المحبة تصبر، المحبة تخدم، ولا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ من الكبرياء ولا تفعل ما ليس بشريف ولا تسعى إلى منفعتها، ولا تحنق ولا تبالي بالسوء ولا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق وهي تعذر كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتتحمل كل شيء (1كور 13 /4-5-6-7)
(فضيلة العدالة) التعليم الاجتماعي للكنيسة - الأب رمزي نعمة
إنّ اتّساع تعليم الكنيسة الاجتماعي الضخم منذ صدور "أم ومعلمة" يتناول تقريباً كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية.
والخطر في أي تلخيص هو إغفال ناحية قيمة من هذا التعليم. وفي الواقع فلتقدير ثراء التعليم الاجتماعي للكنيسة ودقة تحليله للمعنى، يجدر بالمرء أن يقرأ النصوص مع التعليق عليها.
إلا أن هناك على كل حال ثلاثة مواضيع تعرض هنا للتعريف بديناميكية حرص الكنيسة على العدالة الاجتماعية. وهذه المواضيع هي الحاجة الملّحة للعدالة الاجتماعيّة، والسلطة المسؤولة، والحاجة إلى التطوّر والنمو.
1) الحاجة الملّحة للعدالة الاجتماعيّة:
لم يصبح سكان العالم بليون نسمة إلا عام 1840. وفي عام 1975 زاد سكان العالم عن أربعة بلايين نسمة. وتشير التقديرات المتحفظة إلى أنهم سيصبحون ستة بلايين نسمة عام 2000.
وفي الوقت نفسه مكّن التقدّم التكنولوجي بعض القطاعات في العالم من القيام بخطوات اقتصادية عملاقة، مكّنتها بدورها عن طريق القوة الاقتصادية والسياسية التحكّمَ في الأسواق واستهلاك الموارد المتوفرة بشكل متزايد. ومع ذلك فأغلبية الجنس البشري
"مجردة من جميع الإمكانات تقريباً في المبادرة الشخصية والمسؤولية، وكثيراً ما تكون ظروفه المعيشية وظروف العمل غير جديرة بلشخص البشري" (الكنيسة في عالم اليوم- 36).
ويشمل هذا "أولئك الناي الذين يسعون إلى الهرب من الجوع، والشقاء، والأمراض المستفحلة والجهل، وبالنسبة إلى أولئك الذين يفتشون عن نصيب أوفى من منافع الحضارة وتحسّن فعّال أكبر لمزاياهم الإنسانيّة" (ترقّي الشعوب-1).
إن هذه الحاجة إلى العدالة الاجتماعية ملّحة أيضاً، لا لكون أغلبيّة بني البشر يقاسون الآلام وحسب، بل لتزايد خطر المعاناة الناتج عن الحروب التي ضخّمتها التكنولوجيا من حيث هولها وفسادها. إن السبب الرئيسي للحرب هو مكافحة الناس ضد الظلم الذي يعانونه. ولهذا لا يمكن للسلام أن يكون مجرد غياب الحرب أو توازناً حذراً للقوة بين الأعداء. فيجب على السلام أن يكون عمل العدالة التي تبني يوماً بعد يوم في اتباع النظام الذي قصده الله، والذي يشمل شكلاً أكمل من العدالة بين الناس.
"لقد رغبنا في تذكير الناس جميعهم بخطر اللحظة الحالية وبإلحاح العمل الذي يجب القيام به. ودقّت ساعة العمل الآن. وبقاء الكثيرين من الأطفال الأبرياء معرّضين للخطر
كما أن الكثير من العائلات التي سادها الشقاء وحصولها على ظروف لائقة بالجنس البشري هي في خطر، كما أن السلام العالمي ومستقبل المدنية هما في خطر. وقد حان الأوان لجميع الشعوب أن تواجه مسؤولياتها" (ترّقي الشعوب- 80).
2) الحاجة إلى السلطة المسؤولة:
إن تعليم الكنيسة بخصوص الاستعمال المسؤول لثروات الأرض مرتكز على المساواة الأساسيّة للشعوب جميعها. وبذلك، فلا مبرر لأي كان أن يبقي لاستعماله الخاص ما لا يحتاجه، عندما يحتاج الآخرون إلى الضروريات. إن هذا التعليم الأساسي المتأصّل في الكتاب المقدس وآباء الكنيسة له نتائج متعددة في عالم اليوم.
وتشمل هذه النتائج الاعتماد المتزايد بين الشعوب، وانعدام التوازن المتزايد للخيرات، واستعمال الأموال، والعقار، والقوة، والبعد العالمي لخلقية العمل، والنتائج الاجتماعية للخطيئة.
وقد تحدّث المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني عن تزايد العلاقات بين الشعوب، ويحوي هذا الواقع حقوقاً وواجبات جديدة تعمل لصالح الخير العام. لقد أوضح ذلك لاهوتي أميركي معطياً هذا المثل: "في الولايات المتحدة قد جربنا بألم هذا التداخل بينما كنا ننتظر صفوفاً لدفع مبلغ أكبر لجالون من البنزين- كل ذلك لأن شخصاً ما في مكان ما من العالم رفع ثمن البنزين.
إن قلقنا العاجل قد يكون في تغيير طراز الحياة والحاجة إلى سياقة كيلومترات أقل في سيارة أصغر حجماً، ولكن، كما لاحظ آباء المجمع أن معضلات التداخل شديدة التعقيد. ففي حالة الوقود نحن الأمريكيين نستهلك نسبة كبيرة من وقود العالم رغم أننا لا نمثّل إلا نسبة صغيرة من سكان العالم. إن استهلاكنا يرفع من ثمن هذه السلعة ويحدد سعرها لأسواق البلدان الأكثر فقراً التي تحتاج إلى العملة الصعبة لشرائها. وهذه البلدان بدورها تعجز إلى درجة كبيرة في إدارة الآلات الضرورية للفلاحة، وللري، وشحن البضائع الضرورية.
كما أنها لا تستطيع أن تدفع ثمن الأسمدة البتروكيماوية الضرورية كثيراً للحصاد الكبير. لذا فإن طريقة السياقة عندنا تؤثر فعلياً على حياة الناس في جميع أنحاء العالم".
وما مشكلة الجوع إلا معضلة أكثر جدية، ذلك أن ثلث الجنس البشري يعاني من سوء التغذية، ويوجد نصف بليون إنسان يقاسون من نقص شديد في التغذية.
وبالإضافة إلى ذلك فقليل من الطعام هو الذي يختزن مما يؤدي إلى حالة من القحط الشديد وإلى مجاعة الملايين. ويوجد هنا ارتباط واضح بالعالم الصناعي. ففيما نصاب نحن بالتخمة، إلا أننا نفتقر إلى الإرادة لا التكنولوجيا للتخفيف كثيراً من الجوع. إن تعقيدات هذه المشكلة من الشمول بحيث تتعذّر معالجتها باقتضاب هنا.
إن الأساقفة من البلاد الفقيرة اقتصادياً، الذين يشاهدون المعاناة العظيمة بين شعوبهم، قلقون جداً من هذا العالم المترابط المحدود. وهم منزعجون من تزايد الأعداد الكبيرة من الشعوب "الهامشية"، السيئة التغذية، وذات المأوى غير الإنساني، والأمية والمجردة من الكرامة. وهم منزعجون أيضاً من تلوث دائم للبيئة من هواء وماء ولا سيما أن استمر المستوى العالي من الاستهلاك عند الأمم الغنية.
إلا أن حرصهم الرئيسي هو إهانة شعوبهم المتأتية عن كونها عاجزة تجاه القوة الجارفة والاقتصادية والسياسية للدول الصناعية. إن هذه الحالة من انعدام التوازن بجميع نتائجها هي محصلة للقرارات الإنسانية الحرة، وهي تدعي النتيجة الاجتماعية للخطيئة أو ببساطة الخطيئة الاجتماعية (الكنيسة في عالم اليوم- 25، 37-38).
ليس من وظيفة الكنيسة تقديم حلول معينة لمشكلات مادية. إلا أن الكنيسة حثّت أتباعها على المساهمة بشكل أكثر فعالية في السياسة كوسيلة لإصلاح المظالم.
ودعت الكنيسة إلى إحداث تغييرات، بدون تخصيص مفصّل، في العلاقات التجارية والممارسات الضريبية، ومساعدة الأقطار المختلفة، بما في ذلك "نسبة مئوية معينة للدخل السنوي للبلاد الغنية تخصص للدول النامية مع أسعار أكثر عدالة للمواد الخام". ولا غرابة في أن يُعاد التفكير في الملكية الخاصة بالنظر إلى التغييرات الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية السريعة الحاصلة اليوم (العدالة في العالم- 66).
ولقد أوضحت الرسالة العامة "أم ومعلمة" التعليم التقليدي حول الحق الطبيعي للملكية الخاصة. ولم يسبق أن فهم هذا على أنه حق مطلق لأنه، كما قال بيوس الثاني عشر، تستطيع الدولة تنظيم استعمال الملكية الخاصة للصالح العام، وتستطيع حتى مصادرة المكية بعد دفع تعويض لائق (عدد 109).
ويتجنّب الدستور الراعوي "الكنيسة في عالم اليوم" الإشارة إلى الحق الطبيعي مركّزاً على مسؤولية الإنسان في التضامن ومستنداً على المبدأ المطلق أن ثروات العالم تخصّ جميع البشر.
"ولذلك لا يظن الإنسان باستعماله الخيرات أن ما يملكه بطريقة مشروعة لا يخصّ سواه ولكن فليعتبره مشتركاً: وهذا يعني ألا يعود بالنفع عليه فقط بل على الآخرين أيضاً" (عدد69). وبالإضافة إلى ذلك علمنا الدستور ذاته أن الحاجة للملكية الفردية كنوع من التأمين قد "تضاءلت أمام الأموال العامة والحقوق والخدمات التي يضمنها المجتمع" (عدد 71).
ولا تعالج الرسالة البابوية "في الذكرى الثمانين" الملكية الخاصة مباشرة، غير أنها تزوّد المسيحي بالإرشادات لكيفية استعمال الملكية الخاصة مرتكزة على مبدأ التضامن.
ويجب على من هم أيسر حالاً التخلّي عن بعض حقوقهم لوضع ثرواتهمخ بكرم أكبر لخدمة الآخرين. وفيما تدافع الكنيسة عن حق امتلاك عقار خاص من حيث المبدأ
إلا أنها شدّدت على الطبيعة الاجتماعية للعقار التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لوضع حدود على الملكية الخاصة.
لا يجوز لأخلاق العمل أن تظل معنية فقط بمطالب العدالة التبادلية ومتبعة لقوانين الدولة. فيجب أن يعني النشاط العملي بالتخفيف من عدم المساواة الفاضحة بين الأثرياء والفقراء. ويجب أن يحاول توطيد بنية جديدة مرتكزة على العدالة تسمح للشعوب جميعها أن تحرّر أنفسها من الحاجة والاعتماد على الآخرين.
ويجب الحرص على ألا تخلق الشركات المتعددة الجنسيات، والتي لا تخضع بصورة عامة إلى أي حكومة أو للصالح العام "نمطاً جديداً فاسداً للسيادة الاقتصادية على الصعيد الاجتماعي، والثقافي، وحتى السياسي" (في الذكرى الثمانين، 44).
وفوق كل ذلك يجب على النشاط العملي أن يدرك أن العمل الإنساني أرقى من العناصر الأخرى جميعها للحياة الاقتصادية. "إننا لنؤكد أن الإنسان، بما يقدم بعمله من إكرام لله، يشترك بعمل يسوع المسيح الفدائي الذي أضفى على العمل اليدوي كرامة سامية عندما اشتغل بيديه في الناصرة" (الكنيسة في عالم اليوم، 76).