكون خادماً لحاجات الذين يريد أن يتسيّد عليهم. ونقول "حاجات" لا "نزوات" ولا "أهواء". الحاجات الإنسانيّة الأصيلة والعميقة.
المقاييس، إذاً، تبدو منقلبة. عند الناس، العظمة مرتبطة بحبّ الظهور، عند الله العظمة مرتبطة بحبّ التواري. بحسب العالم، السيادة معناها أن يأخذ الإنسان المكان الأوّل. عند الله، السيادة معناها أن يأخذ المكان الأخير. عند الناس أن يكون الإنسان متقدِّماً معناه أن يجعل كل الناس وراءه. عند الله، أن يكون الإنسان متقدِّماً معناه أن يعمل على تقديم الناس على نفسه بحيث يكون هو آخر الكل كالراعي.
الراعي الصالح يخدم الخراف. هو لا يتسيّد على الخراف. لا يقف منها موقف الآمر الناهي. فقط يرعاها. يلاحظها. هذا يجده أعرج فيحمله. هذا يلقاه مريضاً فيداويه. هذا يلقاه بلا قابلية على الأكل فيعينه حتى يستعيد عافيته. متى أراد أن يقود الخراف إلى المرعى كانت عينه على كل خروف، على كل نعجة، خاصة على الضعيف، على المريض، على المقصِّر لأنّه يغار عليها غيرة أبويّة أمّهيّة.
وهو يحفظها ويصونها ويحصِّنها وينتبه لها بحيث يكون مستعداً، إذا ما جاء الذئب، ومتى جاء ليخطف من يده بعضاً من خرافه، يكون مستعدّاً لأن يعرِّض نفسه للخطر، لأن يبذل نفسه عنها.
الخراف ترتاح، والراعي يجد راحته في ذلك. يرتاح حين تكون خرافه مرتاحة. ولكنْ، لكي يؤمِّن لخرافه الراحة لا بدّ له أن يكون هو في التعب. لا بدّ له أن يكون ساهراً عليها وهي نائمة. بحسب الجسد، يكون هو في التعب، ولكنْ، بحسب الروح، يكون في الراحة الحقيقيّة. حين يحفظ خرافه جيِّداً يكون قد تمّم خدمته. حين يحفظها إلى المنتهى ويبلِّغها إلى الحظيرة السماويّة، إذ ذاك، يكون قد حقّق صورة العظمة الحقّانيّة. لماذا؟
لأنّه يكون قد خدمها خدمة كاملة. يكون قد أحبّها. يكون قد سهر عليها. يكون قد بذل نفسه عنها. يكون قد بذل أتعابه وجسده ودمه.
في العالم، الناس يُربُّون الخراف ليذبحوها. عند الله الخراف الناطقة تُربَّى لتحيا. الذي يربّيها يطعمها من جسده. يموت لتحيا. يسقم لتتعافى. يجوع لتشبع. يعطش لتتملأ من المياه السماويّة. يماهي نفسه بها. يتخطّى ذاته إليها كإلى ذات جديدة. يجد نفسه وكرامته فيها. تصير جسدَه. هكذا سلك الربّ يسوع المسيح فيما بيننا.
هذه وحدها هي السيادة الحقّانيّة. فيما عداها كل سيادة استغلال، قمع، تسلّط. سيادة هذا الدهر استعمال للناس، تحت شعار الناس، لمنفعة مَن يتسيّد على الناس. الذين يتسيَّدون وفق هذا النموذج، في العالم، يحسبون أنفسهم آلهة. لا يسعهم أن يتصرّفوا إلاّ كآلهة. لا يمكنهم إلاّ أن يطلبوا من الناس العبادة.
العبادة والعبوديّة، في هذا الدهر، شيء واحد. الذي يستعبد الناس يقدِّم نفسه كإله برسم العبادة. إعتاق العبيد يفترض أن يتخلّى الإنسان عن كل تسيّد له بحسب هذا الدهر. يفترض أن يستعبد نفسه، طوعاً، للآخرين.
السيادة الحقّانيّة هي أن يسيِّدك الآخرون، بالرحمة، على أنفسهم لا أن تسيِّد أنت نفسَك عليهم. ليس بإمكان أحد أن يوجد خادماً للناس إلاّ إذا كان مستعدّاً لأن يُفرغ نفسه من صورة الألوهة المريضة، من صورة السيادة المريضة. لا يمكنه أن يصير سيِّداً حقّانيّاً إلاّ إذا عرف أن يتوارى، أن يموت من أجل الذين أحبّهم سيّدهم الأوحد في السماء.
هكذا نمدّ السيادة الحقّ التي هي في السماء. نحن نحبّ الخراف لأنّ الربّ الإله أحبّها وبذل نفسه عنها. بالخراف نحن مكلّفون وبهكذا سيادة نحن موكلون.
طبعاً، كل هذا الكلام جميل. لكنْ، ثمنُ هذا الكلام أن يبذل الإنسان دمه. أن يتعلّم، يوماً بعد يوم، أن يتنازل عن كرامته وعن حقوقه وعن مجده وعن عظمته، بحسب هذا الدهر. عليه أن يستفرغ كل ذلك. هذا ليس بالأمر السهل، ما دمنا في هذه الدنيا، لأنّنا نكون سالكين عكس التيّار. مَن لا يتملأ من الإيمان الفاعل بمحبّة السيّد فلا طاقة له على مواجهة التحدّيات. أنّى يكن الأمر، فإنّ هذا لنا هو السبيل الأوحد لسيادة حقّانية ولحياة حقّانية ولخدمة حقّانية.
كل شيء آخر، كل سيادة دهرية، إذا ما وجدت لذاتها موطئ قدم في كنيسة المسيح، فإنّها تكون علامة الدّنس القائم حيث لا ينبغي في بيت الله.
في كل حال، علينا أن نكون مستعدّين، أبداً، لأن نشهد بالروح والحقّ والكلمة لهذا المثال الذي، بحسبه، شاءنا الربّ الإله أن نكون جميعاً أسياداً في بيته، آلهة لديه، لأنّه لم يشأ البتّة أن يكون لديه عبيد.
كل أحد يستعبد نفسه لله، أما الله فيؤلهه ويسيِّده على العالمين. لذا يحدِّث القدّيسون عن سيادة الله وبها نتعاطاهم أسياداً لنا في هذا الدهر.