من رفع نفسه وضع، ومن وضع نفسه رفع ( مت 23 /12)
كتاب : نحو التوبة
نحو التوبة
إن التوبة لا تُقدَّم بشغف فحسب،
بل وبسرعة أيضًا
القديس امبروسيوس
أرجوكـــم يا أحبّـــائـــي
بـاســم يســوع المسيـــح
ألاّ تُهْمِلـــوا خلاصـــكـم
القديس أنطونيوس
مدخل
الحياة اليوم أصبحت وادي من القلق. وإنسان اليوم أصبح قَلِقًا أكثر من أيّ وقتٍ مضَى، فالتمدُّن والتحوُّل الذي طرأ على الحياة مُحوِّلاً إيّاها إلى مُجْتَمَع استهلاكيّ قد غيَّر من خصائص السلوك البشري
بل وأثــَّر بشكلٍ مباشر على تفكيره وقراراته وقناعاته وأولوياته، ممّا جعل الإنسان مُمزَّقًا بين ما يراه وما يريده. حتّى إرادة الإنسان نفسها قد طالتها ثقافة المدنيَّة والاستهلاك فأصبحت إرادةً هشَّةً مُشوَّشةً مُغيَّبةً مُتلقيَّةً، وكلّ هذا قد آل في نهاية الأمر إلى التغرُّب الكياني الذي استوطن خرائِب قلب الإنسان.
حتّى النهضة التي كانت تهدف إلى سعادة وراحة ورفاهيَّة الإنسان أصبحت شوكةً في كيانه لا يستطيع أن ينتزعها، وذلك لأن النهضة أعادت توزيع الأدوار الكونيَّة، فجعلت من الإنسان مركزًا للوجود، عليه أن يُحقِّق بنفسه الاستقرار للكون وللطبيعة ولِذاته،
وهو ما يفوق قدراته ويتعدَّى اختصاصاته في هذه الحياة. فتنامَى القلق الوجداني وتسلَّل إلى الكيان وتحوَّل إلى قلق كياني لا يهدأ ولا يتوقَّف،
يُحاصِر الإنسان ليل نهار، يُبْعِده عن هويته الذاتيَّة، ويُعمي بصيرته عن معرفة دوره في الحياة والوجود. والقلق بحسب تعريف كيركجارد (الفيلسوف الدانماركي) هو [ التحديد الدقيق للخطيئة ]. فالقلق هو نتيجة تجذُّر للخطيئة في كياننا الإنساني وما يَتْبَعه من تغرُّب الإنسان عن الله.
فالخطيئة هي توتُّر إنساني ينشأ حينما ننحرف عن مسارنا، ونشوِّه خِلْقتنا بالتحالُف مع العالم والرضَى بمدار الحياة الزمني والتمتُّع الوقتي بلذَّات الحواس الماديَّة.
وهذا التوتُّر يستمر طالما الإنسان قانع بمركزيَّته في الحياة رافضًا تسليم دفة القيادة لله مرّة أخرى. وهذا عينه ما وصفه القديس مكاريوس الكبير بأنه السقوط في [ فقر الخطيئة المُرعب ] .
إن مأساتنا المعاصرة هي أننا ابتعدنا عن كوننا صورة الله، محاولين أن نخلق أسطورتنا الشخصيَّة ونرسم لوحتنا الفرديَّة بمنأى عن الله. ولكن ما يغيب عن أذهاننا هو أنه لا مركزيَّة مطلقة للإنسان في الحياة!! إنها مركزيَّة الشيطان المُتخفي وراء تطلُّعات وطموح الإنسان.
فحينما نُقصي الله عن مركزيَّة حياتنا فإننا ندعو الشيطان ليتسلَّم القيادة بدلاً منه، متوهمين أنه يمكننا ـ بمفردنا ـ امتلاك حق الاختيار والقرار في الحياة دون تدخـُّل إلهي!!
من هنا ندرك أن الحل الوحيد لنزع فتيل القلق من كياننا الإنساني هو أن نُسلِّم الله حق القيادة ونعيد تتويجه دُفْعَة أخرى على الحياة برُمتها. وهذا هو التعريف الشامل لمفهوم التوبة. وهذا سيكون مِحور حديثنا في الصفحات القادمة.
لماذا الخطيئة؟
إنه سؤال حائر يتردَّد صداه في قلوب متألمة تشتهي وتشتاق أن تتذوَّق حياة البرّ، بينما يَنْشَب ماردُ الإثم أظافره في كيانها الإنساني الرقيق. سؤال تطرحه النفس في دهشةٍ، حينما ترَى الإرادة حاضرة والشوق جارف والرغبة عارمة في اقتفاء آثار الرب، بينما تُبصِر السقوط والانهزام في واقعها اليومي، وترى طيور الحزن مُحلِّقة على فردوس القلب المفقود والنقاوة التائهة في الصراع الدائر بين البرّ والإثم.
ويشتد إلحاح هذا التساؤل، حينما تجد نفسك تسير خطوة على درب النور، وتنفتح بصيرتك في لحظات الصلاة الصادقة على الأبديَّة. وتُعاين في نشوةٍ، الفرح ومجد الحياة المُسْتَتِرة في المسيح؛ ولكنك تصطدم فجأة بحجر عثرة يعترض مسيرتك؛ حجر ألقته يدٌ آثمةٌ على الطريق!!
وترى فخًّا مخفيًّا تحت أعشاب النوايا الحسنة والغايات الطيِّبة، فتسقط فيه، وتجد أنه يَهْوَى بك إلى سردابٍ ضيقٍ ومظلمٍ، حيث روح الظلمة يَرِفُّ على عتبته الرطبة الباردة؛ إنه سرداب الخطيئة الذي ينتهي بهاوية الموت!!
وتجد أصوات المحيطين تدعوك لأن تقرأ الكلمة الإلهيَّة، حينما يستولي عليك جوعٌ ونهمٌ للحياة الجديدة، فتُبْصِر بريقًا أخـَّاذًا يَشِع من بين السطور والحروف والكلمات،
وفيما تبدأ حبّات الحياة في تكوين أولى براعم الإنسان الجديد، حسب منطق ملكوت الله غير المادي، داخل قلبك، تجد شوكًا يخرج في غفلة النفس عن الوصيَّة، يلتقط براعم الحياة الجديدة، يخنقها وهي بعد صغيرة، قبل أن تشُقّ طريقها نحو النور!!
فإذ بك تُسْرِع لتُلقي بذاتك في مَخْدَع الصلاة، فهناك يدا المُخلِّص مبسوطة على الدوام. فتَسْكُب دموعك بل طِيبَك، وإذ بالفرح والراحة يأتيان ليستقرا بين جدران قلبك، وكأنك خلعت ثوب الأرض، وتسلَّقتَ جبل تابور، حيث ضياء المجد يَغْمُر الحضور، وأسرار الملكوت مُنْكشفةٌ أمام بصيرة الروح.
وحينما تخرج من مَخْدَع الصلاة، تجد لسان حالك يرجو المُخلِّص بكلمات بطرس على جبل التجلي، قائلاً: « يارب جيد أن نكون ههنا » (مت17: 4)؛ فههنا النور والبهجة والنُصرة والمجد والقوَّة، وههنا الرجاء يتجسَّد واقعًا بحضور الله.
ولكن الأرض والزمن والجسد يأبون أن تُحلِّق الروح بعيدًا عن سلطان المادة، فتنزل مُرغمةً من على جبل المجد المُستعْلَن في الصلاة، لتصطدم بحياةٍ منسوجةٍ بخيوطٍ عبثيَّةٍ؛ فالشهوة والسلطة واللذَّة والمال معجونون بتراب الأرض، يُشكِّلون ماردًا يطأ بقسوة إبليسيَّة كلّ روحٍ سابحةٍ في بحار الرجاء غير المنظور. كلّ روحٍ رافعةٌ شِراع وشريعة المحبّة في وجه الحياة.
تذهب إلى الكنيسة، حيث جَمْعُ الرب مُتَّحِد معًا، فترفع صلواتك لتمزجها مع صلوات جسد المسيح التي يُصعِدها الروح الحاضر في الكنيسة إلى الآب، فيُبَارِك الآب على الجماعة المُصلِّيَّة، ويهبها عربون الحياة الجديدة؛ جسد يسوع ودمه. فتتقوَّى النفس وتستشعر وكأنها قد احتوتْ الملكوت!!
وأن الخطيئة لن تستطيع أن تتربَّص بها من جديد، وأن الشيطان سيُعْلِن هزيمته أمام مجد الخلاص الذي استقرّ في قلوب مَنْ نالوا سِرّ الحياة المُقدَّم في الإفخارستيا.
ولكنك بعد قليل تجد شهوات الجسد تثور من جديد، ومُغريات الحياة تُعاود إلحاحها، ومطالب الأرض تبدأ مرّة أخرى في نسج ثوبٍ من تراب، لتجعل منه شرنقة تحجز فيها روحك الوثــَّابة نحو الله، لتحرمها من انطلاقها نحو الرب، محبوب النفس وجلَّ مشتهاها.
ثنائية الحياة
ووسط كلّ هذا التناقض الذي يحيط بالنفس، تتسائل: أما من حَلٍّ للخطيئة؟ أما من انكسار نهائي لإبليس وأعوانه؟ أما من نورٍ أبدي يُبرِق، ليصير هو سِمة الحياة التي لا تَقبل الظلمة؟؟
وفي وسط حيرتك وترقُّبك إجابة لتساؤلاتك، تجد صوتًا خافتًا هادئًا يتردَّد صداه في أعماقك القصيَّة، صوتًا يقول لك: « إن مُدَّة كلّ أيام الأرض، زرع وحصاد، برد وحر، صيف وشتاء، نهار وليل، لا تزال ».
فإذ بك تنتبه أن تلك الكلمات ليست سوى الكلمات التي وردت بفم الرب في سفر التكوين (8: 22).
إنها الكلمات التي خَتَمَ بها الرب على قصة الطوفان بعد أن قرَّر أن يحتمل تغرُّب الإنسان عنه في الشَرِّ، وأنه لن يعود يفنيه، لأن نسيجَ الشَرِّ قد توغَّل في كيان الإنسان يوم سقط. وأصبح الإنسان يحيا بين قطبي النور والظلمة. وصارت الحياة كلها ثنائيات تتجاذب البشريَّة؛
ثنائيات ما بين:
السقوط والقيام،
الابتعاد والاقتراب،
الانكسار والانتصار،
الحزن والفرح،
الضيق والسعة،
الأنين والبهجة،
الموت والحياة،
الجسد والروح،
الأنا والآخر،
الفرديَّة والشخصانيَّة،
الكينونة والتملُّك،
المحدود والمُطلَق،
العدم والوجود،
الزمن والأبديَّة.
إنها الحياة النسبيَّة التي نحياها، التي هي مزيجٌ من متناقضاتٍ. فالتراب يجاور الروح في الكائن البشري. إنها واقعيَّة الحياة التي يُريدنا الروح القدس أن نعيها ونتعلَّمها. فالحياة ليست أُحاديَّة الجانب؛ فهي ليست ماديَّة مُتكثــِّفة فقط، كما أنها ليست روحيَّة بسيطة فقط أيضًا.
إنها مجموعة من الثنائيات. وما يُشكِّل توجُّهنا الإنساني في مسيرتنا بين ثنائيات الوجود هو ميلنا صوب أحد طرفـي الحياة، وصراعنا للتحرُّر من الطرف الآخر.
لذا يجب أن ننتبه إلى أنه بعد السقوط الذي أفسد الطبيعة كلها، دخلت الخطيَّة إلى صميم المادة المخلوقة. لذا فإن وهم النقاوة البِلُّوريَّة التي لا تشوبها شائبة هو حلمٌ بعيد المنال طالما أننا أسرى الزمن والتراب. كما أن الله لا يطالبنا بالنتائج ولكنه يطالبنا بالحركة والدفاع عن ثوب الخلاص.
فالنقاوة التي يجب أن نسعَى إليها هي وليدة صراع مستمر، آني، متواصل. وهذا الصراع هو الذي يستقطِب هبات الروح المجانيَّة لنا، خاتِمًا إياها بالنقاوة والطُهر.
لكن يبقَى هبوب نسيم الروح على أعتاب قلوبنا مرهونًا بيقظتنا وصراخنا ورجاؤنا في نوال المعونة والخلاص، ويبقَى نداؤنا الذي ينطلق، ليل نهار، من صميم قلوبنا المترقِّبة شعاعًا من نور، ومن وسط غيمات شتاء الخطيئة القارس،
هو: [ هلمّ تفضَّل، حِل فينا، وطهِّرنا من كلّ دنسٍ ] (من قِطَع الساعة الثالثة / صلوات السواعي). الروح هو مُطهِّرنا من الدنس والخطيئة وليس جهادنا. ألاَّ نُطفِئ الروح داخلنا يبقَى هو غاية كلّ جهادٍ ضدّ أعداء النور. إذًا مطلب الله منَّا ليس هو التخلُّص من الخطيئة ولكنه الصراع ضدّ الخطيئة، بينما التخلُّص من الخطيئة هو الثمرة التي يقتطفها لنا الروح من شجرة الحياة التي لا يموت آكلوها.
من هنا يمكننا أن نعرف أن سِرّ انكسار الخطيئة يكمن في يقظتنا إِبَّان الصراع على الدوام ودئبنا على التخلُّص من كلّ خطيئة عَلِقَت بثوبنا النقي الذي لبسناه يوم معموديتنا. فلا نقاوة بدون صراع مع الظلمة، وذلك لأن نقاوتنا مُهدَّدة على الدوام من أعداءٍ لا ينامون ولا يهدأون ولا يضجرون من كثرة الهزائم.
ثنائية التوبة
إن التوبة ذاتها هي إحدَى ثنائيات الحياة. فهي تعبير عن الميل والصراع في آنٍ واحد. إنها ميلٌ لمشورة الروح بالعودة إلى الله، كما أنها ـ في ذات الوقت ـ صراعٌ ضدّ خيوط الشيطان التي تريد أن تُعرْقِل تلك الحركة نحو الله.
إنها تُمثــِّل ثنائيَّة داخليَّة في قلب الإنسان؛ فالاقتراب من مدار النور الإلهي هو في نفس الوقت إظهار مُؤلم لحالة النفس المُتدنِّسة بالخطايا والتعدّيات، تلك التي لَحِقَت بها من جرّاء الخضوع للعالم وقانونه المادي. فالنور وحده هو المُخبِّر عن الظلمة. وهذا ما يجعلنا في حالة نِزاع دائم بين رجاء الاقتراب ورهبة الاقتراب، شوق اللقاء وخَشيْة اللقاء!!
وعن ذلك النزاع الذي تجوزه النفس حينما يَبرُق نور الله في أُفـُقِ الروح، يُحدِّثنا صفروني سخاروف (الراهب الروسي) في كتابه (معاينة الله كما هو)،
قائلاً:
… يُصبـِـح الإنسـان مُمَزَّقــًا؛
من جهــةٍ، هو غـارق في هلعـه
من رؤيـة ذاتـه على ما هي عليـه من قباحـات،
ومن جهــةٍ أخرى، فهو يشعـر بفيـض قـوَّةٍ لم يعرفهـا من قبـل،
ناجمــة عن رؤيــة الإلـه الحـيّ …
كما يكتب كاليستوس وير في كتابه (الملكوت الداخلي)، قائلاً:
التوبــة المُفعمــة ألمــًا وفرحــًا في آنٍ معــًا
تُعبــِّر عن التوتُّـر الخـلاَّق
الذي طالما طبـع الحيـاة المسيحيــَّة على هذه الأرض.
إنَّ تلك الثنائيَّة الضروريَّة التي تُشكِّل توبتنا هي بالفعل توتُّر خلاَّق، لأنه من بين ألم رؤية النفس على حقيقتها، يَبْرُق النور الإلهي عليها، فتذوب في نشوة التلاقي مع الله، مُتناسيَّةً ذاتها وحالتها وحقيقتها.
تلك هي أولى خطوات مغادرة الذات باتجاه الله، وهو ما يضمن النجاة من فِخاخ اليأس المُتربِّصة بالخاطِئ حينما يُعْلِن عودته لأحضان الله الأبويَّة من جديد.
إن مشاعر التوبة تتأرجح دائمًا ما بين قطبيْن، وهما:
- قُطب النور (الحاضر): وهو يُمثــِّل فرح النفس بعودتها إلى الله.
- قُطب ظلمة الماضي: وهو يُمثــِّل ألم النفس لما سببته لقلب الله من جراح حينما أخطأَت.
وإن كان قُطب النور في التوبة هو الذي يسبي النفس في نشوة اللقاء فتنسَى حقيقتها في غمار دفء وحنو الله، إلاّ إنَّ قُطب ظلمة النفس الماضيَّة هو ضمانها حتّى لا تستعلي حينما يراودها هاجس التفوُّق الروحي والتميُّز الحياتي عن الآخرين. فالنور الإلهي الحاضر يُحصِّن النفس ضدّ اليأس، كما أن ظلمة الماضي الذاتيَّة تحمي النفس من الاستعلاء الروحي والكبرياء الذهني.
إنه نفس مفهوم الحبّ/ الخوف (الرهبة) الذي به نلتقي الله. إنْ تلاشَى الخوف، ارتخت إرادتنا في تطبيق الإنجيل وفي الصمود أمام الخطيئة، وإن تقلَّص الحبّ تحوَّلت مسيحيتنا إلى وثنيَّة جديدة ولكن بمفهوم سلوكي أكثر رُقيًّا. وذلك لأن جوهر الله هو المحبّة، وإن اختفت المحبّة تحوَّلنا إلى عبادة إله آخر أبعد ما يكون عن الثالوث الحبّ.
ويرى القديس أغسطينوس أن ثنائيَّة التوبة الداخليَّة ما هي إلاّ حبّ الله وبُغض الذات بآنٍ واحد، لذا يقول مُصَليـًّا (الاعترافات/ الجزء الثاني):
آه ! ما أحسـن الاعـتراف بين يديـك،
لأني عندما أُقـر لـك بخطايـاي،
تُرســِل إليَّ رأفاتـك، شعـاع نـورك،
فأرتـد خجـِـلاً من نفسـي،
وأرانـي مُستحقـًّا البُغـض،
وأراك مُستحقــًّا الحبّ،
وفيك يجـب أن أضـع أفكـاري وعواطـفي وملذَّاتي.
من هنا كانت الثنائيَّة المُكوِّنة لرداء التوبة هي ضرورة بما تحمله من بهجةٍ وما تحمله من ألمٍ لذا فهي توبة مُفعَمة ألمًا وفرحًا بحسب توصيف كاليستوس.
ولكن هل هذا يعني أنه يجب علينا قبول حقيقة وجود الخطيئة في حياتنا؟! بالطبع لا. ولكن يجب أن نُدْرِك مدار الصراع الذي نجتازه بشكلٍ لحظيٍّ، وأيضًا طبيعة الأعداء المُتَربِّصين بنا، وكذلك طبيعة الصراع نفسه، بل وطبيعة ذواتنا نحن أيضًا، حتّى يمكننا القيام بعد الانطراح والصمود بعد السقوط والانتصار بعد الانكسار.
يجب أن نُدْرِك أن الخطيئة تُحاصِر وجودنا الترابي بجُملته، تتسلَّق جدران القلب لتجد منفذًا للدخول والإنبات، تتلمَّس لحظات فتورٍ أو مللٍ أو تراخٍ أو حيرةٍ أو ضعفٍ لتَدْخُل وتُقيِّد النفس والروح معًا بقيود بها رائحة الجحيم والموت. والإنسان مائل للشَرِّ منذ حداثته كما أعلن الكتاب، لذا فإن الخطيئة لم ينج منها شخصًا على مرِّ العصور!!
يبقى أن نُؤكِّد مُجَدَّدًا أن ما يطلبه الله منَّا هو العمل وليس النتيجة، الجهاد وليس الخلاص.
لقد تحدَّث القديس بولس أيضًا عن نزاع ثنائي داخلي؛ إنه النزاع بين الإرادة والفعل، بين الاشتياق القلبي والجمود الحياتي. وهو ما نجده حينما نُطالع رسالته إلى أهل رومية، التي يُدوِّن فيها أنينه بلسان كلّ البشريَّة المرتديَّة لِباسًا من لحمٍ ودمٍ، قائلاً:
« لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحُسنَى، فلستُ أجد » (رو7: 18).
إن هذا الصراع بين الإرادة المُترجيَّة أبديَّة النور ولِباس الفضيلة، من جهةٍ، وبين العمل المُلوَّث بالتعدي والخطيئة، من جهةٍ أخرى، هو بالفعل مِحْوَر الجهاد الإنساني. إن النُصرة تَكْمُنُ في الجهاد، والنعمة دورها أن تُتوِّج هذا الجهاد بالنقاوة والتحرُّر من الخطيئة.
لذا فإن الانفلات من حبائل الهاوية هو نتيجة شراكة بين جهادك المُستمِر، وبين النعمة التي تُعِين وتُكافِئ. لذا لا تجعل من الضعف والسقوط مُثبِّطًا لعزيمتك، يجب ألاّ تتوقَّف عن الصراخ إلى الله من أجل الحصول على نعمة التحرُّر، وطالما قلبك يصرخ طالما أنت مُنتصِر. فقط الهزيمة في توقُّفك عن الصُراخ والجهاد، والرجاء في النُصرة.
ولعلّ هذا المفهوم نجده بوضوح في الصلاة التي يتلوها الكاهن قبل التقدُّم للخدمة الليتورجيَّة الخاصة بالإفخارستيا،
إذ يقول (صلاة الاستعداد / قُدَّاس القديس باسيليوس):
أيهـا الرب العـارف قلـب كلّ أحـدٍ،
القدوس المُستريـح في قديسيـه،
الذي بلا خطيــَّة وحـده، القـادر على مغفـرة الخطايـا،
أنت يا سيد تَعْلَـمُ أني غير مُستحـق ولا مُستعـد ولا مُستوجـب لهذه الخدمـة المُقدَّسـة التي لك،
وليس لي وجـه أن أقـترب وأفتـح فاي أمـام مجـدك المـُقدَّس،
بل ككثرة رأفاتـك اغفـر لي أنا الخاطِئ …
إن تلك الصلاة الممتلئة بالانسحاق الشديد أمام المجد الأقدس، هي بالفعل لسان حال كلّ التائبين الذين لم يَصِلوا إلى التحرُّر الكامل من الخطيئة، ولكن صرختهم الدائمة والمُسْتَمِرة هي:
[ ككثرة رأفاتك اغفر لي أنا الخاطِئ ].
وتلك الصرخة وحدها تحمل على جناحيها سِرّ نُصرة الخاطِئ، على الذات، التي تريد أن تتبرَّر، وعلى الشيطان، الذي يريد أن يَخْدَع النفس ببرِّها تارةً، وبعدم جدوى الوقوف أمام الله تارةً أخرى. إنها الصلاة التي تُهيِّئ الإنسان للوقوف أمام الله، إذ أنها تكسوه بثوبٍ منسوج برقة وعذوبة الاتضاع.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن الثنائيات التي تُلاحقنا كلّ يومٍ وكلّ ساعةٍ بل وكلّ لحظةٍ في حياتنا، هي السبب الرئيسي والمُباشر لنمونا ونضوجنا. فلولا الأسود لما كان الأبيض رمزًا للطُهر والنقاء، ولولا الظلمة لما كان ابتهاج الطبيعة بيقظة النور، ولولا القتال والصراع لما احتفل البشر بالانتصار. فالتتويج لن يأتي إلاّ عقب القتال.
كما أن الطَعْم الحقيقي للنُصرة يَكْمُن في لذَّة الجَهد المبذول أثناء الصراع. إنه التعليم الذي كان يحرص القديس موسَى الأسود أن يُلَقِّنه لكلّ مَنْ كان يأتي إليه شاكيًا ضراوة القتال، إذ اعتاد أن يقول:
لو لم تــكن حـروب وقتــال،
ما كــانت فضيلــة
فالفضيلة إذًا هي نِتاج الصراع المُحْتَدِم بين قطبي المادة والروح، حينما يميل الإنسان بالروح، ليسمو عن جذب المادة المُستمر والدائم. كما أن الإكليل الختامي لن يستقر على رؤوسٍ لم تكتسِ بالعرق والجهد في سعيها اليومي. وكذلك الغلبة لن تكون إلاّ لمن استطاعوا أن يقولوا [ لا ] للعالم الحاضر الموضوع في الشرير.
إن هذا الصراع بين المادة والروح هو في حقيقته صراع تجري أحداثه في العالم الإنساني الصغير microcosmos، داخل الكيان البشري، بين خواطر إبليسيَّة تتسلَّل، في ظلمة الضمير، لتجذِب الإنسان تجاه الهاوية، ولتتجسَّد في شكل خطيئة، وبين نفحات الروح القدس التي تبغي إشعال القلب الذي قاربت فتيلته على الانطفاء، ليُبْصِر من جديد نور الحياة.
وهذا الصراع في عقل وقلب الإنسان يجعله في حالة نزاع دائم، بين قوَّة هائلة تجتذبه لمن هو غير منظور، بحواس الجسد، ولكنه مرئي ببصيرة الروح النقيَّة، وبين قوى أخرى تستخدم الحواس لتستميله نحوها.
وهذا النزاع الإنساني لا يتوقَّف، ولكن الإنسان، بمضي الزمن، يصبح أكثر تبصُّرًا بالحقيقة، وأكثر إدراكًا للخدعة التي تقبع خلف الغريزة المُتسربِلة بثوب اللذَّة، وذلك حينما ينمو وعيه الإيماني من خلال خبرات يوميَّة متلاحقة.
وبقدر ما يميل الإنسان صوب النور بقدر ما تضعف همسات الظلمة التي تجتذبه. وبقدر ما يرتضي ـ في المقابل ـ بوجود قشور الخديعة الشيطانيَّة على ناظريه، تشتدّ حبائل الظلمة حول عنقه، فيختنق، ويصبح أسير حالةً من انعدام المعنَى والقيمة والغاية، ويصبح أقرب للهاوية منه للملكوت.
يكتب لنا باولو كويلهو Paulo Coelho (الروائي البرازيلي) في روايته (محارب النور) عن تلك القوتيْن اللتيْن تجتذبان النفس،
قائلاً:
يعـرف محـارب النـور أنَّ المـلاك والشيـطان
يتنافسـان على مـقبض سيفـه،
يقـول الشيـطان : « ستضعـف .. لن تعـرف متى؟ أنت خائف »
ويقـول المـلاك : « ستضعـف .. لن تعـرف متى؟ أنت خائف »
المحـارب مندهـش؛ فالمـلاك والشيطـان تفوهـا بـكلامٍ واحد!!
عندهـا يتابع الشيطـان: « دعني أساعـدك … »
ويقول المـلاك: « سأساعـدك »
في هذه اللحظـة، يفهـم المحـارب الفـرق.
فـقد تـكون الكلمـات واحـدة، ولكن الحليفـين مختلفـين.
فيختـار حينئذٍ يـد المـلاك.
إن نصرتنا مَرْهونة ـ أولاً وقبل كلّ شيءٍ ـ بوعينا بالصراع وبأطرافه وبوسائل النُصرة وأسباب الهزيمة. فلقد استخدم الشيطان كلمات الروح لخداع المسيح، ولكن وعي المسيح بقصد الروح من تلك الكلمات صار هو سِرّ انكسار الشيطان في تلك الحرب التي اتَّخذت من الجبل مكانًا شاهدًا عليها.
والوعي يعني تدريب الحواس وشحذ المهارات الروحيَّة القتاليَّة، بالصلاة وكلمة الله والافخارستيا … ولكن قبل كلّ شيء؛ التسربُل بالتواضع كما بالجسد.
الوعي
إن وعينا بتلك الثنائيات التي تُحيط بنا، يجعلنا أكثر إدراكًا للواقع الذي نحياه، وأكثر تقبُّلاً لاحتمالات التعثــُّر والسقوط. وبقبولنا طبيعتنا البشريَّة المُعرَّضة للخطأ، سنُصبح أكثر قوَّة وقُدرة على النهوض دُفعةً أخرى.
فالذي يجعل من الصعب على شخصٍ ما، القيام مرّة أخرى بعد السقوط، هو شعورٌ كاذب بالاستقرار والثبات، والثقة في طبيعة بشريَّة عتيقة قد تثور وتزأر في أيِّ وقت، ممَّا يُشكِّل صدمةً عنيفةً، حينما يجد أن ثباته كان حُلْمًا مرَّ سريعًا، وأن نقاوته قد طالتها أيدي الخطيئة.
لذا ينصح القديس بولس قائلاً: « مَنْ يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط » (1كو10: 12).
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
عندمـا يَسْقُـط المُتكبِّر يندهـش وينـدم ويفقـد الرجـاء،
أما المُتضـع فهـو يعـرف ضعفـه،
ولا يندهـش من تصـرفٍ أو سلـوكٍ،
بل ينـدم برجـاءٍ حيٍّ في رحمـة الله.
لذا فمن الضروري وضع هامش للخطأ والتعثــُّر في الحياة التي نحياها، ممَّا يَهِبنا القُدرة أن نتجاوز لحظات السقوط سريعًا، ونتصرَّف بإيجابيَّة بعد كلّ فشلٍ قد ننحدر فيه أثناء صراعنا اليومي المُحْتَدِم.
إن قبولنا لذواتنا ليس تصالُحًا مع الخطيئة ولكنه وعي بإمكانيَّة السقوط، كبشرٍ، نحيا في خيمة إنسانيَّة. ولكن هذا الوعي لا ينبغي أن ينفصل عن سعي دؤوب لتغيير تلك الحالة بلمسات النعمة. فكثيرًا ما يُجاهد البعض ولكن بثقة في الثبات دون معرفة هشاشة النفس البشريَّة التي تحيط بها حيَّات وأفاعي الخطيئة ليل نهار، وهي تتربَّص بها لتلدغها حينما تسهو وتغفو.
كما أننا نجد أن هناك قطاعًا آخر من البشر يدركون طبيعتهم الخاطئة ولا ينهارون أمام قسوة السقوط، ولكنهم في المقابل، لا يعملون على تغيير تلك الحالة!! فيصبح وعيهم استكانةً وتَصالُحًا مع الظلمة.
لذا فمن الضروري أن يمتزج الوعي بالضعف الإنساني مع العمل والسعي للقيام والتوبة والتجدُّد، حتّى تكون التوبة مدفوعة بقوَّة الرجاء الذي يُوفِّر على الخاطِئ جهادًا طويلاً في سعيه للنهوض دُفعةً أخرى.
وفي كلّ مرّة تأتي غيمة السقوط لتُحيط بك، وتُبدِّد شوقك للنقاوة؛ يجب عليك أن تقف وتــُردِّد في داخلك:
إنها الطبيعة البشريَّة الخاطئة التي تعمل فـيَّ للموت،
إنه الجسد الشقي
الذي يُكبِّل روحي الثائرة على العالم المادي،
إنها بقايا لحظات من ذكرى سقوطٍ أليمٍ
قد طال أبويَّ آدم وحواء في الماضي السحيق،
ولكنني …
سأنهض بنعمة الحياة الجديدة
التي أشرقت لي في المسيح يسوع،
سأعاين النور المُتسلِّل من بين صخور الظلمة،
وإن سِرْتُ في وادٍ يغطيه ظل الموت،
فلن أخاف ولن أرتعب ولن أخور ولن أستسلم؛
فلتجرحني سهام الأعداء كما تشاء
ولكننى لن أترك المعركة وأختبِئ،
فستكون جراحاتي هي الشاهد على جهادي
يوم استعلان مجد المسيح.
الخليقة الجديدة
إننا نسير في الحياة بآنيتنا الفخاريَّة الهشَّة؛ التي هي أجسادنا الترابيَّة وطبيعتنا المحدودة، ولكن تبقَى اشتياقات قلوبنا هي سِرّ صمودنا أمام قسوة الحياة. ولكن الاشتياق يجب أن يصير عملاً، والعمل يجب أن نتوجَّه به لله.
فالمسيحيَّة لم تأتِ لنا بطبيعة خارجيَّة جديدة ــ بدلاً من الجسد المادي ـ لتُقحِمها في كياننا الإنساني، فمدار وجود المسيحي هو نفس المدار الزمني والمكاني الذي تدور فيه باقي الخليقة. فنحن كسائر البشر، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، بحسب الطبيعة الماديَّة؛ « عالمين أن نفس تلك الآلام تُجرَى على إخوتكم الذين في العالم » (1بط 5: 9).
ولكن الخليقة الجديدة التي تحدَّث عنها القديس بولس ليست سوى صورة الله المنقوشة في جوهر الكيان الإنساني والمُتطلِّعة إلى وجه المسيح، فقط حينما تتنقَّى تلك الصورة من شوائب الخطيئة بدم العهد الجديد، لتعود نقيَّة بهيَّة كسابق عهدها قبل السقوط، تعكِس الأصل الإلهي المُضِيء الذي صُوِّرَتْ على شاكلته.
إن الخليقة الجديدة في المسيح هي سِرّ انفتاح بصيرة الإنسان، فهي التي تجعله يستطيع أن يُبْصِر القيامة خلف رداء الموت. فحبَّة الحنطة في نظر المسيحي ليست بذرة صغيرة مُهْمَلة ولكنها شجرة كبيرة مُثمِرة!! وهذا هو سِرّ الحياة الجديدة.
إنه تجديد البصيرة للحياة لنرى كلّ شيءٍ بأعين الله الساكن فينا. وهكذا نجد أن الألم في حياة المسيحي هو إكليل مجدٍ وشهادة حيَّة، فقط حينما يُخْتَم بخاتم الصبر والرجاء في الرب. وأيضًا نرى السقوط هو دَفْعَةٌ للقيامة بقوَّة أعظم، أو بحسب التعبير الخالد للقديس يوحنا ذهبي الفم؛ هو سِرّ [ العودة بقوَّة أعظم ]. وهكذا الخطيئة في القاموس المسيحي، بالرغم من كلّ قُبْحَها وسلبيتها التي تُلقي بالضوء على الانهزام في حياة الإنسان، نجدها تؤول بالتوبة إلى اختبار!! اختبار نعاين فيه وجه الله الرحوم.
فالخطيئة إذًا، هي التعبير عن البشريَّة الملوَّثة بخبرة معرفة الخير والشر، بالممارسة والعمل والسقوط. ولكنها من جهةٍ أخرى، قد تتحوَّل إلى فرصة ثمينة لنُعاين من خلالها عمل الله وحُبَّه المجاني، وخلاصه الذي لا يتوقَّف على حالتنا الراهنة، ولكنه ينهال علينا بحسب سخاء الرحمة التي في قلب الله من جهتنا، ولكن هذا البُعد نتلمسه في حياتنا فقط حينما نبدأ بالتوبة.
فالخطيئة بدون توبة هي قبول دينونة، ولكنها بالتوبة هي معاينة النعمة والمجانيَّة في كلّ تعاملات الله معنا
«وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة، قد صالحكم الآن، في جسم بشريته، بالموت، ليُحْضِرَكم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه» (كو1: 21 ــ 22).
وعن هذا المفهوم يكتب الأب هنري بولاد في كتابه (السلام الداخلي) قائلاً:
النعمـة تحتـاج إلى نافـذةٍ تمـر منهـا إلى قلـب الإنسـان،
وقد يكـون جـرح الخطيئـة هو تلك النافـذة
التي تسمـح للنعمـة بالنفـاذ إلى أعماقنـا،
حتّى تـروي أنفسنـا التي تُشْبـِه الأرض الجافـة …
ولنا في مَثـَل العشار نموذج لتلك الحالة الفريدة لعمل النعمة؛ فجِراح الخطيئة قد أحْنَت نفس ذلك العشار بالحُزن، فتدفَّق الأنين من قلبه كنهرٍ جارٍ، وتناقل الفضاء صدَى قرعات صدره التي زلزلت السماء، وخرجت تلك الكلمات البسيطة التي فتحت الباب أمام النعمة للعمل والتبرير والغفران.
« وأمـا العشَّـار فوقـف من بعـيد
لا يشـاء أن يرفـع عينيـه نحو السمـاء
بل قـرع على صـدره قائـلاً:
اللـهم ارحـمني أنا الخـاطِئ » (لو18: 13)
إننا في مطالعتنا للعهد الجديد نجد أن الله قد جاء في الجسد من أجل الخطاة والأثمة والساقطين، وليس من أجل الأبرار والكاملين، كما أعلن هو قائلاً: « لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة » (مت 9: 13).
من هنا ندرك أن الأبرار في أعين أنفسهم هم أبعد الخلائق عن معاينة وجه الله الرحوم وتذوُّق النعمة المجانيَّة. ولنا في تبكيت الرب للكتبة والفريسيين وقادة الشعب أكبر دليل على خطورة البرّ الذاتي الذي كان موضع انتقاد الرب الدائم والمستمر. فالخاطِئ التائب وحده هو الذي يتذوَّق الرحمة حينما يستعطف صلاح الله لانتشاله من مستنقع الخطيئة.
حينما يدرك إنه لا شيء في مواجهة الخطيئة ومواجهة قوات الظلمة، ولسان حاله يقتبس من كلمات القديس أنطونيوس، حينما كان يواجه إبليس وجنوده، فيقول: [ أنا أضعف من أصغركم ].
فالضعف الذي يُعْلِنه القديس أنطونيوس هو ضعف الذات بقدراتها الإنسانيَّة في مواجهة الظلمة، ولكن هذا الضعف يتحوَّل إلى قوَّة نُصرة هائلة حينما تتدخَّل النعمة وتقود النفس في هذا الصِراع، لتصبح المواجهة بين الله والشيطان. حينئذ تَفِلّ كلّ قوات الظلمة من أمام وجه الرب المدافع عن الصارخين إليه ليلاً ونهارًا.
ويُدوِّن لنا القديس أثناسيوس في كتابه (حياة الأنبا أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس/ فصل10،11) تفاصيل الصراع بين أنطونيوس والشياطين، والذي انتهَى بتدخُّل مباشر للرب، فيقول:
وهـكذا إذ تطلـَّع (أنطونيـوس) إلى السـقف إلى فـوق
رأى السـقف كأنـه قد انفتـح،
وأشعـة من نـورٍ نازلةٍ عليـه،
وللحـال اختفـت الشيـاطين،
وانقشـع ألم جسـده، وعـاد البنـاء سليمـًا …
ويضيف القديس أثناسيوس، قائلاً:
وفي اليـوم التـالي خـرج أشـدَّ مَيْـلاً لخدمـة الله.
آه، يا ليتنا نُدْرِك عِظَم النعمة والمعونة التي تُحيط بنا، يا ليتنا نُدْرِك مجد النُصرة التي تترقَّب صرخات قلوبنا لتستحضِر الله في قلوبنا، حينها فقط لن تُخيفنا الخطيئة ولن تُقيِّدنا في قضبان اليأس الحديديَّة، لأن أبصارنا ستظل مُعَلَّقة بالسماء، تترجَّى المعونة وتبتهج بها.
لن يستطيع جنود الشر أمام الأعين المُحدِّقة في غير المنظور سوى أن يَفِروا مهرولين نحو هاوية مصيرهم، وهم يَجُرون أذيال الخيبة والهزيمة.
التوبة
من الأمور التي يجب علينا أن ننتبه لها، هي أن السقوط في خطيئةٍ وليدة الضعف ليس كالسقوط في خطيئة ناتجة عن قساوة واستهانة. وأن العناد في الخطيئة يُفْقِد الروح قدرته!! على التدخـُّل لإنقاذ ذلك الإنسان. ولنا في مَثــَل فرعون، الذي عاند دعوة الله لشعبه إلى البريَّة، شهادةً على عنادٍ إنسانيٍّ يمكنه أن يصل بالنفس إلى الغرق والهلاك.
ولكن على الجانب الآخر، حينما يجثو الخاطِئ أمام الله، وليس في فمه كلمات، لا يدري ماذا يفعل، فحينما تكلَّم قبلاً كانت كلماته وعودًا وعهودًا، ولكن الخطيئة قد أذابت كلّ تلك الوعود وطرحت النفس عارية، في خزيٍّ وألمٍ، في محضر الله.
ولم يتبق لذلك الإنسان إلاّ أنْ يرفع عينيه إلى السماء؛ أعين تمتزج فيها الحيرة والندم مع الشوق. تصير نظراته التي يُرْسِلها إلى الأعالي هي صلاته الصامتة التي تعكس حالته وحيرته ورجاءه
« ونحن لا نعلم ماذا نعمل؟ ولكن نحوك أعيننا » (2 أخ20: 12).
هنا لا يملك الله أمام تلك النفس التي تريد ولا تستطيع، إلاّ أنْ يُشدِّد ضعفها ويُعزِّي قلبها الكسير بل ويمنحها الغفران. فالله لا يحتمل قلبًا مُنسحِقًا وعينًا مُنكسرةً وعَبَراتً مُتساقِطةً في رجاء الفجر الآتي.
إنها التوبة التي تفتح كُوى السماء لتأتي لنا بالمطر الروحاني (النعمة) فتبتل أرض الروح الإنسانيَّة المقفرة وترتوى بعد عطشٍ وحدبٍ.
والتوبة الكتابيَّة ليست حالة من الحزن، بقدر ما هي لحظة انفتاح على حقيقة الحياة. ترى فيها النفس، الحق والباطل، تُبصِر من خلالها، النور والظلمة، تضع يدها على الهوَّة التي تفصل بين مجد السماويات وملذَّات الأرضيات.
إنها نظرة إلى فوق برجاء حي مُتجدِّد لا تُعرْقِله أثقال الخطيئة ولا يُوقِفه هول التعديات، لأنه رجاء في ثالوث الحبّ. إن مثل تلك النظرة إلى أورشليم العليا تجتذب الإنسان للجمال غير المادي؛ جمال الحق والنور والقيامة.
كما أن التوبة ليست موقفًا سلبيًا نذرف فيه الدموع على اللبن المسكوب، دون التحرُّك للأمام. إنها ليست لحظات ساكنة نقضيها في التحسُّر على الماضي المُنْقضي، ولكنها حركة دؤوبة تُشعِل النفس لتغيير موقفها من الحياة بأبعادها الثلاثة (الذات والآخر والله).
إنها لحظات فرح وسلام وإن كان تعبير الجسد عنها دموع وأنين. فأنين وألم وأحزان التوبة مُبْهِجة ومُفْعَمة بالسلام القلبي. لذا عبَّر الرسول بولس عن هذا الحُزن المُبْهِج قائلاً عنه إنه:
« الحُزن الذي بحسب مشيئة الله » الذي « يُنشِئ توبةً لخلاصٍ بلا ندامة » (2كو7: 10).
فتوبة الخلاص لا ترتكز على الندامة، بل على الحُزن الفعال الإيجابي المُنْطلِق إلى الأمام بعمل روح الله.
وإن كان تعريف الخطيئة كما كتب كيركجارد هو القلق، نجد أن ميرالوت بورودين في كتابها (سِرّ عطيَّة الدموع في الشرق المسيحي) تكتب أن [ الحُزن المسيحي لا يقلق لأنه لا ييأس ].
إن الاختلاف بين الحُزن الناتج عن الخطيئة، والحُزن المسيحي الذي بحسب مشيئة الله، هو أن الأوَّل حُزنٌ قَلِق بينما الأخير حُزنٌ لا يعتريه القلق لأنه مُمتلِئ بالسلام، نتيجة الثقة في صلاح الله وغفرانه. لذا فإن الحُزن المسيحي لا يقود لليأس كما أشارت ميرالوت.
فاليأس هو فقدان الثقة، بينما التوبة هي استعادة الثقة دُفعةً أخرى.
إن تلك النظرة الجديدة تضع الإنسان أمام محك اختيار؛ فأمجاد الأبديَّة قد انكشفت للنفس كعربون في لحظات صفاء الروح. وفي المقابل تقف خبرة ملذَّات الحياة الحاضرة، المُلوَّثة بنكهة الموت، مُنْتصِبة بجموحها وصخبها. فإن اختار الإنسان الحياة التي مركزها الله، انطرحت خطاياه في بحر النسيان، لتُلْقَى في العدم الدهري وتتلاشَى.
وإن اختار اللحظة الحاضرة وليدة اللذَّة وأسيرة اللذَّة، تثقَّلَت نفسه بالأكثر بأغلال الخطيئة وهَوَتْ إلى دركات العالم المادي الذي يتمركز حول رئيس العالم الموُكَل بظلمة هذا الدهر. فالتوبة إذًا هي خيار يتوقف عليه وجهتنا.
وعن هذا المفهوم الخاص بالتوبة، يُحدِّثنا كاليستوس وير، في كتابه (الملكوت الداخلي) قائلاً:
إنهـا (التوبـة) ليسـت مجـرد التأسُّـف على الماضـي،
بل تغييـر جـذري لنظرتنـا،
وطريقـة جـديدة ننـظر بهـا إلى أنفسـنا وإلى الآخـرين وإلى الله …
إنهـا ليسـت بالضـرورة أزمـة انفعاليـَّة،
ليسـت نوبـة من الـندم والعطـف على الـذات،
بل هي تحـوُّل،
هي إعـادة جعـل الثالـوث القـدوس مـركز حياتنـا ومحـورها.
هي ليسـت قنوطـًا، بل هي توقـُّع وانتظـار باشتيـاقٍ …
ليسـت الشعـور بالوصـول إلى طـريقٍ مسـدودٍ،
بل أن تـجد الـطريق للـخروج،
أن أتـوب هو أن أنـظر لا إلى أسفـل …
إلى نقائـصي وعـيوبي الخاصـَّة،
بل أنظـر إلى أعلـَى إلى محبّـة الله …
لا أن أنـظر إلى الخلـف لألـوم نفسي،
بل أن أنـظر إلى الأمـام بثقـةٍ …
التوبـة ليسـت هي أن أرى مـا هو الذي فشـلت في أن أكونـه،
بل أرى ما الذي أستطيـع أن أصـيره، بنعمـة المسيـح.
إنها ليست مـجرد حـدث يـحدث مرّة واحـدة،
بل هي موقفـًا مستمـرًا.
وبالرجوع إلى النهج الإلهي في تعامل الله مع شعبه في العهد القديم، نجد أن بني إسرائيل لم يتوقَّفوا ـ حتّى مجيء المسيح ـ عن تقديم الذبائح في الخيمة والهيكل، وذلك لأن الخطيئة لم تتوقَّف في حياتهم. فكما وضع الرب لبني إسرائيل، الذبائح، للتكفير عن الخطيئة، حينما يتعثرون في الطريق ويميلون لسلوك وعبادات للأمم،
هكذا نحن الذين صرنا مسكنًا للروح، قد وَهَبَ لنا الرب، التوبة، ذبيحته المُفَضَّلة، لإعادة النقاوة لثوب معموديتنا الأبيض، وليعلن لنا أنه ربًّا
« غنيًّا لجميع الذين يدعونه » (رو10: 12)، فالله دائمًا أغنَى من أقصى طموحاتنا في طلب الرحمة.
وعن غنى النعمة التي تنساب بلا حساب، يكتب القديس يوحنا ذهبي الفم ( تفسير متى 118/ 4)، فيقول:
النعمـة لا تُستنفَـذ ولا تضيـع، فهي ينبـوع دائـم الجريـان
فإن كان طلبك هو الرحمة يعطيك معها ـ بحسب غناه ـ النعمة، وإن طلبت الخلاص زيَّنه لك بالبهجة، وإن التمست المُتَّكأ الأخير، رفعك إلى مائدة الملوك، وإن سعيت في التوبة وهبك معها القداسة. فالله دائمًا هو القادر « أن يفعل أكثر جدًّا ممّا نطلب أو نفتكر » (أف3: 20)، وعطيته دائمًا « بحسب كرم الملك » (1مل10: 13) وليس بحسب طلبة واستحقاق العبيد.
التحوُّل
لقد كانت صرخة يوحنا المعمدان المُدويَّة والمُشَبَّعة برائحة الصحراء هي:
« توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات » (مت3: 2). لقد كانت تلك الكلمات بدايةً لعهدٍ جديدٍ مُنْفَتِح على الأسرار العلويَّة وليس أسير نصوص وأحرف وتقاليد. فالتوبة هي الأساس لبُنْيَان الملكوت الجديد، الذي سيُعْلِنه المسيح في قلوب الذين اجتذبهم الروح، وصاروا مُسْتغرقين في الله وفي الملكوت.
لقد كان نداء يوحنا بالتوبة يحمل في طَيَّاته دعوة للتحوُّل تهيُّئــًا لقبول مسيَّا لم تعلُ هامته هالة من ضياء ولم يرتدِ ثيابًا من برفير ولم يحمل سلاحًا فتَّاكًا مدعومًا بقوى ملائكيَّة لدحر الأعداء. ولكنه جاء في ثياب مُغبَّرة لنجار ناصري بسيط، يتلألأ عرقه من عناء الطريق تحت لهيب شمس اليهوديَّة!!
والتوبة التي نادى بها يوحنا تخطَّت توبة الخطايا؛ فهي ـ جوهريًّا ـ نداءٌ للتحوُّل الذهني لقبول مسيحًا غير اعتيادي، لم يرتسمه الكهنة وعلماء الشريعة وقادة الشعب بهذا المظهر المُخيِّب للآمال.
ولعلنا في هذا العصر المُشوَّه والمُرتَبـِك نقتبس من المفهوم المعمداني للتوبة لنراها تحوُّلاً فكريًّا لقبول مسيحًا غير الذي تصورناه وتوهمناه في مراهقتنا الروحيَّة.
إذًا فتوبتنا تُلامس قناعتنا الماضيَّة عن المسيح، لتبعث فيها حياة تنبثق من حياة المسيح نفسه، حينما يأتي بعذوبةٍ، للنفس المُتلمِّسة الحق وسط ضبابيَّة الباطل المُستشريَّة في أذهان العالم المعاصر.
فالتوبة من هذا المُنْطَلَق هي تغيُّر في قناعاتنا الماضيَّة وتحوُّل في مواقفنا الراهنة بحثًا عن يسوع. إنها ليست مرحلة ولكنها نمط حياتي دائم متواصل. إنها شريعة جديدة أكثر من كونها وصيَّة عابرة. هي حِراك بشري نحو الله وليست انغماسًا ساكنًا في الحزن والقنوط.
ولا أنا أدينك
في صباح أحد الأيام، بينما كان يسوع يُعلِّم في الهيكل، وكانت الجموع مُلْتَفَّة حوله كالمعتاد، إذ بجماعةٍ من الكتبة والفريسيين يتجهون إليه في صخبٍ وضجيجٍ، يتبعهم جمعٌ من عامَّة الشعب، وحالما وصلوا إليه ألقوا بفتاة أمامه!!
كانت تلك الفتاة في العَقْد الثالث من عمرها على ما يبدو، متوسِّطة الطول، ذات ملامح شرقيَّة، إلاّ إنَّ وجهها لم يكن مرئيًّا خلف الدموع التي كانت تنهمر منها في صمتٍ. خلف ملامح الرعب والجزع التي لوَّنت وجهها بصُفرة شاحبة، وخلف شعرها الذي تناثرت خصلاته على وجهها حتّى أعادت تشكيل قَسمَاته.
بدأ الكتبة والفريسيون يكيلون الاتهامات لتلك المرأة، في صرامةٍ وقسوةٍ، ولم يكن يخلو كلامهم من ذِكْر مُفردات؛ موسَى والناموس والزنَى والرجم. بينما كان يزداد وجه تلك الفريسة المُلقاة في الوسط، شحوبًا.
بدأت الجموع تتوافد وتتهامس فيما بينها. منهم من يُشفقون عليها، ولكن خوفهم من بطش الكتبة والفريسيون يُكبِّل ألسنتهم فيؤثرون الصمت، ومنهم من كان يُطالِب بتطبيق عقوبة الناموس كما هي.
ولكن السواد الأعظم من الجمع كانت نظراتهم تُلاحق يسوع الذي وجدوه مُنحنيًّا يُدوِّن بعض الكلمات بأصبعه على الأرض العارية، والناس في حالة ترقُّب لما سيقوله المُعلِّم.
لم تكن حالة الترقُّب تلك هي حالة الجمع المُحْتشِد فقط، ولكنها كانت حالة الكتبة والفريسيين، الذين يقفون في اعتداد، وعيونهم لا تخلو من النشوة والدهاء …
فلو وافقهم يسوع على رَجْم تلك المرأة لانضمَّ لقافلة مُطبقي الناموس، خاسرًا تأييد الشعب له في رؤيته الجديدة لمعنى الوصيَّة. وإن رفض عقوبة المرأة لكان بذلك يُؤكِّد أنه ليس مُؤمنًا بالناموس ولا ابنًا للشريعة، وسيحشدون الجموع ضدّه لكونه ضدّ الناموس، ويصبح هو الفريسة!!
كانت تلك هي الأفكار التي جعلت الكتبة والفريسيين يأتون بتلك المرأة إليه.
ووسط كلمات الكتبة والفريسيين الرنــَّانة المُقتبسة بدقةٍ من نصوص التوراة والممزوجة بنصوص التقليد، وبعد خطبتهم الرائعة عن قيمة العقوبة التي يَنُص عليها الناموس لإحداث توازن في المجتمع اليهودى، وارضاء الله الثائر على هذا النوع من التعدي!! ولِمَ لا؟
أليسوا أبناء يهوذا الذي دَخَلَ على امرأة ابنه وقد حسبها زانية؟ وحينما سمع أن كنَّته قد زنت، قال:
« أخرجوها فتُحرَق!! » ( تك 38 ).
وإذ بيسوع ينتصب ويقول بصوتٍ لم يخلُ من نبرة الحزن والأسَى:
« من كـان مِنْكـم بلا خطـيَّة فليرمهـا أولاً بحجـر » (يو10: 7)
لقد كانت تلك الكلمات غير المتوقَّعة بمثابة حجرًا أفقد الكتبة والفريسيين اتزانهم، وانعقدت ألسنتهم عن الكلام، وسادت لحظات من الصمت، انحنَى فيها يسوع على الأرض، وبدأ يكتب دُفعةً أخرى.
ولكنه هذه المرّة كان يُحدِّق في أحدهم قبل أن ينحني ليكتب كلمة، وينظر لآخر ويكتب كلمة أخرى، وهكذا …
وقد كانت الكلمات التي يكتبها يسوع هي عناوين لخطايا؛ (سرقة الأرامل، زنـَى، غش، رياء، تعويج الحكم …) كانت تلك أكثر الكلمات تكرارًا.
بدأ الشيوخ ينصرفون واحدًا تلو الآخر وكأنهم يتسلَّلون من فضيحة، وكان يكسو وجوههم توتــُّر وقلق بدا ظاهرًا للجميع. وبعد دقائق قليلة، لم يكن متواجدًا أحدٌ من الكتبة والفريسيين. لم يتواجد إلاّ بعضٌ من عامَّة الشعب الذين ارتسمت ابتسامة رقيقة على وجوههم الطيِّبة. ابتسامة نُصرة طالما غابت عن وجوههم التي لم تعرف سوى الأسَى!!
ثم انصرفوا أيضًا وهم مطمئنون على تلك الفتاة أنها في أيدٍ رحيمة. وبقى يسوع وحده مع المرأة.
وبقدر ما بدأ الرُعب يتلاشَى من على وجه تلك المرأة، بقدر ما تسلَّل الحياء ليأخذ مكانه على تقاسيم وجهها الحزين. وبينما كانت تحاول النظر إلى يسوع لتشكره على إنقاذها، كانت تلْمَح بريقًا من الطُهر يفتضح خطيئتها كلما حاولت النظر إليه.
انتصب يسوع ونظر إليها نظرةً حانيةً بدَّدَت حياءها، نظرة لم ترها من قبل .. نظرة تؤجِّج الشوق للحياة الطاهرة وتُعيد المعنَى لحياة قد فقدت الطريق الإنساني وسَلَكَت على شاكلة دواب الأرض.
كسر يسوع حاجز الصمت والحياء قائلاً لها:
« أين هـم أولئـك المشتكـون عليـك، أمـا دانـك أحـد؟؟ »
فجاوبته وهي مُطرَقة الرأس إلى أسفل:
« لا أحـد يا سـيِّد »
فقال لها :
« ولا أنـا أدينـك، اذهـبي ولا تخطـئي أيضـًا » (يو10: 11)
وفي تلك اللحظة شعرت بسعادةٍ غامرةٍ، وكأن أثقال ماضيها قد تبخَّرت فجأة، وخطاياها التي كانت تؤرق ضميرها ليل نهار تلاشتْ، وحلَّ مكانها شوقٌ للطُهْرِ والنقاوة.
إذًا هذا هو يسوع الذي طالما سَمِعتُ عنه، بالحقيقة هذا هو المسيَّا المُخلِّص. كانت تلك هي الأفكار التي راودتها بعدما مضَى يسوع.
يكتب الكاتب اللبناني أديب مصلح عن تلك الحادثة في كتابه (يسوع في حياته) قائلاً:
الأيـدي التي كـانت تمسـك الخاطئـة تراخـت
والعيـون أطرقـت خزيــًّا
وخلـت الساحــة لاثنـين فقــط؛
الخاطئـة والمُخلِّـص،
[ البـؤس الأقصـَى والرحمـة القصـوى ] على حد قول القديس أغسطينوس
إن الله في تعامله مع خطيئتنا لا يتخذ موقف الكتبة والفريسيين الصارم كما يعتقد البعض، لا يمسك بيده سيف العقوبة ليُسلِّطه على رِقَاب المُخطئين!! ولكنه يتخذ جانب اللطف، جانب ستر الخطيئة وإطلاق كلمات الغفران. فالله حنون للغاية، يشتاق لرجوع النفس إليه، وهو يَعْلَمُ أن القانون الصارم لا يجتذب النفوس، ولكنه اللطف الإلهي الذي يجعل الخاطِئ يذوب خجلاً من خطيئته، ويتمنَّى لو ينال القدرة أن يُقَدِّم نفسه ذبيحة لذاك الذي يُحبّ النفس حُبــًّا قدر هذا.
حينما قال أحد الإخوة للقديس مكاريوس الكبير:
يا أبـي لقد سقطـتُ في خطيئـةٍ
كان جوابه :
ارجــع يا ابنـي
وحـينئذ سـترى شـخص ربنـا يسـوع المسيـح المملـوء حـلاوة
ووجهـه المملـوء فرحـًا
إن هذا هو النهج الأرثوذكسي الأصيل في الحثِّ على التوبة؛ فشعور الخاطِئ بحُبِّ الله، وبإشراقة وجه المسيح من جديد في حياته، يجعله يثور على ضعفة وانهزامه، فتنحلّ قيود الظلمة أمام مجد الحبّ المترقِّب عودته، ذاك المجد الذي يُداعب قلبه المجروح، ليُعيد له الحياة. وهذا ما يُؤكِّده صفروني سخاروف،
إذ يقول:
إن نعمـة التوبـة هي انخطـاف الـروح إلى الله،
إذ تكـون مشـدودة إليه بظهـور النـور.
ويضيف كاليستوس قائلاً:
من المستحيـل أن نرى خطايانـا قبل رؤية نـور المسيـح
فالتوبة هي انجذاب الإنسان كيانيًا نحو المصدر الوحيد الذي يحمل له شعلة الرجاء وسط ليل الظلمة الحالك. فيظهر المُخلِّص بنوره الفائق الوصف ليحمل الروح نحو مدارات النور الأبدي ليُرسِّخ فيها جمال وبهجة الحياة الجديدة بعيدًا عن الظلمة والخطيئة.
وتلك هي الخبرة التي يسير بها التائب في مسيرته اليوميَّة محاولاً الانفلات من الفخاخ المنصوبة والسهام المُنْطلِقة لإسقاطه.
لقد رسم فنانان فرنسيان لوحتين عن مَثـَل الابن الضال؛ كان أولهما دي شافان وقد ركَّز فيها على حالة الابن التعِسة، والثاني رامبرندت ركَّز فيها على موقف الأب. ولقد علَّق L. Cerfaux في كتابه (المسيح في لاهوت القديس بولس Le Christ dans la thèologie de st. Paul) على لوحة رامبرندت قائلاً:
[ الشاب يبقَى في الظلِّ مُديرًا ظهره للمُشاهِد، ورأسه على ركبتي والده، وعلى ثيابه الرثــَّة وحذائه المتهرِّئ يتدفق نورٌ يبدو أنه ينبعث من وجنتي الأب في وسط اللوحة، ومن وجهه الوقور ذي العينين المنطفأتين بسبب البكاء والمفعمتين حنانًا، يبسط الشيخ معطفه ليستر شقاء الابن الضائع، ويداه تستندان مرتجفتين على كتفي الابن، كأنه يخشى عليه أن يعود فيرحل ثانية. أما الابن البكر فيقف جانبًا بوجهٍ قاسٍ ومُقطب احتقارًا لضعف الأب!!. لقد اكتشف رامبرندت حقًا النقطة المركزيَّة في المَثــَل، أعني الأب الحنون ].
إنَّ أبوة الله المُحِبَّة هي التي تُشكِّل كلّ حركة إلهيَّة نحونا حتّى ونحن خطاة. كما أن ضياء النور المُنبعِث من وجه حضوره في لحظات أسفنا على الخطيئة هي الدافع الأكبر لنهوضنا والجاذب الأعظم لقلوبنا نحو الملكوت.
وقد يتسائل البعض فلماذا إذًا الناموس والقانون والعقوبة؟!
إن العقوبة ليست للتائبين .. ليست للذين لهم نفوس مُرهَفَة تحتاج فقط أن يستحثها ويُشجِّعها لُطف الله لكيما تستقيم مرّة أخرى .. ليست للذين لديهم الرغبة بينما يجتذبهم الجسد، للعالم، دون قدرة على الانفلات .. ليست للباحثين عن الله الذين يفتشون الكتب حتّى يستنيروا في حروبهم الروحيَّة لتذوُّق طَعْمَ النُصرة.
والعقوبة في المقابل، هي للمعاندين والقساة القلوب الذين لا يستشعرون اللطف الإلهي. إنها للذين فقدوا الحس وأماتوا ضمائرهم وكفَّنوها!!. هي للذين في قسوتهم الذاتيَّة يحتاجون إلى شدّة الله لكيما يعودوا إلى صوابهم ويرجعوا عن طرقهم الرديئة.
لطف الله
هل سبق لك أن توقَّفْتَ أمام كلمات داود النبى، بعد أن نجَّاه الرب من أعدائِه، حينما قال مُخاطِبًا الله: « لطفك يعظمني » (مز18: 35). لقد عظَّم يسوع انكسار قلب المرأة الخاطئة، لم يتوقَّف عند خطيئتها ليُعظِّمها للدينونة، ولكنه توقَّف عند انكسارها وانسحاق نفسها ليُعظِّمه للغفران …
فالله دائمًا يبحث في حياتك عن أيَّة ثمرة ولو صغيرة، لكي ما يُثني عليها ويُشجِّعها ويجعل منها باكورةً لحقلٍ مُثمِر وممتلِئ بثمار الروح المتنوِّعة.
يُفتِّش عن أيَّة بادرة خضراء مُبشِّرة ليرويها ويجعلها شجرة كبيرة تتآوى بين أغصانها الطيور. ولكن، متى يُعظِّم الله فلسينا الصغيريْن، وتوبتنا الغير كاملة، وصلواتنا التي لم ترتق بعد لتكون صرخات الروح فينا؟؟
إن الإجابة نجدها تتلخَّص في كلمتين وهما؛ التسليم والحبّ. إن التسليم والحبّ هما دفَّتا الشراع اللذان نرفعهما عاليًا في رحلتنا الدهريِّة. فالتسليم الواثق في الرب ليقود هو دفّة الحياة ليُوجِّهها لتحقيق مشيئته بما يتوافق مع خلاص الإنسان، هو الطريق الوحيد الذي يُحوِّل ميزان الأمور ليُرجِّح كفَّة الخلاص لصالحنا مهما كانت المُعوِّقات.
فالرياح العاتية التي تُحاول أن تضرب سفينة حياتك، ستتحول ـ حينما تُسلِّم كيانك بكليَّته للثالوث ـ إلى قوَّة دفع تُسرِع من مسيرتك وترسو بها على شاطِئ الحياة. ستحملك وكأنها جناحا ملاك أرسله الله ليُوفِّر لك العون والحماية. وسترى أن الرياح بجموحها وقسوتها لن تستطيع أن تخرج عن إطار الخلاص المُعَد لك.
لا ولن تصير عائق على الطريق، لأن مشيئة الرب مُختفيَّة هناك. فرياح التجارب ستقودك إلى شواطِئ ليست في مُخطَّط ارتحالك، ولكنك ستعاين على تلك الشواطِئ أن لك رسالة لتؤديها، وأن هذا التحوُّل في المسيرة هو المسيرة ذاتها التي أعدَّها الرب ليُثقِّل بها المجد المُعدّ لك في الأبديَّة.
إن الفخ الذي سينصبه لك إبليس، سيتحوَّل إلى سور حصين. فالمياه التي أغرقت فرعون وجنوده، كانت هي هي المياه التي صارت سورًا لبني إسرائيل في العبور الأشهر على مرِّ التاريخ.
ولكن يجب أولاً أن تُسلِّم قيادة النفس للرب ليُحارب عنها ويَعْبُر بها بحار التجارب، فيُرسل سيفه (كلمته) ليُلاشي ويبيد الأعداء. لن يبقَى (ولا واحد) يقف أمامك، طالما أنك تُؤمن أن الله يستطيع، وأنك بالمسيح، تستطيع كلّ شيءٍ … كلّ شيءٍ (في إطار التوبة) …
« فرجـع المـاء و غطَّى مركبـات وفرسـان جميـع جـيش فرعـون
الذي دخـل ورائهـم في البحـر
لم يبـق منهـم ولا واحـد.
وأمَّـا بنـو إسرائيـل
فمشـوا على اليابسـة في وسـط البحـر
والمـاء سـور لهـم عن يمينهـم وعن يسـارهم » (خر14: 28 ـ 29)
وتأتي محبّة الله لتؤكِّد على المبدأ الأول (التسليم). فالمحبّة تستُر الخطيئة، وتُشعِل الروح، وتقود إلى الله من أقصر الطرق.
لقد أعلن داود عن محبّته لله القوي في مُسْتَهل المزمور الذي نَظَمْه شُكرًا وتسبيحًا للرب الذي نجَّاه من يد شاول الذي كان يلاحقه، إذ قال:
«أحبّك يارب يا قوتي» (مز18: 1)،
إنه تعبير عن شوق قلب يريد أن يتجسد في كلمات. هو إعلان عن حبّ يُولَد، من جديد، من رَحِم النُصرة، وتلك النُصرة ليست بقوَّة ذاتيَّة بشريَّة بل بقوَّة إلهيَّة مُتداخلة في حياتنا، تلمَس ضعف الإنسان وحيرته فتُشدِّده لينهض ويُحارب وينتصر.
لذا فإن محبّة الرب المستحوذة على شِغاف القلب يجب أن يلازمها إعلان عن ثقة النفس في قيادته لحياتها، وحينها ستُعاين النفس عينيْ الله التي تُعظِّم القليل، « لأنه ليس للرب مانع عن أن يُخلِّص بالكثير أو بالقليل» (1صم14: 6).
فالحُبّ النابت من أرض التسليم الخِصْبة، وحده يستطيع أن يُعوِّض نقص الكَمْ!! فصلاة قصيرة مملؤة بالشوق والاحتياج إلى الله، والمُتولِّدة من خضم صراع شرس مع الشيطان، الذي يحاول بشتَّى الطرق تضليلها عن مَخْدَع الصلاة، لهي أفضل من صلاةٍ طويلةٍ جافةٍ نابتةٍ من وهم السلام الزائف، تؤول إلى تنمية البرّ الذاتي في النفس، وتُبعدها عن الله وهي مُتوهِّمة أنها في مَحْضَره تُصلِّي!!
فحينما يكون الحبّ هو شريعتنا في تعاملنا مع الله، والتسليم هو موقفنا من كلّ ما يُجابهنا في الحياة، يكون اللطف هو منظار الله الذي يُكبِّر أعمالنا الصغيرة، ويُنميها ويُصيِّرها فضائل مثمرة. وتلك هي النُصرة الحقيقيَّة المرهونة بقدرتنا على الحبّ والتسليم. النُصرة التي نتذوَّقها أثناء مسيرتنا خلف المسيح، ربَّان النفس وقائدها. لذا يكتب القديس مكاريوس قائلاً:
حيـث يركـب الـرب ويمسـك بزمـام النفـس بيديـه،
فإنـه دائمـًا يغلـب، لأنه بمهـارة يديـر ويقـود مركبـة النفـس
إلى ذهـنٍ سـماويٍّ مُلهـَم إلى الأبـد.
فإن كان لنا ذلك الذهنُ السماويُّ الذي يخلقه فينا الروح، حينما يستلم المسيح دفّة النفس، نبدأ في التحرُّر من الخطيئة والتعرُّف على وجه يسوع، وهنا تبدأ التوبة.
حالة الخطيئة
إنَّ الإخفاق الذي يُصيبنا في مسيرتنا اليوميَّة الحياتيَّة والذي نُعرِّفه بأنه « الخطيئة » ليس ختام الأمر. فمن منَّا لم يُخطِئ؛ [ ليس أحد بلا خطيئة ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض ] هكذا نُصلِّي في القُدَّاس.
ولكن الخطر الحقيقي الذي يُحْدِق بنا هو البقاء في حالة الخطيئة، أن يصير الإخفاق موقفًا يوميًّا مُتكرِّرًا وكأنه عقيدة نعتنقها، والأخطر من ذلك أن تصير الخطيئة غير مُبَكِّتة لضمائرنا ولا مؤلمة لقلوبنا.
إن مثل تلك الحالة هي توقُّف واعٍ عن الحِراك اليومي ضدّ الشهوة والضعف والانكسار، إنها توقُّف عن حركة التوبة وما يصاحب ذلك بالضرورة من التلذُّذ بالشهوة والتحالف معها تجنبًا لخوض حربٍ ضدّها!! إذ قد يصاحب تلك الحرب بعض الخسائر ممَّا نحبّه ونرتبط به، وهذا هو الهاجس الذي يجعل الكثيرين يهربون من ميدان المعركة.
إنه الخوف من خسارة ما قد ارتبطوا به في الحياة، بل وظنُّوه ضرورة من ضرورات الحياة. وهذا يؤدِّي إلى توقُّف الخاطِئ عن الحياة، إذ يجتاز مرحلة الموت الروحي على غِرار الموت الاكلينيكي الذي يمرُّ به بعض المرضَى، فيصبحون أقرب للموت منهم للحياة.
والموت الروحي هو حالة من الجفاف الكياني الداخلي، تجف فيها ينابيع الدماء النقيَّة التي تَمِدّ قلب الإنسان الجديد، المولود من الماء والروح، بالوجود الروحي. نتيجة فقدان الصلة مع نبع الحياة، يسوع المُخلِّص.
ويؤكِّد القديس يوحنا ذهبي الفم في رسالته إلى ثيؤدوروس على أن خسارة السقوط أقل ضررًا من حالة السقوط، إذ يقول:
سقــوط الإنســان لـيس بالأمــر المُحــــزِن
كمثـل بقائـه طويـلاً في هـذا السقـوط
ويضيف في نفس الرسالة قائلاً:
أن تـُخطِئ فهـذا ضعـف بشـري،
أمـا أن تستمـر في الخطيئـة،
فلـم يعـد الأمـر بشريــًّا بل شيطانيــًّا
وأيضًا القديس مرقس الناسك، يكتب لنا في مقالته عن سبب الدينونة الحقيقي، قائلاً:
نحـن لا نُـدان بسـبب تعدياتنـا الكـثيرة،
بل بسـبب رفضنـا التـوبـة
فلا ريب أنَّ الإنسان الذي استوطن الخطيئة وتحوَّلت الخطيئة في حياته من موقفٍ عارضٍ إلى حالةٍ مستديمةٍ، يتحوَّل إلى روحًا تائهة بلا رجاء ولا بصيرة ولا هدف أعلى وأسمى يجتذبه خارج دائرة الملذَّات التي يغوص فيها طَواعِيَة.
هنا ويأتي الشيطان ليُقيم عشاءه على جدران هذا القلب الشاحب، الرازح تحت ثِقَل الخطيئة.
فيصير ذلك الإنسان مَسْكنًا للظلمة، التي تتكثــَّف وتتكثــَّف حتّى تصل به إلى العمَى الروحي الكامل، وهو ما وصفه القديس بولس قائلاً:
« الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تُضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح » (2كو4: 4).
فحينما يخبو نور الرجاء في القلب، يتحجَّر ويصير مذبحًا تُقدِّم عليه الشياطين مختلف أنواع الذبائح النجسة. ويجد الخاطِئ نفسه في قبر الشهوة مُقيَّد، أسير للخطيئة والتعدي، محرومًا من الحق في الرجاء إذ أن الظلمة قد سلبته أبسط حقوقه ألا وهي التفكير وتقرير المصير.
ومن خلال إدراك الشيطان لخطورة الرجاء على مملكته المترامية الأطراف، لم يهتم الشيطان بالخطيئة قدر اهتمامه بنفسيَّة الخاطِئ. فالشيطان بعد أن يُسقِط الإنسان في التعدي، يبدأ بممارسة دوره الأخطر، وهو غلق باب الرجاء أمام الخاطِئ. يبدأ في إقناع النفس بدهائه الأسود أن نور الحياة لا يمكن له أن يسكن مرّة أخرى في جسد سكنته الخطيئة يومًا، وأن الله القدوس لن يستمع من جديد لصلوات خاطِئ قد داس دم العهد وازدرى بالنعمة وأنكر ابن الله بالشهوة. وحينما ينجح في إقناع النفس باستحالة العودة، أو على الأقل بصعوبتها، يتهلَّل، لأنه قد أسقط النفس في أخطر خطيئة قد سبق وحذرنا منها الرب؛ إنها التجديف على الروح القدس.
« لذلك أقول لكم كلّ خطيَّة وتجديف يُغفَر للناس وأما التجديف على الروح فلن يُغفَر للناس » (مت12: 31).
والتجديف على الروح القدس هو بالأساس عدم الإيمان بقدرته على تغيير وضع الإنسان، من كائن قد ثقَّلته الظلمة لتقوده نحو الهاوية التي تجتذبه بقوَّة جذب الخطيئة، إلى كائن قادر أن يتحرَّر وينفض عن نفسه غبار الخطيئة ويُغيِّر مسيرته صوب ملكوت التائبين.
وحينما يفقد الإنسان ثقته في الروح القدس، يفقد تِبعًا لذلك، المُعين الوحيد القادر أن ينتشله من تلك الحفرة التي سقط فيها، فيبقَى وحيدًا تتطاير حوله طيور اليأس لتصل به إلى ميناء الموت، وسط شماتة الشيطان، الذي استطاع أن يخدع النفس ويحجب عنها نور الرجاء بل وقوَّة الرجاء.
وعن التجديف على الروح القدس يكتب القديس أغسطينوس (NPNF; vol. v, sermon 21 ) فيقول:
القلب غير التائب ينطق بكلمة ضدّ الروح القدس،
ضدّ هذه العطيَّة المجانيَّة، وضدّ النعمة الإلهيَّة.
عدم التوبة هو التجديف على الروح القدس
الذي لن يُغفَر لا في هذا العالم ولا في الآتي.
لذا فعمل الشيطان الأخطر، هو هدم ذلك الجسر الذهبي (عمل الروح القدس) الذي يَصِل بين قلوبنا المُنهكة في صِراع الأرض، وقلب الله الفائض بالمعونة. وهو ما نجح فيه مع يهوذا حينما هوَّل من قدر خطيئته مُستصْغِرًا قدرة الروح القدس على غسله من تلك الخطيئة، فكانت حبال اليأس هي مشورة الشيطان له، وقَبِلها، ومات في خطيئته.
بينما يتألم قلب الله على إنسانٍ لم يثق في الروح ولم يستند على النعمة ولم يتمسَّك بالرجاء، فجرفه التيار نحو مصير الخطاة والمُجدِّفين على روح الله!!
لقد كتب أحدهم :
اليـأس هو كلمـة جوفـاء لا معنـَى لهـا،
لمـن لـه قلـب فتـيّ ونفـس خالـدة وإلـه يحبّـه
فكيف لك أن تيأس ولك إله جوهره الحبّ وكلماته روح وحياة وحركته دائمًا إلى أسفل نحو الإنسان. كيف تسمح لهذا الشعور أن يتسلَّل إليك في لحظات الخطيئة والضعف، وأنت تحفظ عن ظهر قلب كلمات ميخا النبي الذي تبنَّى صوت النفس الساقطة ولكن المُتشبِّثة بالرجاء، قائلاً:
« لا تشمتي بي يا عدوتي، إذا سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي » (مي7: 8).
كيف تستسلم للظلمة وأنت تَعلَم أن النور قريب منك، أقرب إليك من النَفَس الذي تتنفسه. كيف تُلقي سلاحك في المعركة وأنت تُدْرِك أن هناك حشدٌ من الخدَّام الملتهبين نارًا سيدافعون عنك إن رفعت عينيك إلى السماء،
وأطلقت أنـَّات قلبك القادرة أن تُزلزل قلب الآب السماوي المُنتظِر دعوتك له، ليقود الحرب بدلاً منك، ويكون لك تُرس خلاص وصخرة ملجأ وحصن حماية.
كيف تيأس وأنت تقرأ عن المرأة الخاطئة التي عرفت موضع أقدام يسوع وسكبت دموع أشواقها عليها، فغفر لها تاريخ هذا طوله في الخطيئة!!
وها هو القديس يوحنا ذهبي الفم يؤكِّد لك عن فاعليَّة تلك الدموع الخارجة من مُقْلَة الرجاء، قائلاً:
الدمـوع المُقدَّسـة هي بـذار الفـرح الدائـم الذي لا يـزول
هـكذا صـارت الخاطئـة مُكرَّمـة أفضـل من العـذارى،
لمَّا تمسكـت بهـذه النـار
…
لمـَّا امتـلأت بحـرارة التوبـة
صـارت محمولـة خـارج نفسهـا بلهفـة محبّتهـا للمسيـح
فحلَّـت شعرهـا وبلَّلـت قدميـه الطاهـرتين بدمـوعها
ومسحتهمـا بضفائرهـا،
هذه ثمـار خارجيـَّة
أمـا ما جـرى في قلبهـا فكـان أكـثر حـرارة من هذا،
أمـور لا يقـدر أحـد على معاينتهـا سـوى الله.
إن كنت تسمع عن حرارة الروح التي كانت تشتعل في قلوب القديسين ويجرفك الشوق لتلك الخبرة مُبتغيًّا تلك النار المُطهِّرة، ولكن واقعك ملفوف في أكفان باردة موسومة بالضعف والانهزام، لا تيأس ..
فدموع التوبة قادرة أن تُعيد الحياة لقلبك الذي سكنته البرودة دهرًا، فتتذوق جمال حرارة الروح التي تشعلها النعمة، حينما تختبر (النعمة) مصداقيَّة دموعك.
يقول الأب يوحنا السينائي في كتابه (السُلَّم إلى الله / الدرجة الخامسة):
لا شـيء يسـاوي رأفـات إلهنـا أو يفوقهـا،
لذلك فإن الذي ييـأس يقتـل نفسـه بنفسـه.
عليك من الآن فصاعدًا أن تحذف كلمة اليأس من قاموس حياتك، فطالما تَدبُّ الحياة في جسدك، هناك رجاء .. هناك قيامة .. هناك تجدُّد .. هناك دائمًا إله يترقب عودتك مهما كانت حالتك.
وها هو القديس غريغوريوس النزينزي في عظته (عن الظهور الإلهي) يترجاك قائلاً:
ليتـك تسقـط في أحضـان التوبـة بـدلاً من أحضـان اليـأس
ما بين سقطتين
إن جهادنا في البدايات الروحيَّة يتلخَّص في عمليْن أساسييْن وهما:
- محاولة تقليص المسافة الزمنيَّة بين توبتين، وبالتالي إطالة المسافة الزمنيَّة بين سقطتين.
- محاولة الاهتمام بالخطايا الصغيرة والتي يبدو أنها سقطات فرعيَّة يمكن التخلُّص منها في أي وقت.
من الأخطار التي تُحْدِق بمن يبدأون في الحياة الروحيَّة أنهم حالما يسقطون بضع مرات في الخطيئة يظنون أن ذلك الأمر هو نهاية المطاف، وأن الحياة الروحيَّة أبعد ما تكون عن متناول أيديهم التي عانقت العالم من قبل!!
لذا فإن أول ما يجب أن يحرص عليه من يخطو أولى خطوات الحياة مع الله، مرتديًّا عباءة التوبة، هو أن يحاول أن يُسْرِع بالتوبة كلما سقط، ولا ينصت لشكاية الشيطان الذي يريد أن يجعله يتمادَى في الخطيئة، زاعمًا أن الوقوف أمام الله هو من نصيب الملتزمين سلوكيًّا وأخلاقيًّا، والذين لم يسقطوا من قبل!!
وذلك لأن خوف الشيطان الأكبر هو أن تكون فترات تواجد الخاطِئ في حالة التوبة،
أكبر من فترات تواجده في حالة الخطيئة. ولكن إن فَطِن الخاطِئ بأن أقوى وسيلة للردّ على الخطيئة هي الإسراع بالتوبة، سيجد الشيطان أن زمن التوبة في حياة الشخص يُمثــِّل الجانب الأكبر من حياته بالرغم من تعدُّد سقطاته وهو ما يَحصُد لذلك التائب أكاليل لا تُحصَى!!
لذا لا تتوانَى أن تنهض للصلاة والاقرار بالخطيئة والضعف، وإن كانت رائحة الخطيئة لم تبرح من ثيابك بعد!!
نقرأ في بستان الرهبان عن تلك القِصَّة الرائعة عن عِناد الرجاء رغم السقوط، ما يلي:
قيل عن أخٍ كان ساكنًا في ديرٍ
إنه من شدة القتال كان يسقط مرارًا كثيرةً.
فمكث يُكرِه نفسَه ويصبر كيلا يترك إسكيم الرهبنة،
وكان يصنع قانونَه وسواعيه بحرصٍ، ويقول في صلاتهِ:
«يا ربُّ أنت ترى شدة حالي وشدة حزني،
فانتشلني يا ربُّ إن شئتُ أنا أم لم أشأ،
لأني مثل الطين، أشتاقُ وأحبُّ الخطيَّة،
ولكن أنت الإله الجبار اكففني عن هذا النجس،
لأنك إن كنتَ إنما ترحم القديسين فقط
فليس هذا بعجيبٍ،
وإن كنتَ إنما تخلِّص الأطهار فما الحاجة،
لأن أولئك مستحقون،
ولكن فـيَّ أنا غير المستحق يا سيدي أرِ عجب رحمتك
لأني إليك أسلمتُ نفسي».
وهذا ما كان يقوله كلَّ يومٍ، أخطأ أو لم يخطِئ،
فلمَّا كان ذات يوم، وهو دائمٌ في هذه الصلاة،
أن ضجرَ الشيطانُ من حُسن رجائهِ ووقاحتهِ المحمودة،
فظهر له وجهًا لوجه وهو يرتل مزاميره، وقال له:
«أما تخزَى أن تقف بين يدي الله بالجُملةِ
وتسمي اسمَه بفمِك النجس»؟
فقال له الأخ: «ألستَ أنت تضربُ مرزبةً وأنا أضربُ مرزبةً؟
أنت توقعني في الخطيَّة،
وأنا أطلب من الله الرحوم أن يتحنن عليَّ،
فأنا أضاربك على هذا الصراع حتّى يدركني الموتُ.
ولا أقطع رجائي من إلهي، ولا أكف من الاستعداد لك،
وستنظر من يغلب: أنت أو رحمة الله».
فلما سمع الشيطانُ كلامَه قال:
«من الآن لا أعود إلى قتالك،
لئلا أُسبِّب لك أكاليل في رجائك بإلهك».
وتنحَّى الشيطان عنه من ذلك اليوم.
على الجانب الآخر، نجد أن أحد الأخطار التي تُعطِّل توبتنا أننا في الكثير من الأحيان نَحْصُر اهتمامنا ونشحذ جهودنا للخطايا الكبيرة فقط، والتي يبدو ظاهريًّا أنها سبب التعثــُّر الروحي الذي نعاني منه، غير مُدْركين أن الخطايا الصغيرة والمتراكمة قد تكون أكثر ضررًا على مسيرتنا الروحيَّة من أي شيء آخر.
لذا يكتب الكاتب الإنجليزي سي إس لويس C.S.Lewis في كتابه (رسائل خُربُر) بلسان خُربُر (الشيطان الكبير الناضج في الشر) الذي ينصح ابن أخيه عَلقَم (الشيطان المبتدِئ في حروب البشر) عن كيفيَّة إسقاط البشر، قائلاً:
لا يهمّ كم تكون الخطايا صغيرة
ما دام مجموع تأثيراتها يضمن إبعاد الإنسان عن النور
وإخراجه إلى اللاشيء
…
إنَّ أضمن طريق إلى جهنم هو الطريق التدريجي،
ذلك المُنحدَر اللطيف، الليِّن تحت الأقدام،
الخالي من المنعطفات المفاجئة،
ومن المعالم الهادية واللافتات الموجِّهة.
لذا فإن أحد ألقاب الشيطان هو [ فتَّال حبال ]، إذ أنه يَخْرُج بالإنسان عن غايته رويدًا رويدًا دون أن يشعر بذلك، وهو يعتمد في ذلك على عامليْن وهما:
(1) طول الزمن
(2) تحويل مسار التوبة لتُركِّز على الخطايا الكبيرة، والتي غالبًا ما تكون أعراضًا لمرضٍ داخليٍّ في القلب، قد نشأ نتيجة تراكمات من الخطايا الصغيرة.
لذا فقد حذَّر الكتاب ممّا أسماه « الثعالب الصِغار المُفسْدة للكروم » (نش2: 15)، إذ أن خطورتها تَكْمُن في عدم انتباهنا لها وبالتالي عدم توخينا الحذر من النتائج التي قد تنتج عنها. لذا فإن التوبة هي وعي بالخطيئة كجدار يفصل بين الإنسان والله سواء كان هذا الجدار مرتفعًا أم لا. ولكنه يبقَى جدارًا يحتاج إلى هدمٍ بمِعْوَل التوبة.
نور الرجاء
إن دور الروح القدس في التوبة هو أنه يبدأ في إرسال إشارات لذلك الإنسان الذي يحاول الشيطان أن يُخفي عنه حقيقة الرجاء. وتلك الإشارات قد تتخذ أشكالاً وأنماطًا مُتعدِّدة. ولكنك دائمًا ستجدها تُردِّد في داخل قلبك تلك الكلمات:
أنت محبّوب منذ الأزل ..
أنت ثمين بقيمة الدم الذي سُفِك من أجلك ..
أنت ابنٌ للنور ..
أنت وليد القيامة ..
أنت مخلوق للأبديَّة ..
أنت الصورة البهيَّة لله على الأرض.
انهض متمسكًا بالرجاء في الرب،
انْحَنِ أمام روح الحق،
اقبل مشورته من أجل التوبة،
تواضع تحت يد الرب،
حتّى تحملك يداه وتمسكك يمينه المُمَجَّدة بالقوَّة.
وهكذا تجد النفس أنَّ أشعة الرجاء تعود مرّة أخرى بعد الادَّعَائات الكاذبة التي كان يخفي بها الشيطان، عن النفس، حقيقة الرجاء، تلك الحقيقة القادرة أن تذيب قيود الخطيئة كما تذيب الشمس ذرات الجليد المُتجمِّدة على أطراف أوراق الشجر، وقت الشروق.
ويبدأ الروح القدس يُنْعِش ذاكرة الإنسان الروحيَّة، من خلال الخبرات التي دوَّنها التاريخ المسيحي عن خطاة تحرروا من قبور الشهوة وانطلقوا في مراعي الروح نحو شمس الحياة السرمدي.
فمن ذا الذي طرق أبواب مراحم إلهنا الحنون، وتركه خارجًا يعاني من الخوف والوحدة ..
من ذا الذي تضرَّع فلم يجد أجناد ملائكة من نور يحشدها الرب ليدافع بها عن تلك النفس الواحدة التي لا يعبأ بها أحد ..
من ذا الذي تحرَّك في قلبه الشوق والحنين إلى الله، ولم يبادله الله الشوق أضعافًا مُضَاعَفة ..
من ذا الذي رفع جرحه الدامي ـ الذي انجرح به في معركة الحياة ـ إلى العلاء يترجَّى الطبيب الأعظم، ولم يجد شمس البرّ يحمل له الشفاء على جناحيه (ملا4: 2) ..
من ذا الذي أطلق صراخه إلى السماء « يارب إلى من نذهب، كلام الحياة الأبديَّة عندك؟ » (يو6: 68)
ولم يجد مسكن الرب مُعدًّا ووليمة الرب مُهيَّأة وكلمات الحياة سابحةً إليه، لتستقر على قلبه ..
من ذا الذي عاد من كورة الخنازير بعد أن بدَّد ميراثه، إلاّ ويجد وجه الآب يُلاقيه بلهفة الشوق على قارعة الطريق، ليأخذ بيده ويُجلِسه على مائدة الغفران ويُعيد إليه خاتم البنوَّة ..
من ذا الذي لمس هُدْب ثوب الرب، ولم تسرِ فيه قوَّة لطرد النجاسات إلى خارج ..
من ذا الذي انطرح على أقدام الرب، وهو مُدَان من العالم ومجروح من الجميع، إلاّ ويجد الرب يُدافع عنه ويُبكِّت دائنيه، بل ويُطلقه بغفران وسلام وقوَّة ومعونة ..
من ذا الذي يتفكَّر في هول الخطيئة، ويتناسَى أن هناك بحر النسيان الإلهي حيث تُطرَحُ الخطايا والآثام ولا تعود مرّة أخرى، لأن الرب قد سُرَّ بطرحها ..
من ذا الذي يتخبط في عماه الروحي، إلاّ ويجد يديْ الرب تخلق له بصيرة جديدة، فيبصر بالإيمان ما لم يبصره يومًا بالعيان ..
حقًا من ذا الذي يحبّ الرب أكثر ممَّا يحبّه الرب.
إن الكنيسة قد رصدت لنا نماذج لخطاة كانوا قد احترفوا الخطيئة، ولكنهم بالرجاء والثقة في الرب والاستسلام الكامل لمشورة الروح القدس، قد صاروا قدوة حيَّة تشهد أن الخطيئة ليست عائقًا طالما يتبعها توبة، بل إن الروح قد يستخدمها لإشعال توبة أشدّ حرارة وقيامة أشدّ رسوخًا.
لذا يقول يوحنا السينائي:
(لقد) طوَّبتُ الذين سقطوا وناحوا
أكثر من الذين ما سقطوا ولا ناحوا
ولعلنا نجد في سيرة موسى اللصّ وأغسطينوس الفيلسوف ومريم المصريَّة وتاييس الخاطئة، نماذج لقوَّة التوبة وقدرتها أن تجوز بالنفس جبال الخطيئة مهما تعالت، وتقتلع جذور الشر مهما توغَّلت في قلب الإنسان.
وهنا شهادتنا ليست شهادة لقدرات بشريَّة خاصة أو مَلَكَات تميَّز بها هؤلاء عنَّا، ولكنها شهادة على قدرة الروح القدس غير المحدودة على انتزاع جديان اليسار وتحويلهم إلى حملان يجلسون عن يمين الآب.
كما أن تلك الشهادة تمتد لتشهد لنا عن باب إلهي لا يُغلَق أبدًا في وجه طالبيه.
تشهد على قلب متسع لكل البشريَّة يتناسَى قُبْحَ الماضي وقسوة الأيام السالفة، حينما تتوب النفس وترجع. إنها تشهد على صدق دعوة المسيح القائل: « مَنْ يُقبل إليَّ لا أُخرجه خارجًا » (يو6: 37).
كما تشهد أيضًا عن ساعة متأخرة، قد تكون الحادية عشر، فيها يُنتشَل الكثيرون من لهب الدينونة ليسكنوا على أنهار الروح، يرتشفوا من الحبّ الإلهي ويسكروا به.
الحرب للرب
إن الشيطان لا يستطيع أن يستولي على أرض قد غُمِرت بمياة المعموديَّة وتكرَّستْ بدهن الميرون طالما هي محروسة بالتوبة. قد ينتصر في موقعة، قد يُلقي بعضًا من بذار الزوان، قد يُرسِل رياحه لتُسقِط الثمر، ولكنه لا يستطيع أن يمتلك تلك الأرض، طالما يُقدَّم عليها ذبائح ليل نهار؛ ذبائح تضرُّع وابتهال لنوال معونة من الأعالي.
وطالما أن قلوبنا لم تتوقَّف عن الصراخ ، لا يجب أن نخشى شيئًا، لأن النعمة والمعونة آتية لا محالة. وإن حلَّتْ الظلمة علينا أثناء مسيرتنا، فالرب هو النور الذي يُضِئ لنا الطريق.
فمن ذا الذي يخشَى من غموض الظلمة، بينما يُضِئ له ضياء الرب مسيرته، ويقود خطواته فلا تزلّ.
لذا فالمحكّ الرئيسي في التوبة هو قدرتك على التمسُّك بسلاح الصلاة بالرغم من الجراح التي تثخن جسدك الروحي؛ فطالما تترجى معونة الأعالي سيخشاك أعداؤك، لأن سقوطك وصراخك سيُحسَب لك جهادًا، وسيزيِّن لك اكليلاً من مجدٍ طالما أنك لا ترضخ لضغط الخطيئة التي تريد أن تمنع صلواتك من الصعود إلى السماء.
ولكن بسقوط النفس في الخطيئة ثم توبتها، يروادها تساؤل؛ هل سأستطيع الثبات في التوبة بعد سقطات هذا عددها؟؟
هل أستطيع أن أصمد في أرض المعركة بعد تبدُّد العهود والوعود التي كانت ترافق التوبة في كلّ مرّة؟؟
هل سيمكننى أن أقاوم زحف جنود الشر المتربِّصة بتوبتي؟؟ هل سأستطيع تفادي سهام إبليس المُتَّقِدة نارًا والتي تنطلق من كلّ صوبٍ وحدبٍ؟؟
ولكن في حقيقة الأمر، إن السؤال يجب أن يكون، هل يستطيع الرب الانتصار فـيَّ على جحافل مملكة الظلمة؟! هل في إمكانه تحويل أتون النار المُحمَّى حولي لندى بارد؟!
إن أول ما يجب أن نتعلمه في توبتنا، أن الحرب هي للرب، وأن الرب قادر على إبادة أعدائنا بكلمة فمه.
لذا يجب ألاّ ننشغل بحروب الغد ومصيرنا فيها، هل سنسقط أم سنصمد؟ فدورنا في اللحظة الحاضرة أن نُسبِّح عمل الرب في معونته لنا، أمَّا الغد فهو للرب.
فها هو موسى وجماعة بني إسرائيل يُسبِّحون الرب على الخلاص الذي عاينوه. غير مكترثين للغد، غير عابئين بصعوبة الرحلة أو أخطار المسيرة أو مشقَّة الصحراء، فاليوم يوم الهتاف للنجاة من فرعون الشر، أما الغد فهو للرب.
إن الكنيسة تلقفت تلك التسبحة مُبكِّرًا جدًا وجعلتها باكورة تسابيحها (الهوس الأول/ تسبحة نصف الليل بحسب الطقس القبطي)، لتعلنها نهجًا تسلك بمقتضاه على الدوام. فتسبيح النُصرة قادر أن يُزلزل مُعسكَر الشَرِّ المُحيط بنا، كما أن هذه التسبحة تعمل على ضخِّ روح الرجاء والثبات، في حياة الجماعة المُسبِّحة، فلا تخشَ من أخطار الغد. فتسبحة اليوم هي نفسها تُرس الغد ضدّ الأعداء وهي سيف النُصرة الذي تتقلَّده النفس ـ كلّ ليلةٍ ـ بقدر ما تستمر في التسبيح والهتاف.
إنه رداء التسبيح الملوكي الذي تحدَّث عنه إشعياء، عِوضًا عن الروح اليائسة، القادر أن يُعيدك من جديد للصفوف الأماميَّة في القتال لتُحارب وتنتصر.
« لأعطيهم جمالاً عِوضًا عن الرماد، ودُهن فرحٍ عِوضًا عن النوح، ورداء تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة، فيُدْعَون أشجار البرّ، غرسُ الرب للتمجيد » (إش61: 3).
افتحْ كتابك المقدِّس على (خر15: 1 ــ 18) وصلِّ بتلك التسبحة. دعوتي لك الآن أن تُنْصِت بقلبك لتلك الكلمات.
حاول أن تتحسَّس وتتذوَّق طعم النُصرة والبهجة التي كان يهتف بها الشعب الناجي من فرعون وجنوده، حاول أن تجعل منها تسبحتك الخاصة، حينما تراودك مخاوف السقوط. فقط سَبِّح بتلك الكلمات ولا تتركها تبرح فمَّك حتّى ترى نُصرة الرب في حياتك ..
وأخيرًا أتركك لكلمات حبقوق النبي المُفعَمة بالرجاء، رغم قسوة الحاضر الذي لا يحمل ولو بصيصًا من نورٍ!! ها هو يقول:
فمع أنَّه لا يُزْهِر التين،
ولا يكون حَمْلٌ في الكروم،
يَكْذِبُ عمل الزيتونة،
والحقول لا تصنع طعامًا.
ينقطع الغنم من الحظيرة،
ولا بقر في المذاود.
فإني أبتهج بالربِّ وأفرح بإله خلاصي.
الرب السيِّد قوتي
ويجعل قدميَّ كالأيائل
ويُمْشِّيني على مرتفعاتي
(حبقوق3: 17 ـ 19)
خاتمة
يقول أحدهم :
الرجاء هو مبدأ جبَّار للعمل
من أجل تحقيق الإنسانيَّة الكاملة
إننا بحاجة الآن لاستراتيجيَّة جديدة في التوبة، نُجابه بها أعداءنا الذين يُلقون بشباك اليأس على أرض الأحياء فتصطاد يوميًّا المئات ممَّن مات المسيح من أجلهم. نحتاج لاستراتيجيَّة ثقة كاملة واطمئنان في الله، استراتيجيَّة صرخات دائمة تخترق غيوم اليأس وظلام الخطيئة.
صرخات صلاة في كلّ وقتٍ وفي كلّ مكانٍ، دون الالتفات إلى الحالة البائسة التي قد نكون عليها، فالصراخ هو وسيلتنا لتغيير تلك الحالة بقوَّة النعمة. نحتاج بالفعل إلى استراتيجيَّة رجاء لا يهتزّ ثابتًا كالصخر، فالرجاء هو مِرساة النفس حينما تخبطها الأمواج وتُوشك على الغرق والهلاك …
والرجاء المُتشوِّق للخلاص هو السلاح الذي نجتاز به تلك المعركة. إنه السلاح الذي لا تستطيع قوَى الظلمة أن تَصْمُد أمامه.
لقد أكَّد القديس بولس بوعيه الروحي المستنير، على أهميَّة هذا الرجاء في ذلك الصراع بين النور والظلمة،
قائلاً: « بالرجاء خَلُصْنــَا » (رو8: 24)
فتوبة بلا رجاء هي مسيرة بلا ضياء تنتهي عند جرف اليأس .. هي مسيرة يدفعها ويُغذيها الشيطان، لأنها بحسب خِطته لهلاك البشريَّة!!
وعن شعلة الرجاء، يكتب شارل بيجيCharles Peguy، فيقول:
هناك شُعلة لايستطيع شيء أن يُطْفِئها،
ولا يقدر مخلوق أن يُخْمِدها،
لأن تلك الشُعلة هي أبقَى من الزمن،
وأقوى من الموت.
فليكن لك ذلك الرجاء بأن الرب سيُنير ظلمتك (مز18: 28) مهما اشتدّت ومهما طالت الظلمة، فسيظل نور الرب أقوى من ظلمة الخطيئة. وحينما يأتي سيُعلن للنفس قائلاً:
« أنا هو نور العالم، من يَتْبعني لا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة » (يو8: 12)، وبالفعل سيهبك نور الحياة.
وحينما يأتي، سيَحْمِل لك ترياق الحياة، فيُشدِّد رجليك المُتحجِّرة فتصير كرجليَّ الأيِّل (مز18: 33).
ستقفز فوق مرتفعات الشهوة، وستنفتح عيناك على آثار المُخلِّص، أثناء رحلتك نحو نبع النور، لكي لا تَزَلّ قدماك (مز17: 5).
سيُعرِّفك سُبل الحياة ويُشبعك بالسرور ويغمرك بالنِعم من يمينه المُتمجِّدة بالقوَّة (مز16: 11).
حينها ستترنــَّم بخلاص الرب (مز20: 5)، بل وسترفع رايتك باسم الرب (مز20: 5)، راية شهادة للعالم أجمع؛ راية قد كُتِب عليها بدماء الحبّ المسكوبة على مذبح الصليب ..
« كلّ من عنده هذا الرجاء به، يُطهِّر نفسه »
(1يو 3 : 3)