طَريقُ الشَريرِ قَبيحَةٌ عِندَ الرَّب أَمَّا الواعي إِلى البِرِّ فهُو يُحِبّه (ام 15 /9)
سلسلة مخافة الله (10) - تصل إلي مخافة الله بمهابة الكبار وبالخشوع و احترام المقدسات - قداسة البابا شنودة الثالث
سلسلة مخافة الله (10)
تصل إلي مخافة الله بمهابة الكبار وبالخشوع واحترام المقدسات
بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
إذا تعود الإنسان أن يهاب من هو أكبر منه, أعني أن يهاب والديه, ومدرسيه, وأقاربه الكبار, والآباء الكهنة, ورؤساءه في العمل.. حينئذ سيصل بالضرورة إلي مخافة الله الذي هو أعظم من الكل.
لأنه إن كان الشخص لا يهاب أباه الذي يراه, فكيف يمكنه أن يخاف الله الذي لا يراه؟!
إن أبا الأباء يعقوب يذكر هيبة أبيه إسحق (تك 31: 42) لهذا فإن الذي يشعر بهيبة أبيه وجلاله ووقاره, لا يستطيع أن يخطئ أمامه, ولا أن يخطئ إليه, من هيبة أبيه وتقول وصايا العهد القديم: كل إنسان سب أباه أو أمه, فإنه يقتل, قد سب أباه أو أمه, دمه عليه (لا 20: 9)
ويقول الكتاب أيضا:
العين المستهزئة بأبيها, والمحتقرة إطاعة أمها, تقورها غربان الوادي (أم 30: 17).
وهكذا أمر الله بطاعة الوالدين, وعدم الاستخفاف بأوامرهما حتي إن كبر الابن, وناقش والده في أمر من الأمور, يكون ذلك باحترام يليق بمعاملة الأب ولا يجوز له أن يتحدث معه حديث الند للند, أو يتعامل معه علي قدم المساواة.. بل يضع أمامه باستمرار وقار الأبوة, ومستوي السن.
قديما كان الصغار لا يستطيعون أن يتكلموا في وجود الكبار, من فرط هيبتهم.
نري هذا واضحا في قصة أيوب الصديق, الذي كان له ثلاثة أصحاب تناقشوا معه مدة طويلة, بينما صمت رابع كان بينهم, وكان اسمه أليهو بن برخئيل البوزي, ولما اضطر إلي الحديث بسبب أخطائهم, قال لهم أنا صغير في الأيام, وأنتم شيوخ لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لكم رأيا, قلة الأيام تتكلم, وكثرة السنين تظهر حكمة (أي 32: 6, 7).
والقديس الأنبا بيجيمي السائح, يتحدث عن بدء رهبنته, فيقول إنه عاش سنوات كثيرة وسط الشيوخ لم يرفع عينيه إلي وجه واحد منهم.
أما في أيامنا هذه, فباسم الحرية والديموقراطية, قل احترام الكبار, وأصبح الصغير يمكنه أن يجادل الكبير ويستخف برأيه, دون احترام.
وبالتالي يتدرج إلي الجرأة علي كل ما هو كبير, حتي علي القانون وعلي النظام العام, ويفقد المخافة, فيتحول إلي الاستهانة بكل شيء, وما أسهل في هذا الوضع أن يفقد مخافته لله أيضا, ويفقد احترامه لوصاياه, وبدلا من أن يطيعها يناقشها!!
ولكن لا يمكن أن يفعل هذا, من تعود احترام القانون والنظام, أن الشخص الذي يحترم إشارة المرور, ولا يمكن أن يكسرها مهما كانت الدوافع, هذا سيحترم بالأولي وصية الله ويهابها.
كذلك التلميذ الذي تعود احترام مدرسه, والجندي الذي تعود احترام قائده, كلاهما سيتعود مخافة الله.
قديما, في القرن الأول الميلادي, وقبل الميلاد, كان المعلم أو الأستاذ يجلس علي كرسيه في قاعة الدرس, بينما يجلس التلاميذ علي الأرض عند قدميه, كما ذكر بولس الرسول أنه تعلم عند قدمي غمالائيل (أع 22: 3). بهذا الوضع تعود التلاميذ احترام معلميهم, ولكن الوضع تغير الآن, وأصبح علي الأقل, إذا تحدث التلميذ مع أستاذه, يجب أن يقف ليكلمه, ولا يتكلم التلميذ وهو جالس مع أستاذه, بينما الأستاذ واقف!!
بنفس وضع احترام المعلمين قيل عن مريم أخت مرثا إنها جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه (لو 10: 39).
هذه الهيبة تقدم أيضا لرجال الدين, لأن الذي يهاب خادم الرب, سيهاب بالأكثر رب هذا الخادم.
والذي يهاب وكيل الله (تي 1: 7) لابد أن يهاب الله نفسه.. وهكذا رأينا كيف كانت مهابة داود النبي لشاول الملك باعتباره مسيح الرب, علي الرغم من أخطاء شاول, ومحاولته قتل داود!! إلا أنه لما وقع شاول في يده, رفض أن يوقع به, وقال لرجاله حاشا لي من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي مسيح الرب, فأمد يدي إليه, لأنه مسيح الرب هو (1صم 24: 6).
ومن مهابته كمسيح الرب, كان داود يناديه يا سيدي, وكان يسجد أمامه (1صم 24: 8).
وكمثال من هيبة رجال الله, هيبة المعترف لأب اعترافه, كوكيل لله في سماع خطاياه:
فتكون جلسة الاعتراف لها هيبتها ولها وقارها, يشعر فيها المعترف أنه أمام الله, يعترف عليه في سمع الأب الكاهن, وأنه إلي الله وحده قد أخطأ (مز 50) وأنه يأخذ الحل من الله, من فم الكاهن.
والذي يهاب اعترافه, بالتالي يهاب الله, ولكن حذار من أن تعتقد أن العلاقة في الاعتراف هي بينك وبين أب الاعتراف, وليست بينك وبين الله! وتخجل من أب الاعتراف بسبب خطاياك, دون أن تخجل من الله!!
إن المهابة لا نقدمها للآباء الكهنة فقط, وإنما أيضا للقديسين الذين انتقلوا.
فالرسل مثلا ينبغي أن نتحدث عنهم في مهابة.. وإذا اقتبسنا من رسائلهم, لا نقول: يقول بطرس ويقول بولس.. إنما يقول معلمنا القديس بطرس الرسول, ومعلمنا القديس بولس الرسول.. في مهابة لهم.
ونفس الوضع بالنسبة إلي آباء البيعة فكثيرا ما يتحدث البعض للأسف قائلين: هذا هو تعليم أثناسيوس وكيرلس, أما الذين لهم في قلوبهم هيبة واحترام لآبائنا القديسين, فيقولون: حسب تعليم أبينا القديس العظيم البابا أثناسيوس الرسولي.
والكنيسة كمثال لاحترام القديسين تضع في صلوات البصخة المقدسة لحنا يسبق عظة القديس التي تقرأ, ولحنا آخر في ختامها, بكل إجلال.
لحن في منتهي الجمال نبدأ به العظة, ويقدمها المرتل للسامعين, وفي نهايتها يقول فلنختم عظة أبينا القديس الأنبا فلان, الذي أنار عقولنا وقلوبنا بتعاليمه النافعة..
حقا هذا هو احترام القديسين وهيبتهم في الكنيسة.
ولا ننسي الذكصولوجيات العديدة, وكل ما نقوله من تماجيد للقديسين, تجعل هيبتهم مثل محبتهم في قلوب المؤمنين, والزفة بالألحان والموسيقي لرفاتهم في أعيادهم.
وكذلك الاحترام الكبير لأيقونات القديسين.
من حيث تدشينها بالميرون المقدس, لتكون بركة للناس وأيضا إيقاد الشموع أمامها لإظهار أن القديس كان نورا للناس, يضاف إلي هذا تبخير الكاهن أمام أيقونة القديس بكل توقير, وزفة الأيقونة في عيد القديس بالتهليل والألحان.
فإن كنا علي هذا القدر نحترم القديسين وسيرتهم وأيقوناتهم وأعيادهم وعظاتهم, فكم بالأولي يكون شعورنا نحو الله خالق كل هؤلاء, وما ينبغي أن نظهره نحوه من مهابة ومخافة.
وكما يتدرب المؤمن علي احترام القديسين ومهابتهم, يتدرب أيضا علي مهابة الملاك الحارس له.
فلتكن لك إذن مهابة للملاك الحارس لك, مهابة لقدسيته ورسالته, فتستحي من هذا الملاك أن تفعل خطية أمامه, أو تلفظ لفظة غير لائقة قل لنفسك: كيف أفعل خطية, ويراني هذا الملاك القديس الطاهر الذي إلي جواري؟! فيشمئز منها ولا يحتمل, فيتركني ويذهب عني, وهو يردد المزمور القائل: في طريق الخطاة, وفي مجلس المستهزئين لا تجلس (مز 1).
طبعا يمكن أن يأتي الملائكة إلي مجالس المستهزئين, لكي يوبخوهم, أو يقودوهم إلي التوبة, أما المستهترون المستمرون في لا مبالاتهم, فإن الملائكة ينفرون منهم, ويتركونهم في لهوهم مع أصحابهم الشياطين, لأنه لا شركة للنور مع الظلمة, ولا خلطة للبر مع الإثم (2كو 6: 14).
إن خوفك من أن يتركك الملاك الحارس, هو جزء من مخافتك لله.
فاحرص علي هذه المخافة, واحذر من أن تبعد عنك الملاك الحارس بسبب خطية أو نجاسة. واذكر قول الكتاب ملاك الرب حال حول خائفيه ونجيهم (مز 34: 7) نعم إن ملاك الرب حال حول خائفي الرب, وليس حول المستهترين والمستبيحين, وكأنك حينما تخطئ, إنما تطرد ملائكة الرب من حولك!!
هل تظن أن ملاك الرب يقف ليتفرج علي منظر نجس شرير؟! كلا إن الملاك قديس لا يقبل ذلك, بل يبتعد ويمضي. أو علي الأقل يقول: نبعد الآن, إلي أن يرجع صاحبنا هذا إلي عقله, أو نعمل علي هدايته من بعيد, بأن نشفع فيه..
وما نقوله عن الملائكة, نقوله أيضا عن أرواح القديسين, وأرواح أحبائك الذين انتقلوا.
إن كنت تخاف أن يروك وأنت في حالة خطية, وتخجل من ذلك جدا, ابتعد عن الخطية ونجاستها, ويقودك هذا الشعور إلي مخافة الله.
علي أن مهابتك لا تقتصر علي كل تلك الدرجات العليا, من ملائكة وقديسين وآباء.
بل ينبغي أن تشمل مهابتك كل القيم والتقاليد.
لأن الذي يستهتر بالتقاليد والأنظمة والمبادئ والعادات المرعية, سيأتي وقت عليه يستهين فيه بوصايا الله..!
والجيل الذي يتمرد علي السلطة, كل سلطة, سلطة الأب والمدرس ورئيس العمل, وسلطة الحكام أيضا, سيأتي وقت عليه يتمرد فيه علي الله نفسه.
والذي لا يحترم من هو أكبر منه سنا, سيأتي وقت عليه لا يحترم فيه من هو أكبر منه مقاما, وقد يتطور إلي أن يتذمر علي الله نفسه, ويفقد مخافته لله.
فلنتدرب إذن علي احترام الكبار ومهابتهم, فنصل بذلك إلي مخافة الله ومهابته.
أما الوصول إلي مخافة الله عن طريق الخشوع واحترام المقدسات, فأرجو أن أرجئه إلي العدد المقبل إن أحبت نعمة الرب وعشنا.