لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا ربّ، يا ربّ ))يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات ( مت 7 /21)
وستعرفون الحق والحق يحرركم الفصل(27-28) الصراع الداخلي \ حلبة الصراع
وستعرفون الحق والحق يحرركم
الفصل السابع والعشرون: الصراع الداخلي
يوحنا السلّمي في كتابه الشهير "السلّم الى الله" ذو مفهوم صراعي خاص، يَذكر الطاهرين بحسب الطبيعة والوُدعاء بحسب الطبيعة والهادئين بحسب الطبيعة والى آخرسه، ويأخذ عليهم أنّهم لا يُجاهدون ولا يُصارعون. طبعاً الأسباب معروفة هي نفسية تربوية في الطفولة الباكرة. فمفهوم السلّمي الصراعي مهمّ جداً جداً، والانسان الروحي هو مصارعٌ كبير. بولس الرسول قال في الفصل 5 من غلاطية: "الروح يشتهي ضدّ الجسد والجسد يشتهي ضدّ الروح"، ووسّع هذا المفهوم أكثر في الفصل 7 رسالته الى رومية.
بسبب السقوط، الطبيعة البشرية صارت محطمة ومهشّمة وممزّقة ولذلك تهذيبها يحتاج الى جهود مضنية، هذه الجهود تستغرق عمر الإنسان كلّه ولو عاش مئة وخمسين سنة. فالذين يتوهّمون أنّ الحياة الروحية مسألة سهلة يُسيئون الفهم. الحياة الروحية حرب، صراع قوي جداً أقوى من الصراع العسكري وتَحتاج الى أشدّاء في الحرب الداخلية أقوى من المحاربين في جبهات الحرب. شرحتُ ذلك في كتاب تاريخ النسّاك، فالمسألة تتطلب عزم نفسي كبير وإرادة فولاذية وصبر لا يفرغ وطول آناة لا نهاية لها تستمرّ مدى العمر بدون إنقطاع بدون تراجع بدون تردد بدون تسكّع بدون نظر الى الوراء.
العزيمة نارٌ حامية، هذا كلّه يتطلّب إيمان أحرّ من جمر النار ومحبّة حارّة مثل الشمس ورجاء حارّ مثل الشمس. الإنسان المسيحي الحقيقي يبدو خارجياً هادئاً ولكن قلبه نار، لهيب نار من الإيمان والمحبّة والرجاء والإرادة الفولاذية والتصميم القاطع على أن لا يعود الى الوراء، والصبر الجميل الذي لا يفرغ، وكل هذا بإعتدال وحكمة وفطنة وحنكة ولباقة كبيرة جداً. فالجهاد الروحي، الصراع الروحي يتطلّب حكمة إلهية للروح القدس فقط الساكن فينا، نستطيع أن نقود أنفسنا الى طريق السلامة. هذا الصراع بين الروح والجسد هو مهمّة الإنسان المسيحي، فالذين يعيشون بسذاجة لا يُناضلون، النضال هو أساسي. لما تغلب بعض الآباء القديسين وإنتصروا وإنتهى الصراع إلتمسوا من الله أن يعيد الصراع ليجاهدوا ويحاربوا.
المسيحي لا يهرب من الصراع، المسيحي يواجه الصعوبات، المسيحي لا يشبه النعامة التي أمامَ الصلبِ تضع رأسها في الرمل، المسيحي يواجه الصعوبات وجهاً لوجه ويصارع وجهاً لوجه وينتصر وجهاً لوجه، والفضائل هي ثمارُ نضالٍ مرير وصراع مرير ضدّ الأهواء والشهوات والرذائل. الإنسان المسيحي بطل مصارع كبير هو دائماً في جبهة.
حرب الفصل الخامس من رسالة أفسس إستعمل العبارات العسكرية: خوذة سيف وترس ودرع ونعل وكل ما يراه عسكرياً، وإستعمل عبارات التجنيد والتجنّد والمسيحي جندي عند المسيح متجنّد عند المسيح محسوب على المسيح لا يهتمّ بما يلزمه لأن المسيح مسؤول عنه، فعبارات بولس العسكرية عديدة جداً جداً، يُصوّر الإنسان المسيحي مسلّح كبير مجنّد مذرّع بالسلاح، ولكن الأسلحة روحية، ليس الأسلحة المادية لأن المسيحي لا يضرب ولا يقتل ولا يُهاجم، مُسالم رجل سلام ومحبة وإيخاء ووفاء وإلفة ويصالح المتنازعين، هو رجل سلام ويعرف أن المسيح قال: "طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء الله يدعون"، وهو يعرف هذه الجملة الجميلة الممتازة فهو رجل سلام ويصنع السلام ويبشّر بالسلام ويدعو الى السلام، ولكنّ هو محارب داخلي يُحارب أهواءه وشهواته ورغباته ويعرف إستناداً الى بولس الرسول أنّ في داخله حرباً ضَروساً بين ما تشتهي الروح وبين ما يشتهي الجسد. وماذا يشتهي الجسد؟ يشتهي الرذائل، أمّا الروح فتشتهي الله لكي يسكن الله فيها.
نعرف نحن أنّ الكنيسة تستعمل للآباء القديسين لفظة حاملي الله the Ottoroi باليونانية ونعرف أنّ إغناطيوس الأنطاكي كان يقول: "المسيح في قلبي"، فإن كنّا نحمل الله في داخلنا فالجهاد المرير والصراع المرير ضدّ الأهواء والشهوات يتطلّب جهوداً مضنيةً وإرادةً فولاذية وإيماناً أحرّ من النار لكي نستطيع أن نتغلّب على كلّ ألوان الضعف البشري.
نعرف أن نموذج المسيحي الكامل هو الشهيد، فالشهيد الذي يواجه الموت بفرحٍ وغبطةٍ وسلام وعزيمةٍ فولاذية على أن يواجه الحديد والنار وكلّ الصعوبات ببسالة، هذا رجل إستثنائي وإرادته سماوية، طبعاً النعمة الإلهية الساكنة فيه هي تعمل كلّ شيء ولكن هو نفسه في الأساس وضع نفسه بين يدي الله، تقدّم الى منبر الشهادة وهو يعرف أن الروح القدس الساكن فيه هو الذي سيقدّمه ضحيةً على منبر الآب السماوي على مَذبح الآب السماوي. فإرادته الفولاذية تلعب دورها لأنّ النعمة الإلهية لا تُلغي إرادة الإنسان، بل تتحد إرادة الإنسان بالنعمة الإلهية، هذا الإتحاد هو الذي يصنع الشهداء والقديسين.
أنا الآن خارج ميدان الإستشهاد أبدو فاتراً أبدو متراخياً أبدو صعلوكاً أبدو مائعاً أبدو حسّاساً وشديد الحساسية، لا أتحمّل وخذة إبرة لا أتحمّل كلمةً من الغير ولا ملاحظة ولا توبيخ ولا تأنيب ولا نقد ولا ولا، ولكن في ساعة الإستشهاد الروح القدس يغيّر إرادتي وتصبح إرادتي أقوى من الفولاذ وقادرة على إجتياز نار النار بدون خوف.
إرادتي إتحدت بالروح القدس والروح القدس الساكن فيّ يعمل هذه الأعمال، الروح القدس الساكن في الشهداء هو الذي جعلهم يتحمّلون آلام الإستشهاد بدون خوف ولا وجل، فقادوا المعارك في الحلبات وهم شجعان فرحون مغطبتون عالمون أنهم واصلون الى الساعة الأبدية وأنّ الموت ينقلهم من موت الأرض في الخطايا الى العيش السماوي في المجد الأبدي. فإذاً المؤمن الحقيقي هو في حالة صراع داخلي، ويُسرُّ جداً عندما يَدخل حلبة الصراع.
الواجهون الخائفون الحسّاسون النواعم يتضايقون إذا إشتدّ عليهم القتال الداخلي إذا هاجت أهواؤهم وشهواتهم أذا حمل شيطان عليهم حملات ساحقة. في كلّ هذا لا يجوز أن يتزعزع قلبي ويجب أن يُسرّ لأنّي أجاهد، ما يُخيفني هو ساعات الفراغ ساعات النوم ساعات الكسل ساعات التواني ساعات الإهمال ساعات الركود ساعات شقشقة، هذا يخيفني لأنني بهذه الساعات لا أكون مجاهداً بل أكون فاتراً أسبح في بحرٍ من الجليد الروحي. اللحظات المهمّة في حياتي هي لحظات الجهاد والصراع، عندما أُصارع داخلياً في ذلك الوقت أكون حيّاً، في ذلك الحين الروح القدس يقودني في المعركة فأنمو في الروح القدس. كلّما كنتُ بطلاً في الصراع الداخلي كلّما كنتُ في حالة إمتلاء من الروح القدس، في تلك اللحظات يكون يسوع معي.
بولس طلب الى يسوع ثلاث مرات أن تفارقه الشوكة فجاءه الصوت "تكفيك نعمتي"، نعمتي في الضعف تكمن. فإذاً متى تزداد النعمة فينا؟ فأين الجهاد والنضال إن كان بولس قد وصل الى حال من التعب فطلب أن تفارقه الشوكة؟ فكم بالأحرى أنا البائس الشرير إبن جهنّم أعتذر عن دخول حلبة الصراع؟ الشيطان يُداعبنا، كلّما دخلنا حلبة الصراع يخيفنا، جُلودنا الحساسة لا تقبل متاعب حلبات الجهاد، تتهرّب بينما حلبات الصراع هي التي تصنع منّا رجالاً أشداء في الحرب قادرين على إطفاء سهام الشرير كما قال بولس في أفسس، هذه السهام الملتهبة، كيف نطفئها؟ نطفئها بالجهاد بالصمود، إن هجم الشيطان بكل جنوده هجمنا عليه وأفشلناه، وقُلنا مع صاحب المزامير إن قام عليّ قتال فلا يخشى قلبي، ثقتنا بالله هي بأن تكون مطلقة. ولكن ويا للأسف الشديد الإنسان ضعيف، ضعف الإنسان هو الذي يجعله يهرب من المعركة ويعتزل من المعركة ويرفض المعركة.
المصيبة في التربية، الأمهات لا يربين الأولاد على البطولة الروحية الداخلية، يُربّين الذكور كأنهم إناث ويربّون الإناث كأنهم هرّات مدللات، المهمّ في التربية هو البطولة الداخلية وتعليم الولد الصبر وطول الأناة ورحابة الصدر، أمّا الحسّاسية فمضرّة جداً، الحسّاس لا يتحمل الوخذات، لا يتحمل الصعوبات وينفرط سلكه سريعاً ويهرب من المعركة فوراً. والتربية اليوم مخرِّبة بسبب الحسّاسية، الحسّاسية تزداد بشكل غريب جداً، الذكور حساسون والإناث مفرطات في الحسّاسية لدرجة صار التحسّس يخربط الحياة اليومية والعلاقات البشرية، والحسّاس لا يتحمّل الصدمات، فإن أصابته الصدمات أُصيب بإنهيار عصبي أُصيب بألوان من الأمراض النفسية، كمية كبيرة من الأمراض النفسية اليوم مرتبطة بالحسّاسية المفرطة، والحساسون صاروا كثيرين جداً جداً ويشكون من أمراض متعدّدة وأوجاع متعدّدة وفي النتيجة الحسّاسية هي التي تتسبب بأوجاع عديدة جداً اليوم وتحتاج الى مداوات نفسية. المهمّ أن نربّي أولادنا أبطالاً روحيين جاهزين للنضال الروحي وللمواجهات الروحية ضدّ الشياطين ضدّ الأهواء ضدّ كلّ الصعوبات.
في هذا الزمان الذي صار الركض فيه هو المهمّ لا الجري الوئيد الخطى، يتحتّم على المرء أن يكون مناطحاً كبيراً ومصارعاً كبيراً يُصارع الصعوبات والشدائد والإضطهاد والأمراض وكل شيء، ولذلك يجب تربية الأولاد تربية متانة، متانة شخص بدون حسّاسية بدون جبن بدون قساوة قلب. أنا لا أقصد بالمتانة أن يكون الإنسان يابساً كالحجر، لا، المسيحية تركّز على المحبة، والمحبة لُطف وإنسانية وحنان ورأفة وشفقة وتعاطف، المحبة تجتمع مع متانة الشخصية، والشخص المتين جداً هو القادر على أكبر قدر من المحبّة، بينما المائع عاجز عن المحبة الحقيقية. القلب الكبير هو القادر على المحبّة الحقيقية أمّا الإنسان الذي يميل يُمنةً ويُسرةً ويتمايل كالقصبة في مهبّ الرياح، هذا غير قادر أن يكون ذا إيمان حار ومحبة حارة ورجاء حار وثقة مطلقة بالإله الذي يُعزّي قلوبنا المائتة بالخطايا. ولذلك فالحياة المسيحية تتطلّب مصارعين كبار، أُفضلهم على ايّ مصارع في الحروب، وهمّ أقوى من كل المصارعين في قادة الحروب، يصارعون الشياطين الغير المنظورين وهذا أعسر من صراع البشر المنظورين أو صراع الحيوانات المنظورين، ينتصرون على الشياطين كما يقول بولس في أفسس هذا عمل الجبابرة، هذا ليس عمل مَنْ كان، هذا عمل الجبابرة الكبار الذين ينتصرون بجبروت كبير جداً. كيف يكون هذا بدون متانة؟ إنتصر موسى على العمالقة، والعمالقة مشهورون ببطولاتهم ونحن مثل موسى ننتصر بربنا يسوع المسيح على الشيطان الأقوى من العمالقة بكثير.
إذاً المسيحي بطل وهو البطل الحقيقي، والشهداء همّ الأبطال الحقيقيون. والقرن الواحد والعشرين عرفَ حوالي خمسين مليوناً من الشهداء الأورثوذكس وأكثر. هذه الكمية من الشهداء الأحرار الطَوْعيّين مهمّة جداً، وتقدّموا الى الإستشهاد لا لغرض أرضي بل للفوز بالملكوت السماوي، عالمين أن الارض وما فيها لا تعادل نقطة من نور ربنا يسوع المسيح. طمعوا في حياة النور فقدّموا أنفسهم ذبائح على مذبح النور الحقيقي، والنور الحقيقي هو ربنا يسوع المسيح. إذاً الصراع الداخلي هو سمة الإنسان المجاهد الحقيقي، يُصارع في الليل والنهار يُصارع وهو نائم لأن ضميره الحيّ يبقى حيّاً في النوم، فلا يسمح للأهواء أن تطلّ برأسها، وإنّ أطلّت فبصورة عابرة لأنها مرفوضة، وفي نهاية المطاف ينتصر حتى في الأحلام فلا يعود شيء يزعجه في الحلم، يكون قد إنتصر على الأهواء والشهوات والرغبات والميول، ولجمَ هذه كلّها بلجام الروح القدس. أما تهاب الروح القدس؟ (كما يقول بولس في رومية). فالمسيحية إذاً ديانة الصراع الداخلي. تحسين الأحوال الخارجية أمر جيّد ولكن ما الفائدة إن ملكنا الكون برمته وذهبنا الى جهنم.
الإهتمام بالحياة الداخلية هو مصير كلّ إنسان على وجه الأرض وإلا أضعنا العمر سدىً. العلم والثقافة والصناعة والإجتهاد والكثب أمور جيّدة إن كانت محلّاة، ولكن في النتيجة الى أين نذهب؟ قد نصل غداً الى المريخ والكواكب، أمرٌ جيّد ولكن هل هذا يكتب لنا الأبدية؟ العلماء اليوم يركضون ركضاً يسابقون الصواريخ إن أمكنهم، ولكن الى أين سيصلون؟ وصلوا الى النجوم والقمر والكواكب وماذا بعد ذلك؟ القبر. إن كان القبر نهايتي فإذاً عليّ أن أُعيد النظر في كلّ شيء، إن أعدتُ النظر في كل شيء وجدتُ كل شيء عابراً وكلّ شيءٍ مؤقتاً وكلّ شيء زائلاً ولا يبقى للأبدية الصالحة إلا الشهداء الحقيقيون الذين عاشوا عمرهم على الأرض شهداء بالسيف أو شهداء بنمط الحياة الفاضلة.
في مفهومنا المسيحي ليس شهداء السيف وحدهم شهداء، كلّ مسيحيٍّ يصارع داخلياً ويقاوم ويحارب الأهواء والشهوات وينتصر هو شهيد. كثيرون من الآباء إعتبروا النسّاك شهداء عظام وقالوا إنّ الشهيد يموت في لحظة بينما النسّاك يستشهدون كل العمر. فلا زمنان في حياة المسيحي زمن للرخاوة وزمن للجهاد، حياته كلها صراع داخلي بصبر وطول أناة. لماذا يرتدّ الى الوراء كثيرون؟ لأنهم بلا صبر بلا طول أناة، بدون الصبر وطول الأناة يكون الإنسان متسرّعاً ملحاحاً ضجوراً متردداً متثاقلاً يائساً حائراً. لذلك المسيحي يتسلّح بالصبر وطول الأناة وصبره لا يفرغ أبداً، والصبر وطول الأناة ضدّ الضجر ضدّ الملل ضدّ السأم ضدّ التذمّر ضدّ التسرّع ضدّ النكوث ضدّ الحيرة ضدّ التردّد، فالصبور الحازم الطويل الأناة يعرف أن كلّ الطوارئ هي إمتحانات شيطانية لكي يَضجر ويملّ ويترك يسوع المسيح.
يجب أن ننتبه ،كلّ شيءٍ يجعلنا نرتاب في يسوع أو نتضايق أو نتراجع أو نتراخى أو نتنكّر بالصراع، كلّ هذه أعمال شيطانية. قد نتكّل على أنفسنا كثيراً ونُصدَم عند الأزمات، لأن إتكالنا على ذاتنا فشل، نحن روحياً لا نتكّل على أنفسنا بل نتكّل على الله. الإتكال على الذات بدون الإتكال على الله يفشل مهما طال الزمن، أمّا الإتكال على الله يجعلنا دائماً واثقين بأننا سنتابع الجهاد حتى النهاية. الأمور عسيرة والصراع عسير، والمطلوب جهود مضنية مدى الحياة، والإنسان عاجز عن الجهود المضنية، الإنسان يحبّ الراحة يحبّ الكسل يحبّ الميوعة يحبّ الإستسلام يحبّ فراغ الرأس، نعرف كيف رؤوس الناس لا تتحمّل شيئاً يضغط على أعصابهم، الناس حريصون على بقاء الأعصاب هادئة، كلّ ما يحرّك أعصابهم يزعجهم، لماذا؟ لأنهم أعداء الصراع، الناس يحبون الطمأنينة الكاذبة والأمن الكاذب.
الأمن الحقيقي هو في الإنتصار على الشرور، بدون الإنتصار على الشرور كلّ أمنٍ هو سلامٌ مع الشيطان هو هدنة مع الشيطان، والإنسان المسيحي لا يُهادن الشيطان بل يُسرّ بهجوم الشيطان عليه لأنّه يعرف أن الفرصة صارت سانحة لكي يُحطّم رؤوس الشياطين. الإستسلام مرض روحي كبير والناس مصابون به لأنهم لا يريدون أن يزعجوا أنفسهم، هم حريصون دائماً على الهدوء اليومي بدون صعوبات، أمام الصعوبات يضطربون ينهارون هذا دليل ضعف البنية الروحية ضعف التربية.
الإنسان الذي ربّاه والداه تربية حسنة يخرج الى الحياة مصارعاً، أما الإنسان الذي تربّى تربية الهرّة المدللة فهذا غير قادر على الصراع وعلى النضال وعلى الصمود، الصمود في المعركة الروحية مهمّ جداً، لا يجوز أن ينهزم، والمرتدّ لا تسرّ به نفسه، المرتدّ يسقط في جهنمّ، المسيحي لا يَرتدّ لا يَنكر المسيح أمام المشانق، إن نكر المسيح أمام المشانق سقط وصار إبن جهنم. فلذلك الصمود صمود الأبطال الصناديد هو المطلوب. ولكن من أين ناتي بالصناديد والأطفال يعيشون على الحرير منعّمين مخنّسين لا حيل لهم ولا قوّة، يقضون الوقت في التسليات الفارغة، فالألعاب السخيفة بلا متانة بلا قوّة. التدليل مضرّ، التدليل يخرّب الأولاد، ولذلك همّ في وضع سيء جداً اليوم.
التربية اليوم تنزع الإنسان، يجب تغيير الأساليب وتعويد الأولاد على تحمّل الصعوبات ومواجهة الصعوبات ويجب أن تتفرّج الأم على طفلها وهو ينتصر على الصعوبات ويجبّ عليها أن تدرّبه على ذلك ليخرج الى الحياة بطلاً.
الفصل الثامن والعشرون: حلبة الصراع
بولس الرسول إستعمل أيضاً عبارة الصراع في الحلبة، ومصارعٌ ينال الجُعالة. هكذا شاء الله أن تكون حياتنا الروحية صراعٌ بين الروحي والجسدي لننال الجائزة. لا يمكن أن يعقُلَ عاقلٌ أن الملكوت السماوي يُنال في التهاون والإنغماس في الحياة العالمية الفاسدة. فلا بدّ إذاً من السيطرة على كلّ ما هو ساقط في الإنسان، على كلّ ما هو منحرف في الإنسان، على كل ما هو أرضي زمني زائل في حياة الإنسان، وهذا يتطلّب بطولة روحية، والبطولة الروحية تتأتّى من الجهاد المرير ضدّ الأهواء والشهوات والرغبات وكلّ ما هو فاسد وعابر لأجل إقتناء الفضائل والإمتلاء من الروح القدس. العملية شاقة وتستمر مدى العمر.
ماذا يصيب الإنسان العادي؟ الضجر والملال والكلال واليأس والتراخي والتضجّر وعيوب أخرى كثيرة تُبنى على هذا الواقع. لا بدّ للصراع الداخلي من أعصاب روحية متينة جداً جداً لكي يستمر الإنسان في الجهاد الروحي، وهذا الصراع يتطلّب النفس الطويل والإعتدال والحكمة والرساغة. فالتطرّف ينقلب الى عكسه. فإذاً لا بدّ من التأنّي وأن تكون الخطوات محسوبة بفهم وجدّ ونشاط لا بتراخٍ.
كلّ حنان وعطف على الأهواء الجسدية يؤدّي الى الفلتان. لا نسحق الجسد بل نسيطر على أهوائه، فقد يخطأ المرء فيفكّر أن الروحانية هي في سحق الجسد، نحن لا نسحق الجسد ولا نسحق الأهواء بل نطوّرها نعدّلها نبدّلها نحوّلها، فبدلاً من أن أصرف طاقاته في القمار في السكر في الطعام والشراب في شتى أنواع الهوس من مسكرات ومخدرات وقمار ولهو وبذخ وفلتان، هذه القوى أجمعها وأضعها في خدمة الله. فالمسألة إذاً هي تحويل قواي من الإنجراف نحو ما هو أرضي وزائل الى ما هو أبديٌّ وخالد لأفوز بالملكوت السماوي.
الملكوت السماوي لا أربحه بالتهاون وبالرخص، ثمنه غالٍ، الشهداء دفعوا حياتهم ثمن ذلك، وكل إنسان يريد ملكوت الله يدفع دمه أو أعراقه، أعراقه في الأصوام في الصلوات في السجود في العبادة في التنهدات في التوبة في الأعمال الصالحة.
الذين يتوهمون أن حياة التقوى هي حياة الخنوع غافلون وضالون، التقوى هي حياة الأبطال، لا بدّ من البطولة الروحية في كلّ أعمالنا. ما نعيبه على الناس العاديين يصبح في الإيمان فضائل، نقول فلان عنيد رأسه يابس عقله متحجّر غير منفتح غير متجاوب غير إجتماعي، في الإيمان نقول فلان عنيدٌ في الحق فالعناد في الحق فضيلة كبرى، لا مساومة في الحقّ بل تمسّك مطلق بالحقيقة. نقول فلان شرس مؤذٍ مضرّ في الأعمال الخيرية وفي الفضائل، البطولة هي بطولة في قمع الأهواء في قمع الذات في السيطرة على الذات في بذل الذات في العمل الصالح. نقول فلان ليّن العريكة حتى الخنوع والضعف والهزال والإستسلام والإنصياع والطاعة العمياء الخرقاء، في الإيمان نقول فلان شفيق رحيم حنون محبٌّ لطيفٌ ينكبّ على آلام الآخرين وأحزانهم، يشاركهم أتراحهم وأفراحهم، فلان رقيق القلب ولكنه ببطولة ينصرف الى أعمال الخير كشهيد كمصارع كبير لا يتهاون في عمل الخير يبذل نفسه في عمل الخير برجولة الرجال لا بميوعة المخنثين.
فإذاً الإستعمالات العامية المنبوذة تنقلب في الإيمان الى فضائل، لماذا؟ لأننا حولنا القوّة والقوى بالجمع والطاعات بميدان الإنتحار الروحي الى ميدان الفضائل. فلان مدمن المسكرات والمخدرات وو.. وفي الحياة الروحية نقول فلان سكران روحياً بحب الله فلان مدهوش مأخوذ بالعشق الإلهي. فالمسألة واحدة هذا سكر وهذا سكر هذا هوس وهذا هوس ولكن هذا هوسٌ أرضيٌّ فانٍ مضرّ مؤذي إنتحاري وذاك عشق إلهي وهذا في كل الأمور. للقضية وجهان وجهٌ سيء وبالمقابل وجهٌ حسن، والإنسان الروحي يسير وراء الأشياء الحسنة فيربح ملكوت السموات، والحياة على الارض فانية وكل الناس فانون فإذاً لا أضيع الستين والسبعين والثمانين والتسعين سنة من العمر لأجل الفناء، أُنفقها في يسوع المسيح لأمتلأ من روحه القدّوس الذي أسأله أن يُشعّ فيّ بعد الموت كالشمس المضيئة. يسوع المسيح أنت قلت أن الأبرار سيكونون في ملكوت الآب كالشموس. وأسالك يا حبيبي أن تجعل الناس جميعاً في ملكوتك شموساً مضيئة لمجد أبيك السماوي الذي لك معه ومع الروح القدس المجد والإكرام والسجود الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.