أُحكُموا لِلكَسيرِ و اليَتيم وأَنصِفوا البائِسَ و الفَقير (مز 82 /3)
قدسوا صوماً... نادوا باعتكاف - لنيافة الأنبا رافائيل
همسات
روحية
لنيافة الأنبا رافائيل
قدسوا صوماً... نادوا باعتكاف
هلموا معي يا أصدقائي
وأخوتي الأحباء لنبحر معاً عبر هذا النهر العظيم (الصوم الكبير) حاملين معنا زاداً
يكفي رحلتنا التي بلا شك سنتزود فيها بزاد آخر يكفي لرحلة العمر إلى
السماء.
دعنا الآن نرى ما هو الزاد
اللازم لرحلة الصوم:
+ التوبة القلبية:
"ارجعوا إلى بكل قلوبكم
وبالصوم والبكاء والنوح. ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم، لأنه
رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر" (يؤ2: 12-13)
أن الصوم الكبير هو موسم
التوبة وتجديد العهود... موسم العودة إلى أحضان المسيح نرتمي فيه ونبكي... نبكي على
الزمان الرديء الذي مضى "لأن زمان الحياة الذي مضى يكفينا لنكون قد عملنا إرادة
الأمم سالكين في الدعارة والشهوات وإدمان الخمر، والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان
المحرمة" (1بط4: 3)
"أنها الآن ساعة لنستيقظ من
النوم فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا قد تناهى الليل وتقارب النهار، فلنخلع
أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور، لنسلك بلياقة كما في النهار" (رو13:
11-13)
آه... لو تحرك قلب الكنيسة
نحو التوبة بحس واحد... آه لو تحرك قلبي وسط الجماعة المقدسة للعودة إلى السيد
المسيح... إن الكنيسة سبقت وأبرزت لنا نموذج توبة أهل نينوى، لنرى ونعجب كيف وماذا
تفعل التوبة الجماعية... وتظل الكنيسة طوال الصوم تبرز لنا نماذج رائعة للتوبة:
الابن الضال، السامرية، المخلع، المولود أعمى... وكيف أن لمسة الرب يسوع المسيح
شافية للنفس والجسد والروح ومجددة للحواس وباعثة للحياة.
ربي يسوع... سامحني وأعف عني
وأسندني لكي لا أخطئ إليك ثانية... دعني أقبل قدميك وأبلهما بدموعي وحبي... دعني
أرتمي في حضنك الإلهي كطفل في حجر أمه... أبكي بفرح العودة... أبكي برجاء النصرة...
أبكي بروح القيامة من سقطاتي الرديئة... سأكون لك بنعمتك... لن يستعبدني العالم
ثانية... لن يسبيني الشيطان مرة أخرى... لن يخدعني الجسد بأوهامه... لقد ذقت مرارة
الخطية واكتشفت وهمها الرديء... كنت أظنها حرية مفرحة وجدتها عبودية قاسية... الآن
أدرك بنعمتك انك وحدك فيك الحرية والفرح والسعادة... وبدونك حياتي مرة وكئيبة...
الآن أدرك لماذا يفرح الصائم "متى صمتم فلا تكونوا عابسين" (مت6: 16) أنني أفرح
الآن بعودتي إليك بعد التوهان... الآن استقر في حضنك بعد الضياع... الآن نفسي تتوق
إلى القداسة بعد أن دنست نفسي وجسدي بأفعالي الذميمة... الآن يتغير اتجاه حياتي
ليكون المسيح هدفي ومحور اهتمامي بل "ولي الحياة هي المسيح" (في1: 21)
بعد أن كان
العالم ولقمة العيش، والجسد، والزلات قد استولوا علي اغتصاباً، فأفقدوني هويتي
ومعنى وجودي وسلبوا مني فرحتي، وتركوني ملقى بين حي وميت انتظر سامرياً صالحاً يضمد
جراحاتي.
+ الهدوء والصمت:
"لأنه هكذا قال السيد الرب
قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون، بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (أش30:
15)
إن إيقاع الحياة الصاخب،
وعنف متطلبات المعيشة، وكثرة الحركة والانشغال والهموم، افقدوا الإنسان معناه
وإنسانيته وحولوه إلى مجرد ترس في ماكينة ضخمة يتحرك بتحركها، ويقف بوقوفها إن
وقفت... الإنسان اليوم يعيش في تشتت مرعب يبدد قوى الجسم والنفس والعقل فكم بالحري
قوى الروح.
إننا أحوج ما نكون إلى فترات هدوء واعتكاف نعود فيها إلى أنفسنا ونغوص
في أعماقنا بدون تأثير المشتتات الخارجية... إنها رحلة إلى أعماق الإنسان لاكتشاف
الهوية وضبط الاتجاهات... دعنا نختزل من برنامجنا اليومي كل ما هو غير ضروري:
الثرثرة والأحاديث الباطلة، والتليفزيون، والمكالمات التليفونية الطويلة دون داع،
والزيارات غير الضرورية، والملاهي والمآدب... ألا ترى أنه سيتجمع لدينا وقت كاف
للتمتع بالهدوء والاعتكاف في جلال الصمت وخشوع العبادة... والتأمل والتعمق واكتشاف
سطحيتنا وزيف علاقاتنا مع الآخرين... إن كلامنا الثرثار في طوفان الأحاديث الباطلة
قد فقد قوته ومعناه... الصوم بجلاله يعيد إلى الكلمة قدسيتها ووقارها وسلطانها.
"إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً" (يع3:
2)
آه لو نستطيع أن تقتطع من
برنامجنا اليومي الصاخب لحظات للهدوء والاعتكاف والتزام الصمت. اسمع الصوت الذي كلم
أرسانيوس قديماً "يا أرسانيوس ألزم الهدوء والبعد عن الناس، واصمت، وأنت تخلص لأن
هذه هي عروق عدم الخطية" فإن كان أرسانيوس قد لزم الصمت والبعد عن الناس طول عمره
فليس بكثير علينا أن نلزمها لحظات يومياً خاصة في الصوم.
العالم اليوم يحتاج إلى
شهادة حية، لا بالوعظ والكلام، بل بقديسين يحملون نوراً وفرحاً وعمقاً، ورزانة
ووقاراً، ولهم سر الصمت وقوة الهدوء كعلامة وبرهان على حضور الله
فيهم.
+ العطاء:
"طوبى للرحماء على المساكين
فإن الرحمة تحل عليهم، والمسيح يرحمهم في يوم الدين ويحل بروح قدسه
فيهم".
"يقولون لماذا صمنا ولم تنظر
ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟ ... أمثل هذا يكون صوم اختاره؟ ...هل تسمي هذا صوماً
ويوماً مقبولاً للرب؟ أليس هذا صوماً اختاره: حل قيود الشر فك عقد النير وإطلاق
المسحوقين أحراراً وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين
التائهين إلى بيتك إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك" (أش58:
3-7)
"لا تنسوا فعل الخير
والتوزيع (على الفقراء) لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله" (عب13: 16) لأن
"الديانة
الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه، افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ
الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يع1: 27)
والقديس اشعياء سجل لنا ما
قاله أبو مقار لرهبان من الإسكندرية "إن من لم يشأ أن يصنع رحمة من فلس واحد فلن
يعمل رحمة من ألف دينار"
وقال القديس الأنبا موسى
القوي
"الصدقة بمعرفة تولد التأمل فيما سيكون وترشد إلى المجد، أما الإنسان القاسي
القلب فإنه يدل على انعدامه من أي فضيلة"
"أعط المحتاجين بسرور ورضى
فلا تخجل بين القديسين وتحرم من أمجادهم"
"أحب المساكين لتخلص بسببهم في أوان
الشدة"
إن الرحمة وروح العطاء إنما
هما دليل القلب الزاهد المحب لله... أنه القلب الذي يسعد بالعطاء ويفرح لفرح
الآخرين.
والصوم المقدس فرصة رائعة
لتدريب النفس على الزهد في حطام الدنيا.
والعودة إلى الفلسفة الحقيقية التي بها
نكتشف أن مكاسب العالم هي نفاية، وأن الممتلكات هي معوقات وثقل كان من الأجدر بنا
أن نستثمرها في كسب أصدقاء يقبلوننا في المظال الأبدية. (راجع لوقا16:
9)
بل والأكثر من هذا سيكون
العطاء وسيلة لتقديسنا
"بل أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شيء يكون نقياً لكم"
(لو11: 41).
وكذلك الصدقة هي طريق الكمال
"إن أردت أن تكون كاملاً، فأذهب وبع
أملاكك وأعط للفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال ابتعني" (مت19:
21)
إذن فالصوم المقدس فرصة
للتعبير العملي عن إيماننا بأنه "ليس بالخبز وحده (ولا بأي ممتلكات الدنيا) يحيا
الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4:4)
"فإنه متى كان لأحد كثير، فليست
حياته من أمواله" (لو12: 15)