فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل ( مت 5 /48)
عظة/ توبة حتى قَطْعِ الرأس! - الأرشمندريت توما (بيطار)
توبة حتى قَطْعِ الرأس!
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.
يا إخوة، لا يكشف الله نفسه لنا إلاّ بعد إعداد. الله لا يأتي من دون سابق إنذار. طبعاً نحن لا نعرف متى يأتي بالضبط. ملكوت السموات يقترب، ولكنْ الله وحده يعرف تلك الساعة. نحن علينا أن نُعدّ أنفسنا بالتوبة. يوحنّا جاء كاروزاً للتوبة. والتوبة هي أن يعود الإنسان عن ضلاله إلى ربّه. التوبة هي أن يعود الله محوراً لحياتنا. التوبة هي أن يَحدث لنا تغيير في مستوى القلب، في مستوى الذهن.
لا يمكن الإنسان أن يأتي إلى الله إن لم يتغيّر قلبه. الإنسان الذي يبقى مقيماً في عتاقته، في خطيئته، في مشيئته الذاتيّة، هذا ولو تغيّر خارجيّاً فإنّه لا يُطالع وجه الله. الكشف الإلهي لا يأتي إلاّ بتغيير القلب. هذه هي خبرة القدّيسين، وهذه ينبغي أن تكون دليلنا إلى خبرة الله.
يوحنّا المعمدان كان، إذاً، كاروزاً للتوبة. الناس كانوا بحاجة إلى توبة. العالم بحاجة إلى توبة. كل واحد منّا بحاجة إلى توبة. ولا يظنّن أحد منّا أنّه يتوب مرّة واحدة. التوبة هي توبة كلّ يوم. جهد التوبة هو جهد يوميّ. لأنّ الإنسان، كلّ إنسان، فيه نزعة دائمة للعودة إلى الوراء. الإنسان يرتاح إلى عتاقته. لذلك الإنسان يواجه دائماً تجربة وهي تجربة الإنسان العتيق الذي فيه. لا يحسبنّ أحد منّا أنّ بإمكانه أن يتخلّص من إنسانه العتيق بسهولة. هذا عمل شاق وعمل يوميّ. كلّ يوم ينبغي لمَن يلتمس التوبة أن يموت عن نفسه، أن يطلب لا ما ترغب به نفسه، بل أن يطلب ما يشاؤه الله. والإنسان بسهولة يمكن أن يقدِّس إنسانه العتيق، أن يعتبر ما ترغب به نفسه من الله، أن يعتبر رأيه وفكره وما تشتهيه نفسه من الله. كلّ واحد منّا عُرضة لأن يؤلِّه نزعات إنسانه العتيق.
يقول: "هذا ما يريده الله". كيف تعرف يا إنسان أنّ هذا هو ما يريده الله؟ أيكفي أن تكون أنتَ مرتاحاً لرأيك، لفكرك، لِما يخطر ببالك؟ ولكن طبعاً يأتي السؤال: كيف أعرف، إذاً، ما إذا كان ما يحدث لي هو من الله أم لا؟ كيف أُميِّز؟ أوّلاً، لا يقدر أحد أن يميِّز إن لم يكن متّضعاً في القلب. والاتضاع هو موقف يقتنيه الإنسان أمام الله، يكون معه مستعداً، بكلّ صدق، لأن يتخلّى عن رأيه، عن فكره، عن نيّته، لأجل الله. إذا كان موقفنا الداخلي موقف مَن هو مستعدّ لأن يتخلّى عن طرقه الخاصة، إذ ذاك تتجلّى موهبة الاتضاع في حياتنا بالطاعة.
الطاعة أوّلاً وأخيراً. الطاعة ليست شأناً خارجيّاً، أن أعمل ما يطلبه مني أبي الروحي أو أمّي الروحيّة، الطاعة أوّلا تتضمّن تخلّيّ عن رأيي، الطاعة تتضمّن عدم تمسّكي بشيء على الاطلاق إلاّ بما يشاؤه الله. وأنا لا أعرف ما يشاؤه الله، ولكن أجعل نفسي بإزاء أبي الروحي أو أمّي الروحيّة كمَن يلتمس منهما كلمة الله. طبعاً الأب الروحي أو الأم الروحيّة ليس عنده مخزن يستخرج منه كلام الله لكل واحد منّا. مهما كانت خبرته ومهما كان فهمه، فإنّه لا يستطيع من ذاته أن يقول لأحد: هذا ما يشاؤه الربّ الإله منك. هذا مستحيل. إن لم تكن له نعمة خاصة من فوق، فإنّه لا يستطيع أن يتفوّه بكلام الله.
وهذه النعمة لا تعطى له لأنّه يصوم كثيراً أو يصلّي كثيراً فقط، مع أنّ الصلاة والصوم مهمّان جداً في صفاء النفس وفي تلقّي الكلمة الإلهيّة. ولكن الكلمة الإلهيّة تأتي، بالدرجة الأولى، من موقف الابن الروحي، من موقف البنت الروحيّة. إذا كان موقفهما موقفاً متّضعاً بمعنى الكلمة، إذا كانا مستعدَّين لأن يقتبلا كلمة الله بدون تحفّظ، إذ ذاك تعطى نعمة الله للأب الروحي حتى يتفوّه بكلام الله. حين يأتي الابن الروحي أو البنت الروحيّة ويكون متمسّكاً برأيه، ولكنّه، خارجيّاً، يريد بركة من أبيه الروحي أو من أمّه الروحيّة على موقفه هو، الذي هو متمسّك به، فلن تكون له بركة. البركة ليست موضوعاً كلامياً. البركة تأتي من الله بواسطة الأب الروحي أو الأم الروحيّة حين يكون الابن الروحي أو البنت الروحيّة مستعدَّين لقبول كلمة الله تحت أيّ ظرف.
إن لم يكن الأمر كذلك، فإنّ الإنسان الذي يأخذ بركة أبيه الروحي أو أمّه الروحيّة، على أمر من الأمور، لا يأخذ، في الحقيقة، بركة، بل يريد راحة لضميره وتكريساً لموقفه المشبوه به حين يكون متمسّكاً برأيه وبفكره. الله ليس ألعوبة بين أيدينا، والموضوع ليس موضوعاً عاطفياً ولا موضوعاً نفسانيّاً. أعطِ دماً وخذْ روحاً. الأب الروحي لا يمكنه إطلاقاً أن يقول شيئاً إلاّ إذا جعله الربّ الإله في قلبه. فقط إذ ذاك يكون مصحوباً بيقين. أحياناً كثيرة نتعاطى مع آبائنا الروحيّين بطريقة مغلوطة، نتعاطى معهم على صعيد نفساني، على صعيد اجتماعي. نحاول، بذكائنا وطرقنا الخاصة، أن نستميل الآباء الروحيّين لجهتنا، أي لجهة إنساننا العتيق وما نرغب نحن به. لذلك يتحوّل موضوع البركة إلى موضوع كلامي.
لنفهم، كلمة الله لا تعطى لنا إلاّ إذا اتّضعنا. والاتّضاع يتمثّل بالدرجة الأولى بالطاعة الحقيقيّة الكاملة النابعة من القلب في التعامل مع الأب الروحي أو الأم الروحيّة. أحياناً كثيرة ليس الأب الروحي هو الذي يصنع وَلدَه، بل تواضع ولده هو الذي يصنعه أباً، يجعله أباً بكل معنى الكلمة، أو يجعله أمّاً بكل معنى الكلمة. الخطر دائماً هو تحويل الروحيّات إلى نفسانيّات. فقط إذا كانت نيّة القلب صافية ونقيّة، إذ ذاك تتحرّك نعمة الله، والله يجد طريقة حتى يُبلِّغ مشيئته وكلمته إلى الذين يلتمسونها. قد يكون ذلك من خلال أب روحي أو أمّ روحيّة وقد يكون من خلال إنسان عادي.
يوحنّا الذي كان يكرز بالتوبة كانت سيرته سيرة توبة، كان يتفوّه بالكلام الإلهي لأنّه كان قد تبنّى سيرة النسك في حياته. كان بإزاء نفسه يعيش كما في صحراء. ليس فقط أنّه عاش في البرّيّة. طبعاً هو عاش في البريّة، ولكن البريّة الداخليّة كانت هي الأساس عنده.
كان همّه أن يسمع صوت الله أوّلاً وأخيراً. وقد أثبت، في نهاية المطاف، أنّه مستعد لأن يموت ولا يتخلّى عن طلبه سماع كلمة الله واقتبالها. كان متخلّياً بالكامل عن كل اخضرار غير اخضرار الكلمة الإلهيّة والملكوت السماوي. بالنسبة إليه هذه هي الخضرة الحقيقيّة، هذا هو الفردوس الحقيقي. ما كان يلبسه على بدنه كان يدلّ على ما كان يلبسه في قلبه. كان يلبس وبر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد. كان مشدوداً في داخله حتى لا يشاء أن يسمع كلمةً من أحد سوى الله.
هيرودس حاول أن يضغط عليه، لكنّه لم يكن مستعداً لأن يسمع له. هيرودس كان يَعِدَه بجنّات على الأرض وكان يسمعه بانبساط، ولكنّ يوحنّا لم يكن مستعدّاً لأن يسمع إلاّ الله. لأنّه كان على هكذا استقامة كان الله يكلّمه كما أُكلّمكم. كان كلام الله واضحاً أمامه وضوح الشمس، وكان يقينه الداخلي يقيناً كاملاً بأن هذا المتكلّم هو الله.
حين يكون الواحد منّا مستعداً لأن يتخلّى عن رأيه، لأن يتخلّى عن طرقه، إذ ذاك يأتيه اليقين، إذ ذاك تأتيه المعرفة، إذ ذاك يكلّمه الله كما يكلّم الصديق صديقه. وطبعاً، إذا كان هناك دائماً وسيط بين كلّ واحد منّا والله، يسوع هو الوسيط بيننا وبين الآب، والأب الروحي هو وسيط على صورة يسوع بين الابن الروحي والله، والأم الروحيّة هي وسيطة بين الابنة الروحيّة والله. الوسيط هنا الغرض منه حماية الابن والبنت الروحيّة من نفسيهما حتى لا يتحوّل انفتاحهما على الله إلى حوار داخلي بين الإنسان ونفسه. الإنسان يمكن أن يحاور عقله وهو يظنّ أنّه يحاور الله. يستوحي فكره ويظنّ أنّه يستوحي الله.
لهذا السبب الحاجة ماسّة دائماً إلى وسيط. الوسيط يكرِّس الحضور الموضوعيّ للإنسان أمام الله ولله أمام الإنسان.
لهذا، يا إخوة، علينا أن ندرك أنّ هذا النسك الداخلي الذي عاش فيه يوحنّا المعمدان هو الذي هيّأه لتَقبُّل كلمة الله. وكلمة الله التي أعطانا إيّاها كانت ثمرة توبة يوحنّا ونسك يوحنّا وإفراغ يوحنّا نفسه من كلّ كرامة ومن كل مشيئة خاصة، حتى جاء قطعه لرأسه إثباتاً على كلّ هذه السيرة التي سار فيها. نحن علينا أن نكون مستعدّين لأن تُقطَع رؤوسنا. وهذا معناه، بالدرجة الأولى، أن تُقطع مشيئاتنا وكراماتنا التماساً لمشيئته وسعياً إلى إفراغ أنفسنا من كل كرامة ومن كل اعتبار لأنفسنا. هذا أساس حتى لا يتحوّل التعاطي مع الله إلى عمل نفساني، إلى عمل قريب من الشيطانيّ. ولهذا لم يكفّ آباؤنا عن تذكيرنا بأنّ علينا أن نبذل دماً، علينا أن نموت عن أنفسنا حتى نقتني أنفسنا جديدة بروح الله، من عند الله، بحيث يصير هو لنا الحياة. "المسيح لي هو الحياة"، على ما قال الرسول بولس، "والموت ربح". هذا لا يأتي بهذه السهولة. في هذا الزمن الرديء كلّ واحد يبدو متمسّكاً بما هو لنفسه، بما هو لرأيه. ويسعى، بطريقة أو بأخرى، إلى استمالة الله إليه. كل واحد، في الحقيقة، يطلب وثناً ولا يطلب الله، لأنّه لا يريد أن يتغيّر. حتى لو تكلّمنا كلام الإنجيل، يمكن أن يكون موقفنا موقفاً وثنيّاً. نتعامل مع الله كوثن ولا نتعامل معه باعتباره نبعاً لحياة جديدة نحن اعتمدنا لها. اعتمدنا بالموت والحياة، اقتبلنا الموت قبل أن نُعطى الحياة الحقيقيّة. لذا كان علينا أن نحقّق معموديّتنا بسيرة كلّها إفراغ للذات وسعيّ إلى تواضع القلب وسعي إلى طاعة حقيقيّة نلتمس فيها كلمة الله ولا نلتمس لا كلمة أحد ولا كلمة أنفسنا.
إن لم نفهم هذا الأمر فسنبقى خارجاً. وأُذكِّر بكلمة قالها القدّيس ثاوفانس الحبيس مرّة: في الزمان الأخير سوف تكون هناك كنائس، والكنائس قد تكون عامرة أحياناً، وسوف تكون هناك صلوات، ولكن من علامات الزمان الأخير أنّ هذا كلّه يكون، بكل أسف، في الشكل ولا يكون في المضمون. الناس يطلبون كلّ ما لنفسه. لذلك تنسحب نعمة الله، نصرخها، نصرخ الله أن يعطينا نعمته ولا يعطينا. لأنّنا، في الحقيقة، لا نطلبها من كل القلب، بل نطلب أن يُزكّي الربّ الإله أهواءنا وشهواتنا. فلا تُعطى لنا النعمة لأنّ الله لا يشاء أن يكون ضامناً لخطيئة الإنسان ولأهواء الإنسان.
فإن فَهِمنا هذا الأمر، إذ ذاك تكون أمامنا فرصة لأن نتوب توبة أصيلة حقّانيّة، توبة مُعبَّر عنها بهذا النسك الذي سلك فيه يوحنّا حتى قَطْع الرأس.
فمَن له أذنان للسمع فليسمع