إلى متى بالظلم تقضون و وجوه الأشرار تحابون ؟ (مز 82 /2)
حول الموت والصلاة لأجل الراقدين
حول الموت والصلاة لأجل الراقدين
من أحاديث المطران أنطوني سوروجسكي (بلوم)
يتحيّر الكثيرون لفكرة الصلاة لأجل الراقدين فيتساءلون ما هو الهدف منها وما الذي نأمل في التوصّل إليه من خلالها، وهل يمكن أن يتغيّر مصير الراقدين نتيجة للصلوات من أجلهم وهل من شأن هذه الصلوات إقناع الله بأن يكون غير عادل وأن يمنحهم ما لم يستحقّوه؟
إذا كنتم تؤمنون بأن الصلوات لأجل الأحياء تساعدهم، فلماذا تعتبرون من غير المعقول أن تصلّوا لأجل الراقدين؟ إن الحياة متواصلة بحسب قول الإنجيلي لوقا:
"وَلَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ" (لو20: 38).
ليس الموت نهاية، بل مرحلة معيّنة في مسيرة الإنسان التي لا تتجمّد في لحظة الموت كحجر. إن المحبّة التي تتدفق من صلواتنا لا يمكن أن تذهب هباء، فإذا كان للمحبة سلطان على الأرض ولم يكن سلطان بعد الموت فهذا يتناقض مع قول الكتاب بأن:
"المحبة قوية كالموت" (نش8: 6)
ومع خبرة الكنيسة التي تدلّ على أن المحبة أقوى من الموت لأن المسيح غلب الموت في محبّته للجنس البشري. ليس من الصحيح الاعتقاد بأن صلة الإنسان بالحياة على الأرض تتنهي في لحظة موته. إن الإنسان طوال حياته يبذر بذوراً تنمو في نفوس الآخرين وتؤثر على حياتهم، وإن الثمار التي نشأت من تلك البذور ليست ملكاً لمن أتى بها وحده بل لمن كان قد بذر البذور أيضاً.
على سبيل المثال، الكلام المكتوب أو المنطوق للوعاظ والفلاسفة والكتّاب ورجال السياسة والذي قد غيّر مصير إنسان واحد أو البشرية كلّها يبقى في دائرة مسؤولية أصحابهم سواء أكانت نتائج هذا الكلام سلبية أو إيجابية. وبالتالي يتعلّق مصير هؤلاء الناس بنوعية تأثيرهم على حياة الذين يعيشون بعدهم.
إن آثار حياة كل إنسان تبقى قائمة حتى يوم الدينونة، ويتحدّد مصيره في الأبدية ليس فقط بالفترة القصيرة من حياته الأرضية بل بنتائج حياته وآثارها الإيجابية والسلبية. إن الذين قبلوا البذور مثل التربة الخصبة بإمكانهم التأثير على مصير الراقدين بصلواتهم التي يطلبون من الله فيها أن يبارك الإنسان الذي كان قد غيّر حياتهم وساعدهم على إيجاد معنى الحياة.
وعندما يتوجهون إلى الله بهذه المحبة والإخلاص والشكر غير المحدود ويدخلون الملكوت الأبدي الذي لا يعرف الحدود الزمنية، فيصبحون قادرين على التأثير على مصير الإنسان الراقد. إننا لا نطلب من الله أن يكون غير عادل، كما لا نتضرّع إليه أن يغفر الإنسان الراقد بالرغم من كل ما ارتكبه من الخطايا فحسب، بل نرجو منه أيضاً أن يباركه من أجل كل ما صنعه من الخير وحياة الناس الآخرين دليل على ذلك.
إن صلاتنا هي عمل المحبة والشكر لأن حياة الإنسان الراقد تجد استمراراً في حياتنا إلى حدّ ما. لا نرجو من الله أن يكون غير عادل ولا نتصوّر أن محبّتنا وتعاطفنا يفوق محبّة الله، ولا نطلب منه أن تزداد رحمته إثر طلباتنا، بل ندلي بشهادة جديدة أمام الله نرجو منه قبولها وبركة الإنسان الذي لعب دوراً كبيراً في حياتنا.
ومن المهمّ أن نفهم أن الهدف من هذه الصلاة ليس إقناع الله بشيء بل الشهادة بأن حياة الإنسان لم تذهب هباء وأنه كان يحبّ ويُحَبّ.
كل من كان مصدراً للمحبة بشكل من الأشكال له حق الدفاع أمام المحاكمة الإلهية، ولكن الذين بقيوا على الأرض بعده عليهم الإدلاء بالشهادة بما كان قد عمله من أجلهم. لا يجري الحديث هنا عن العواطف الطيبة فقط.
يقول القديس إسحق السرياني أن الصلاة يجب ألا تقتصر على الكلام، بل لا بد أن تصبح حياتنا كلها صلاة لله. ولذلك إذا أردنا أن نصلّي من أجل أحبّائنا الراقدين فلا بد أن توافق حياتنا هذه الصلاة. لا يمكن أن نكتفي بشعور ينشأ من وقت إلى آخر تجاههم ونطلب حينئذ من الله شيئاً لأجلهم، بل من الضروري أنّ كل بذرة محبة وحق وقداسة كانوا قد بذروها تأتي بثمر في حياتنا،
بحيث يمكننا أن نتمثّل أمام الله لنقول إن الإنسان الفلاني قد بذر خيراً وكانت له صفات جعلتني أسير في الطريق الصحيح، ولكن هذه الثمار من الخير ليست لي بل له وهي مجده وتبريره إلى حدّ ما.
للكنيسة الأرثوذكسية نظرة معيّنة إلى الموت والدفن. تبدأ صلاة الجناز بقول: "تبارك الله إلهنا..."، فلا بد من إدراك مدى خطورة هذا الكلام الذي يقال غصباً عن الموت والخسارة الصعبة والألم. أساس هذه الصلاة هي صلاة الصباح التي هي صلاة التمجيد والنور، حيث يقف أقرباء الراقد حاملين شموعاً مشتعلة في أيديهم وهي رمز القيامة. الفكرة الرئيسية من هذه الصلاة أننا نواجه الموت في الحقيقة، ولكن الموت لم يعد يخيفنا إذا كنّا ننظر إليه من خلال قيامة المسيح.
وفي نفس الوقت من شأن هذه الصلاة إبراز ناحيتين للموت وازدواجيته. من ناحية، ليس من المعقول قبول الموت، إنه رهيب ونحن قد خُلقنا للحياة، ومن ناحية أخرى، الموت هو مخرج وحيد من العالم الذي أصبح رهيباً بسبب الخطيئة البشرية.
لو ثبت عالم الخطيئة هذا إلى الأبد كما هو لكان جحيماً، ولكن الموت هو شيء وحيد يسمح بالخروج من هذا الجحيم المملوء بالألم والخطيئة.
إن الكنيسة ترى هاتين الناحيتين، ونجد القديس يوحنا الدمشقي يتحدث في هذا الموضوع بكل وضوح، لأن الإنسان المسيحي لا يمكن أن يكون رومانسياً إذا جرى الحديث عن الموت.
الموت هو الموت، وعندما نتحدث عن الصليب فيجب أن نتذكر أنه آلة الموت. الموت هو الموت بكل طبيعته البشعة والرهيبة، ولكن في نهاية المطاف هو الشيء الوحيد الذي يعطينا الأمل.
من ناحية، نشتاق إلى الحياة، ومن ناحية أخرى، نشتاق إلى الموت أيضاً لأنه لا يمكن التوصل إلى كمال الحياة في هذ العالم المحدود. لا شكّ أن الموت هو الفساد ولكن هذا الفساد يقودنا بفضل النعمة الإلهية إلى كمال الحياة الذي لولا الموت لما كان من الممكن التوصّل إليه.
يقول بولس الرسول: "الموت هو ربح" (في1: 21) لأننا ما دمنا في هذا الجسد نكون منفصلين عن المسيح. وعندما تكتمل مسيرتنا الأرضية بغضّ النظر عن الفترة الزمنية يجب أن نترك هذه الحياة المحدودة لدخول الحياة الأبدية.
الجناز في الكنيسة الأرثوذكسية يقام حول التابوت المفتوح لأن الكنيسة تنظر إلى الإنسان ككائن متكامل له جسد وروح تهتمّ بهما على حد سواء. الجسد الذي تم تحضيره للدفن ليس كمجرّد ملابس تم خلعها لتحرير النفس كما يظن البعض، بل الجسد بالنسبة للإنسان المسيحي أهم من ذلك بكثير، فكل ما يحدث للنفس يشارك فيه الجسد أيضاً.
إن التواصل مع هذا العالم ومع العالم الإلهي يتمّ من خلال الجسد إلى حدّ كبير. كل سرّ كنسي هو هبة من الله للنفس البشرية يشارك فيها الجسد أيضاً من خلال الأعمال والموادّ المعيّنة مثل الماء والزيت والخبز والخمر.
لا يمكن أن نصنع خيراً أو نرتكب خطيئة إلا إذا شارك الجسد الروح في ذلك. ليس الجسد مخصصاً لمجرّد ولادة النفس ونضوجها ورحيلها، بل منذ اليوم الأول وحتى اليوم الأخير يكون الجسد مشاركاً للروح في كل ما يخصّها، ولا يكون الإنسان متكاملاً إلا بالروح والجسد معاً.
فيبقى الجسد إلى الأبد مختوماً بختم الروح وحياتهما المشتركة. كما يرتبط الجسد بالروح هكذا يرتبط بالرب يسوع المسيح من خلال الأسرار الكنسية، فعندما نتناول جسد ودم الرب يتّحد الجسد بالعالم الإلهي الذي يمسّه من خلال هذا السر.
إذا كان الجسد بلا روح فهو مجرّد جثة، أما الروح بلا جسد، حتى لو كانت روح القديس الصاعدة إلى السماء مباشرة، فهي لم تتوصل بعد إلى حالة النعمة تلك التي يُدعى إليها الإنسان بعد انقضاء الدهر عندما سينير مجد الله سواء في الروح أو الجسد.
تُرجم من كتاب "مدرسة الصلاة" للمطران أنطوني سوروجسكي