الحجر الذي رذله البناؤون هو الذي صار رأس الزاوية. ( مت 21 /42)
المعبد - بيت أبي بيت صلاة - المطران بولس يازجي
المعبد
المطران بولس يازجي
"بيت أبي بيت صلاة"
أين يلتقي المنظور بغير المنظور؟ كيف يتخاطب المدرك والمحدود مع غير المدرك وغير المحدود؟ كيف تتعاطى أبعاد الزمن مع أزليّة الله؟ كلّ ذلك يتمّ في "المعبد".
لذلك منذ البدايات كان الإنسان يبحث عن مكان يقف فيه ويخاطب الله فيه!
ولطالما العطش إلى هذا الحوار دفع الناس أن تبني هياكل لله! وغالباً ما كانت على القمم والجبال، وكأنّه التعبير عمّا في أعماق القلب البشريّ من مفاهيم علاقة من أعلى النقاط على الأرض- فوق الأرضيّات، أو هناك على أقرب نقطة إلى السماء.
ولطالما بقي الشوق إلى بناء المعبد مدلولاً عن حبّ الإنسان إلى الصلاة وبناء الرباط مع الله.
وماذا يجري هناك في المعبد حين يلتقي الإنسان بالله؟ "العبادة". وماذا تعني العبادة، ومن هذا المنظار العميق لها؟ إنّها "ما يجري حين يلتقي الإنسان بالله" في لقاء حقيقيّ واضح.
أولى ثمار هذا اللقاء هي الرهبة، والإنكسار والخشوع. هذه ثمار لقاء المطلق بالمحدود. وبقدر ما يحمل هذا اللقاء من رهبة يتضمّن أيضاً رجاءً وسلاماً واطمئناناً...
"المصالحة" مع الله، من أهمّ الأشواق البشريّة. هناك أمام الله في العبادة وفي الهيكل، يقف الإنسان في الخشوع متأمّلاً بين دعوته وواقعه، الأمر الذي يقوده مع شعوره برحمة الله وحبّه وحنانه إلى التوبة.
اللقاء مع الذات، هو ثاني ما يحصل في المعبد. هناك حيث يقرع صدره كالعشّار "يا ربّ ارحمني أنا الخاطئ"،
وكالابن الضال "يا ربّ أخطأت إلى السماء وأمامك فاقبلني...".
وهنا تبدأ المعركة الداخليّة مترافقة مع نعمة الربّ من أجل الوصول إلى كمال دعوتنا من واقع أوهاننا! أي في المعبد يبدأ الإنسان بتأليه ما هو بشريّ فيه. على ضوء الوصايا الإلهيّة،
وكما قال المزمور "ناموسك نبراس لقدمَيّ". يسير الإنسان مع ذاته في خطوات، تحت غمام التواضع وبركة الله، في درب معرفة ذاته، بضعفاتها وبملكاتها، مرتقياً على سلّم المعرفة الإلهيّة إلى دعوته التي يشاؤها الله له على صورته ومثاله.
الأمر الثالث الذي يحصل عفوياً، ومباشرة، في المعبد، هو لقاء الإنسان بأخيه الإنسان. يمكن للإنسان أن يلتقي بالله في أي مكان وأن يصادف ذاته في أكثر من مكان وبأكثر من أسلوب، لكن من أهم خواص المعبد، هي حياة الشركة والصلاة الجماعية.
وبالنسبة لنا، الضوء الإنجيليّ يفضح بقساوة أيّة محاولة "تقطيع" في مجمل العلاقة بالله. أي بما أن اللقاء مع الله والذات يصير تحت ضمانة الوصيّة الإلهيّة - الإنجيليّة فإن هذه الوصيّة بطبيعتها تعلن إنجيليّاً أنّه لا يمكننا أن نلاقي الله إلاّ عبر القريب، وأنّه لا يمكننا أن نحبّ الله الذي لا نراه إذا كنّا لا نحبّ القريب الذي نراه.
وأن مَنْ يقول أنّه يحبّ الله وهو لا يحبّ قريبه فهو كاذب.
الوصيّة الإلهيّة تضع اللقاء (العبادة) في إطار الروح والحقّ. أي أنّها تمنع إفساد العبادة وحصرها في مجرّد علاقة نظريّة بين الإنسان والله الساكن سماه.
"كلّ ما نفعله بهؤلاء الصغار فإننا لله نفعله".
في المعبد إذن تحدث ثلاثة أحداث. أولاً يلتقي الإنسان بالله، فيعود ثانياً إلى ذاته، وبما أن ذلك يجري بروح الوصيّة الإلهيّة وحقّها يجعل الإنسان يلتفت، ثالثاً، إلى القريب ويلاقيه.
يخبرنا النصّ الإنجيليّ هنا عن حدث يخصّ بالتمام من يحبّ المعبد والذين يعتبرون أنفسهم من خدّامه. وينبّه المؤمنين والمخلصين للعبادة وعشّاق المعبد وليس البعيدين عنه.
إنّه حدث "تطهير المعبد" بيد يسوع. بيت أبي بيت صلاة، والخطر هو أن تحوّله الدوافع البشريّة إلى بيت لصوص - وبيت تجارة. حيث لا تتحقّق في المعبد غاياته الثلاث.
فالخطر الأوّل هو ألاّ يلتقي الإنسان بالله في المعبد. وهذا ممكن أن يحصل والخبرة الشخصيّة لكلّ منّا، بتواضع، يمكنها أن تذكّره بلحظات ليست قليلة- في أحسن الأحوال- حين ندخل المعبد ثم نخرج منه دون أي لقاء حيّ بالله! وهذه الحالة إذا صارت عادة تفسد العبادة.
يمكن للإنسان أن يدخل المعبد ويتكلّم هناك مع ذاته فقط، كما جرى للفريسي، وكما حدث مع الناس في هذا العيد كما يرويه النصّ الإنجيليّ اليوم.
"أدخل إلى بيتك وأسجد نحو هيكل قدسك بخوفك"،
"يا ربّ وجهك أنا ألتمس"،
"جعلتُ الربّ أمامي كلّ حين"،
وسواها كلّها صلوات تناسب كلّ لحظة لكنّها بالأخصّ ضروريّة في المعبد. العبادة هي الكلمات العفويّة القلبيّة - الروحيّة التي يدفعها الروح من قلوبنا بأنّات لا توصف حين نلتقي في المعبد مع الله ونقف في حضرته الإلهيّة.
والخطر الثاني هو ألا نلتقي هناك مع ذواتنا وألاّ نعاين أنفسنا ولا نتذكّر دعوتنا متغافلين عن واقعنا.
حين لا تقودنا الكلمة الإلهيّة في العبادة إلى التوبة، ولا تكسر الحضرة الإلهيّة قلوبنا وتملؤها خشوعاً، حين نعرض في المعبد ذواتنا بدل أن نستعرضها، حين نفسد العبادة فنستخدمها لتبرير ذواتنا وليس لتطهيرها، حين تُهدي ذاتُنا لذاتنا رضاها ومديحها بدل أن تقدّم لله توبتها مترجّية في طلب الرحمة والغفران، عندها لا نكون مع ذواتنا ولا نلتقيها في المعبد.
المعبد مصنع، حين ندخله ونجري مع روحه وأدواته، يخلع عنا غباوة البِشْرة وضعفاتها وينـزع قشرة الإنسان العتيق فيجددنا بالنعمة إلى رقّة الإنسان الجديد وجماله.
الإنسان الروحيّ الذي يرتوي في المعبد من الحضرة الإلهيّة حبّاً للناس ورقّة ويقتني دموع توبة يلتفت نظره إلى أخيه الإنسان الحاضر منه والغائب، القريب والغريب.
الخطر الثاني إذن هو أن نبدأ "بتأنيس" كلّ ما هو إلهيّ في المعبد بدل أن نكمل فينا كلّ نقص بشريّ ونؤلّه ما هو فينا إنسانـيّ.
أما الخطر الثالث فهو، أن ندخل المعبد لنستغل فيه القريب بدل أن نبذل ذاتنا لأجله. أَلم يحصل هذا عند "الخدام" و"المتعبّدين" في هذا الحدث الإنجيليّ، حين صار العيد، وهو يوم المعبد الأوّل وأهمّ أيّام العبادة، صار فرصة للربح والمصلحة والبيع والشراء.
هذه صورة العبادة - العادة، وهذه مظاهر المعبد - المتجر، وهذه صورة العابدين - اللصوص الذين يسرقون من المعبد حقّه ويسلبون من العبادة فقط جوهرها! هناك فعلاً خطر حقيقيّ وتجربة عميقة لكلّ مؤمن في كلّ وقت وهي أن يصيّر المعبد والكنيسة والعبادة مصدراً لتحقيق الذات ومطاليبها وإشباع رغباتها في قوالب للخدمة تتفرّغ من مضمونها الحقيقيّ، مسلوبة من غناها وغايتها.
بدل أن يكون المعبد هو المذبح الذي يدخله المؤمن فيمدّ ذاته عليه ويبذلها. الخطر أن ندخل المعبد لنربح لذاتنا بدل أن نعطيها، أن ندخل المعبد لنستخدم الآخر بدل أن نخدمه.
"بيت أبي بيت صلاة"!
صلاة في صفائها وفي رهبة اللقاء مع الله. صلاة في عمقها وتواضعها وتوبتها في اللقاء مع الذات. صلاة في حقيقتها وغايتها في بذل الذات وحبّ القريب.
آميــن