في جَزَعي كُنتُ أَقول:(( إِنَّي مِن أَمام عَينَيكَ اْنقَطَعتُ )) و لَكِنَكَ سَمِعتَ صَوتَ تَضَرّعي عِندَما إِلَيكَ صَرَختُ ( مز 31 /23)
بشارة زكريا - القس أنطونيوس فكري
بشارة زكريا
لوقا 1 / 1 - 25
آية (1): "إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا."
كثيرون قد أخذوا= من الذين الفوا كتب بدون وحي وإرشاد الروح القدس (وهذه كانت قد انتشرت خلال القرن الأول الميلادي ويسمونها كتب الأبوكريفا) ولم تقبل الكنيسة أعمالهم كأسفار قانونية. وكلمة أخذوا فيها اتهام لهم أن محاولاتهم كانت شخصية وليست من إرشاد الروح القدس. الأمور المتيقنة عندنا= لقد عرف القصة بكل يقين الإيمان والعقل فلم يتردد في تصديقها. ونلاحظ أن لوقا تسلم قصة إنجيله خلال التسليم الشفوي والكتابي وهذا ما تسميه الكنيسة التقليد.
آية (2): "كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة."
معاينين= لا يعني مجرد الرؤيا الجسدية، إذ كان كثيرون قد رأوا المسيح حسب الجسد ولم يدركوا شخصه ولا تمتعوا بعمله الخلاصي.. وخداماً للكلمة= فالإكتفاء بالمعرفة دون تطبيقها هو علم بلا نفع. ومن عرف المسيح ورآه رؤية إيمانية لا يستطيع إلا أن يخدمه ويشهد له. ونلاحظ أن هناك رؤية جسدية وهذه لا تفيد كما حدث مع اليهود. وبصيرة روحية بها ندرك المسيح ونؤمن به حتى وإن لم نراه جسدياً.
آية (3): "رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس."
العزيز ثاوفيلس= هو نفس الشخص الذي وجَّه له لوقا سفر أعمال الرسل والعزيز هو لقب يطلق على أصحاب المراكز الكبرى في الدولة الرومانية. لُقِّبَ به فيلكس (أع26:23+ 3:24) وفستوس (أع25:26). وثاوفيلس كان شخص له مركزه في مدينة الإسكندرية. ويبدو أنه فقد مركزه حينما كتب له بولس سفر الأعمال (1:1).
|
الآيات (5-9): "كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة آبيا وامرأته من بنات هرون واسمها اليصابات. وكانا كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. ولم يكن لهما ولد إذ كانت اليصابات عاقراً وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما. فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله. حسب عادة الكهنوت أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر."
وسط هذا الجو القاتم سياسياً (هيرودس بفساده وطغيانه وهيرودس هو هيرودس الكبير) ودينياً (رؤساء كهنة فاسدين) وتوقف النبوة حوالي 400سنة من أيام ملاخي النبي. ظهر إنسانان باران أمام الله هما زكريا ومعنى اسمه الله يذكر وزوجته اليصابات ومعنى اسمها اليشبع أي الله يقسم. اللذان أنجبا يوحنا المعمدان ومعنى اسمه الله حنان، أو الله ينعم. ومعنى اقتران اسم زكريا واليصابات هو "الله يذكر قسمه" ومعنى اقتران اسميهما مع اسم يوحنا "أن الله يذكر قسمه أن يتحنن على البشر الذين هم في فساد" وهذا المعنى هو ما قاله زكريا في (آيات 72-73).
وميلاد يوحنا هو أول مظاهر رحمة الله. ليصنع رحمة مع آبائنا ويذكر عهده المقدس القسم الذي حلف لإبراهيم.
وكان كلاهما بارين أمام الله= فالأبرار أمام الناس ليسوا بالضرورة أبرار أمام الله. (رو29:2). ونلاحظ أن رجال العهد القديم حسبوا أبراراً أيضاً في المسيح. فبر زكريا قائم على عمل السيد المسيح الذبيحي خلال ممارسته الكهنوتية وتقديمه الذبائح الحيوانية كرمز لذبيحة المسيح. ولكن لنلاحظ أن قول الكتاب عن إنسان أنه بار فليس معنى هذا أنه لم يصنع خطية، بل وإن فعل خطية يبكت نفسه ويندم ويقدم ذبيحة.
أبيا= فرقة أبيا هي الفرقة الثامنة من الأربعة والعشرين فرقة التي قسمت إليها طائفة الكهنة من أيام داود. كل فرقة تقوم بالعمل أسبوعاً كل ستة أشهر حسب قرعتها. وكانوا يلقون قرعة أيضاً ليعرفوا من يقع عليه اختيار الله للقيام بخدمة البخور من وسط الفرقة. وكان البخور عادة يقدم صباحاً ومساءً فقط. وبنفس التقليد تصلي الكنيسة صلوات رفع بخور عشية ورفع بخور باكر.
ونلاحظ أنهما مع كونهما بارين أنهما كانا محرومين من الأطفال، فليس معنى أن أكون باراً أمام الله أن على الله أن يستجيب كل طلباتي. فهو وحده يعرف أين الصالح. ومتى وكيف وأين يستجيب لطلباتي.
آية (10): "وكان كل جمهور الشعب يصلون خارجاً وقت البخور."
كان الشعب يقفون خارجاً وينتظرون الكاهن الذي يقدم البخور ليخرج ويباركهم.
آية (11): "فظهر له ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور."
المخلوقات الروحية كالملائكة لا يمكننا أن نراها إلا إذا أخذت شكلاً محسوساً نراه بها، وذلك حين يريد الله ويسمح بذلك، فجسدنا الكثيف لا يعاين الروحيات ولا حتى أن يشعر بها.
لماذا ظهر الملاك عند مذبح البخور؟
الكاهن اليهودي كان يقدم محرقة على المذبح النحاس خارجاً صباحاً ومساءً. وبعد أن يقدمها يدخل ليقدم البخور. والمسيح بعد أن قدم نفسه ذبيحة دخل إلى السموات كشفيع لنا (وهذا معنى مذبح البخور). وكان ظهور الملاك في هذا المكان عند مذبح البخور ليخبر زكريا بميلاد إبنه يوحنا السابق للمسيح.
1) المسيح له كهنوت لا يزول، وكان كهنوت زكريا رمزاً لكهنوت المسيح (عب24:7) والمسيح هناك حي يشفع فينا (عب25:7)
2) المسيح دخل إلى السماء ليصير رئيس كهنة إلى الأبد.
3) الكاهن اليهودي الذي هو زكريا هنا يقدم المحرقة ثم يدخل ليقدم البخور ليصلي عن الشعب. وهذا ما قيل عن المسيح "بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً" (عب12:9)
4) وهذا ما رأيناه في السماء "وسط العرش خروف قائم كأنه مذبوح" (رؤ6:5) إشارة للمسيح الذي ذبح على الصليب ثم دخل للسماء يشفع فينا.
5) فالكهنوت هو عمل شفاعة. وكأن الملاك يقول لزكريا.. هل تفهم ما تفعله؟ ما معنى المحرقة التي قدمتها؟ ما معنى كهنوتك؟ لماذا تقدم البخور هنا؟ كل هذا كان رمزاً للمسيح الذي سيكون إبنك سابقاً له يعد له الطريق.. وها أنا أبشرك بأنه حان الميعاد ليتحقق هذا وسيولد إبنك.
الآيات (12-13): "فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف. فقال له الملاك لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك اليصابات ستلد لك ابناً وتسميه يوحنا."
من الطبيعي أن يضطرب زكريا فهو لم يعتاد على الرؤى، ولكن من طبيعة الرؤي السماوية أنها حتى لو بدأت باضطراب يعقبها سلام وفرح، أما الرؤي الشيطانية (2كو14:11) فهي تبعث في النفس فقدان السلام. الرؤي السماوية تلهب القلب بالاشتياق للسماويات والرؤى الشيطانية تربك العقل بالزمنيات ولعل زكريا قد نسى طلبته ولكن الله يذكر لنا طلباتنا ويعطيها لنا في الوقت المناسب. بل أن الله حين يتأخر في الاستجابة تكون إستجابته أعظم. فها هو يوحنا يكون أعظم مواليد النساء.
آية (14): "ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته."
يوحنا سينادي بالتوبة، وطريق التوبة هو طريق الفرح، السمائيون يفرحون بالتائبين، والتائبين يفرحون بالله، والله يفرح بهم. (لو7:15)
تأمل: حتى وإن عشنا زماناً هذا مقداره بنفس عاقرة وجسد بلا ثمر روحي، فلنقبل وعود الله السمائية، ونحمل حنان الله ونعمته (يوحنا) في داخلنا فنفرح، وتفرح معنا السماء.
آية (15): "لأنه يكون عظيما أمام الرب وخمراً ومسكراً لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس."
عظيماً= العظمة ليست في الأعمال العظيمة وقوة الجسد، بل بالحياة الداخلية القوية. ويوحنا كنذير للرب لا يكون لملذات العالم أو بهجته موضع في قلبه أو في جسده، بل هو يكون مملوءاً بالروح القدس، ومملوءاً بالخمر السماوي أي الفرح السماوي، ومن امتلأ بالفرح الحقيقي لا يكون لديه فراغ لأفراح العالم المغشوشة. وهو عظيماً فهو يعمد المسيح.
آية (16): "ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم."
هذه رسالة يوحنا، تمهيد الطريق للمسيح، بدعوة الناس للتوبة ليقبلوا المسيح.
آية (17): "ويتقدم أمامه بروح ايليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ للرب شعباً مستعداً."
الروح الذي سكن في إيليا سكن في يوحنا، والقوة التي في إيليا كانت في يوحنا. والتشابه بين إيليا ويوحنا يظهر في أن كلاهما عاش في البرية زاهداً بتولاً، وكلاهما لم يسعى لإرضاء الملوك على حساب الحق (آخاب/ هيرودس). واحد شق الأردن بردائه والثاني جعل من الأردن مغسلاً للخطاة ليطهروا. واحد يسبق المجيء الأول للمسيح (يوحنا) والثاني يسبق المجيء الثاني للمسيح. والكتاب يقصد بروح إيليا "الروح القدس الذي تقبله إيليا.
الآيات (18-22): "فقال زكريا للملاك كيف اعلم هذا لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها. فأجاب الملاك وقال له أنا جبرائيل الواقف قدام الله وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا. وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته. وكان الشعب منتظرين زكريا ومتعجبين من إبطائه في الهيكل. فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ففهموا انه قد رأي رؤيا في الهيكل فكان يومئ إليهم وبقي صامتاً."
كيف أعلم= أي يطلب علامة. فزكريا لم يصدق كلام الملاك بالرغم من هذه الرؤيا الواضحة. وما كان يجب على شخص كزكريا الكاهن الدارس للكتاب المقدس أن يشك فهو يعلم أن الرب لا يستحيل عليه شيء ويعلم أن ما يقوله سبق وحدث مع آخرين وربما حالتهم أصعب من حالته كإبراهيم وسارة. أنا جبرائيل= يعني جبروت الله وسر جبروته أنه واقف أمام الله. وهو جاء يحمل الوعد الإلهي ويبشر بالفرح لزكريا، ولكنه جاء أيضاً بحكم بالتأديب على زكريا لأنه لم يصدق، فالله في أبوته يمنح تعزيات وفي أبوته يؤدب أيضاً. والكلمة صامتاً= تشير للصمم أيضاً (62) فكانوا يكلمونه بالإشارة ليفهم. وصار زكريا بهذا رمزاً لليهود الذين لم يقبلوا المسيح فسقطوا تحت تأديب الصمت حتى يقبلوا الإيمان في أواخر الدهور (هم بلا هيكل أو نبي).
لماذا عاقب الله زكريا بالصمت؟