ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر، ذلك ما أعده الله للذين يحبونه (1كور 2 /9)
عيد الأم و وجوب إكرام الوالدين للمتنيح الأنبا غريغوريوس
عيد الأم و وجوب إكرام الوالدين
للمتنيح الأنبا غريغوريوس
هذه الوصية التي جعلها الرب أول وصية في اللوح الثاني, وهي وصية إكرام الوالدين أكرم أباك وأمك في مقابل الوصية الأولي في اللوح الأول, وهي وصية إكرام الله نفسه أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخري أمامي وأيضا هي أول وصية الله أعطاها بوعد, وهذا نوع من أنواع التشجيع للأولاد أن يكرموا والديهم, هناك وصايا فيها نهي مثل لا تقتل, لا تسرق, لا تزني.... إلي آخره
إنما هذه وصية بلغة العصر الحاضر فيها حوافز, إن الله يعطي تشجيعا, يعطي وعدا أكرم أباك وأمك لكي تطول أيام حياتك علي الأرض التي يعطيك الرب إلهك وهذا تكريم ونوع من الحض فهو أمر مصحوب بوعد لكي يكون هناك سلاحان معا في وصية واحدة, السلاح الذي يسمونه سلاح الضغط ثم سلاح الحض, فيجمع ما بين الضغط والحض, بمني أن ربنا يشجع الأولاد علي أن يكرموا والديهم وهذا يدل علي اهتمام الله بأنه يعطي هذه الوصية, وهذا تكريم للوالدين, وبيان أن الله ليس فقط يسر بذلك ولكن أيضا من يخالف هذه الوصية يقع تحت طائلة الحكم الإلهي
بأنه كسر وصية أمر الله بها, فيحرم نفسه من التشجيع ومن الحض ومن المكافأة التي وعد الله بها الذين يسمعون هذه الوصية وأن هذا نوع من أنواع الوفاء, أن الله يريد أن يكون عندنا فضيلة الوفاء لمن أحسن إلينا, وأول من أحسن إلي الإنسان من البشر أبوه وأمه, من أعطي الإنسان أو أحسن إليه كمثل ما يحسن إليه أبوه وأمه؟
وبالتالي الله يريد أن يقول إذا الواحد لم يكرم أباه وأمه بالتالي لا يكرم الله نفسه, وأيضا هذا تكريم آخر للأب والأم أن الله جعل هذه الوصية بهذه الصورة
وفعلا كما قال الرسول يوحنا من لا يحب أخاه الذي يراه كيف يحب الله الذي لا يراه؟ (1يو 4:20)
هذه لها ارتباط بالوصية الخامسة, لأنه إذا لم يكرم الإنسان أباه وأمه وهم أول ناس أحسنوا إليه, وكانوا سر وجوده في الحياة, فلا خير له بعد ذلك في زعمه أنه يعبد الله. فالله يرفض عبادة هذا الإنسان ويعتبره كاذبا في عبادته لأنه إذا كان لم يكرم أباه وأمه فبالتالي لا يكرم الله, لأن دائما إكرام الإنسان لله يكون مصحوبا بالوفاء لله والاعتراف بفضله, وكما جاء في المزامير باركي يانفس الرب ولا تنسي كل حسناته (مز 103:1)
فالحقيقة كون الإنسان لا يكرم أباه وأمه هذا معناه أنه أغفل حسنات الأب والأم, ومثل هذا الإنسان يكون إنسانا عاقا, والله لا يمكن أن يقبل عبادة من هذا الإنسان, لأن هذه العبادة كاذبة ولا يمكن أن تكون عبادة صادقة, لأنه إذا كان تنكر لأبيه وأمه وهم أول من أحسنوا إليه, بل سر وجوده في هذه الحياة, فالله لا يصدق أبدا عبادته له, بل يعتبر عبادته نافية وكاذبة ولا قيمة لها.
والله نفسه أعطانا صورة لهذا التكريم في موقف المسيح له المجد من مريم ومن يوسف, وكون الكتاب المقدس نسب إلي المسيح أنه كان خاضعا لأبويه. وكلمة أبويه هنا يوسف يعتبر أبا للمسيح بصفة اعتبارية, فيوسف ليس له دور الأب لأنه لم يكن أبا حقيقيا بل كان أبا اعتباريا, وكلمة أب اعتباري هنا مثل الطفل اليتيم فعمه أو أحد من الأقرباء في الأسرة رباه فيعتبر أبا له علي الرغم من أنه ليس من صلبه, لكنه يعتبر أبا اعتباريا, فالإنسان الذي يربيه أو الذي يرعاه يعتبر كالأب, وربما في بعض الأحيان أهم من الأب, ففي الكتاب المقدس كلمة أبويه, المقصود بها مريم ويوسف, لكن يوسف لا يعد أبا حقيقيا لأن العذراء مريم كانت طاهرة وكانت بتولا, إنما يوسف يعد أبا اعتباريا علي أساس أنه رعاه وصاحبه في كل رحلاته, حتي وصل سيدنا له المجد إلي سن 16 سنة
وكان هو النجار الذي يعول الأسرة ويرعي الأسرة, فمن هنا ممكن أن يعتبر يوسف أبا اعتباريا علي هذا النحو. المهم إذا كان الكتاب المقدس يقول إن المسيح نفسه بجلاله وهو الإله كان خاضعا لمريم ويوسف. هذا التعبير الجميل الذي تخرج منه المعاني الكبيرة الروحانية التي ممكن أن تستقي من هذا الوضع, أن يضع المسيح وهو إله الكون نفسه في وضع إنسان يخضع, وكلمة يخضع هنا تدل علي أن المسيح لم يكن مثل الأولاد الأشقياء الذين آباؤهم وأماتهم يأمرونهم بشئ فيعملون ضده.. لا أتصور بتاتا أنه حدث شئ من هذا القبيل, فكلمة خاضعا لهما بمعني إيجابي, وهو تعبير كبير وجميل يعطينا فرصة لأن نفهم الكرامة التي أعطاها الله لمريم ويوسف, بأن الكتاب المقدس يعبر بأن ملك السموات والأرض جعل نفسه في هذا الوضع أن يكون خاضعا لمريم ويوسف.
وهنا الكتاب المقدس يقدم المسيح معلما بالمثال وكان ينفذ لها رغباتها ويلبي طلبها وهناك قصص كثيرة في أرض مصر كان المسيح يتدخل في بعض المواقف ويرشد أمه خاصة أنها كانت صبية صغيرة في سن 13 أو 14 سنة وكانت تضيق من بعض المواقف خصوصا عندما تكون مضطهدة لكن هو من وقت لآخر كان يعطيها الإرشاد والتوجيه.
وقلنا إنه شرف لمريم كأم بأن أول معجزة جهارية صنعها المسيح كانت هي معجزة تحويل الماء إلي خمر في عرس قانا الجليل, استجابة لطلب العذراء مريم, فهذا تكريم لمريم وشرف لمريم وبالتالي شرف للأمومة كلها, والمسيح نفسه أخذ يردد في العهد الجديد لكل إنسان أكرم أباك وأمك وهو الأمر الصادر في الوصية الخامسة الذي جاء في سفر الخروج, مما يدل علي أن الإنسان مطالب بذلك في العهد الجديد.
شفقة الوالدين:
وإذا كنا نسمع أحيانا عن أب غضب علي ابنه وطرده من بيته, أو أم دعت علي ابنها وغضبت عليه, فتأكد تماما أنه ليس من السهل أن الأب أو الأم يفعلان ذلك, إلا إذا كان فعلا إثارة ابنه جعلته ينسي حنانه ورقته, لأن الكتاب المقدس يقول كما يشفق الأب علي البنين يشفق الرب علي خائفيه (مز 103:13)
فمنسوب للأب أنه يشفق علي أولاده, فهذه الشفقة إذا فقدها الأب في بعض الأحيان ففي الغالب يكون مصدرها أن الابن فعل فعلة شنيعة, بحيث إنه آثار الأب وأطفأ جذوة الشفقة في قلبه نحو ابنه, وتوجد صورة عملية لهذه المسألة, أبشالوم قام علي أبيه داود وقاد جيشا ضد أبيه وكان يقصد أن يقتل أباه ليحل محله في الملك, وخرج داود متغطي بالمسوح وهذه علامة أنه متألم كيف يقوم ابنه عليه, وأصبح ابنه يقود حركة ضد أبيه, فهذه مسألة كانت شنيعة جدا, ولذلك كانت موجعة لقلب داود, ولو أن داود نفسه وجد فيها نوعا من الجزاء الإلهي علي أخطائه أو علي خطاياه, حتي عندما شتمه واحد اسمه شمعي بن جيرا, تحمس واحد من رجاله وأراد أن يضرب شمعي بن جيرا, وقال كيف يجرؤ هذا الكلب علي سيدي الملك, فقال له داود اتركه إن الرب قال له اشتم داود, ومعني ذلك أن داود اعتبر أن شتيمة شمعي ابن جيرا كانت جزاءا عادلا علي أخطائه, وهذا يدل علي تقوي داود أنه اعتبر نفسه كما قال: خطيئتي أمامي في كل حين, فصارت خطيئته تطارده, ولذلك عندما رأي أن ابنه قام عليه اعتبر أن هذه العملية هي في الواقع مقابل خطيئته أمام الله, لأنه إذا أرضت الرب طرق إنسان جعل حتي أعدائه يسالمونه, المبدأ الموجود في الكتاب المقدس. فكون الابن يقوم علي أبيه هذه عملية أخذها داود بكل الاتضاع واعتبر أنها مقابل جزاء لخطيئته, ولذلك اتضع جدا وتغطي بمسوح وهو مطرود من الملك, وترك عاصمة ملكه وتمشي متغطيا بالمسوح, المهم انتهت المسألة بأن أنصار داود انتصروا علي رجال أبشالوم, وشاء الله أن أبشالوم تعلق رأسه في أغصان البطمة ثم ضرب ومات واعتبر ذلك قضاء إلهيا, فلما مات أبشالوم كان داود في حالة مرة وأخذ يبكي, ويقول يا ابني أبشالوم يا ابني أبشالوم وكان بكاؤه مستمرا, وهذا يدل علي مشاعر الأب بالرغم من أن ابنه عاق وكان يريد أن يقتل أباه. ولم تكن المسألة مجرد مسألة حرب فقط بل كانت حربا نفسية وثورة أدبية, وجعل الناس يقومون علي أبيه, كل هذه الفظاعة, ومع ذلك داود أخذ يبكي, لدرجة أن يوآب غضب جدا علي داود وهو رئيس الجيش, وقال له اليوم يوم انتصار وأنت تبكي, إذا لم تمسح عينيك وخرجت للشعب وطيبت قلوب الناس كلنا سننصرف عنك, هذه هي مشاعر الأبوة عند داود نحو ابنه علي الرغم من أن ابنه كان عاقا, فشفقة الأب علي الابن مذكورة في الكتب المقدسة إنها نموذج أو دليل علي رمز لشفقة الرب علي الناس.
***
إكرام الوالدين يأخذ صورا كثيرة جدا منها أسلوب التعامل مع الوالدين, أسلوب الحديث, اللهجة الطيبة, وعدم النرفزة والصوت العالي في الحديث والعصبية, والوجود في حضرة الأب والأم يقتضي آدابا معينة, في طريقة الجلوس, وعدم شتيمة الوالدين أو إهانتهما, عادة الأم تكون مظلومة لأن الابن يفرق في المعاملة بين أبيه وأمه لأنه يخاف أباه أن يضربه أو يطرده, فالأم حنونة ورقيقة والابن يستغل هذا الحنان ولذلك نحن نعطي الإكرام للأب أكثر من الأم نتيجة الخوف, لكن المفروض أن تأخذ نفس الدرجة من إكرام ابنها أو بنتها, والإكرام لا يكون بالنواحي السلبية فقط ولكن بالنواحي الإيجابية, أيضا نخدمهم ونساعدهم ونحملهم كما حملونا ولا نستنكف من قيامنا بهذا الواجب. نحملهم بالمعني المادي للكلمة, إن الواحد فعلا يحمل أباه وأمه في حالة الحاجة إلي ذلك لأنه لا يقدر أن يمشي, فنحملهم في شيخوختهم, ونحملهم أيضا بمعني أننا نحمل متاعبهم, فالأب والأم في مرضهم أو في شيخوختهم تكون لهم متاعب, بمعني أنك تخدمه في شيخوخته أو في مرضه أو في عجزه, ليس فقط أنك تحضر له الدكتور أو الدواء, ولكن قد يقتضي الأمر أنك أنت تحمله فعلا, هناك مثل عامي يقول: الولد للكفن والبنت للعفن أي أن البنت تحمل أوساخ أمها وتنظفها وتحميها هذا هو العفن,
والولد للكفن أي يشتري الكفن وينفق علي جنازة أبيه أو جنازة أمه, ولا يتركهما لآخرين يقومون بهذا الواجب, لا..... أنت عليك قبل أي إنسان آخر أنك أنت تقوم بهذه الخدمة, فهنا إكرام, لكن هناك معني آخر للإكرام, وهو الإعالة, الإعالة أي أنه يعول أباه وأمه في شيخوختهما أو في عجزهما أو في مرضهما وينفق عليهما.
فالإكرام ليس فقط أن الابن يكون مؤدبا في علاقته بأبيه وأمه, في أدب الخطاب أو أدب الحضور في حضرة الأب والأم, وكيف يقابلهما وكيف يقف في حضرتهما وما إلي ذلك, ولكن أيضا أنه يعول الأب والأم في الشيخوخة وفي المرض وينفق عليهما, ويعتبر أن هذا الإنفاق وهذه الإعانة واجب وليس فضلا منه, لأنه يرد جميل أبيه وأمه.