و ضفروا إكليلا من شوك ووضعوه على رأسه، و جعلوا في يمينه قصبة، ثم جثوا أمامه و سخروا منه فقالوا: ((السلام عليك يا ملك اليهود )). ( مت 27 /29)
في ذكر الموت - من كتاب السلم إلى الله
في ذكر الموت
مـــن كتـــــــاب الســلم إلى الله
1_ كما أن الفكرة تسبق الكلمة ، كذلك ذكر الموت يسبق البكاء و النوح.
2_ ذكر الموت موت في كل يوم. ذكر الخروج من الدنيا تحسّرُ في كل ساعة.
3_ مخافة الموت خاصة طبيعية نجمت عن المعصية ، أما الارتعاد من الموت فدلالة على سقطات لم نتب عنها: لقد خاف المسيح من الموت و لكنه لم يرتعد منه و ذلك ليظهر خاصة كل من طبيعته جلياً.
4_ كما أن الحاجة إلى الخبر تفوق الحاجة إلى سائر الأغذية كذلك الحاجة إلى الاهتمام بذكر الموت تفوق الحاجة إلى سائر الأعمال الروحية. إن ذكر الموت يولّد في العائشين في وسط العالم حزناً و ضياعاً و بالأحرى فتوراً بالهمة.
أما عند الخارجين من ضوضاء العالم فيولّد إقصاء للهموم و صلاة متواصلة و يقظة للذهن، وهذه تعود بدورها فتولّد ذكر الموت.
5_ من البيّن أن القصدير غير الفضة و إن شبهها في منظره ، و كذلك فإن الفرق بين الخوف الطبيعي من الموت و الخوف الفائق الطبيعي واضح عند ذوي التمييز.
6_ من العلامات الصادقة لذكر الموت بإحساس عميق من القلب الزهد الاختياري بكافة المخلوقات و الإعراض الكامل المشيئة الذاتية.
7_ من ينتظر الموت في كل يوم هو لا شك فاضل ، و لكن منم يتوق إليه كل ساعة هو قديس.
8_ ليس كل اشتهاء للموت صالحا. فإن البعض تقسرهم العادة إلى السقوط المتواتر فيطلبون الموت من جراء ذلك.
و البعض بالعكس لا يريدون أن يتوبوا فيبتغون الموت من جراء اليأس.
و البعض يتوهمون باطلاً أنهم بلغوا اللاهوى و بالتالي لا يجزعون بعد من الموت.
و البعض ( اللهم إن وجدوا في أيامنا هذه) يتوقون إلى الانصراف من هذه الحياة بفعل الروح القدس.
9_ يرتاب بعض المؤمنين الأتقياء متسائلين لماذا كتم الله عنا معرفة ساعة الموت مسبقاً ما دام ذكره ينفعنا بهذا المقدار ، غير عالمين أن الله العجيب في أحكامه إنما صنع خلاصنا بهذا الكتمان.
فإنه لو علم أي منا بوقت وفاته مسبقاً لما بادر إلى المعمودية أو إلى السيرة الرهبانية ، بل لأمضى كل أيامه في الإثم منتظراً يوم انصرافه ليقبل إلى المعمودية و التوبة.
و لكنه من جراء عادته الطويلة يكون حينذاك قد رسخ في الرذيلة و قد يبقى غير قابل للإصلاح بالكلية.
10_ إذا كنت تنوح على خطاياك فلا تقبل قط ما يوحيه إليك الكلب من أن الله محب للبشر، قاصداً أن ينزع عنك النوح و الخوف العادم الخوف ، إلا اللهم إذا رأيت ذاتك منجرفاً إلى يأس عميق.
11_ من يبتغي الهذيذ بذكر الموت و حكم الله على الدوام ، و في الوقت نفسه يدفع ذاته إلى اهتمامات و مشاغل مادية يشبه إنسانا يسبح و يريد أن يصفق بكلتا يديه.
12_ إن ذكر الموت الواضح المستمر يقطع تناول الأطعمة ، و متى انقطعت الأطعمة بالاتضاع انقطعت معها الأهواء.
13_ قساوة القلب تظلم الذهن و كثرة الأطعمة تجفف ينابيع الدموع. العطش و السهر يضغطان القلب و متى انعصر القلب نبعت منه مياه الدموع.
ستبدو هذه الأقوال قاسية للنهمين و غير قابلة للتصديق للمتوانين. أما العامل المجاهد فيختبرها بنشاط.
و من خبرها ينشرح لها أو يرتاح. أما الذي لا يزال في طور التماسها فيزداد وجوماً.
14_ كما حدد الآباء القديسون أن المحبة الكاملة لا تعرف السقوط ، كذلك أقول إن الإحساس الكامل بالموت لا يعتريه الخوف.
15_ إن أفعال الذهن النشيط العامل كثيرة أعني بها التأمل في الله و في حبه تعالى ، و ذكر الملكوت و غيرة الشهداء القديسين ، و حضور الرب شخصياً على حد قول القائل:
((رأيت الرب أمامي في كل حين))
و ذكر الملائكة القديسين و الخروج من الدنيا و اللقاء الرهيب و الحكم و العقاب. لقد ابتدأنا في سردنا هذا بالأمور الجليلة و لكننا انتهينا بالتي لا تخطيء.
16_ أخبرني يوماً راهب مصري أنه بعد أن غرز ذكر الموت في قلبه أراد مرة أن يعزي جسده الطيني قليلاً بداعي الحاجة ، فمنعه ذكر الموت عن ذلك منع قاض صارم ، و العجيب أنه قصد إبعاده فلم يستطع.
17_ و راهب آخر مقيم هنا في المكان المسمى تولا كان يؤول به ذلك الفكر مراراً كثيرة في حالة الذهول فكان يحمله الإخوة الذين يصادفونه و هو فاقد التنفس تقريباً كمن أغمي عليه أو كمن صرع.
18_ و لن أصمت عن إيراد خبر ايسيشيوس الخوزيبي. هذا كان يتصرف دائماً بكل توان و لا يهتم البتة بخلاص نفسه. فمرض يوماً إلى الغاية و فارق جسده مدة ساعة.
ثم عاد إلى ذاته و توسل إلينا أن ننصرف كلنا من عنده للحال ثم سد باب قلايته و مكث داخلها اثنتي عشرة سنة لا يتصل بأحد البتة بأية كلمة و لا يذوق غير الخبر و الماء.
فكان جالساً وحده شاخصاً بنظره ما أبصره في غيبوبته و متأملاً إياه ، حتى أنه لم يغير مكانه قط بل كان شارد العقل على الدوام يدفق بصمت دموعاً سخية.
و حين أوشك أن يفارق الحياة نقبنا باب قلايته و دخلنا ، و بعد تضرع كثير سمعنا منه هذه الكلمة فقط:
((اغفروا لي ، إن كل من حوى ذكر الموت لا يستطيع أن يخطأ)) .
فدهشنا لمّا أبصرنا من كانت حاله على ما ذكر من التواني قد تحول بغتة هذا التحول و تغير تغيراً مغبوطاً . ثم دفناه دفن الأبرار في المقبرة القريبة من الحصن ، و بعد أيام طلبنا جسده المقدس فلم نجده ،
فأكد لنا الرب بذلك من خلال تلك التوبة الصادقة المأثورة قبوله لجميع المريدين أن يقوّموا سيرتهم بعد كثرة توانيهم.
19_ و كما أن لجة البحر لا حد لها و لا قعر ، كما اعتاد أن يقول البعض ، كذلك فإن ذكر الموت يؤول بالطهارة و السيرة إلى اللافساد.
20_ لا يخامرنا شك في أن ذكر الموت عطية من الله كسائر الصالحات ، و إلا فكيف يتفق أن نزور المقابر مراراً كثيرة و نلبث قاسين لا دموع لنا ، في حين أننا كثيراً ما نتخشع و نبكي خلواً من مثل ذلك المنظر.
21_ من مات عن الأشياء كلها يأتي إلى ذكر الموت. أما من لا يزال متمسكاً بالعالم فيتآمر على نفسه.
22_ لا تطلب أن تؤكد لجميع الناس بالأقوال حبك لهم بل بالأحرى يك أن تسأل الله إظهاره لهم بدون ما أقوال. و إلا فلن يكفيك مدى زمانك للتودد إليهم و التوجع على خطاياك معاً.
23_ يا مجاهداً عادم الفطنة لا تنخدعن بإمكان التعويض عن إضاعة وقت بوقت آخر فإن كل يوم من أيامك لا يكفي لإيفاء دينه كاملاً للسيد.
24_ قال أحدهم أنه يتعذر نعم يتعذر علينا أن نعبر يومنا ببر و تقوى إن لم نحسبه اليوم الأخير من عمرنا. و إنه لأمر غريب بالحقيقة أن الوثنيين أيضاً قالوا مثل هذا القول ، إذ حددوا الفلسفة بالانشغال بالموت.