أَللَّهُمَّ اْستَمع لِصَلاتي و أَصْغِ إِلى أَقْوالِ فَمي (مز 54 /4)
هل قواعد الرهبنة من تعاليم السيّد أو من تعاليم الكنيسة لاحقاً - الأب جورج فلوروفسكي
هل قواعد الرهبنة من تعاليم السيّد أو من تعاليم الكنيسة لاحقاً؟
الأب جورج فلوروفسكي
نقلها الى العربية الأب أنطوان ملكي
غالباً ما يتّهم البروتستانت، على اختلافهم، الرهبنةَ الأرثوذكسية بأنها "انحراف" عن تعاليم سيّدنا يسوع المسيح. لكن تعاليم السيّد تظهر عكس ذلك تماماً.
الكمال، أعمال الرحمة، الصلاة، الصوم والعفّة
"الكمال" كعبارة وفكرة، موجود بكثرة في الأدب الرهباني والنسكي منذ الأزمنة المسيحية الباكرة. يسعى الراهب إلى الكمال. يرغب الراهب في أن يثبت على الطريق المؤدّية إلى الكمال.
لكن، أهذا من نتاج الرهبنة؟ أليست الميول الرهبانية والنسكية في المسيحية في أزمنتها الأولى هي التي تقدّم فكرة الكمال التي تقدّم بدورها فكرة الجهاد الروحي والكفاح؟
إن ربّنا، وليس الرهبان، هو مَن بثّ الكمال كهدف في نسيج فكر الأزمنة المسيحية الأولى. في إنجيل متّى (48:5) يوصي ربّنا:
"فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ".
الحياة الرهبانية والنسكية التقليدية تضمنّت بين أعمالها الصدقة، الصلاة والصوم. هل فُرِضَت هذه الممارسات على المسيحية الأصيلة من الرهبنة أم هي أُدمِجَت بالحياة الرهبانية والنسكية من المسيحية الأصلية؟
في إنجيل متّى نجد أن سيدنا ومخلّصنا هو مَن استهلّ الصدقة والصلاة والصوم.
لقد كان بإمكانه محو هذه الممارسات بسهولة. لكن بدل محوها، طهّرها وأعطاها منزلتها الصحيحة ضمن الحياة الروحية، وهي القيام بهذه الأعمال من دون أن يلصق بها أي ظهور أو رياء أو تفاخر. إن ما يوصي به السيّد هو المنظور الروحي الصحيح:
"اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً" (2:6-4).
والصلاة مطلوبٌ القيام بها بالطريقة نفسها للحفاظ على طبيعتها الروحية.
عند هذه النقطة الحاسمة، بطلب السيد من أتباعه استعمال "الصلاة الربّية"، وهي صلاة بسيطة ولكن عميقة، تحمل في طياتها تمجيد اسم الله، وتوسّل مجيء ملكوت الله، صلاة تعترف بأن مشيئة الله هي بداية كل شيء ومن غير يتوه الإنسان.
إنها صلاة تواضع لأنها لا تطلب أكثر من القوت اليومي. إنها صلاة تكافل الناس في المغفرة، لأنها تطلب من الله أن يغفر لنا كما نغفر للآخرين، وفي هذا تصوير لحقيقة عميقة في الحياة الروحية، وهي الحياة التي توحّد الإنسان مع الله بتوحّده مع الأشخاص الآخرين، مع البشرية، في المغفرة.
ومن ثمّ هناك الصلاة للحفظ من التجربة، وإذا ما وقع إنسان فيها، هناك الصلاة للتخلّص منها.
إنها صلوات قصيرة جداً وبسيطة جداً، لكنها ذات عمق مهم على المستويين الشخصي والكوني. أتكون الرهبنة تحريفاً للمسيحية الأصيلة لأن الرهبان يردّدون الصلاة الربية بحسب وصية السيّد وتعليمه؟
لو أن الرهبنة استعملت صلاة حرّة عفوية لكان ممكناً تعييبها بعدم "اتّباع" وصية الرب. لكن الحال غير ذلك. ربّنا كان محدداً: متّى صليّتم صلّوا هكذا. إنه لا يستثني صلوات أخرى بل يعطي التقدّم والأولوية للصلاة الربيّة. بالواقع، غريب أن يحدّد الرب تكرار الصلاة، "التكرار الباطل"، "وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ".
بالواقع هذا الكلام يختلف بالجوهر عن نية ربّنا. وهو إلى هذا يضيف في هذا الموضوع المهمّ لديه، إذ يذكر، في إنجيل متى (15:9)، أنّه عندما يرتفع هو يصوم تلاميذه. في متى 21:17 يشرح لتلاميذه أنّهم عجزوا عن طرد الشيطان لأن
"هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم".
صحيح أنّ هذه الآية غير موجودة في كل المخطوطات القديمة، لكنها موجودة في عدد من المخطوطات، كافٍ لاعتبارها صحيحة، كما أنها موجودة في إنجيل مرقس (29:9). جليّ أن ربنا يعلّق أهمية روحية خاصّة على الصلاة والصوم.
العفّة هدف رهباني ونسكي
ليست العفة عذرية خارجية بل عفة فكرٍ داخلية. أهي أيضاً أمر فرضه نوع من التفكير الهلّيني على المسيحية الأصيلة الأصلية، أم هي موجودة ضمن الوديعة الأصلية التي للمسيحية الرسولية والكتابية.
مرّة أخرى، ربنا هو مَن رسم طريق البتولية والعفة. في إنجيل متى (10:19-12) يسأل التلاميذُ الربَّ عمّا إذا كان من الملائم الزواج:
"لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هذَا الْكَلاَمَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم، 12لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ".
إن الغاية الرهبانية النسكية "تتبع" تعليم الرب وحسب. المسيحية الأصلية لا تفرض البتولية. فالبتولية، بالتحديد كما عيّن الرب، هي فقط للذين أُعطيت لهم، فقط للقادرين على تقبّل هذه الطريق. لكن الطريق هي الطريق الموثوقة للروحانية المسيحية كما وضعها ربنا.
حتّى الكهنة والأساقفة لم يكن التبتّل مطلوباً منهم يوماً في المسيحية الشرقية كشرط للكهنوت.
خيار الزواج أو التبتّل ينبغي أخذه قبل السيامة. إذا تزوّج أحدهم قبل السيامة، يكون عليه أن يبقى عازباً ولو كانت الكنيسة قد شهدت استثناءات في الماضي. الكثلكة، وليس الكنيسة الأرثوذكسية، هي مَن توسّعت في شرط تبتّل الكهنة ومرّت بأوقات صعبة في محاولة فرضه عبر الأجيال.
لا يمكن فرض أي شكا من أشكال الروحانية على الإنسان وتوقّع نتيجة مثمرة روحياً. إن كلمات سيدنا تدوّي بالحكمة:
"للذين أُعطي لهم"،
أي للقادرين على عيش هذا الشكل من الروحانية.