يا رَبِّ اْسمع صَلاتي أَصْغِ إِلى تَضَرُّعي بأَمانَتِكَ، بِبِركَ اْستَجِبْ لي (مز 143 /1)
الإيمان و الأدوية - للأرشمندريت توما بيطار
الإيمان والأدوية
للأرشمندريت توما بيطار
في الرسالة الثلاثين من رسائل الشيخ يوسف الهدوئي، أخبر عن رجل سويسراني ترهَّب لسنوات وكان يعاني أمراضاً ثلاثة رهيبة غير قابلة للشفاء. وقيل أنفق الرجل ثروة على الأدوية.
هذا جاء إلى الشيخ فقال له الشيخ إنه سيستعيد عافيته للحال لو كان ليؤمن، فقط، بأن الله قادر على شفائه. واجه الشيخ صعوبات ولمّا يتمكّن من إقناع الرجل.
لم يشأ المريض لا أن يغادر الشيخ ولا أن يؤمن إلى أن تدخّل الله وسمع الرجلُ صوتاً يقول له بوضوح: "لماذا لا تسمع وتُشفى؟" إذ ذاك أذعن. قال له الشيخ أن يترك معرفته جانباً وأن يتناول من الطعام عكس ما قيل له. قال إنه سيموت. لن تموت بإذن الله.
كُلْ مرة في اليوم بدل عشر مرّات، كما كان يفعل. امتحنه الله ثلاثة أيام. بعد ذلك جاء إلى الشيخ وقال له:
"لقد تعافيت بالكامل وعدتُ كما وُلدت!"
كان لديه أدوية وعلبتان من الحقن فقال له الشيخ أن يلقي بها في الوادي ففعل. من ذلك الوقت عاش معافى. وقد علّق الشيخ على ما حدث بالقول:
"لا تظنّ أني أنا فعلت ذلك...الإيمان هو الذي له قوة على صنع ذلك".
طبعاً الشيخ صلّى ولكن ما كانت صلاته لتفعل لو لم يكن المريض مؤمناً. كائناً من كان المصلّي من أجل مريض، لا يستطيع أن ينفع من هو مقابله في شيء إن لم يكن هذا الأخير مؤمناً.
ألم يقل الإنجيل عن يسوع في وطنه إنه لم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة لعدم إيمانهم (مر 5:6 - 6)؟ صلاة قديس لإنسان لا يؤمن لا تفعل شيئاً وصلاة إنسان عادي لإنسان مؤمن تفعل الكثير من حيث إن كل شيء مستطاع للمؤمن (مر 23:9).
هذا موقف أول عبَّر عنه الشيخ يوسف. وله موقف ثان عبّر عنه في الرسالة التاسعة والأربعين. قال: "أناس عديدون أتوا إليّ، وبالصلاة والصوم برئوا." ثم أردف: "أما الآن فالرب لا يسمع لي لكي أتكلّم عن الأودية والأطبّاء وأرفق بالآخرين". ثم ختم كلامه بالملاحظة: "أما الآن فأنا، أيضاً، أتعلّم أن كلا الأدوية والنعمة ضروريان".
هذا الكلام بحاجة إلى توضيح.
لا أريد أن أتكلّم على غير المؤمنين. لهؤلاء مع ربّهم جدليّة أخرى. أكتفي بالكلام على أبناء الإيمان.
هؤلاء متى استعانوا بالأدوية والأطبّاء فإنهم يفعلون ذلك بإيمان أن يسوع قادر أن يشفيهم بوساطتها. للأدوية والأطبّاء، في هذا الإطار، وجه إلهي بلا شك.
لذا ننظر إليها كفعل رحمة من فوق، كتعزية، كرفق بالناس. هذا يجعل الشافي ربَّنا في كل حال، حتى لغير المؤمن، إذ هو المشرق شمسَه على الأشرار والصالحين والممطر على الأبرار والظالمين (متى 45:5).
على أن للإيمان، في فعل الأدوية والأطبّاء، تأثيراً نلقاه في سيرة المؤمن ولا نلقاه في سيرة غير المؤمن. غيرُ المؤمن قد يُشفى بالأدوية ولكن عن رأفة لله به.
أما المؤمن فيُشفى عن إيمان، بالأدوية ومن دون أدوية. الشفاء، لهذا، هو بالإيمان بيسوع. لا يَنسب الشفاء للدواء بل ليسوع. لذا إذا تناول حبّة دواء فإنه يرسم عليها إشارة الصليب لأنه يعرف أن ما ليس من الإيمان فهو خطيئة (رو 23:14).
التجربة دائماً هي أن يصير الطبيب والدواء، عملياً، المتّكأ، ولا يعود للإيمان محل من الإعراب. يصير واقع المؤمن كواقع غير المؤمن. يموت الإيمان لديه كاتِّكالٍ على الله، كتسليمٍ له. كلّ الهمّ ينصبّ، إذ ذاك، على الطبيب والدواء.
هذا يُفضي إلى فك ارتباط بين الإيمان بيسوع والإعتماد على الأطباء والعلاجات. لا يعود المرء، عملياً، متكّلاً على ربه ولا يعود، تالياً، مستعداً لأن يقبل من يده كل شيء. يعرف أن الطبيب عالجه والدواء شفاه، دون ان يكون لديه مانع أن يقول إن الله أعانه، لكن إن لم ينجح الطبيب ولم تفعل الأدوية فإنه يحزن وييأس.
الإيمان، في هذه الحال، لا يمدّ صاحبه بالقوة الداخلية ولا يجعله يقبل لأنه، عملياً، إيمان نفسانيّ، وتالياً غير موجود كحقيقة كيانية. هو مجرّد شعور مبهم لديه.
والتجربة، أيضاً، أن يدمن، من يظنّ نفسه مؤمناً، الأطباء والأدوية. ينتقل من طبيب إلى طبيب، ومن دواء إلى دواء ولا يتوقّف عند حدّ. هنا كلما زاد اتكاؤه على العلاجات كلما وهنت نفسه. تحترق أعصابه ويتعرّض للإنهيار ولا يجد في الإيمان بيسوع حِفظاً لتماسك نفسه.
ويروح يبحث عن العلاج الأنجع فلا يجده، ولا يجد في الإيمان جواباً ولا شفاء. عملياً يفقد ثقته التي ظنّها لديه بالله ومسيحه.
المؤمن، بالفعل لا بالإسم، هو من يعرف أن يستعين بالإدوية وأن يستغني عنها أيضاً.
الأدوية، أحياناً، لا تنفع، لا فقط لأن المرء لا يصيب الطبيب المناسب والدواء الناجع، هذا يمكن أن يحدث، ولكن لأن الرب الإله يريدنا أحياناً، أن نُشفى بالإيمان لا بالأدوية.
هو يتركنا، إلى حين، نجرِّب الأدوية على غير طائل حتى تحتدّ نفسنا في علاقتنا به إلى أن نبلغ حداً نكون معه مستعدين لأن نسلمه أنفسنا بالكامل. المرأة النازفة الدم التي أنفقت كل معيشتها على الأطباء ولم تستفد شيئاً، ما كانت لتأتي إلى يسوع بحرقة وحدّة نفس وإيمان، لتمسّ ثوبه وتشفى، لو لم تيأس من الأطبّاء والعلاجات.
الرجل الراهب السويسراني الذي جاء إلى الشيخ يوسف الهدوئي لم تخرجه الأدوية من معاناته. هناك قوم يشفيهم الرب الإله بالأدوية والأطباء لأن هذا يناسبهم وهناك قوم يشفيهم الرب الإله بالإيمان البحت من دون أدوية ومن دون أطباء. هذا ما يناسبهم وهذا ما عليهم أن يدركوه، بعد حين، وإلا وُجدوا يخبطون خبط عشواء في ما هم يفعلون.
ليس للإنسان أن يختار ما هو نافع له من تلقاء نفسه. عليه أن يتعلّم كيف يقرأ في كتاب الله، من خلال ما جريات أموره وسير حياته. الله يعرف ما الموافق للإنسان، الإنسان لا يعرف. الإنسان قصير النظر، الله بعيد النظر.
الإنسان يهتم بشفاء جسده، إذا كان مريضاً، الله يهتم له بشفاء النفس والجسد معاً.
الإنسان غالباً ما يهتم بأمور هذا الدهر، الله يهتم بخلاص الإنسان، يريده أن يُشفى كيانُه، يريد أن تكون له الحياة الأبدية. حكمة الله غير حكمتنا وطرقه، تالياً، غير طرقنا.
فقط بالإيمان يقتني الإنسان حكمة الله، ويُخضع مشيئته لمشيئة الله.
فإن لم يفعل فليس لأن الله يود أن يحرمه الحياة على الأرض. لا يشاء الرب الإله أن يأخذ أحداً من ههنا إلا بعد أن يكون قد عاين، في قلبه، كسمعان الشيخ، مسيح الرب.
أما الذين يموتون قصراً وقهراً فليس موتهم من الله بل من عنادهم وإصرارهم على أن تسري الأمور كما يرومون وإلا يحزنون وييأسون ويرتحلون ولمّا يطالعوا وجه السيّد في حياتهم. الحاجة إلى واحد.
والواحد نبلغه بالإيمان، بالثقة بالله، بالتسليم.
بغير ذلك نعيش في الظلمة ونموت في الظلمة!
أو لعلّ السيد يخلّصنا، أو بعضاً منا، بالمعاناة...في الساعة الأخيرة!