فيَعلَموا أَنَّكَ أَنتَ وَحدَكَ اْسمُكَ الرَّبُّ المُتَعالي على الأَرضِ كُلِّها (مز 83 /19)
تدبير الخلاص فى العهد القديم - الفصل الخامس : الخلاص فى فكر الشعوب الوثنية - أبونا بولس حليم
الباب الأول : تدبير الخلاص فى العهد القديم
الفصل الخامس : الخلاص فى فكر الشعوب الوثنية
أولاً : أصل التدبير ثانياً : الخط العام للخلاص فى الفكر الوثنى ثالثاً : الخلاص فى العبادات الوثنية رابعاً : مظاهر الخلاص فى العبادات الوثنية خامساً : الخلاص فى الفنون لدى الشعوب الوثنية . سادساً : الخلاص فى الفلك والعلوم لدى الشعوب الوثنية سابعاً : الخلاص فى فكر الفلاسفة والشعراء والمؤرخين الوثنيين . ثامناً : عرض لحضارات الشعوب ورؤيتهم حول الخلاص . مقدمة ـ الذى يتتبع تاريخ الشعوب الوثنية يلمس أثار من مفاهيم وعبادات ومواقف وممارسات دينية تحمل تدبير الخلاص بالرغم أنها قد تكون غير مفهومة لممارسيها وكلها مفهوم لنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور . أولاً : أصل التدبير : ـ أن إنتظار الخلاص كان فى وجدان البشرية كلها متمثلة فى آدم وحواء (أصل كل البشرية) وأنتقل منهم إلى نسلهم المنتشر فى أنحاء المسكونة فبعضهم من عاش حسب تعاليم الأب الأول آدم مثل نوح وأسرته ومنهم من عاش فى أنحراف كنسل قايين وظلوا يبحثون عن الإله المجهول . ثانياً : الخط العام للخلاص فى الفكر الوثنى : ـ من يتتبع العقيدة الوثنية عند كل الشعوب يجدها لا تخرج عن فكرة أنه يوجد إله للخير (الله) وتوجد قوى للشر (الشيطان) وأن الخير لابد فى النهاية أن ينتصر (المخلص) . ـ فالعالم القديم على مختلف شعوبه بالرغم من أفكارهم المنحرفة إلا أنهم كانوا ينتظرون ذلك المنقذ (وأن كان فى شكل مبهم) الذى سترسله السماء يوماً ليحررهم . ثالثاً : الخلاص فى العبادات الوثنية ( الذبائح ـ الدم ) 1- أرتباط الخلاص بالدم . ـ التقليد الشفوى الذى انحدر إلى البشرية من آدم وراعاه نوح من بعده تناقلته كل الشعوب بما فيها الوثنية ... وبالرغم من انحراف هذا التقليد إلى أنه ترسخ فى وجدانهم أنه لابد من وجود مخلص وأن الدم وسيلة للخلاص . 2- الذبائح إرضاء للإله . ـ ونجد أن العبادات الوثنية ارتبطت بتقديم ذبائح دموية إرضاء للإلهة الوثنية أو لتكوين علاقة مودة مع الآلهة أو لاستعادة هذه العلاقة أو للحفاظ عليها وكانت تعتبر الوسيلة الوحيدة للاقتراب من الإله ومن هنا جاءت كلمة ( قربان ) لأنها كانت تعبر عن التقرب إلى الإله وإمعاناً فى التقرب إلى الله كانوا يقدمون ذبائح بشرية لإرضاء الآلهة .... بل وأكثر من ذلك قدموا الأطفال ذبائح لاعتقادهم أن هذا يرضى الله أكثر . 3- أصل الذبائح ـ أرتبط فى ذهن آدم وحواء أن الله أراد أن يكسوا عريهما بجلد الحيوانات وهذا لا يكون إلا بذبح الحيوانات ( تك 21:3 ) ... وأصبح راسخاً فى وجدان الإنسان الأول أن التكفير عن الخطية وستر العرى بالذبائح وأصبحت هى أساس العبادة .... وكانت الأجيال المتعاقبة كل يتعلم من سلفه أن يقدم الذبائح وإن كانت تشوهت عبر الأجيال . 4- تشوه فكر الذبيحة ـ بسبب إنحراف الفكر المسلم من آدم تشوهت فكرة الغاية من الذبيحة وذلك على النحو التالى : أ ـ قايين قدم من ثمار الأرض فرفضت تقدمته . ب ـ فى العبادات الطوطمية والتى تعتقد بوجود روح الإله فى حيوان ما وإذ يأكل العابد الذبيحة فهو يأكل الإله ويكتسب فى نفسه كل الصفات الجسمانية والعقلية والأدبية التى للذبيحة وفى بعض الحالات كان يشرب الدم وبذلك يمتص الحياة كما كانوا فى بعض الأحيان ينهشون لحم الحيوان قبل أن يموت تماماً وهو مازال ينبض بالحياة هذا الأسلوب الدموى البشع يلفت الانتباه إلى الارتباط بين الذبيحة والله نفسه . ج ـ تقديم الأطفال ذبيحة ... ولعل هذا ليلفت انتباهنا شروط ذبيحة الفادى الذى يموت نيابة عن البشر . ـ أن يكون بشراً = ذبيحة بشرية . ـ بلا خطية = طفل . 5- عقيدة الختان وارتباطها بالدم : ـ كان الختان عادة معروفه لدى شعوب الشرق نلاحظ أن إبراهيم لم يستفسر عن معنى الختان من الرب لأنه كان يمارس كطقس إحتفالى عند مشارف الرجوله وممارسته يكتسب المختون حقوقاً أدبية ودينية . ـ أن اقتران عملية الختان بسفك الدم أعطى نوعاً من القدسية للأمر منذ فجر التاريخ وكان الارتباط المؤسس على الدم غير قابل للانتهاك . ـ كانت هذه العادة شائعة بين العرب وموآب وبنى عمون وأدوم ومصر وفى مقبرة عنخ ماحور فى سقارة ، وفى الأسرة السادسة 2350 ? 2000 ق.م نقوش واضحة تماماً تصور عملية الختان بسكاكين حجرية ( يش 3:5 ) . ـ وإن لم تكن منشأة فى بابل وأشور كان الفلسطينيون فى كنعان استثناء بالنسبة للمنطقة التى أطلق عليها ( الغلف ) راجع ( تك 24:34 ) . ـ هذا الترابط بين الذبائح والختان كبديل لها له مرجعية واحدة ... الدم ودوره فى التكفير فى ذهن المتدين القديم سواء كان يعبد إله أبائه القدير أو متعدد الألهة الوثنية لم يكن يدرك ذلك العابد أن سفك الدم هو مشورة الله ولكنه توارث فى وجدان البشرية أن أرضاء الألهة لا يكون إلا بسفك الدماء لماذا ? لا يعلم ولكننا نحن نعلم يقيناً لماذا وتأكد ذلك فى شريعة الختان والذبائح فى الناموس كانت كل هذه الدماء لا تكفى لذا كان الاحتياج للذي يكفى لكل البشر ( فكم بالحرى يكون دم المسيح الذى بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميته ( عب 14:9 ) . رابعاً : مظاهر الخلاص فى العبادات الوثنية ـ الدين الأكدى وهو من العبادات البابلية والأشورية التى هى كلها من أصل سامى كانت خصائص آلهته من نوع مماثل لخصائص الإنسان ولا تختلف عنه إلا أنها أكثر كمالاً وتجريداً ولباس الآلهة أبهى من ثياب الأمراء ويصدر عنها بريق يخطف الأبصار ما هذا إلا محاولة فاشلة لإقناع أنفسهم بأن الآلهة قريبة جداً منها ! ـ وفى العبادات الهندية القديمة يعتقدون أن الإله ( منيشنو ) تجلى فى شكل متجسد كمخلص جاء ليعاقب الأشرار ويكافئ الأخيار فى عهد جديد من القداسة والنعيم أما الإله (كارشينا ) أخذ شكل بشرى فى صورة سائق عربة أرجواناً وقام بإبلاغ رسالة مؤثرة للبشرية معلماً طريقه لعبادة الرب ورغم أنه فى هيئة بشرية إلا أنه الخالق والوحدة الكاملة لكل الكون وكل الأشياء مائلة فيه وهو حال فيها . خامساً : الخلاص فى الفنون لدى الشعوب الوثنية : 1- فى غاليا (فرنسا حالياً) كان السكان يقيمون تمثالاً ومذبحاً للعذراء المزمعة أن تهبهم مولوداً يحررهم . 2- فى المكسيك ... كان المكسيكيون ينحتون فى الصخر وعلى الأبنية العامة تمثالاً للإله الذى سوف يسحق التنين . سادساً : الخلاص فى علوم الفلك لدى الشعوب الوثنية : 1- المجوس وجدهم الأكبر بلعام تنبأ عن مجئ المسيح (عدد 15:24) ورئيسهم دانيال قال أن بعد 490 سنة سيأتى المسيا لذلك كانوا يراقبون النجوم لاعتقادهم أن كوكباً سيظهر عند ميلاده وعلى الأبنية العامة تمثالاً للإله الذى سوف يسحق التنين . 2- الاسينيون فى قمران حددوا ميعاد مجئ المسيح بالجسد . 3- مدرسة بابل وهى أكبر المدارس الفلكية القديمة حددت زمن مجئ المسيح ... فقد كان علماء الفلك يعتقدون أنه فى العام الرابع قبل الميلاد سوف يتم لقاء المشترى وزحل فى منطقة برج الحوت والذى يجب أن يظهر 3 مرات على الأقل فى29 مايو، 1 أكتوبر، 5 ديسمبر .... وهذا اللقاء لا يمكن ملاحظته قبل 794 سنة ولمرة واحدة أما فى عام 4 ق.م ظهر بوضوح 3 مرات وهذا التاريخ يعتبره الاختصاصيون أكثر التواريخ دقة لولادة السيد المسيح . سابعاً : الخلاص فى فكر الفلاسفة والشعراء والمؤرخين الوثنيين : ـ [ متى يأتى هذا الشخص الذى يعلمنا كل شئ أننى بغاية الشوق إلى معرفته ... ] (أفلاطون) ـ [لقد حانت الأيام الموعودة .. طفل صغير مرسل من السماء إلينا وعلى عهده ستمحى آثار جريمتنا والأرض لن تعرف الخوف فيما بعد ولسوف يتخذ له مقراً مع الإلهة ويحكم العالم الهادى بقوة فضائل أبيه فهلم أيها الابن العزيز يا ابن جوبيتر أنظر إلى المسكونة فهى خاشعة باحترام أمامك تسلم عليك وأنظر فكل إنسان قد سر وابتهج بقدوم هذا العهد الجديد] ( الشاعر الرومانى فريجيل ) . ـ [ إن أكثر الشعوب مقتنعة بأنه مكتوب فى كتب الكهنة القديمة أنه فى تلك الفترة سيعظم الشرق بالقوة وأنه من اليهودية سيأتى الذى يسود العالم ] ( رافتيس مؤرخ رومانى ) . ـ [ كانت فى الشرق فكرة قديمة وثابتة تسيطر على الأذهان مفادها أنه سيأتى من اليهودية فى تلك الأيام ذلك الذى يسود العالم ] ثامناً : عرض لحضارات الشعوب ورؤيتهم حول الخلاص : ـ نجد أن أغلب الأساطير فى كل حضارات الشعوب لها جذور متشابهة ، ولها عناصر ثابتة مما يؤكد وحدة المصدر وحقيقة الموضوع . فمثلاً أسطورة ( إيزيس ) الفرعونية التى أنجبت ( حورس ) بقوة إلهية وقد صارع ( ست ) الشرير وأعاد عرش ( أوزوريس ) الذى قام من الأموات وصار ملكاً للخلود . فأننا نجد ذات الفكرة عند بلاد اليونان فى أسطورة ( دمتر ) وبلاد الرومان فى أسطورة ( سيريز ) وبلاد بابل فى أسطورة ( جلجاميش ) . ـ والعجيب أن يأتى بعض المفكرين الذين يجدوا التشابه بين سفر التكوين وبين بعض الأساطير فيستنتجوا أن موسى النبى قد تأثر بالأساطير وكتب بعض منها فى السفر ، بينما هذا المنطق مقلوب ، لأننا نجد تشابهاً عاماً عند كل الشعوب فى أهم الأساطير التى تحدد العلاقة مع الله وتكون الصورة هكذا : إن العالم كله كان عنده الفكرة الحقيقية عن الله ثم تشتت فصاغوا الأساطير عن الحقائق الموروثة لذلك فهى متشابهة لأنها تحمل بعض من الحقيقة ولكنها مع كم الأساطير والأفكار صارت الحقائق مشوهة ، فجاء الله وكلم موسى النبى ليخبره عن الحقيقة التى كانت قبل الأساطير . لذلك فلابد أن نجد تشابهاً بين الأساطير وكلام سفر التكوين لأن الحقيقة المعلنة لموسى النبى بجلاء تام تشابه الحقائق التى عند الشعوب ولكنها مشوهة . إذ أن المصدر واحد وهى حقيقة الأحداث . الحضارة السومرية والبابلية : ـ فى الجزء الجنوبى لما ما بين النهرين كانت هناك حضارة قديمة تسمى الحضارة السومرية وقد وجدت حفريات يرجع تاريخها إلى ( 2300 ق.م ) فيها كتابات على النحو التالى : ـ [أى سومر أيتها الأرض العظيمة بين كل أراضى الكون ، أنت التى يغمرك ضوء لا يخبو يا من تسنين القوانين الإلهية لكل الشعوب من المشرق إلى المغرب ]. ـ فأطلقوا الأساطير التى تحكى عن هذه الأمور وعبدوا إلهاً أسموه " البانثيون السومرى " يقولون عنه : [ حينما هبطت السلطة الملكية من السموات وضع الآلهة الشعائر والقوانين العليا .... ] والبانثيون هى آلهة تسيطر على الطبيعة وتضع الإنسان تحت رحمتها . ـ وهناك أساطير أخرى تعكس تفكيرهم فى الخلاص والخلود والحياة الأبدية . وكان هناك ملوك آلهة وهم " ميسكيا نكاشير " وهو ابن إله الشمس ، وهو قد نزل وبنى مدينة مقدسة (لو كالبا ندو) وهو نصف إله ، وكان راعياً . ثم الإله (دموزى) وهو إله يموت ليبعث من جديد . أسطورة جلجاميش فى بابل : ـ وهى أسطورة يرجع تاريخها إلى ما قبل المسيح بثلاثة آلاف عام . وجلجاميش شخص ثلثه إله وثلثيه إنسان . وقد أستطاع أن يعرف أسرار الكون وأخبار ما قبل الطوفان فهو من نسل ( شمس نشتين ) المخلوق الوحيد الذى نجا من الطوفان والذى كان يعرف كل الأسرار وقد مات صديق جلجاميش الذى يدعى ( أنجيدوا ) وقد كانا معاً يصارعان ثوراً ضخماً أرسلته آلهة الشر ( اشتار ) . فملأ الحزن قلبه ، وبدت له صورة الموت بشعة ومخيفة ، وأخذ يفكر فى طريقه يهزم بها الموت . ولم يكن هذا إلا بمعرفة سر الخلود . ولم يكن هذا ممكناً إلا إذا ذهب إلى جده الأكبر ( شمس نشتين ) الذى يعرف كل الأسرار. ـ وبدأ جلجاميش رحلة مرعبة ليصل إلى جده الأكبر ، واستغرقت هذه الرحلة أربعين يوماً وأربعين ليلة فى نهايتها وجد نفسه أمام جزيرة صغيرة هى التى كان يقيم فيها جده الخالد أبا الدهر . ولكن حينما وصل إلى هذه الجزيرة كان قد أعى من التعب ودخله مرض شديد ، فسقط فى قاربه أمام جده الأكبر وبينما هو يصارع الموت أخذ يتوسل إلى جده أن يمنحه سر الخلود . ـ فقال له الجد : أن الموت هو نهاية كل بشر ، ولا يمكن لأحد أن يعرف سر الخلود ولا حتى ساعة النهاية . ـ فأجاب جلجاميش : أننى أشبهك تماماً فكيف أموت أنا بينما أنت جدى وأنا منك وأنت تعرف سر الخلود وتتركنى أموت ؟!!!! ـ فأخذ يحكى له قصة الخلق والطوفان والموت والخلود وعندما أنتهى من قصة كان جلجاميش قد سقط من الإعياء فى قاع القارب . فتألم الجد وهو يرى حفيده يموت ووعده أن يعيد إليه الحياة . فأحضر الجد الخالد السبعة عناصر المقدسة وقطر بين شفتى جلجاميش ، فنام سبعة أيام ، وبعدها استيقظ وطلب من جده أن يعطيه سر الخلود . فأخذه وأنزله إلى ينبوع الماء المقدس ليزيل عن نفسه مفاسد حياته الماضية . ثم رجع مرة أخرى وطلب أن يعرف سر الخلود فأخذه الجد الخالد إلى حيث نبتة الخلود وحصل عليها وأخذها ، وهى النبتة التى من يأكلها تعود إليه الحياة وتمنحه الخلود . ثم رجع جلجاميش ليصارع الشر من جديد فى رحلة الرجوع إلى الأرض وهو يحمل نبتة الخلود . حضارة فـــارس : ـ لقد كانوا يؤمنون بوجود إله عظيم واحد منه كل الأشياء هو الإله ( هرمز ) وهو إله النور والخير ، وكان قادراً على كل شئ وكل ما يفكر فيه لابد أن يكون . ويوماً فكر فى أنه ماذا لو كان له منازع ؟ وبمجرد ما فكر فى هذا ظهر إله الظلام والشر (أهرمان). فقام إله الخير بخلق جميع الملائكة والبشر حتى يساعدوه ضد غريمه ( أهرمان ) . وحاول إله الشر أن يؤثر على البشر لينضموا إليه . وهكذا بدأ الصراع بين الخير والشر . حضارة الهند : ـ وقد عبد الهنود إلهاً يسمى ( ميثهرا ) وقد عبده الفرس أيضاً وهو إله الزراعة والخصب والحياة . واعتقدوا أنه يدخل سنوياً فى معركة مع إله الموت والظلام . وكان يتعرض فى هذه المعركة للأسر ثم للاستشهاد موتاً على الصليب . فتصاب الأرض بالجفاف ويتوقف النسل ، لكنه يعود ويقوم من الأموات . فيعم الربيع بعد القيامة المجيدة لتفرح الأرض وتعود لها الحياة . حضارات الفلاسفة وحضارة الفراعنة : ـ وقد حاول الفلاسفة الإغريق الوصول بالمنطق العقلى للإجابة على الأسئلة الميتافيزيفية . ومع أنهم لم يعرفوا طبيعة الله ولكنهم بالمنطق وصلوا إلى مسلمات وضرورات عقلية لابد أن تكون ثابتة حيثما تفكر فى الإلهيات . ـ فقد قالوا بحتمية وجود الإله الخالق العظيم ، وأنه لابد أن يكون الوجود كله من صنع إله واحد ليس له بداية ولا نهاية . كما أنهم لم يتصوروا أن يكون الإله خامل أو ساكن بل هو فى حالة عمل دائم ومعرفة دائمة . ولكنهم مع هذه الصور المنطقية الهامة جداً من الحقيقة الإلهية ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يعرفوه على مستوى شخصى . لأن هذه الأمور كانت مجرد أفكار . وهذا على عكس حضارات أخرى مثل حضارات الفراعنة الذين حاولوا إقامة علاقة مع الصور التى فكروا فيها . وصنعوا من تصوراتهم حقائق لاهوتية آمنوا بها ونادوا للشعب أن يؤمن بها بل صاغوا حولها الأساطير والقصص التى تقرب الحقائق للشعوب . والأغرب أنهم جعلوا هذه الحقائق كأنها موروثة من تراث عالم إلهى حقيقى . فقد كانوا يحاولون أن يبحثوا عن صور للتعبير عن الله ، فأخذوا من الطبيعة صوراً تعبر عن الأفكار الإلهية ونادوا بحلول الله فى هذه الصور فعبدوها . ـ فمثلاً عبدوا الثور ولكنهم كانوا يدركون تماماً أن الله ليس هو الثور نفسه كطبيعة . لأنهم آمنوا فعلاً بأن الإله خالق كل شئ فكيف يكون هو محدود ومخلوق . ولم يزعجهم عدم توافق كل جوانب الصورة مع ما ينظرون إليه من ملامح الألوهية ، ولكنهم كانوا يكتفون بإقامة علاقة مع أحد مظاهر الألوهية فى المثال الذى يقربهم من الإله الذى يعيش معهم وهذا لضعف العلاقة مع الله الحقيقى مع احتياجهم الشديد لذلك . ـ وعلى سبيل المثال عبدوا الشمس فى عصور كثيرة وأعطوها اسم الإله الأعظم ( رع ) ثم ( أتون ) فى عصر اخناتون . ـ وفى كتابات اللاهوتيين هليوبوليس الفرعونية المحفوظة إلى الآن فى المتاحف المصرية كانوا يقولون : " أتوم الإله الذى بادئ ذى بدء خلق نفسه بنفسه وجاء للوجود من تلقاء ذاته " ـ هكذا نرى أن الإله فى أذهانهم غير محدود برغم محدودية الرمز ، ولكنهم كانوا يقيموا علاقة مع الرمز ليعطى لهم إمكانية تجسيد الفكرة الإلهية التى بداخلهم فعبدوا مثلاً الحيوانات مثل العجل والتمساح رمزا للقوة . والبقرة والإوزة والعنزة والكبش رمزا للحياة . وعبدوا القط والكلب والدجاجة وابن آوى والأفعى رمزا للقوة المجهولة . وفى عصور أخرى عبدوا آلهة باسمائها مع احتفاظهم بصورتها المحسوسة المادية الحيوانية مثل الإله أمونه كان يرمز له بالكبش والإله حورس فى صورة الصقر . ـ وقد كانت لهم إشراقات قوية جعلتهم يتصورون حقائق هامة مهدت فكرهم لاستقبال عمل الله الحقيقى . فمثلاً فى " كتاب الموتى " (فصل 85) الذى يرجع تاريخه إلى (2000 ق.م) يقول الإله : " لقد خرجت إلى الوجود من ذاتى فى خضم المياه الأزلية " وفى كتاب نصوص الأهرام فى الفقرة ( 1146 ) يقول الإله : إننى فيــض الــدم الأزلى الــذى انبثــق مــن المــياه أنا مـن يكتب الكتاب المقـدس الذى يقول ما كان ويجعل ما سيكون ـ وقد كان هناك إشراقات من الحقائق الإلهية التى كان غالباً ما يرسلها الله لهم ولكن على مستواهم وحسب طريقة تفكيرهم . فمثلاً فى عهد الإمبراطورية الحديثة كانوا يؤمنون بأن آمون هو الإله العظيم وأمون كلمة تعنى " الإله الخفى " وآمنوا بأن القوى الإلهية تمثلها ثلاثة آلهة ( آمون ورع وبتاح ) وآمنوا بأن ( آمون ) هو اسم الإله ( ورع ) هو وجهه ( وبتاح ) هو جسمه . ـ وأيضاً أمون هو الإله العظيم الخفى ، ورع هو إله الشمس الذى يرسل أشعته ، وبتاح هو الإله الخالق للعالم والواضع صورته المرئية وهو يخلق بفكره ولسانه ( بالنطق وبالكلمة ) وكانوا يصورنه فى هيئة إنسان ملتحف بثوب محكم الالتفاف . ـ وفى تطور الفكر اللاهوتى الفرعونى ، صار الإله بتاح هو أزوريس إله الخلود الذى قام بعد الموت وهو الذى يعطى الحياة . وفى نشيد رائع يسمى نشيد ليدن يقولون الإله أمون :
أنه خفى عن الآلهة ولا يعرف المرء مظهره
ويوجد نشيد أخر للإله بتاح يقولون فيه :
وفى إحدى نصوص التوابيت وجدوا هذا النشيد الرائع أيضاً للإله بتاح :
ـ وتوجد أيضاً جملة غريبة جداً عن الإله بتاح لأنها تماثل الفكر الحقيقى المعلن فى التوراة عن الخلق إذ يقولون عن الإله بتاح : " حينئذ استراح بتاح بعد أن خلق كل شئ وكل كلمة مقدسة " ـ وفى الفصل السابع عشر من " كتاب الموتى " يأتى هذا النص الرائع على لسان الإله العظيم : جاءت الكلمة إلى الوجود ـ هذا من حيث الأفكار المصاغة فى الأناشيد وإيمانهم المصاغ فى كتاب الموتى ونصوص الأهرام وغيرها . ولكن يوجد ما هو أكثر قرباً للناس وهى الأساطير التى كانوا يعلمونها للشعب من خلال طقوس جماعية تحكى لهم هذه الأساطير ، وبصورة تمثيلية أحياناً فى المعابد وفى الأعياد وهم يقدمون القرابين للآلهة . مثلاً أساطير الخلق : ـ يقولون أن الإله ( رع ) الذى يرمز له بالشمس هو الإله الخالق على الدوام ولما أشرق أول مرة ورأى الأرض صحراء جرداء غمرها بأشعته فبعث فيها النشاط فخرجت من عيونه كل الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان . وأول من خلق من البشر كانوا سعداء وكاملين ولكن أبناءهم انحدروا شيئاً فشيئاً إلى طريق الضلال ، فغضب عليهم الإله وأهلك منهم عدد كبير من جنس البشر وخسروا ما كانوا عليه من كمال وسعادة . أسطورة أخرى للخلق والطوفان : ـ كانت السماء متصلة بالأرض حين تمرد البشر على الآلهة الذى كانوا يعيشون بينهم. وازداد الفساد بالبشر حتى ثار غضب الإله (رع) وقرر أن ينزل بهم نقمة. وبعد طوفان من الدم عفا الله عمن حافظ على عهده من الناس غير أنه منذ ذلك الحين امتنع (رع) عن مخالطة الناس وفصل السماء عن الأرض وسكن فوق حيث السماء . أسطورة لنتائج الخطية : ـ وحينما كثر شر الناس واستهانوا بالإله (رع) ولم يفعلوا وصاياه، غضب وقرر أن يترك مقاليد الحكم لابنه (شو) وقال له: "أنا تارك لك مقاليد الحكم فأكمل مشيئتى وتول أنت الأمر، وأنت يا ابنتى (نوت) أحملى أباك فوق ظهرك ودعيه مُعلقاً فوق الأرض" . ـ وحاولت ( نوت ) أن تعترض ولكنها أذعنت لرغبة الإله الأعظم فتحولت إلى بقرة وحملت أباها ( رع ) فوق ظهرها الكبير . وطلع الصباح على الناس ، فإذ ( رع ) العظيم قد غادر مكانه ونظر الناس فوق رؤوسهم إذ بقرة إلهية هائلة ، وفوق ظهرها الإله الغاضب على الأرض الذى تركها وترك الناس فسجد له الناس وأخذوا يتوسلون له أن يبقى فلم يرض ، فأقسموا له أن لا يكون هناك من يغضب الإله أو لا يعمل وصاياه فقتلوا أمام عينيه كل الذين أغضبوه ورفضوا مشيئته . ـ ولكن لم تستمر المذبحة طويلاً حتى صرخ الإله ( رع ) : " كفى مغفورة لكم خطاياكم " . فتوقف أتباع ( رع ) عن قتل الأشرار . وأقسموا أمامه بأن يقتلوا فيما بعد كل من يستهين بالإله حتى لا يغضب مرة أخرى بل يقدموا كل من يخطئ ذبيحة وقرباناً له . ولكن (رع) كان رحيماً بأبنائه البشر فلم يحتمل أن يضحى البشر ببعضهم البعض ويقدموا له ذبائح بشرية لكى يرضى عنهم ويغفر ذنوبهم . فقرر أن يستبدل المذنبين بذبائح وقرابين من الثيران والطيور بدلاً من البشر . على أن يصلى الكاهن الذى يقدم القربان صلوات خاصة لتحل الحيوانات محل الخطاة . وبعد هذا اعتلى ظهر البقرة الإلهية ( نوت ) فارتفعت به وتقوست وأمتد بطنها كالقبة ، وصارت فيما بعد السماء الزرقاء التى تغطى الكون . وأخذ ( رع ) ينثر على صفحتها النجوم لتنير الليل . ـ هكذا لعبت الأساطير دوراً هاماً فى تفسير الأمور الميتافيزيقية والأسئلة المتعلقة بالإله والكون . حتى وإن كانت توجد بعض الأمور نراها نحن الآن أنها ساذجة جداً ولكن هذا لأننا لا نعرف ونرى الحقيقة بجلالها ، فننظر إلى هذه الأمور على أنها ساذجة . كما أنهم كانوا بمثابة الأطفال فى الفكر الإلهى الذين لابد أن يصوروا لهم هذه الأمور غير المحسوسة على أنها محسوسة حتى يتعايشوا مع الإله على أنه حقيقة . اخناتون وأعظم إشراق للفراعنة : ـ فى السنوات الأولى لأخناتون كان الإله يصور على شكل إنسان له رأس صقر ، أو فى صور أخرى . ولكن جاء أخناتون وأحدث انقلاباً فى الفكر الدينى وسنرى أنهم لم يستوعبوه حتى أنهم قتلوا أخناتون ليعيدوا الفكر القديم كما كان . وما حدث لأخناتون هو حالة إشراق إلهى لا منازع ، لأنه لا يمكن لفكر أحد فى هذه الفترة أن ينادى بهذه الأمور دون إعلان . ـ وقد نادى أخناتون بعبادة الإله الواحد دون غيره لأن الإله واحد فقط ولا يوحد آلهة أو أرباب آخرين وأنه لا يتصور فى شئ ، وأنه غير محدود بأى حال . ونادى بأنه يعبد بالحب والسلام . لذلك نزل أخناتون من عرشه وطاف المدن والقرى ينادى بذلك . ولكن الإمبراطورية الفرعونية المترامية الأطراف ، كانت لها أعداء فحينما سمعوا ذلك أغاروا على مصر وأملاكها . ولكنه لم يحاربهم . فثار عليها الجيش بجانب ثورة كهنة آمون لأنه أغلق كل معابد الآلهة الأخرى ومحى ذكرهم ورفع أتون الإله الذى لا يتصوره أحد . وهذا جعل الثورة ضده كبيرة جداً التى انتهت بقتلة عام ( 1362 ق.م ) حسب إحدى التقديرات التاريخية . صلاة لأخناتون : أنك فى قلبى ـ ويوجد بعض المفكرين الذين وجدوا صلوات أخناتون مشابهة لمزامير داود ، فقالوا أن داود أخذ صلوات أخناتون وأعاد نظمها . ولكن عالم المصريات والاس بدج ( Budge ) أكتشف أن أناشيد أخناتون تطابق أناشيد الفيدا ( ALFIDA ) السورى فهل الفيدا أيضاً أخذ أناشيد أخناتون وأعاد صياغتها . هذا تحميل ملفق على الحقيقة . ولكن حينما تقدم مشاعر حب وعبادة لله سواء من أخناتون أو الفيدا أو داود النبى فحتماً سنجد أن هناك أشياء مشتركة فى الأفكار والمشاعر ، إذ أن قلب الإنسان حينما تشرق فيه المحبة الإلهية فأن محتوى الكلمات ستتشابه فى أشياء كثيرة لأنها تصف ما هو حقيقى كما كان أخناتون يقول عن نفسه ( أنا الذى يعيش الحقيقة ) . ـ ويقول لنا التاريخ أنه منذ تفرقت الشعوب ( من بابل ) إلى الألف الثالثة قبل الميلاد فإن الشعوب كانت فى ارتحال دائم نتيجة لتحركات الإمبراطوريات الكبرى ، ومع فرض نفوذها العسكرى والسياسى كانت تفرض أيضاً عبادة الآلهة العظمى لها . ـ لذلك حينما طلب الله من موسى النبى أن يكتب سفر التكوين كان الهدف هو إعلان حقيقة الأحداث والأفكار عن الله ، ليتخلص الإنسان من الشوائب التى تركتها الأساطير الخاصة بالآلهة المنتشرة فى العالم كله ، ولتبقى الحقيقة الإيمانية موجودة ، فالإنسان لم يفقد الإيمان بوجود الإله ، ولكنه نتيجة بعده عنه شوه هذا الإيمان . فالله كان موجوداً عند الشعوب كحقيقة ولكن صنعوه كموضوع . وأصبح الإنسان يصنع الإله من مادة ملموسة حجر أو بحر أو شمس أو قمر لأنه لم يستطع أن يعرفه جيداً ، وكلما أزداد الإنسان فى الرقى والحضارة كلما كان الإله المكون فى عقله أعظم وأرقى وغير مادى ، فنجد آلهة الأمم المتحضرة لها صورة متحضرة ، وآلهة الأمم الهمجية لها صورة همجية ، والأمم التى لها فكر ومنطلق آلهتها تعطى الحكمة وتسكن فى الأعالى مثل آلهة اليونان . |