لِتَبلغ صَلاتي إِلى أَمامِكَ أَمِلْ أُذُنَكَ إِلى صُراخي (مز 88 /8)
فرح العطاء - الأرشمندريت توما بيطار
فرح العطاء
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي-دوما
هناك فرح وفرح. هناك فرح بالأخذ وهناك فرح بالعطاء. في الكتاب المقدّس العطاء مغبوط أكثر من الأخذ. إذاً، الفرح من الأخذ هو دون الفرح من العطاء.
وبما أنّ معظم الناس يفرح بالأخذ وقلّة تفرح بالعطاء، فإنّ فرح العطاء قليل بين الناس. والحقّ أنّ مَن كان همّه الأخذ فإنّ العطاء، بالنسبة إليه، خسارة، وإن أعطى فالقليل لأنّ اعتياد الأخذ يعلّم البخل. والبخيل يعطي، إن أعطى، ليأخذ شيئاً في المقابل.
العطاء المجّاني، عنده، معدوم. وإن أعطى ولم يكن في نيّته أن يأخذ من الناس، فإنّه يرغب بالمقابل من الله. يتوخّى حماية رزقه وشراء البَرَكة لزيادة ما لديه.
العطاء، عنده، مجال لتوظيف الطاقات، فيما العطاء المجّاني، تحديداً، هو ما لا مقابل له. على هذا مَن اهتمّ بالأخذ لا يمكن، من بعد، أن يهتمّ بالعطاء.
إذا استأثر همّ الأخذ بالقلب فإنّه يلغي الاهتمام بالعطاء. القصد من قول الرسول بولس، إذاً، هو حثّ المؤمنين على العطاء الذي إن تعاطوه يقتنون فرحاً لم يسبق أن عرفوه وهو أعظم من الفرح الذي يعرفونه، في واقعهم، من الأخذ.
فرح الأخذ عند الله لا قيمة له. القيمة، لديه، هي لفرح العطاء. هذا لأنّ مَن يحبّ الأخذ يحبّ نفسه ومَن يحبّ العطاء يحبّ الآخرين.
والوصيّة هي "أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم".
فرح الأخذ من غير نوع فرح العطاء. فرح الأخذ من الإنسان وفرح العطاء من الله. الأنانية تفرِّح لكن فرحها مريض، لذا فرح الأخذ لا يُشبع. فيه دائماً فراغ وجوع. حرارة فرحه حرارة حمّى.
هذا يدلّ على أنّه، في العمق، غريب عن أصالة الإنسان. أصالة الإنسان لا تتجلّى إلاّ في فرح العطاء الذي يعطيك شعوراً عميقاً بالملء والشبع، بحرارة القلب اللاهف. فرح الأخذ يسير بك دائماً من فراغ إلى فراغ ومن جوع إلى جوع، فيما فرح العطاء يسير بك دائماً من ملء إلى ملء ومن شبع إلى شبع في الكيان.
وإذا كان فرح الأخذ يدفعك، أحياناً، إلى العطاء بقصد الأخذ فإنّ فرح العطاء يدفعك إلى الأخذ بقصد العطاء. الأول يأخذ ليملأ فراغاً في نفسه لا يمتلئ والثاني يأخذ ليملأ فراغاً في نفسه دائماً ممتلئ.
الأول، في الحقيقة، جائع إلى ملء نفسه والأخير إلى إفراغ نفسه.
الأول بملء نفسه يعمِّق الفراغ الذي فيه
والثاني بإفراغ نفسه يعمِّق الملء الذي فيه.
لذا فرح العطاء يجعل الفرح بالأخذ عظيماً أيضاً لأنّ وجهته العطاء. المعطي، إذ ذاك، يفرح، في كلا الحالين، بالأخذ والعطاء.
على هذا فإنّ الفرح الأصيل مرتبط بالحبّ. مَن لا يحبّ لا يعرف الفرح.
يعرف ما يشبه الفرح وما يسمّيه زوراً فرحاً وهو ليس بفرح.
فرح الأخذ نشوة، متعة، لذّة كما يشعر المدمن إذا ما تعاطى المخدّر. هذا فرحه طرفة عين ولا يدوم ولا جذور له ولا يبعث في النفس السلام الحقّ.
سلامه إزالة توتّر. محبّ الأخذ في توتّر إلى أن يأخذ. يرتاح لبعض الوقت ثمّ ينتابه شعور بالفراغ وعدم الارتياح إلى أن يُثار توتّره من جديد ويطلب الأخذ من جديد ليزيل التوتّر الذي فيه من جديد وهكذا إلى ما لا نهاية.
هنا كلّما زاد الأخذ عظم الفراغ في النفس. فرح العطاء ليس كذلك. فرح العطاء غبطة وبهجة عميقة في النفس، منها ينبعث سلام وسكون ينضحان بالحبّ ويتمتمان الفرح الذي يدفع المرء إلى إعطاء ما عنده وما ليس عنده.
إن لم يكن لديه ما يُعطيه فإنّه يعطي نفسه حضوراً وامتداداً وشفافية وبذلاً وصلاة.
ذروة الفرح عند المعطي ليس في أن يقدّم ما لديه بل في أن يمدّ كيانه، في أن يفتح قلبه، ليسنح للآخر أن يقيم فيه كوجود، كروح. والفرح يكتمل بأن يسكن المعطي والمعطى له، الذي يصير هو أيضاً معطٍ، كلٌّ في الآخرعلى نحو ما قال يسوع لأبيه وما أتاحه لنا:
"ليكون الجميع واحداً كما أنّك أنت أيّها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا... أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكمّلين إلى واحد" (يو 17).
فرح الأخذ أن تجمع ليومك الأسود ولأولادك. فرح العطاء أن تبدّد على المساكين ولا تحسب حساباً لغدك وأولادك. الله كافلك وإيّاهم. فقط عندما لا تعود متّكلاً على ما لديك تصير متّكلاً على ربّك بالكامل، ونِعْمَ الوكيل.
السماء والأرض، إذ ذاك، يجعلهما ربّك في خدمتك. فرح الأخذ أن تدّخر لصحّتك. وفرح العطاء أن ترى لصحّة المريض الفقير الآن وأنت قادر. مَن يعتني بك غداً؟ أمر من أمرين يحدثان أو ثلاثة.
لا تمرض بعد لأنّك تكون قد سدّدت فاتورتك على المرضى المساكين. عليهم أنفقت مالك وهم ينفقون عليك صحّةً بطلباتهم إلى الربّ الإله من أجلك.
وقد تُشفى بصلاة الكنيسة.
العطاء يجعلك تمتصّ صلاة المؤمنين والكهنة والأساقفة والرهابين بيسر.
وقد يرسل لك السيّد الربّ أحد قدّيسيه أو ملائكته ليشفيك. لأنّك أعطيت فلا يمكن إلاّ أن تُعطى. تأخذ الآخرين على عاتقك فيأخذك ربّك على عاتقه. فرح الأخذ أن تمدّ لنفسك وأصدقائك مائدة من أطايب المأكول والمشروب.
تفرح بتكريم الناس لك ويفرحون بتكريمك لهم وتقول لنفسك: يا نفس كلي واشربي وافرحي لأنّ لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة (لو 12: 19).
وفرح العطاء أن تبحث عن الجائع لتطعمه والعريان لتكسوه والعطشان لترويه والغريب لتأويه، ولا يطيب لك طعام لا يشاركك محتاج فيه ولا لباس لا يكون للعراة فيه نصيب ولا شراب لا يرتحل معه ذهنك إلى ظمآن وتبادر إليه ولا منزل يضمّك ولحاف يدفئك والمشرّد في العراء.
كيانك يبقى جائعاً إلى أن تكسر الخبز لخاوي البطن.
كيانك يبقى بارداً إلى أن تُلبس المنسيّ.
كيانك يبقى لاهباً لماء البَرَكة إلى أن تفتقده.
كيانك يقيم كما في صحراء إلى أن تأوي بعض المشلوحين في الأرض.
محبّ الأخذ يبحث عن ملء بطنه ومحبّ العطاء عن ملء كيانه. الأول يمتلك عدماً والثاني يمتلئ بَرَكة. وكيان الإنسان برأه الله على صورة البَرَكة. لذا لا شيء غير البَرَكة يشبع الإنسان.
إيليا بأكلة واحدة شبع وسار أربعين يوماً لم يأكل فيها شيئاً، والغني الذي أثمرت كورته بقي جائعاً إلى أهراء أكبر. محبّ الأخذ يذهب رزقه فلا يبقى له غير الجوع.
ومحبّ العطاء يغادر أرزاق الدنيا ويأخذ معه ما يكون قد أعطاه.
الأول يُعدّ نفسه بالأخذ للجحيم والثاني يُعدّ نفسه بالعطاء للفردوس. الأول أدمن فراغ الكيان والأخير ملء الكيان. ليس الجحيم من ابتداع الله ولا الفردوس. نعمة الله تملأ الكل. فقط كيان الآخذ ليس مروضاً على اقتبال النعمة لذا يكون في النار الأبديّة وكيان المعطي تستوطن فيه النعمة فيكون في العزاء الأبدي.
هذا يقولون إنّه الفردوس وذاك يقولون إنّه الجحيم. كلاهما، عملياً، يصنعه الإنسان لنفسه، رغم أنّ الله ممتدّ للآخذ والمعطي سواء بسواء.
قال محدّثي: جيء بطفل ألقاه ذووه عند باب مَن نذروا العطاء سيرة. كان الطفل بنصف قلب غير قابل في تقدير الأطباء للعيش. اتخذته إحداهن واعتنت بأمره. كان يُفترض أن يقضي نحبه في أيّام. عرضته على الطبيب.
قال: بحاجة إلى جراحة صعبة مكلفة، وحظّه في الحياة قليل. اجتهدت وجمعت مالاً بنعمة الله وأُجريت له جراحة كلّفت أربعين ألف دولاراً أميركياً. نجحت العملية بنسبة لا بأس بها.
قالوا: بعد سنتين بحاجة إلى عملية أخرى إذا عاش. عاش إلى السنتين. أُجريت له عملية جراحيّة أخرى. جُمع المال من بَركات الله، ممّن حرّك الربّ الإله قلوبهم.
كلّفت أيضاً أربعين ألف دولاراً. نجحت بنسبة عالية. عاش الولد شبه طبيعي. بقي بحاجة إلى عناية دائمة. لما بلغ الخامسة جاء غنيّ لم ينعم بأولاد.
رآه فقال: أتبنّاه! فقيل له عن حاله فازدادت رغبته في تبنّيه. أخيراً صار ابنه وهو الآن في مدينة في إيطاليا. هذا هو الفرح. هذا هو الفردوس على الأرض أن تمدّ نفسك إلى المائتين لتحييهم.
هم يحييون، إذ ذاك، بك وأنت تحيا بالنعمة والفرح اللذين يبثّهما ربّك فيك. أقول هذا وفي ذهني ذاك الملياردير الذي وظّف أمواله بسوق البورصة فزادها أضعافاً فوق أضعاف.
فلمّا هبطت البورصة مؤخّراً خسر كلّ ماله فذهب وألقى بنفسه أمام القطار السريع فمات لأنّه كان كما في جحيم.
تُرى لو وظّف ما أضاعه سُدى في عطاء مساكين الأرض فكم كان ربحه ليكون وكم كان فرحه؟! كلّ شيء أعطاه ربّك للفرح وأنت جعلتَه للشقاء.
ماذا ينتظرك بعد؟
إذا كان النور الذي فيكم ظلاماً فالظلام كم يكون ؟!