خذْ ترْسًا ومِجنبًا و اْنهَضْ إِلى نُصْرَتي ( مز 35 /2)
وستعرفون الحق و الحق يحرركم الفصل(19) لاهوت التوبة
وستعرفون الحق والحق يحرركم
الفصل التاسع عشر: لاهوت
التوبة .
التوبة
هي إشتراكٌ في آلام الرب وصلبه ودفنه وقيامته بنعمة الروح القدس. التائب يغسل
خطاياه بدم المسيح، يدفن خطاياه مع المسيح ويقوم مع المسيح، يدفن الإنسان العتيق
ويقيم الإنسان الجديد الذي يتجدّد على صورة خالقه، والعملية مستمرة طوال العمر
فالحياة كلها توبة.
القديس
العظيم غريغوريوس اللاهوتي قال: "إنّ معمودية الدموع أهمّ من المعمودية الأولى".
وضّح ذلك ببيان يوحنا السلمي فقال: "عندما نعتمد صغاراً نكون بلا وعي أمّا
معمودية الدموع فتصدر عن وعي كبير". فالتوبة هي نسغ الحياة، النسغ يحيي
الشجرة، والتوبة تحيي الإنسان. والإنسان يعيش في هذه الدنيا متنقلاً من حال الى
حال. عالم البيولوجيا الكيماوية الأكبر أوبارين أكبر علماء القرن الماضي، أنكر في
النهاية إمكانية ظهور الحياة من المادة، وأنكر التطوّر وقال إن التطور خاص لعالم
الإنسان. والإنسان يلد جاهلاً تماماً يتعلّم فيصبح عالماً كبيراً وفيلسوفاً كبيراً
ولاهوتياً كبيراً وطبيباً كبيراً والى آخره. فهو نظام يتطور من حال الى حال. وإن
عاش مسيحياً ينتقل من حال الى حال حتى يصبح قديساً كبيراً وشهيداً كبيراً.
فإذاً
عالم تطوّر هو عالم الإنسان، والإنسان هو في حالة تطوّر متواصل، متى وقف عاد الى
الوراء. مَنْ لا يتقدّم يتأخر فهو إذاً يتقدم دائماً، يتعب من السعي والتقدّم ولكن
عليه دائماً ان يبقى مجاهداً كبيراً لأنّ المكافأة ملكوت السموات ثمينة جداً تستحق
أن نجاهد وأن نقاوم، وباب الفضائل باب واسع في المسيحية فالإنسان يجاهد دائماً لكي
يقتني الفضائل ويتخلّص من الرذائل. كما ذكرنا لا كمال في الطبيعة البشرية، الطبيعة
البشرية ساقطة فيها أهواء شريرة ميول شريرة منجذبة الى العالم الى الأرض تحتاج الى
الخروج من ذاتها لتصل الى السماء، لذلك نحن بحاجة دائماً طوال الليل والنهار
للتخلّص من أهوائنا وعيوبنا وخطايانا وذلّاتنا وجرائمنا ونغسل بها الأعمال الصالحة
وهذا كلّه يتمّ في التوبة. والتوبة الحقيقية عسيرة بدون نعمة الروح القدس فنحن
نتمتّع بنعمة الروح القدس التي تساعدنا على التوبة. يهرب الناس من التوبة، هذا
جهلٌ كبير وإهمال كبير، وإنتحار. التوبة هي باب السماء، فمن يهرب من باب السماء
إلاّ الضعيف المستهتر.
المسيحية
تطالبنا بفوائد عديدة وبالتخلّي عن رزائل عديدة. فأنواع الأعمال في المجتمع البشري
متعدّدة جداً والإختصاصات متعدّدة جداً. وفي كل ميدان وكل فرح حقوق وواجبات
ومستلزمات. تتطلب الأمور الشرف والإخلاص والإستقامة والصدق والإبتعاد عن الخُبث
والكذب والرياء والنفاق والعيوب الأخرة، وهذا يتطلّب تمرّس بالفضائل وتمرسّ
بالأعمال الصالحة، والتوبة الحقيقية ليست متاحة لكلّ الناس بسهولة. الناس يحبّون
الميوعة لا يحبّون أن يزعجوا أنفسهم بتوبيخ الذات، لا يحبّون أن يكشفوا نفسهم
للآخرين إلاّ نادراً. كشف الذات يؤثّر على معنويات الإنسان ولذلك فأمور الحياة الروحية
ذاتُ عسرٍ لأنّ الإنسان لا يريد أن يخوض المعارك الروحية، والشيطان يلهيه عن ذلك،
ولكن الإيمان يدفعه الى الإعتراف والتوبة. بدون التوبة لن نتجدد روحياً، بدون
التوبة لا نرتدي ثياب المسيح، بدون التوبة لا نخلع الإنسان العتيق المفسود بالأهواء
والشهوات، ولا بدّ من التوبة لكي نخلع الإنسان العتيق ونلبس الإنسان الجديد، لكي
نخلع الإنسان العتيق ونلبس الإنسان الجديد الذي يتجدّد بالمعرفة على حسب صورة
خالقه. نحن صورة الله التي سقطت والتي هي بحاجة الى التجديد الى التلميع الى
التجبير للخلاص من الكسول والسقوط.
الإنسان
الذي يعيش بحسب الله هو الإنسان الدائم دائماً، يستبدل الأهواء ويستبدل العيوب
ويلبس لباس الكمال، هذا مستحيل بدون التوبة لأنّ التوبة نعمة كبيرة للإنسان التائب
يتجدد فيها برمته ويصير إنساناً جديداً ينمو في الروح القدس ليبلغ ملء قامة
المسيح. فهل كان التجدّد هو بالروح القدس في المسيح؟ فلا توقف أبداً، العمل
المتواصل. يسوع قال أبي يعمل وأنا أعمل. فالتائب هو حركة دائمة، هو إنسان دائماً
في ورشة عمل لا نهاية لها إلاّ بالموت، فالتائب كتلة نشاط، كلّ قواه تتجمّع سوية
وتتوحد لتكون عاملة في مجال التوبة والندامة والرجوع عن الماضي لكي ينمو في يسوع
المسيح فيبلغ الملكوت الأبدي ويدقّ أبواب السماء. المسيحية ديانة التوبة والتوبة
لا تكون باللسان تكون بالقلب الذي يتغيّر، والإعتراف ليس سرداً بارداً للأخطاء
والعيوب والذنوب. الإعتراف الحقيقي هو نار تكوي الإنسان. يوحنّا السلّمي وسواه إستعملوا
لفظة النار للحبّ الإلهي، الفصل 30 الفقرة 36 من الترجمة العربية لسنن الله، هناك
جرح، الحب يجرح ويؤلم، ونار روح القدس تكوي.
سمعان
اللاهوتي الحديث كان يتجلّى بالنور الإلهي ويشمّ رائحة لحمه الذي يكتوي بنار
اللاهوت بنار الروح القدس. والتوبة إشتراك في هذه النار التي تكوي خطايانا وتحرق
إشراك خطايانا وتنيرنا. التوبة نار ونور، نار تحرق الخطايا ونور ينير الكيان برمته
فنتجلّى مع المسيح. وهذا كلّه يتطلّب إنقلابات داخلية من ضمن الإنسان، الإنقلابات
الداخلية ضمن الإنسان هذه مستمرة ليلاً نهاراً وهي موجودة في كل لحظة. الإنسان
التائب لا يعيش لحظة مثل اللحظة السابقة، في كل لحظة هو إنسان جديد متجدد على صورة
خالقه، فلذلك فالمسيحية من هذه الناحية ضدّ الكسل ضدّ الفتور ضدّ التنبلة ضدّ
الركود ضدّ النكوس الى الوراء ضدّ الإستسلام ضدّ الإتكال السخيف، هي ديانة النشاط
لا ديانة الركود، لا تتكل على الله بدون نشاط ولا تضع العبء على الله كأن الله هو
العامل وهي لا تعمل.
المسيحية
تضع المسؤولية على عاتق الإنسان لا على عاتق الله، فلا يقول المسيحي إن أعماله
الشريرة قد تمّت بدافع إلهي، الله لا يسير هنا في طريق الشرور بل في طريق الخير.
ولذلك فهي ديانة النشاط المتواصل الذي لا يكلّ ولا يملّ ولكن دائماً بدون إجهاد.
لا بدّ من الحكمة والتروّي والفطنة وحسن التصرف، فالتهوّر والتطرّف مضرّان وهما من
الشيطان لا من الله. الشيطان هو الذي يدفعنا الى التطرّف لكي نترك الجهاد ونعود
الى الوراء ونهمل طريق الله. فإذاً التوبة مهمّة جداً جداً، هي المعمودية الثانية
معمودية الدموع وهذه الدموع ليست دموع حرقةٍ هي دموع فرح. التوبة هي حزنٌ على
الخطيئة وفرح بالقيامة مع المسيح، القديسون هم التائبون، هل القديسون بائسون؟
القديسون فرحون في الرب دائماً. ولكن الإنسان لا يقدم الى التوبة بسهولة، كبرياؤه
غطرسته إرتداده بذاته إعجابه بذاته الخجل وهناك عيوب عديدة تمنع الإنسان من التوبة
لكي يتواضع الإنسان وينسحق ويضع رأسه على الارض وتبتل الأرض بدموعه. هذا إنسان
يحتاج الى النعمة الإلهية ويتصرّف في النعمة الإلهية وبواسطة النعمة الإلهية. الإنسان
العادي مغلق لا يفتح صدره بسهولة، ما العمل؟ العمل هو الإستمرار في الوعظ
والإرشاد. الله يُعين في كل حين. فالتركيز على التوبة في المسيحية مهمّة جداً،
بدون التوبة القداسة خيالٌ بعيد المنال. الناس العاديون يعيشون كأنّ الدنيا في
ألفِ خير، لا يريدون أن ينزعجوا. الصعوبة كل الصعوبة هي أن ننتزع إقراراً بالخطايا
من أحد الناس، النساء أسهل من الرجال ولكن يبقى هناك كبرياء تمنع الناس من
الإنسحاق. الإنسحاق يقطع رأس الكبرياء، ولكن مَنْ يستطيع أن ينسحق بدون نعمة الروح
القدس، الروح القدس هو الذي يفعل كل شيء وعلى الله الإتكال، نتكل على الله من
اللسان وأمّا القلب فبعيداً عنه كما قال أشعيا النبي.
الأمور
الدينية تحتاج الى العمق لا الى السطحية، والعاديون يفضّلون السطحية على العمق
الداخلي ولكن نحن نسعى دائماً الى تمكين الناس من العمق الداخلي، يهربون من العمق
الداخلي يفضّلون السطحية والأحاديث التافهة والكلام العادي والثرثرة، هذا ضلالٌ
مبين. الركوع والسجود والإنسحاق، هذا هو الطريق السليم الى ملكوت الله له المجد
والإكرام والسجود الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.