ومَن لم يَحمِلْ صَليَبهُ و يَتبَعني لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً (لو 14 /27)
وستعرفون الحق و الحق يحرركم الفصل(8) تجسّد يسوع
وستعرفون الحق والحق يحرركم
الفصل الثامن: تجسّد يسوع
أتى ملاكٌ اسمه جبراييل وبشّر العذراء مريم بالحبل بربّنا يسوع المسيح ابن الله ابن العليّ، فبعد حوارٍ معه قبلت بالعرض وحبِلتْ بالرب يسوع المسيح، وأعلمها بأنه سيكون جالساً على عرش داوود ابيه ويملك على بيت يعقوب الى الأبد وستسمّيه يسوع طبعاً.
هذا التجسد الإلهي هو الحدث الذي يفوق كل عقل بما فيه عقول الملائكة. كيف يصير الإله انساناً؟
هذا السرّ المدوخ للعقول. وكان إذاً لا بد من تهيئة تاريخية واسعة كالتهيئة التي نراها في العهد القديم لظهور هذا السرّ الإلهي العظيم، ومع ذلك أحدث هذا السر خلافات تستمر منذ حوالي ألفي سنة.
الله له المجد في تعليم يسوع المسيح هو الثالوث: الآب والابن والروح القدس. إذاً نحن أمام معضِلة جديدة تفتّق عنها الوحي الانجيلي.
في العهد القديم الكلامُ محصورٌ بالإله الواحد والإيمان محصور بالإله الواحد، والجهاد في العهد القديم كان كبيراً للوصول الى هذه العقيدة، عقيدة الإله الواحد الغير المنظور الغير المعلوم الغير المدرك الغير المحدود الذي لا تحده العقول ولا تدركه الاجسام ولا تجوز عليه القياسات التي تجوز في عالم الفكر والمقولات، كل المقولات البشرية والفلسفية لا تصلح للتعبير عن هذا السرّ العظيم.
الله له المجد واحد في العهد القديم، والثالوثي الاشخاص اي الاقانيم في العهد الجديد. في كتابي "يهوه أم يسوع" أدلة قاطعة من العهدين وعلى صحة الإيمان بالثالوث القدوس وعلى كون يسوع المسيح هو إله.
هذا الإيمان شقلب التاريخ، ليست المسيحية في ذلك يونانية أو وثنية ولم تعد يهودية صرفة صارت ديانة متميزة جداً. القول الثالوث القدوس هل يحادث المنطق في الإلهيات؟
المنطق البشري ضعيف علينا ان ننظر الى الإلهيات بمنظار الإلهيات لا بمنظار البشرية، ففي المسيحية منطق خاص بها بما أنها ديانة سماوية وليست ديانة أرضية، فالديانة المسيحية تهتم بالآخرة وتبعاً لذلك تنعكس الأمور على الحياة الدنيا.
الديانة المسيحية جاءت بتعاليم جديدة غريبة على العقل البشري، البشر كلهم غارقون في الهموم المعاشية والأرضية، فالمسيحية تنادي بديانة الروح. يسوع قال للسامرية: "الله روحٌ والذين يسجدون له فللروح والحق ينبغي أن يسجدوا". الله روح، فإذاً فهو مختلف بالكلية عن عالمنا المادي، الخلاف خلاف نوعي لذلك المسيحية ديانة سماوية وليست ديانة أرضية وهمومها سماوية أكثر منها أرضية بما لا يقاس.
كيف؟ المسيحية تعلّم ان آدم وحواء سقطا وأُبعدا ونفيا من الفردوس وهو فردوس أرضي فيه شجر وأحياء من البشر والحيوان، وطُرد من الفردوس طرداً لأنه خالف شريعة الله وحُكم عليه بنائاً على ذلك بالموت روحياً اولاً والموت جسدياً ثانياً. فالموت الروحي هو الذي جلب على آدم وحواء الموت الجسدي وعودة الجسد الى التراب وخروج الروح من الجسد.
هذا السقوط يحتاجُ الى جبرٍ، من يجبره؟
الانسان لما كان في الفردوس سقط وبعد سقوطه من الفردوس لا يستطيع ان يعود بقواه الذاتية، وقواه الذاتية مخرّبة مالت الى الارض ومال الى الشر منذ حداثته كما يقول سفر التكوين، وغرق في الأرضيات وفي الوحدة الارضية وفي الفساد وكان الطوفان.
هذا الانسان الذي غرق بالطوفان وإحترق، هل هو قادر ان يعود الى الفردوس بطاقاته الخاصة؟ هذا مستحيل.
وما هي طاقاته؟ جسدية عقلية؟ عقله سقيم وجسمه سقيم وهو عاجز عن العودة الى الله بدون الله، فلا بدّ من تدخلٍ إلهي في التاريخ ليعود الإنسان الى الفردوس.
تدخّل يسوع، فهل أعادنا الى جنة آدم؟ لا، أعادنا الى فردوسٍ من نوع آخر وفردوس سماويٌ لا أرضيٌ، روحيٌ لا جسديٌ غير قابل للفساد والإنحلال والنهاية، فردوس أبدي لا نهاية له، فردوس نوراني لا فردوس جسداني. المسيحية تعلمنا اننا بعد الوت ننتقل من الموت في هذه الدنيا موت الخطيئة الى حياةٍ اخرى نورانية روحانية، الجسد يستقر في القبر أمّا الروح كما قال سفر الجامعة فتذهب الى خالقها،
وكما جاء في إنجيل لوقا "تأتي الملائكة وتأخذها الى حضن إبراهيم"، لا إبراهيم ذلك الزمان بل إبراهيم الذي في الفردوس.
بعد موت المسيح على الصليب تخرج الروح من الجسد، لا تحمل معها الجسد، الجسد في القبر ونعرف القبور ونعرف مصير الاموات في القبور وشاهدنا الاجسام تنحل الى تراب ولا يبقى اللحم بل تبقى العظام ومع الزمان العظام نفسها ستذوب، أمّا الروح أين تذهب؟ تذهب الى خالقها، هي روح سعادتها سعادة روحية، الله روحٌ، وأنا ذو روح وروحي صورة عن الله كما يعلمنا الكتاب المقدس، فتتمتع بسعادة إلهية. تعود الروح الى باريها لتتمتع بنور باريها بمجد باريها، سعادتها روحية سماوية ليست أرضية. ملكوت المسيحيين لا طعام ولا شراب ولا زواج ولا حاجات جسدية أبداً، هو ملكوت النور، ملكوت روحاني نوراني، السعادة والغبطة نورانية، كلّ ما فيه نوراني روحاني ليس فيه شيء جسدي لان الجسد في التراب في القبر، إنتهى الجسد حتى يوم القيامة. بعد القيامة يعود الى الروح ويعود روحانياً لا ترابياً، يعود سماوياً روحانياً غير فاسد غير قابل للإنحلال، يعيش الى الأبد فيه سعادةٍ إلهية سماوية. فإذاً المسيحية من هذه الناحية ديانة السماء لا ديانة الارض.
منطلقات الانسان المسيحي الحقيقي منطلقات سماوية، أحلامه في السماء آماله في السماء عقله في السماء يعرف انه يمشي على الارض مؤقتاً كزائر كمسافر لا قرار له على الارض، وهذه الارض يعرف أنها أرض الفساد والإنحلال والخطيئة وأنها أرض الموت والذلات كما قال بولس الرسول، ويسوع نفسه قال: "دعوا الموتى يدفنون موتاهم"، من هم الموتى الذين يدفنون موتاهم التائبون؟ نحن الأموات، نحن أمواتٌ ولسنا أحياء الموت بالخطايا والآثام. طالبنا يسوع المسيح ان ندفن خطايانا، علمنا يسوع ان الموت ينقلنا من موت هذه الحياة الى الحياة الأبدية، من آمن بي وإن مات فسيحيا، إن مات فقد إنتقل من الموت الى الحياة، فالحياة الحقيقية هي الحياة ما بعد الموت، والحياة قبل الموت هي إستعداد للحياة بعد الموت، نحن مسافرون نستعد للحياة الأبدية بتطهير نفوسنا وأجسادنا من أدناس الخطيئة من كل دنس بالتنقي بالصيرورة آلهة في الجسد، بالصيرورة أنوار في الجسد فننتقل من هذا العالم الفاسد الى عالم عدم الفساد. ولذلك فجميع أشواق الإنسان المسيحي الحقيقي هي أشواق الى الحياة الأخرى، هي كفرٌ بهذه الدنيا وبما فيها، وكلّ ما في هذا العالم في نظر المسيحي الحقيقي فناء بفناء.
أيُّ نعيمٍ إستقرَّ على الأرض؟ أينَ الملوك؟ أين البُناة؟ أين القادة العسكريون؟ أين المليارديريون؟ أين؟ أين؟... الكل ذهبوا وطواهم الموت وإنصرفوا عنا كأنهم رياح عابرة وتحرّكوا كأنهم رمالُ الصحراء تأخذها الرياح الى حيث تشاء. مَنْ إستقر على الأرض؟ أيُّ ملك ثبت على الأرض؟ أيُّ نعيم ثبت على الأرض؟ أين المتنعّمون على الأرض؟ في مثل الغني ولعازر رأيناهم في الجحيم. أين مسرّات الأرض كلها؟ تفنى في قدرٍ. أيّ نعيم في الأرض قد يستمر؟ محكومون بالموت، محكومون بالأمراض بالآلام بالضيقات بالجوع بالعطش بالويلات بالشدائد بالحروب بكل أسباب المضايقات. والذين إستمتعوا بأموالهم أين هم؟ تراب. أين أرواحهم؟ الله يعلم. لا أريد أن أدين الناس، هو الذي يدين له المجد. كل مجد على الأرض سائر الى الزوال، كل سعادة على الأرض سائرة الى الزوال، ما من شيء على الارض لا يسير الى الزوال، البشر كلهم الى الزوال، البشر كلهم مثل عشب الحقل، كلهم مثل الدخان، البشر كلهم مثل الفراغ، البشر كلهم مثل الهجين.
ما الفرق بين جسد الميت وجسد الحشرات المائتة؟ لا فرق. ما الفرق بين جسد الميت والتراب والحجر والرماد وأي شيئ آخر؟ لا فرق. هذا الإنسان العملاق الذي يسعى لغزو المرّيخ والكواكب يرقد في التراب، وفي بعض البلاد يحرقون جثّته فلا يبقى منه الا الرماد. هذا الرماد إن تركناه معرضاً للرياح تطاير في الهواء، يضعونه في علبة وما قيمة هذه العلبة، فليضعوه في مهب الرياح لنرى أين تستقر ذراته. الإنسان هو عدو نفسه، الإنسان هو الذي ينتحر، الانسان هو الذي يقضي على نفسه، زوّده الله بإمكانات جبارة يستعملها ضد ذاته فينتحر، كلُّ الذين لا ينتقلون الى النور الالهي بعد الموت قد إنتحروا وعاشوا على الأرض منتحرين، وما قيمة لوجودهم وكما قال يسوع في يهوذا، خيرٌ له لو لم تلده أمّه، فكان خير لهم لو لم تلدهم أمهاتهم، فلا يفتخر الغني بغناه ولا العالم بعلمه ولا الفيلسوف بفلسفته ولا القائد بزعامته ولا الرئيس برئاسته ولا الملك بملكه ولا الجميل بجماله ولا الرسيخ برساخته ولا القوي بقوته ولا يفتخر احد بشيء مما لهذه الدنيا من يفتخر فليفتخر بالرب.
كل الأشياء باطلة، كل الأشياء زائلة، كل الأشياء فانية، لا قيمة لهذا الوجود على الإطلاق إن لم ينتهي في ملكوت الله، وملكوت الله المسيحي كما ذكرنا هو ملكوت نوراني إلهي، نور إلهي ليس بنور الشمس ولا بنور القمر ولا بنور أرضي، نور إلهي صادر من جوهر الله، نتمتع نحن به في الآخرة، نعيش في هذا النور في هذا الملكوت النوراني الذي يملأنا سعادة أبدية لا تقدّر ولا توصف، نخرج عن كل إمكاناتنا الحالية. أقدس القدّيسين على الأرض يستمتع في الآخرة بمتَعْ روحية، ليست متعه الروحية أرضية بشيء يذكر بالنسبة اليها نأخذ هناك اضعاف لا تقدّر. الله يعرف عن ما نناله من الله، مهما إرتفعنا الى الله على الأرض وإمتلأنا من نعمته ومن أنواره يبقى كلّ هذا ظلّ باهت بالنسبة الى المجد الذي سيتجلّى فينا بعد الموت، وبخاصة بعد القيامة العامة.
هذا التعليم المسيحي الإلهي غير البشري الذي لم تختاره العقول البشرية بل أتانا من السماء، يرتبط بكل مصيرنا أو بالأحرى مصيرنا يرتبط به، هذه الصورة عن النعيم الاخروي لم تأتي به العقول البشرية ولم يأتي به التفكير البشري لذلك فهو عملية سماوية. هذا الإرتفاع من العيش البهيمي على الارض الى صورة سماوية إلهية عن العيش، هذا ليس من إختراع البشر، هذا وحي إلهي أتانا به الرب يسوع المسيح، أتتنا به السماء ولم تأتنا به الأرض. فما العمل؟ هنا أهمية المسيحية هي ديانةُ تهتمّ بالإنطلاق من الأرض الى السماء، ديانةٌ تقولب الإنسان الأرضي قولبة سماوية نورانية، فيبدأ من هنا العيش في النور الإلهي، العيش في النعيم الأبدي في السعادة الأبدية، هنا نبدأ العيش الأخروي، هنا تبدأ حياتنا في النعيم الأخروي.
إن عشنا هنا بحسب رضوان المسيح إنتقلنا من الموت هنا الى الحياة هناك. وإن رفضنا يسوع في هذه الحياة رفضنا هو في الحياة الأخرة. ولذلك المسيحية سلسلة من العقائد والتعاليم مترابطة منطقياً بحسب منطقها الالهي لا بحسب منطق الحقوق، ولذلك ان قال لي احدهم انت المحامي المنطقي العتيق تقبل هذا التفكير الخارق للعقول البشرية؟ أجيب نعم، انا اقبله لأن له منطقاً سماوياً لا أرضياً وأنا أؤمن بأني إنسانٍ ذو روحٍ، أؤمن بأن هذا الجسد الحيواني يموت في القبر وينتهي ويزول في القبر، وأؤمن ان روحي هي الأهم وهي الباقية الى أبد الآبدين. أنا شخصٌ في روحٍ وجسد ولكنّ الأهمية الكبرى هي لروحي لا لجسدي، جسدي آداةٌ بيد روحي، جسد الميت لا يتحرك أمّا الجسد الحي هو الذي يتحرك ويفعل ويبدو أحياناً نشيط وفاعل، ولكن من يحرّكه؟ مَنْ يدرّبه؟ الروح هي الأساس هي التي تُحيي الجسد كما قال الرب يسوع، الجسد لا يجدي نفعاً هو آداة بيد الروح وهي آداة تمسكها الروح بصورة متينة جيدة.
فإذاً المهم في الانسان هو روحه لا جسده، جسده أداة ولكن يحترم هذه الآداة ويعاملها معاملة حسنة إلاّ إذا أساءت الى روحه بشهواتها ورغباتها وأهوائها، آنذاك الجوع، لا اسمح لجسدي بان يتصرف كما يشاء، انا الذي أملي عليه تصرفاتي الروحية، هذا هو المبدأ المسيحي، لا اسير وراء جسدي بل أدع جسدي يسير وراء روحي، تسيطر روحي على جسدي فتسيّره كما تشاء، هو يأكل كما تشاء روحي، يعمل كما تشاء روحي، يتصرف كما تشاء روحي، يتكلم كما تشاء روحي، كل حركاته وتصرفاته تنطلق من روحي المتجددة في يسوع المسيح، الممتلئة من الروح القدس. كلّ شيء يرتبط بيسوع كل شيء يرتبط بالروح القدس ليس لجسدي شيء من الحرية، متى كنت في يسوع الحرية حرية روحي لا حرية جسدي. لذلك ما ينادى به من حريات عامة وسوى ذلك هذا انعكاس للحرية الحقيقية حرية الضمير الداخلي حرية الانسان الداخلي التي بموجبها يتحرر من الأهواء والرذائل ويصير إنساناً تقيّاً تائباً، يعمل ما يشاء الله، فيتصرف بحسب الله ليكون برمّته لله، ولذلك فخطيئة آدم جعلت الجسد يجرّ الروح وراءه، جاءت المسيحية لتعلّم عكس ذلك تعلّمنا ان تسيطر الروح على الجسد برمته تسيطر على كل تصرفاته ولكن بحكمة وعلى مدى زمني، لا بعملية وحشية غضبية، اتصرف مع جسدي بحكمة وفهم وحنكة وفِطنة، لا أخنقُه خنقاً وأقول أنا سيطرت عليه، لا، هناك سيطرة روحية أخلاقية بموجبها أعطي جسدي قالباً روحياً، تمتد فضائلي الروحية الى جسدي، تنعكس أنوار روحي وفضائلها في جسدي لأني لا أفصل جسدي عن روحي، أنا شخصٌ واحد، عندما أكون مثنّاً أكون الشيطان، والجسد والأهواء والشهوات قد جزأتني وقسّتني وفصّلتني وجعلتني إنساناً مشوهاً مقسّماً الى ألفِ جزءٍ كما قال مكسيموس المعترف، مرآةً مهشمةً كما قال سواه، فلذلك السيطرة للروح، والجسد يجري وراء الروح، لا أجري أنا وراء جسدي بل جسدي هو الذي يجري ورائي فأقوده الى حيث يشاء الله لا الى حيث تشاء الأهواء والشهوات والرغبات.
هذا الإيمان بالروح أساسي في المسيحية، لا تهمل الجسد بصورة يعود الجسد معها منتحراً، لا، هي تعالج الجسد وأهواء الجسد وشهوات الجسد بحكمةٍ وحنكةٍ وفنٍ ودرايةٍ بمعونة الروح القدس او كما قال بولس الرسول: "تُميت أعمال الجسد بالروح القدس، أستعين بالروح القدس له المجد لننتصر على أهواء الجسد ونحيي الروح". هذه العمليات كلّها روحية تحتاج الى الصوم والصلاة والقراءات والتضلّع من ناموس الرب في العهد الجديد لا ناموس موسى، شريعة العهد الجديد صارت هي المهمة.
العملية تتطلب العمر تتطلب الوقت، ليست عمل سنة او سنة او ثلاثة هي عمل جهود مستمرة على مدى بعيد جداً، فإذاً هناك منطق إلهي في المسيحية، أنت ساقطٌ وعاجزٌ أنّ تخلِّص نفسك بنفسك، عاجز عن العودة الى الجنة عاجزٌ عن إدراك الله عاجز عن الوصول الى السماويات عاجز عن الصيرورة انساناً روحياً يرث ملكوتاً أبدياً سماوياً.
هذا الملكوت السماوي النوراني يحكم تصرفاتنا كلّها وهو بند رئيسي رقم واحد في الديانة المسيحية، لا تأخذ المسيحية معناها الحقيقي بدون هذا الملكوت. فلماذا الأخلاق؟ ولماذا التربية؟ ولماذا الإيمان؟ ولماذا الصلاة ولماذا الاعتقادات؟ ولماذا ان كان الانسان سيموت كما تموت الدودة وتموت الحيوانات؟ وإن كان صحيح حياةً أبديةً فهو إذاً أرفع من الحيوانات بما لا يقاس وهو معد لمجد أبدي بعد الموت. كيف يحصل على هذا المجد الأبدي؟ أيحصل عليه في الخمارات؟ يحصل عليه بالتقوى والعبادة الحسنة، هو ساقط ومطرود من الجنة. كيف يعود الى الجنة ويعيش في التراب ويتمرر في الأوبئة ويتمرر في الحماقات؟ هل من الممكن أن يرث التراب من الملكوت السماوي؟ هل يمكن أن ترث الحماقات من الملكوت السماوي؟ هل يمكن ان ترث الخمارات الملكوت السماوي؟ فإذاً لا بدّ من الخروج من الفساد والإنحلال والسقوط والعودة الى الملكوت مطهَّرين، وكيف نتطهّر؟ هل يمكن أن نتطهر بقوانا الذاتية؟ لما كنّا في الفردوس ما حافظنا على أنفسنا، أَبعدما سقطنا نستطيع أن نحافظ على أنفسنا؟
ولذلك، المنطق المسيحي صحيح، جاء يسوع المسيح لكي يُطهِّرنا من كل خطيئة ويجدّد بنيتنا لنستطيع أن نكون أبناء الملكوت أبناء المجد أبناء النور، فإذاً إن كانت المسيحية خارجة عن طريق المنطق العالمي فهي لها منطقها الإلهي الخاص، سقط آدم فإحتاج الى التّطهير فجاء يسوع ليطهرهُ،
وإذا تطهر بالقول والفعل إجتاز الموت الى الحياة الأبدية في نورٍ أبديٍ إلهيٍ لا يزول. ولكن الإنسان الترابي العائش في الفساد والإنحلال والعربدة هذا لا يرث ملكوت الله، ملكوت الله ملكوت نوراني ملكوت للأرواح المطهّرة بدم ربنا يسوع المسيح
وبدون دمّ ربنا يسوع المسيح لا توجد طهارة ولا قداسة ولا حياة روحية، الكل يُصبح هَشيماً، بدون دم ربنا يسوع المسيح نبقى في الجحيم . ايّ انسانٍ هو خارج جحيم الخطايا؟ المتكبرون الذين يدّعون لأنفسهم البراءة والكبرياء، الكبرياء خارج قعر الجحيم بينما هي في أدنى ما في قعر الجحيم، الكبرياء البشرية تجعلنا ننتفخ وندّعي، هذا كلّه كذب وخداع شيطاني التواضع هو أحسن شيء. في الحقيقة نحن في قعر الجحيم بسبب خطايانا التي لا تُعدّ ولا تُحصى،
لا ينتفخْ أحد لا يتكبّر أحد لا يدعم أحد كلّه شيطان يلعب برأسنا ويخدعنا لننتفخ فنمتنع عن التوبة. ولذلك الكبرياء عدو المسيحية رقم واحد وعمل الشيطان رقم واحد ومتى إنتفخنا إرتفعنا عن مُوجبات التوبة الحقيقية.
التوبة الحقيقية هي خضوع هي تجرد هي تواضع هي إنسحاق هي شعور بالذنب عميق امام الله، شعور وهِن لا شعور مرضي مثل المرضى النفسانيين. بكل وعيي بكل صفائي بكل حريتي بكل إنطلاقاتي أعترف بأني إنسان خاطىء موجود في قعر الجحيم ولا خروج لي منه الا بربنا يسوع المسيح، بدون هذ التواضع العميق الكبرياء تنخر الانسان نخراً تاماً.
المسيحي الحقيقي هو الذي يشعر أنّه في قعر الجحيم ملتمساً من يسوع ان يخرجه من قعر جحيم خطاياه بدون الشعور بخطايانا بذنوبنا والتوبة عنها والندامة بجودة بمتانة.
لا نتصوّر أبداً أن الإنسان التائب مثل أفرام هو إنسان ضعيف، أفرام عملاق عمالقة التاريخ، ولكن كتب في التوبة وإعترف بخطاياه بصورة لا روعة مثلها في التاريخ. اعترف بخطاياه كجبار لا كإنسان منهار مريض نفسياً ضعيف سخيف تافه، لا إنسان متين قوي جداً ينسحِر أمام الله ببطولة، يعترف بذنوبه ببطولة يتوب ببطولة.
البطولة الروحية ضرورية جداً في الحياة الروحية، فالحياة الروحية ليست للضعفاء والتافهين، الحياة الروحية الحقيقية هي للجبابرة للأبطال للميامين، الحياة الروحية إمتلاء من الروح القدس، هل يكون الإمتلاء من الروح القدس إمتلاء من السخافات والبرادات والغلاظات والثقالات والتفاهات؟
الإمتلاء من الروح القدس هو إمتلاء من المتانة الروحية ولكن في توبة مستمرة لئلا يخامرنا نوع من الكبرياء يفسد علينا التقوى والعبادة والإيمان والأخلاق وكل شيء. التواضع فضيلة هامة تطغى كل الفضائل الاخرى فإذاً المسيحية متناسقة لمنطقها الإلهي العظيم،
لا نستطيع ان ندافع عن الانسان لأن الانسان خاطىء منذ مولده، كل انسانٍ على الأرض خاطىء، ما من أحد بريء من الخطيئة ولو كان عمره يوماً واحداً كما تقول صلوات الأرثوذكس.
الكلّ ملوّثون والكلّ بحاجة الى تطهير، ومَنْ يطهرني من خطاياي؟ البشر عجزوا عن ذلك ولذلك إحتاجوا الى دم يسوع المسيح، دم يسوع المسيح وحده يطهّر من كل خطيئة. لذلك المسيحية تنطلق من مفهوم السقوط لتمرّ بمفهوم الصليب.
ذبيحة الصليب التي تغفر خطايانا لنصل الى الملكوت الأبدي بشرط أن نعيش الملكوت هنا على الأرض.
ولكن هذا الكلام ثقيل على قلوب أصحاب الأهواء والشهوات، أصحاب الملذّات الأرضية. هذا الكلام عسير على زماننا هذا الذي يجرف الناس نحو حريات الإنفلات لا الحرية الحقيقية، حرية يسوع المسيح التي حررنا بها من الخطيئة والأهواء والشهوات والرزائل والعيوب وكل النقائص.
الحرية اليوم مفهوم سقيم هذا مفهوم مريض، الحرية الحقيقية هي حرية من الفساد الداخلي والإنتقال الى حرية الروح القدس، أمّا الحريات التي نادى بها في العالم فهذه ليست حريات هذه إنفلات، فالحرية في العالم نسبية جداً، لا يتسع المجال هنا لطرح الأمور برمتها فأنا محامٍ منذ 62 سنة أعرف شعور هذه الدنيا وما فيها من مساوىء و ما فيها من ظلم وعدوان وإستغلال ومص دم.
مصّ الدماء في العالم أكبر مرض في القرن 21، فإمتصاص دماء الآخرين هذا هو مرض العصر الحقيقي الذي لا يشعر فيه الا الذين يعمّقون النظر في شؤون هذه الدنيا الفانية. الإنسان اليوم مسحوق، مسحوق وسينسحق أكثر في السنين القادمة لأن الجلّادين العالميّين بلا رحمة ولا شفقة.
مصاصو الدّم في العالم اليوم أخطر من مصاصي الدم في أي زمان مضى، فلذلك هذا العالم الموبوء هو المحتاج الى دم ربنا يسوع المسيح ليحيي الحياة الحقيقية البريئة من كل فساد.