بِكَ يا رَبِّ اْعتَصَمتُ فلا أَخزَ لِلأَبد (مز 71 /1)
تعالوا يا مبارَكي أبي رثوا الملكوت.. - المطران بولس يازجي
"تعالوا يا مبارَكي أبي رثوا الملكوت..."
المطران بولس يازجي
من كتاب "السّائحان بين الأرض والسماء" - الله والإنسان
الجزء الثاني
لا أجمل من هذه الصفة "مبارَكي أبي"، التي يطلقها يسوع على بعض الناس. ولا أجمل من الإرث الذي يعدهم به: "ملكوت السماوات"! مَن هم هؤلاء المباركون؟ وما هو ذلك الملكوت الذي سيرثونه؟
لا شك أنّ هؤلاء المبارَكين هم المخْلِصون لدعوة يسوع، الذين أحبَّهم لأنهم أرضوا قلبه وكانوا مِثْله ولم يزيِّفوا الطريق التي افتتحها هو. ليسوا بقلائل أولئك الذين يعبثون بالدعوة المسيحية لكي تتماشى مع مقاييسهم وتتطابق مع أبعادهم!
ولاشك أنّ الملكوت الموعود به هو مشاركة يسوع في حياته. هذا هو إرثنا الذي ننتظره من اتِّباع يسوع، أن نُكرَّمَ كما أُكرم أو نُضطَّهد كما اضطُّهد، وليس عبدٌ أفضل من سيّده!
وهذه طريقة يسوع التي تركها إرثاً لنا: إخلاء الذات. نعم من أهلكَ نفسه من أجل يسوع والإنجيل يجدها، ومن طلب نفسه يهلكها.
كانت المسيحية في سنيها الأولى تدعى "الطريقة الجديدة" للحياة، وهذا تعبيرٌ جيد يشدّد على الوجه العملي للمسيحية، على واقعية الإيمان بها وثماره.من أفضل الأمثلة التي تعبّر عن هذه الطريقة هي عبارة يسوع:
"أنتم ملحُ الأرض".
إنّ الملح هو من أكثر المواد الغذائية ضرورةً للحياة. فالملح يحفظ الأطعمة من ناحية ولا يجعلها تفسد، ومن هنا جاء "عهد الملح" كمثياقٍ دائم لا يفسد ولا ينحلّ.
والملح أيضاً يُعطي للمآكل طعمها. لذلك فالمسيحيون بالنسبة للرب هم ملحُ الأرض، لأنهم يعطونها معنىً وطعماً. المسيحية تعطي للبشرية هويتها الحقيقية، التي بدونها لاطعم للبشرية أمام الله وفي التاريخ. يحفظ المسيحيون الحقيقيون العالمَ ويعطونه طعمه وهويته.
هذه رسالةُ ومسؤوليةُ كلّ مسيحي، وقد عبّر يسوع عن جسامة الخسارة حين نفقدها:
"وإذا فسدَ الملح فبماذا يُملَّح؟".
وسِرُّ الملح هو طريقة حياة المسيح ذاته والمسيحيين من بعده. لا يُملَِّح الملحُ إلّا إذا ذاب ولم يعد يظهر. إن لم تذب حباتُ الملح وتختفي يصير الملح كالزؤان في القمح وكالحصى في الطعام!
إنكار الذات وبذلها هو طريقة العمل التي نرثها مجرّد تبعنا المسيح وتمثّلنا به. من يعمل ليتبرّر أو ليظهر أساء. مَنْ ليس له الجرأة أن يطلب الخفية والذوبان في الكنيسة فإنه لا يبني مهما قدّم، بل يجزّئ.
لنا أن نقرّر، ولا قرار كهذا إلاّ بالإيمان والتصميم، أن
"لا لنا يا ربّ لا لنا بل لك المجد"
"كلّ ما فعلناه إنما نحن عبيدٌ بطّالون".
أيّة طريقة أخرى في العمل ضمن الكنيسة هي هدمٌ. حين نبني لِذَاتنا ننتقص من جسم الكنيسة، وحين نُفرغ ذاتنا ونبذلها عندها نبني جسد الكنيسة. لم يعذِّب حياة الكنسية شيءٌ مثل حبَّاتٍ كانت لتملِّح ولم تَذُبْ فصارت حصىً يُفسد الطعام بدل أن يملّحه.
لم تُسئ إلى الكنيسة الاضطهادات الخارجية بمقدار ما أساءت إليها الشقاقات الداخلية الناتجة عن حبّ المراكز والسلطة والكراسي!
منْ يعمل ليظهر لن يَسْعَد يوماً بالملكوت، ولو تمتّع بلذّة الظهور، والفرق بين الطريقين شاسع.
ماذا نلاحظ في كنائسنا عندما يكثر العَمَلة؟ أنلاحظ طعماً أفضل لأنهم ملحٌ، أم لا سمح الله تكثر الصراعات لأنهم حبَّاتٌ تبحث عن كيانها وليس عن الخدمة، ولو تحت شعارات الخدمة والعمل ...!
أتذوب كلّ الهيئات في خدمة الكنيسة، أم تُستخدم الكنيسة لتكوين هيئات؟ هل نعمل لنكون أم لنذوب؟ أنفرّغ ذواتنا أم نكرّمها؟
ليس المهم كم نخدم بل كيف نخدم، لأنّ النتائج ليست من الكمية بل من الطريقة. ليس مهماً أن نرمي كثيراً من الملح بل الأهم أن يذوب الملح ويُطعّم المأكل.
إذا لم تذب حبّات الملح فإنها تغدو غير ضروريةٍ لا بل مسيئة! إذا كنا نعمل لنخلق "كياناتٍ" في الكنيسة فنحن لم نعد ملحاً والأَولى أن نُطرح خارجاً، أما إن كنا نتفانى ونفني كياننا عندها نصير ضروريين. الكلّ في الخدمة إذاً الكلّ يختفي لتظهر الكنيسة.
بمقدار ما نسعى من أجل مراكزنا وكراماتنا بمقدار ما نسيء للكنيسة، ولا تفيد آنذاك كثرة الأعمال والتَّقدِمات التي نعطيها في الكنيسة لتعود إلينا أضعاف!
"أنتم ملحُ الأرض"،
عندما نقبل هذا المديح من يسوع، نرث الملكوت! وهل هناك ملكوتٌ أجمل من أن نكون نحن في الخفية، وتظهر الكنيسة علانيةً؟ "لنا أن ننقص وله أن يزيد" كطريقة المعمدان.
نحن أصدقاء العريس نختفي وندعو الجميع إلى عرس الحمل الذبيح. فَرَحُنا بعرسه وليس بذواتنا.
الملح يعطي السلام في الكنيسة، أما الظهور فيجلب الشقاق والنميمة والخداع!
لا يحقّ لأي مسيحيٍّ أن يبني ذاته على حساب الكنيسة، لن يكون حينها من "مباركي أبي ربنا يسوع المسيح" بل سيكون نبيّاً كاذباً، وهؤلاء سمّاهم يسوع: "سُرَّاقٌ ولصوص"، يخدمون في الرعية ليحزّبوها وراءَهم وتصير لهم الرئاسات والكراسي المتقدِّمة.
بدل أن يعقدوا القِران المقدَّس بين كلّ نفسٍ ويسوع ، فهم يحاولون أن يأخذوا مكان العريس بدل أن يلتزموا رسالتهم أي مكان الصَّديق.
جرأة إخلاء الذات تأتي من الإيمان الحقيقي والاقتداء الحيّ بيسوع، وإظهار الذّات يأتي من الخوف والرياء. إخلاء الذّات يجعلنا ملحَ الأرض، وإظهارُها يقلبنا حبات زؤان.
لننتظر،كما في مَثَل القمح والزؤان، سيأتي زمن الحصاد.
الآن سينمو الزؤان مع القمح، وسيعمل من يبذل ذاته مع من يطلبها، لكنَّ زمن الحصاد آتٍ لا محالة،
عندها سينقّي السيّد بيدره ويرمي الزؤان إلى النار،
ويرث الأوَّلون ملكوت الله لأنهم كانوا من مبارَكي الآب السماوي وأتباعَ يسوع، وملحَ الأرض، آمين.