إِلَيَّ اْلتَفِتْ واْرحَمْني فإِنَي وَحيدٌ بائِس ( مز 25 /16)
الصلاة بين الصراخ و التمجيد - وخرّ عند قدمي يسوع شاكراً - المطران بولس
الصلاة بين الصراخ والتمجيد
وخرّ عند قدمي يسوع شاكراً
المطران بولس المطران حلب
يُروى أنّهم وجدوا كتابة قديمة في أحد الدياميس، كتبها أحد المسيحيّين في الكنيسة الأولى وتقول:
"أشكرك يا ربّ لأنّك لم تستجب لي"!!!
والسؤال هو، ما الذي دفع هذا المسيحيّ لمثل هذه الصلاة الغريبة؟ لا بدّ أنّها إحدى حالتين.
* الأولى أنّه اكتشف فيما بعد أن طلبه الذي لم يتحقّق لم يكنْ في صالحه، لأنّه لم يكن يعلم آنذاك ما هو صالحه. والآن بعد مرور الزمن ظهر أن الصمتَ الإلهيّ على ذلك الطلب كان دراية بمصلحة هذا الإنسان وعناية به وليس هجراناً وتغاضياً.
* أو بالحالة الثانية، أنّه كانت لهذا المسيحيّ درجة من الإيمان بعناية الله وصلاحها وبمحبّة سيده لدرجة، يعرف فيها أن الصمت الإلهيّ أو التلبية في حالتيهما هما الإجابة الإلهيّة الصالحة والموافقة للإنسان.
وأن الطلب يعقبه الشكر عليه قبل الإجابة، بغضِّ النظر عن نوعها. الإجابة الإلهيّة هي صالحُنا بغضِّ النظر عن مقدار وكيفية إدراكنا لها. وتتكرر هذه الحالة في حادثة الأبرص العاشر، ففي النصّ الإنجيلي مشهدان:
الأوّل هو مشهد صرخة قلبية متألمة متضرعة، بأجمل العبارات، التي أحبها الأدبُ المسيحيّ وتبنّاها الرهبان والعلمانيون كصلاة دائمة "يا يسوع ابن داؤود ارحمنا".
والمشهد الثاني هو العبد السامري الذي عاد وشكر، عند هذا المشهد توقف يسوع وأشاد به.
تكون الصرخة الصلاة من القلب، وكما يقول القدّيس مكسيموس المعترف، لسببَين:
السبب الأوّل هو الشعور بتردّي الوضع البشريّ، أي الملل من ذلك الوضع الذي يضيِّق على الإنسان. وفي حالتنا هنا في النصّ، كان وضع البَرَص مؤلماً جداً. فالأبرص عند اليهود ملعون، ومعزول، ومطرود من المجتمع ولا يُتعامل معه ومحروم من المحبّة.
وبَرَصُهُ هذا كان دليلَ خطيئته. فهو إلى جانب وضعه الجسدي المتردي كان يعاني من وضعه الإنسانـيّ والاجتماعيّ المتردي أيضاً. وإذا كان مرض البرص شكلاً من أشكال تردي الوضع البشريّ، فإن أي ظرف آخر لا يقل عن البرص حرجاً وألماً ينـزع من داخلنا صرخة قوية "يا يسوع ارحمني".
البرص الروحي، الخطايا الشخصيّة، الآلام الداخلية والنتانة الحقيقيّة، هذه كلّها البرص الحقيقيّ، أعمال الظلمة هي التي تفتك دائماً بكثير من الناس.
وهذا البرص الخفي إذا ما عاينه الإنسان في ذاته هو كافٍ ليدفعنا إلى تضرعٍ قلبيٍّ وصلاة حارة.
إن معاينة الذات تدفع فينا الرغبة الشديدة لتجديد هذه الذات، وتدفعنا إلى الطلب بحرارة. ولكن من أين لنا أن نعرف ذواتنا، دون الهدوء ومراجعة الحسابات ومراقبة النفس والتصرّفات؟ وذلك كلّه على ضوء وصايا الإنجيل ونموذج حياة القدّيسين، بالإضافة إلى المطالعات الروحيّة الدائمة والاعتراف المتواتر!
فهذه كلّها إذن يجب أن تسبق الصلاة لتكون هذه الأخيرة صادقة وصارخة
أما السبب الآخر للصلاة الحارة فهو إدراك مقدار العطاء وحجم المحبّة الإلهيّة، كما نجده في المشهد الثاني، لذلك السامري الذي عاد وشكر، فهو ما يلفت انتباهنا ويستحق منا التأمل به.
غالباً ما نتوجّه إلى الله مرّات عديدة متضرّعين وسائلين، وعندما ننال سؤالنا، كما حصل مع التسعة البرص السابق ذكرهم، عندما نحظى بما نريد، لا نعود إلى الله شاكرين.
يجب ألا تكون "الحاجة" هي المسألة بيننا وبين الله كهدف وغاية.
عندما يحتاج الابن يطلب ولكن تلبية هذا الطلب هي مجرّد "علامة" على عناية الأب بابنه.
الله أب يقدّم ويستجيب لا لتلبية الحاجات وحسب، وإنّما للفت انتباه ابنه الإنسان إلى حبه وعنايته.
كلّ ظرف بالحياة، من ضيق أو ألم أو احتياج أو فقر أو عوز، هو فرصة توجهنا إلى الله بصرخة قلبية وبصلاة طلب، لكن يجب أن تصير بعدها سبباً "للقاء" مع العناية الإلهيّة ولشكر الربّ.
فصلاة الطلب أي الصراخ القلبي يجب أن تقودنا إلى صرخة التمجيد والشكر. لا يمكننا أن نفهم الله كخادم لطلباتنا، بل كمعتن بنا. كلّ طلب يستجاب هو إشارة على تدخل الله في حياتنا وسبب لكي نحوّل صلاتنا إلى الشكر.
ظروف الحياة ليست مستقلة بحد ذاتها كغايات، وإنّما هي ظروف نتعامل فيها مع الله فنكتشف حبه وعنايته بنا. صرخة التوجع حين تُستجاب إما بتحقيقها أو بالصمت يجب أن تنقلب إلى تَسبحة. المسألة ليست حلاً لمشاكل أو حاجات.
إنّما المسألة هي أن نسير مع الله وأن يسير هو معنا، أنّه عمانوئيل الذي جاء يحمل معنا وعنا أتعابنا. الصلاة الحقيقيّة هي تلك التي تبدأ بالطلب وتنتهي بالتمجيد، وبالعكس كلّ صلاة هي مزيفة إذا لم تنته بالشكر والتسبيح.
تبدأ صلاتنا بطلبات إلى الله الذي نتكلّ عليه ويجب أن تنتهي بتسبحة الشكر لله الذي نكتشفه بعنايته أباً وراعياً. نبدأ إذن طالبين أموراً لحياتنا، فنجد ونلتقي حياتنا، التي هي "هو". نبدأ كالتسعة وننتهي كالعاشر. صلواتنا وطلباتنا طريق لمعرفة الله وللقياه والحياة به.