أَكَلتُ الرَّمادَ مِثلَ الخُبْزِ و مَزَجتُ بِالدُّموعِ شَرابى (مز 102 /10)
لكي تتجدّد الأرض ! - الأرشمندريت توما بيطار
لكي تتجدّد الأرض !
قدس الأرشمندريت توما (بيطار)
فيما تفسد، اليوم، الأرض وتنحلّ نفوس الناس بسرعة فائقة نتطلّع إلى مصدر آخر للطاقة يقينا حالة الضمور التي يؤول مصيرنا إليها.
أعظم قوّة في الكون كانت ولا زالت قوّة الصلاة. إذا كانت "طلبة البارّ تقتدر كثيراً في فعلها"، فـ "كلّ شيء مستطاع للمؤمن". لذا ليس شيء مستحيلاً على المؤمن المصلّي.
الصلاة هي النعمة التي أعطاها الربّ الإله للإنسان حتى يكون، أولاً، على صلة به، ثمّ حتى يكون، بالله، سيّداً على الخليقة مجدِّداً لها. لا يسود الإنسان على العالم بالعقل - هذا تزوير للتاريخ - بل بالصلاة.
سيادة العقل من الخطيئة وهي قهّارة تملّكيّة تُفكّك العالم فيما سيادة الصلاة من الله وهي محبّيّة خدماتيّة لا تطلب ما لنفسها بل مَن وما تسود عليه، لذا تحفظ تماسك العالم وتنميه وتجدّده.
بالمناسبة، المؤمن المصلّي لا يطلب ما لنفسه، لا يطلب شيئاً. فقط يطلب ملكوت السموات، أي يطلب أن يقيم فيه روح الله.
إذا كان جائعاً لا يطلب طعاماً، وإذا كان مريضاً لا يطلب صحّة، وإذا كان فقيراً لا يطلب غنى. يطلب ما يساعده على اقتناء روح الربّ. يطلب صبراً. يطلب أن يعلّمه الربّ الإله كيف يعمل رضاه.
يطلب كلّ فضيلة لأنّه ليست فضيلة إلاّ بالله. أما حاجاتنا، في هذا الدهر، فتُعطى لنا بلا سؤال، تعطى لنا مجّاناً، زيادة، إذا ما طلبنا ملكوت السموات أولاً.
لذا القدّيسون، بعض القدّيسين، كان يطعم الجياع لكنّه كان يبقى جائعاً. وكم من قدّيس كان مريضاً لكنّه كان يشفي المرضى. الفكرة هي أنّ الإنسان بالإيمان والمحبّة يطعم الإنسان ويشفي الإنسان ويرى لحاجات أخيه الإنسان، أما هو فالله يطعمه، إذا كان ذلك مفيداً له، بطرق هو يعرفها، ويشفيه أيضاً ويرى لحاجاته.
الله روح. لذا القدّيس أو المؤمن أو الإنسان الروحيّ، كلّ شيء لديه مركّز على ما ينفع القلب، على ما ينعش الروح، على ما ينمي الكيان وفق القول السيّدي:
"اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبديّة الذي يعطيكم ابن الإنسان لأنّ هذا الله الآب قد ختمه" (يو 6: 27). لذا الهمّ الأساسي للإنسان أن ينمو فيما لروح الربّ. كلّ ما عدا ذلك يأتي في أوانه وبالكمّ اللازم وفق ما يرى الربّ الإله مناسباً.
قدّيسو الله يعتبرونه فعلَ عدم إيمان بالله ومسيئاً لهم أن يطلبوا شيئاً مما أُعطي لهم قبل الطلب ومن دون طلب.
إذاً لا يسود الإنسان على العالم بالعقل بل بالصلاة لأنّ القول السيّدي هو هذا: "رؤساء الأمم يسودونهم وعظماؤهم يتسلّطون عليهم، أما أنتم فلا يكن فيكم هكذا بل... مَن أراد أن يكون فيكم سيّداً فليكن لكم عبداً" (مت 20: 25 ? 27).
و "لم يأت ابن الإنسان ليُخدَم بل ليَخدم" (مت 20: 28).
سيادة العقل بديل عن سيادة الروح وهي تتأتّى من ظلمة النفس، لذا كانت نتاجَ السقوط من قربى الله.
العقل، في محضر النعمة، يندرج في خدمتها، فإذا ما انحرم الإنسان من النعمة عمل العقل من دونها فكان أداة خطيئة وتفكّك وانحلال.
ليس شيء مستحيلاً على الصلاة. يشوع بن نون أوقف الشمس في كبد السماء. وبطرس أقام من الموت طابيثا اليافيّة. ويوحنّا الديلمي نقل الدير من أعلى الجبل وجعله بقرب النهر من غير أن ينتقص منه شيء.
بصلاة بائيسيوس الكبير أُخرجت نفس إنسان زان من الجحيم.
إبراهيم اللصّ صار بارّاً.
ومريم، فاجرة الإسكندرية، صارت معلّمة للعفّة.
وبطرس البخيل صار رحيماً.
الصلاة تغيِّر الدنيا وتغيِّر قلوب الناس.
لا فقط الأبرار والقدّيسون تفعل الصلاة بهم. لهؤلاء دالة عند الله؟ بلا شكّ! ولكن ليس وحدهم.
كلّ قلب يتوب ويتغيَّر، ولو في لحظة، له دالة عند الله. في سيرة القدّيس ثيودوروس الرهّاوي أنّ أمّاً، في حرقة قلبها، حملت وليدها، وهو بين حيّ وميت، وأخذت تجول سائلة مَن تلتقيه الصلاةَ من أجله.
فلما بلغت زانيةً تسبّبت في هلاك الكثيرين طرحته في حضنها عن غير وعي منها وألحّت عليها أن تسأل الله في شفائه. فانذهلت الزانية وصدمتها المفاجأة. وبعد تردّد وارتباك، عادت إلى نفسها وشعرت بكثرة خطاياها وانعدام دالتها عند الله فحطّت الطفل أرضاً وسجدت مقابله وصلّت بما جعله الربّ الإله في قلبها، فعادت روح الصبيّ إليه.
ليس برّ الإنسان ما يجعل الصلاة فاعلة وقوّية بل شعوره العميق بانعدام برّه ودالته وكثرة خطاياه وعدميّته. عجيب الله في قدّيسيه! لا يحتاج الإنسان إلى أعمال صالحة ليصير قدّيساً.
يحتاج إلى توبة من القلب. والأعمال تتبع. هو الله الفاعل فينا، في كلّ حال، أن نريد وأن نعمل من أجل المسرّة. إنما الحاجة من جهتنا هي إلى معرفة أنفسنا على حقيقتها.
وراء كل خطيئةٍ كبرياء. والكبرياء هي أن يحسب المرء نفسه كبيراً وهو صغير، شريفاً وهو حقير، شيئاً وهو لا شيء.
الكبرياء، في نهاية المطاف، وهمٌ نتعاطاه كأنّه الحقيقة وحقيقة نتعاطاها كأنّها الوهم.
لكي تُزال الخطيئة، أي لكي لا يعود هناك فاصل بيننا وبين الله، نحتاج إلى التواضع أي إلى ما هو عكس الكبرياء.
التواضع يجعلنا واقعيّين. نرى أنفسنا على حقيقتها. نعرف ذواتنا. فلأنّ المرء، في هذه الحال، يرى ما في نفسه ولا يرى ما في نفوس الآخرين فإنّه يجعل نفسه دون الآخرين ويرى الآخرين خيراً منه.
لهذا قال الرسول بولس إنّ المسيح جاء ليخلّص الخطأة "الذين أنا أوّلهم" على حدّ تعبيره. هذا ما يقوله مَن يعرف نفسه كما هي. الخطيئة تفكّك النفس والعالم.
الخطيئة شيء ثقيل وغريب ولا أثقل ولا أغرب على الإنسان، فإن صحا ووعى وعرف نفسه استبانت الخطيئة على حقيقتها في عينه الداخليّة عبئاً ووجعاً ليس مثله عبء ولا وجع، وإن لم يصحُ ولم يعِ ولم يعرف نفسه استبانت الخطيئة في حسّه الضامر خفيفة كأنّه من الطبيعة ومن الله.
هكذا خاطب الربّ الإله إسرائيل الآثمة: "ارجعي أيّتها العاصية... لا أوقع غضبي بكم لأنّي رؤوف... اعرفي فقط إثمك أنّك إلى الربّ إلهك أذنبت" (إرميا 3).
فإن عاد المرء إلى نفسه، وتالياً إلى ربّه، ونبذ الخطيئة من إرادته، من قلبه، فإنّ نعمة الله تجدِّده، تجعله ملِكاً على نفسه وتالياً على الخليقة بأسرها.
لا تلحّ الخطيئة علينا ولا تستأسرنا ما لم نستحلِها، ما لم يكن لها مطرح فينا، ما لم نُردْها. فإن أقصيناها من إرادتنا، إن كرهناها فإنّها لا تقوى علينا بعدُ.
نحن لا نملك غير إرادة بإزاء الخطيئة. لا يمكننا أن نقاومها متى اعتدنا عليها. فقط إن قرّرنا وأصررنا على رفضها تنزل علينا نعمة الله لتؤازرنا وتشدّدنا وتجدّدنا.
وعلى هذا النحو نقوى بإرادتنا وقوّة الله على الخطيئة مهما كانت الخطيئة والفساد متحكّمَين بنا.
ومَن يقوى على نفسه، بنعمة الله، هذا يقوى على كلّ ما في العالم. لا شيء بعد ذلك يستأسره، وإن صرخ إلى الربّ الإله أجابه. يصير ابناً للعليّ. هذا ما حقّقه يسوع وختمه ومدّه للذين يؤمنون به ويحبّونه لما قال:
"إنّ كلّ ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم. إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً" (يو 16: 23 ? 24).
خلق الربّ الإله الإنسان ملِكاً وسيِّداً على الخليقة، فلما بَعُدَ عنه بالخطيئة فقدَ الملوكيّة وصار عبداً لأهوائه وتالياً تحت سلطان إبليس. فلما أطلقه يسوع في الحرّيّة من جديد، بالتوبة والإيمان به، عاد ملِكاً وسيِّداً على نفسه وتالياً على الخليقة بالحبّ الكبير والصلاة.
كلّ شيء صار مستطاعاً له لأنّ كلّ شيء مستطاع للمؤمن.
"ويكون أنّي قبلما يدعون"،
يقول الربّ، "أنا أُجيب وفيما هم يتكلّمون بعد أنا أسمع" (إش 65: 24).
فإن منتظِري الربّ يُجدِّدون قوّة ويرفعون أجنحةً كالنسور ويمشون ولا يعيُون (إش 40: 31).