1هَلِّلويا! سَبِّحوا اللهَ في قُدسِه سَبِّحوه في جَلَدِ عِزَّته (مز 150 /1)
الكنز السماوي للأرشمندريت توما بيطار
الكنز السماوي
للأرشمندريت توما(بيطار)
"لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض... بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء" (مت 6). أذاً هناك كنز أرضي وهناك كنز سماوي. الكنز الأرضي يتمحور في المال والكنز السماوي في ملكوت الله.
الأوّل ندّخره لأنفسنا والثاني غنًى لله. هذا يُحفظ لنا وذاك يؤخذ منّا. ما لله يبقى وما لأنفسنا يفسد. إن يقتنِ أحد لله يكن حكيماً وإن يقتنِ ما لنفسه يكن غبيّاً.
الغنيّ الذي أخصبت كورته وخطرت بباله أفكار تنعّم قال له الله: "يا غبيّ هذه الليلة تُطلب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمَن تكون" (لو 12)؟ هذا إذ اكتنز خيرات أرضيّة واكتفى بها قيل عنه إنّه كَنَزَ لنفسه ولم يكن غنيّاً لله. أحبّ الجمع لذا اقتنى ما لنفسه.
هذا هو الغباء، بعين الله، أن يجمع المرء ما لنفسه. فإذا ما كان هذا هو الغباء فالحكمة هي أن يجمع المرء لله، أن يكون غنيّاً بما لله، أي أن يبدّد بدل أن يجمع، وعلى المساكين بدلاً من نفسه.
لذا قال مرنّم المزامير: "بدّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد وقرنه يرتفع بالمجد"
الكنز عند الله، إذاً، هو الصدقة بمعناها الواسع. هذه نتعاطاها ههنا على الأرض لكنّها تُوظَّف لنا، هنا، نِعماً وبركات، وهناك، في السماء، مجداً وحياة أبديّة.
"الصدقة هي التعبير العملي عن الوصيّة الثانية العظمى بعد الوصيّة الأولى التي هي:
"أحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك...".
الوصيّة الثانية هي: "أحبّ قريبك كنفسك".
حدود الصدقة، إذاً، محبّة القريب كالنفس. في العهد القديم كانت الممارسة التعشير.
في العهد الجديد الكلّ مدعوّ إلى الكمال. "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ هو كامل" (مت 5). لذا صارت حدود الممارسة الشركة الكاملة في خيرات الأرض. ما هو لي هو لي ولك. ليس عندي شيء من خيرات الأرض لا نصيب لك فيه.
لما جُعل كلّ شيء في الكنيسة الأولى مشتركاً (أع 2)، حُدِّد معيار محبّة القريب كالنفس في الكنيسة مرّة وإلى الأبد. ولما قال الربّ للشاب الغنيّ: "إذا أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني" (مت 19)،
حدّد الكمال سقفاً هو الفقر الطوعي والاعتماد الكلّي على الله في قضاء حاجاتنا على الأرض، وهو القائل بالمزمور: "أعين الكلّ إيّاك تترجّى وأنت تعطيهم طعامهم في حينه" (144).
لكنّ الربّ جعل الأمر اختياريّاً: "إذا أردت...". إذاً أن تفتقر أو أن تبقى ممسِكاً بما طالته يدُك، هذا رهن بك.
بإمكانك أن تفتقر دفعة واحدة، أي أن تتخلّى بالكامل عمّا لديك وتُلقي اعتمادك على ربّك بالكليّة، وبإمكانك أن تحتفظ بما عندك لتقضي حاجاتك الذاتيّة اللازمة وتنفق على المحتاج في حينه مدركاً أنّ المساكين شركاء في ما لديك في كلّ حال.
هذا إن استعطت أن تحتفظ بما اجتمع عندك وتبقى منفتحاً على المحتاجين بالكامل.
إذا كان الافتقار الطوعي دفعة واحدة صعباً فالتزام موقف الفقر الكامل في القلب أصعب. طالما المال بين يديك فتجربة الطمع عليك قاسية ولا أقسى.
ما تميل إليه في أكثر الأحيان، والحال هذه، هو أن تعتبر ما لك لك أنت وحدك وأن يقتصر عطاؤك، إن أعطيت، على ما تحدّده أنت وفق معاييرك الخاصة.
وهذا يخرجك، حتماً، من إطار الوصيّة الثانية فلا يعود بإمكانك عملياً، أن تحبّ قريبك كنفسك.
تبدي بإزائه بعض المشاعر الإنسانيّة فيما تأبى في داخلك أن تعتبره شريكاً في ما لديك. محبّتك لقريبك، إذ ذاك، لا تعود محبّة في المدى الإلهي بل بعض انعطاف في المدى الإنسانوي.
هذا في أحسن الحالات. محبّة القريب، في المنطوق الإلهي، لا يمكنها أن تكون إلاّ "كالنفس".
وإذا ما سقطتْ محبّة القريب كالنفس في مستوى الصدقة والعطاء وشركة الخيرات الأرضيّة فإنّه يتعذّر إيجادها في أي مستوى آخر من مستويات العلاقات بين الناس. المال هو المحك القاعدي للشركة بين المؤمنين أو لا تكون.
"وإن سقطتْ وصيّة محبّة القريب كالنفس فالوصيّة الأولى: "أحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قدرتك" ساقطة لا محالة، لأن مَن قال إنّه يحبّ الله الذي لا يراه وهو لا يحبّ قريبه الذي يراه كنفسه فهو كاذب وليس الحقّ فيه.
الكلام عن محبّتنا لله، إن كنّا لا نحبّ قريبنا كأنفسنا، هو محبّة بالكلام واللسان والوصيّة هي: "لا نحبّ بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحقّ" (1 يو 3).
"الصدقة الكاملة، إذاً، هي علامة محبّتنا لله. وهي، أي الصدقة، غير ممكن تحقيقها بشريّاً لأنّ البشريّة ساقطة، كلاً منّا ساقط في محبّته لذاته. الصدقة هي من محبّة بعضنا للبعض الآخر، وهذه هبة من الله.
نحن نحبّ الإخوة بالمحبّة التي نحبّ الله بها وبالأولى بالمحبّة التي أحبّنا الله بها لأنّ القول الإلهي هو هذا: "نحن نحبّ [الله] لأنّه هو أحبّنا أولاً" (1 يو 4).
لذا كانت الصدقة ترجمة لمحبّتنا لله بالمحبّة التي أحبّنا الله بها. الوصيّة الثانية تنبع من الأولى وهي نتيجة لها وثمرة من ثمارها. هذا يجعل رباطاً حتمياً بين علاقتنا بالإخوة وعلاقتنا بالله بدءاً.
قلنا، فيما سبق أعلاه، إنّ الربّ قال للشاب الغنيّ في شأن الكمال أن يبيع كلّ ما له ويوزّعه على الفقراء، ثمّ يأتي ليتبعه. الحقيقة إنّ المرء يتبع الله بأمرَين: بالاتكال الكامل عليه وبالصلاة أي بالإيمان، بالتسليم، وبالعبادة.
بهذين تتولّد الصدقة وبالصدقة نتعاطى الإيمان والعبادة بالعمل والحقّ. فإذا لم نتعاطَ الصدقة بمعناها الكامل والعميق فإيماننا كلام في الهواء، تمنيات جوفاء، وصلاتنا ظنون ونفسانيّات.
وفي آن معاً إذا لم نتعاطَ الإيمان الحقّ والطِلبة من القلب فالصدقة لا يمكن أن تأتي.
الصدقة تدعم الإيمان والصلاة والإيمان والصلاة يؤولان إلى صدقة لأنّ "طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها" (يع 5).
أما الصلاة فإنّها ولو أثمرت صدقة فإنّها لا تنحدّ بها. الصدقة ليست غاية الصلاة. فقط علامة وجودها وأصالتها. مدى الصلاة أبعد، بما لا يقاس، من الصدقة.
غاية الصلاة أن نصير في الله والله فينا. الله هو الغاية. "واحدة سألت الربّ وإيّاها ألتمس أن أسكن في بيت الربّ جميع أيّام حياتي لكي أعاين بهاء الربّ وأتبصّر هيكله" (مز 26).
ما نلتمسه المعاينة. لذا القصد، في نهاية المطاف، من الصدقة أن نتخطّى ذواتنا والناس إلى وجه الله. "وجهك يا ربّ أنا ألتمس". هكذا تكون الصدقة على الأرض قد ادّخرت لنا كنزاً في السماء لا بمعنى الأجر لأنّنا لم نُدعَ لنكون أجراء بل أهل بيت الله.
كنزنا فوق هو نور الله، هو حياة الله فينا، هو أن نصير من معدن الله، أن نتروحن، أن نتقدّس، أن نتألّه. فالمجد لله الذي أعطانا بالفقر بالأرضيات، عن محبّة لله، أن نقتني غنى السماويات، وبالصدقة بين الناس أن نؤهَّل لصداقة العريس (يو 3: 29) في ملكوت السماوات.