وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إليه (لو 12 /30)
ما مدى معرفتنا للَّه - قداسة البابا شنوده الثالث
ما مدى معرفتنا للَّه
بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
كثيرون من الذين يقولون إنهم يعرفون اللَّه تمام المعرفة ويعبدونه، يكونون فى الواقع
لا يعرفون اللَّه معرفة حقيقية! ذلك لأن هناك أنواعاً من المعرفة فيما يتعلَّق بالعلاقة بين
اللَّه والإنسان.
أبسط الأنواع هو المعرفة العقلية التى يقول فيها الشخص: نعم أنا أعرف أن اللَّه هو الخالق العظيم الذى خلق السماء والأرض وما عليهما من سائر المخلوقات السمائية والأرضية، اللَّه الأزلي وحده، الذي لا يحده مكان، القادر على كل شيء ... اللَّه غير المحدود فى كل صفة من صفاته، فهو فوق الزمان وفوق المكان. وهو كُلِّي المعرفة. فهو يعرف ما فى باطن الأرض، وما فى أعماق الجبال ويعرف ما فى قلوب الناس، وما فى أفكارهم وما فى نيَّاتهم ... هذه المعرفة العقلية وحدها لا تكفي. لأن كل ما تفعله هى أن تملأ العقل أفكاراً،
وقد يبقى القلب فارغاً لا مشاعر فيه ولا حُب، ولا عاطفة ولا أحاسيس. إنها حالة إنسان قرأ عن اللَّه أو درس، دون أن تكون له صلة خاصة باللَّه.
إنها معرفة العقل لا القلب ... معرفة العُلماء فى الدين، وليست معرفة العابدين ... وحتى هذه المعرفة العقلية، أمامها مجال للزيادة والنمو، بالدراسة أو بالتأمل. وهى عند
البعض تتحوَّل إلى نطاق من الجدل فى الدين، وفى الحوار فى الأمور الخاصة باللَّه جلَّ جلاله.
أمَّا معرفتنا الحقيقية باللَّه، فهى المعرفة الاختبارية لنا مَن فى حياتنا. وهى التى لو تكون عن طريق الكتب أو المحاضرات أو شتَّى أنواع التعلم، بل هى عن طريق مُعاملات اللَّه
لنا ... عن إحساناته لنا فى احتياجاتنا، وحلّه لمشكلاتنا، ولمسنا حكمته فى تدبيره لحياتنا، واحتماله لنا فى أخطائنا، أو معاقبته لنا أو مغفرته، أو فتحه أمامنا لأبواب التوبة ... مع سائر ما نراه من صفات اللَّه الجميلة ... سواء من تعامل اللَّه معنا أو مع غيرنا ... أو من تدبيره الإلهي للأحداث ...
إن خبرتنا مع اللَّه تعطينا معرفة أكثر. وكُلَّما نعرفه نحبه ونُمجِّده، وتزداد معرفتنا له بالأكثر، ويزداد إيماننا به، ونرى فيه القلب الكبير الذي يحنو، والذي يرشد ... فتزداد معرفتنا به، ويتعمَّق اعتمادنا عليه ... ومع أن اللَّه قد يكشف لنا ذاته بأنواع وطرق شتَّى، إلاَّ أننا نحتاج أيضاً أن نُصلِّي في خشوع قائلين له: أعطنا يارب عِلم معرفتك ... على أن معرفتنا
للَّه ـ وإن كات تبدأ هنا على الأرض ـ ولكنها لابد ستستمر أيضاً في الأبدية إلى أن تصل إلى كمالها. فنحن مهما عرفنا عن اللَّه، ومهما درسنا عن صفاته الجميلة المجيدة، فكل ما نقوله
إننا نعرف فقط بعض المعرفة. لأننا ونحن في هذا العالم محوطون بضباب هذا الجسد المادي، فلن نصل إلى معرفة كاملة باللَّه تبارك اسمه. ولكننا حينما نخلع هذا الجسد، فأرواحنا الشفافة سوف تعرف أكثر في العالم الآخر.
ولكن هل ترانا سنعرف حينذاك كل شيء عن اللَّه؟ كلا لأننا مخلوقات محدودة، واللَّه غير محدود. ومن المُحال أن المحدود يعرف كل شيء عن غير المحدود!
فهل في الأبدية ستظل معرفتنا عن اللَّه قاصرة؟ كلا بل اللَّه سوف يوسع قلوبنا وعقولنا لكي تتسع لمعرفة أكثر عنه. فتبهرنا تلك المعرفة العجيبة عن اللَّه في عظمته وبهائه،
وجماله وكماله ... حتى أننا لا نستطيع أن نحتمل أكثر ... ونقضي بعض الوقت في انبهار بما قد كشفه لنا. ثم نفيق، ولست أدري متى! ونحن نتأمل في ما رأيناه وعرفناه، شاعرين بسعادة لا توصف، وما قد ذقناه من معرفة وما أطيبه ... ثم يعود اللَّه فيوسع قلوبنا وأفكارنا حتى تقوى على احتمال المزيد من المعرفة، حسبما تستطيع طبيعتنا البشرية المحدودة ...
ومع كل ما يكشفه لنا اللَّه عن ذاته، يظل كما هو اللّه غير المحدود، ونظل كما نحن الطبيعة البشرية المحدودة التي لا تستطيع أن تحتمل معرفة كل شيء عن اللَّه، إنما يكشف لها اللَّه عن ذاته بقدر فتنمو في معرفة اللَّه على قدر ما تحتمل ... إذاً نحن في الأبدية ننمو في معرفة اللَّه. ولكن إلى قدر مُعيَّن! بل إن صفة واحدة من صفات اللَّه لا نستطيع أن ندركها كلها في كمالها مهما مرَّ الوقت وطال.
لقد سبق أنَّ اللَّه جلَّ جلاله قد أعطانا من قبل معرفة عن طريق الوحي، وعن طريق الكشف الإلهي، وأعطانا معرفة عن سمائه وملائكته ومجده ... وأعطانا من المعرفة ما يكفي لأن نحب الحياة معه، ونحب تسبيحه وتمجيده بالقدر الذي يكفينا، وبالقدر الذي تحتمله
طبيعتنا ... فإن كان اللَّه في الأبدية سيعطينا أيضاً معرفة الجمال الذي يحيط بملائكته الأطهار وبسمائه، وبالنور الذي يحيط بهذا كله، فكيف إذاً يكون الجلال والجمال المحيطين بذاته وبعرشه!!
وإن كُنا هنا على الأرض لم نستطع معرفة الكواكب والنجوم والمجرَّات. فكيف سندرك معرفة خالق هذه كلها. بل إن كُنا على الأرض حيث نعيش، لا نعرف ما في باطن الأرض من أسرار، ولا ما يوجد في أعماق البحار، ونظل ننقب حتى نعرف بعض المعرفة ... بل فليعذرني القارئ إن قلت أننا حتى الآن لم نعرف أنفسنا! فما الذي نعرفه مثلاً عن الروح، وعن كنهها، وعن مغادرتها للجسد ... وإن كنا لا نعرف ما هو الجسد الروحاني الذي سنقوم به ... وإن كنا لم نعرف الإنسان وما يتعلَّق به من أسرار ... فهل في جرأة نسأل:
كيف سنعرف اللَّه في الأبدية؟!
كل ما أستيطع أن أقوله إننا سننمو في المعرفة، ونعرف عن السيد الرب الإله أشياء ما كنا نعرفها من قبل. وسوف نُبهر بما نصل إليه من معرفة تسعدنا فى العالم الآخر. حتى أننا نزدري بكل معرفة أخرى ... ويكون ما نعرفه عن اللَّه وعن الأبدية هو مصدر سعادة لنا فى السماء لا تُقارن بأية متعة أخرى بل أنها هى النعيم الأبدي، وليس يُماثلها شيء من مُتع هذا العالم التافه الذى نعيش فيه الأرضى.
نشكرك يارب على ما تعطينا إيَّاه من فضل معرفتك