و سَيِّدُ الجميع لا يَتَراجعُ أَمامَ أَحَد ولا يَهابُ العَظَمَة لأَنَّ الصَّغير و الكَبير هو صَنَعَهما وهو يَعتَني بِالجَميعِ على السَّواء (حك 6 /7)
في ذكرى ختانة السيد المسيح , وتذكار القديس باسيليوس الكبير + رأس السنة الجديدة .المطران الياس عودة
في ذكرى ختانة السيد المسيح،
وتذكار القديس باسيليوس الكبير ورأس السنة الجديدة
المطران الياس عودة
اليوم السيد يختتن بالجسد كطفل، متمما الشريعة.
لقد قال الله لابرهيم :
"واما انت فتحفظ عهدي. انت ونسلك من بعدك في اجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية ايام يختن منكم كل ذكر في اجيالكم: وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك... فيكون عندي في لحمكم عهدا ابديا"
(تك 9:17 - 13).
الختان علامة طاعة لله في كل شيء، وعلامة انتماء الى الشعب الذي قطع عهدا مع الله، ورمز لقطع الحياة القديمة، حياة الخطيئة، وتطهير قلب الانسان لله والتكريس الكلي له.
الختان علامة للعهد بين الله وابرهيم وكل بني اسرائيل. هو علامة خارجية لهم بانهم شعب الله. وعدم الختان يعني عدم الانتماء الى الله والابتعاد عن بركاته وطاعته.
هذا كان في العهد القديم. اما في العهد الجديد، فالعهد حصل بتجسد ابن الله "لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة بل الايمان العامل بالمحبة" (غلا 5: 6).
لا حاجة بعد الى ختان الجسد، لأننا حصلنا على ختان القلب. الختان هذا ليس خارجيا، بل داخلي وليس مصنوعا بالأيدي بل بالروح القدس. "ختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان، الذي مدحه ليس من الناس بل من الله" (رو 2: 29)
ولا يكون بقطع جزء من اللحم بل بقطع الجسد كله، جسد الخطيئة، والعملية ليست بآلة حادة، بل بمياه المعمودية التي فيها تمات الخطيئة ونحيا لله بيسوع المسيح، لاننا "كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما اقيم المسيح من الاموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن ايضا في جدة الحياة" (رو6: 3-4).
المسيح حمل هو نفسه خطايانا في جسده وسمرها على الخشبة لكي نموت نحن عن خطايانا فنحيا للبر (1 بط 2: 24).
موت الرب على الصليب كان بمثابة ختانة لخطايانا التي حملها. المعمودية اصبحت موتا للخطيئة، للانسان القديم، وطاعة مطلقة لمشيئة الله بالنسبة الى الانسان الجديد. صار الانسان بالمعمودية ملتزما ان يحيا حياة جديدة جوهرها الطاعة لله.
هذا الالتزام هو العهد الذي قطعناه مع الله عندما لبسناه:
"انتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم".
اذاً نحن ملتزمون الطاعة لله في المحبة. هذا هو العهد الذي قطعناه عل انفسنا. وهذا الالتزام يمتد ليكون مع النفس ومع الآخرين.
قد يقطع الانسان عهدا مع نفسه، يلتزمه ويعمل بمقتضاه، كأن يسلك في الفضيلة او يقلع عن عادة سيئة او يتم دراسة ما او ينهي اختصاصا... والانسان الجدي يحاسب نفسه.
وعند كل منعطف من حياته يتوقف متأملا في ما انجزه وما بقي عليه ان ينجزه، اي يقيم ما قام به، وهل كان على قدر التزامه، وهل هو راض عن نفسه، ام خذلها وتعثر ولم يتم ما تعهد به تجاه ذاته.
الحياة مليئة بالعثرات، والانسان الخلوق الصادق الذي يفي التزاماته قد يواجه المصاعب، وقد يفشل ويسقط. لكن المهم ان ينهض ويتابع المسيرة ويتعلم من التجارب لكي يحمي نفسه مما قد يعترضه في المستقبل.
وعليه بخاصة الا يتأثر بالانتقادات التي قد يكون سببها الحسد والغيرة وغايتها ثنيه عن هدفه، لان فاعلي الخير في هذه الايام قلة، والشر هو الراعي الاول للنفوس الضعيفة، وهي كثيرة.
قد يقطع الانسان ايضا عهدا مع الانسان الآخر. والتزام العهد هنا قد يكون اصعب، لانه متعلق بشخصين، لا بالفرد مع نفسه. الصداقة عهد بين انسانين، والزواج عهد واتحاد بين شخصين، والعمل والعقود التي قد تنتج عنه ايضا التزامات بين اشخاص عليهم ان يكونوا امناء لانفسهم اولا وللآخر او الآخرين الذين يعملون معهم ايضا، لان من لا يحترم نفسه، لا يحترم الآخر.
ومن لا يفي بعهد قطعه مع نفسه، كيف يكون وفيا لالتزاماته مع الآخرين؟ ان الامين على القليل هو بالتأكيد امين على الكثير، ومن لا يأبه لما يخصه لن يهتم بما يخص غيره. ومن لا يحب اخاه بالجسد لن يحب من هو غريب عنه وبعيد.
الالتزام تجاه الآخر لا يكون جديا وحقيقيا ان لم يكن صادرا عن انسان معروف باخلاقه الرفيعة واحترامه للقيم والاعراف والقوانين والتقاليد وكل ما يجعل من النفس البشرية نفسا وديعة هادئة اجتماعية تقبل الآخر وتحترم فرديته، او بالاحرى فرادته، رغم اختلافه عنها.
في القديم كانت الكلمة وحدها عهدا بين شخصين، وكانت كافية لكي يلتزم الانسان ما تفوه به ويعتبره دينا عليه، كما كانت كافية ليصدق الآخر ما قاله الاول ويعتمد عليه.
"وعد الحر دين". اين نحن من كل هذا في مجتمعنا ونحن نسمع الكلام الفارغ والوعود العرقوبية والاستهانة بالانسان كقيمة فكيف بالكلمة؟
الانسان في لبنان فقد طعم السعادة لانه اصبح يرى نفسه في مستنقع بشري لا يربط الواحد فيه بالآخر سوى المصلحة.
لذلك لم يعد للعهود معنى، ولا للكلام جدوى، ولم يعد احد يصدق احدا.
الصديق يخون صديقه، والزوج زوجته، والزوجة زوجها، والابن اهله، والمواطن وطنه، والمسؤول من اوصله الى المسؤولية.
لقد قرب زمن الانتخابات، والوعود على الابواب. رجائي ان يتأمل كل من يطمح الى النيابة في كل كلمة يتفوه بها او وعد يقطعه لناخبيه.
واذا لم يكن قادرا على تطبيق وعوده والوفاء بالتزاماته، فليختر ما هو قادر عليه، لان احترامه في النفوس يترسخ عندما يكون صادقا وامينا.
رجائي ايضا ان يكون كل طامح لوظيفة عامة او لمركز قيادي حرا مع نفسه، صادقا مع نفسه ووطنه ومجتمعه، لان وطننا لم يعد قادرا على النزف اكثر وعلى تحمل الاهدار والاتهامات المتبادلة التي يتراشق بها القيمون على مقدرات هذه البلاد.
وليقل كل واحد لنفسه ان لم يكن اخي بخير فانا لست بخير. والوطن ليس بخير.
وان افتقر بعض المجتمع، يفتقر الوطن باسره، وان ساء وضع البعض، يسوء وضع الجميع. وليهبوا جميعا الى معالجة اي مشكلة في الوقت المناسب، لكي لا تصبح معضلة. المزايدات الكلامية التي نسمعها يجب ان تتحول مزايدات فعلية، اي ليتسابقوا على العمل، وليتفاخروا بالافعال والانجازات والساعات الطوال التي يقضونها في العمل، لا في الكلام. الحياة قصيرة ولا احد يعرف متى تأتي ساعته. لذلك على كل منا ان يعي قيمة الوقت، فلا يهدره بل يستعمله لما فيه خيره وخير وطنه، ويملأه بالوعود الصادقة والالتزامات القابلة للتنفيذ، وليكن شعاره الصدق، ولا شيء سواه.
سؤال لا يفارق ذهني في كل الاوقات اود ان اطرحه على كل من يسمع: هل يعي الانسان انه سيموت؟ لو كان الانسان يفكر في الحقيقة لما اقترف ذنبا ولا اخل بوعد او بعهد، ولما اذى اخاه الانسان او اساء الى نفسه وجسده ووطنه وشرفه وكرامته.
ولو كان الانسان يفكر في هذه الحقيقة التي لا شك فيها، لما شن الحروب وقتل ودمر وعاث خرابا، وما حقد وخان وتفاخر بنفسه وانقض على اخيه كالوحش الكاسر.
هذا ما نشهده اليوم في غزة الشهيدة، حيث اشلاء الاطفال ودماؤهم تستصرخ الضمائر، ان كان هناك ضمائر، وصيحات الهائمين على وجوههم تستنجد بالعالمين سائلة ماذا يحصل، وما من جواب الا انفجارات القذائف والقنابل واحمرار النار القاتم وسواد الدخان.
يعلمون ان هناك وحشا ضاريا يطاردهم ويطارد اهلهم والبيوت، ولا يسمعون بين فينة واخرى الا خطابا من هنا وكلاما من هناك وهياجا هنالك.
يتأكدون ان الذين هم من جلدتهم وعرقهم هم ظاهرة كلامية، وكما قال احد ابنائنا الكبار "يتقنون الحفلات التأبينية للشهداء والتظاهرات "الشارعية" ويحولونها نهجا سياسيا من غير ان يدركوا انها لا تبني الاوطان ولا تصد العدوان".
اما نحن، فنرفع الصلاة الى من هو قادر وحده على انقاذ هذا الشعب المسحوق من هذا العدوان البربري والمجازر، وعلى رفع هذه اليد الظالمة الغاشمة عنه.
نسأله ان يرمي في قلوب جميع اخوتنا الفلسطينيين المحبة التي تتجاوز كل فعل او قول يفرق بينهم، وان يمنحهم الحكمة التي لا تدع الخلافات التي لا توازي الوحدة في الوجود تعوق المحبة.
عند هذا المفترق من حياتنا، وفي بداية هذه السنة التي اتمناها سلامية وخيرة، ليسأل كل منا نفسك ماذا سيقول لربه العادل عندما سيمثل امام مجده؟ بم سيجيبه ان سأله ماذا فعلت بحياتك؟ وهل كنت امينا لعهودك مع نفسك واخوتك ووطنك ومعي؟ هل كنت صادقا في كل ما فعلت؟
القديسون يعلموننا ان الحياة كلها لا تكفي لكي يذرف الانسان الدموع تكفيرا عن خطاياه.
فكيف اذا مضى منها ما مضى"؟