فحيث يكون كنزكم يكون قلبكم (لو 12 /34)
الملكوت على الأرض كما في السّماء ! - الأرشمندريت توما بيطار
الملكوت على الأرض كما في السّماء!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي - دوما
قالوا انبنت كنيسة فاخرة باتت محطّ زهو النّاس ومفخرة الجماعة إلى أن جرى الكشف عمّا أقلق القوم وأثار فيهم الجدل وجعلهم يضربون أخماسًا بأسداس. المال الّذي بُنيت به الكنيسة كان نجسًا. مَن تبرّع به حصّله من منابع السّوء.
انطرح السّؤال: أيُعقل أن تُبنى كنيسة من مال الحرام؟ بعضهم قال لِمَ لا طالما أنّ ثمّة بناء أُشيد من حجر. المؤمنون يقدّسونه باجتماعهم فيه. ليست العبرة بأيّ مال علا البنيان بل بما يجعل المؤمنون فيه من عبادات. هكذا ظنّ فريق منهم.
ولمّا يشاركهم آخرون قالوا إنّ مال الحرام يترك في الموضع مناخًا من الهوى الإبليسيّ ينبثّ في الحجر والبشر ويفسد العبادة. كيف يمكن لما فاحت منه رائحة الخطيئة والنّتن أن يُسهم في تقديس العباد؟ أوليس الحجر، في كلّ حال، إلى البشر والبشر إلى الحجر؟
أليس الموضعُ حاضنَ النّاس والنّاسُ حضنة البيت؟ أيُعقَل أن لا ينجم عن السّوء تأثير وتأثّر يتبادله النّاس والأرض! على هذا، وسط الجدال، اتّفق الأضداد على تحكيم شيخَين روحيَّين، وما يُفتيان به يُتبنّى!
حملوا القضيّة إلى الأوّل فقال انقضوا المكان حتّى إلى أساساته، لا تتركوا حجرًا على حجر إلاّ تقلبونه لأنّه لا خلطة للنّور مع الظّلمة ولا شركة لله مع بليعال! ثمّ نُقلت المسألة إلى الثّاني فقال:
أبقوا على الكنيسة ولكن افتدوها بكمّ من المال تنفقونه على الفقراء.
إذًا لا حلّ أُعطي بل اثنان. أخيرًا ارتُئي أن يُبقَى على الكنيسة وتُوزَّع العطايا على الفقراء.
هذا اعتُمد لأنّ المال المستعان به خَفِيَ على القوم مصدرُه، وما اعتُبر الحلُّ المعتمدُ تشريعًا لاستعمال أموال السّوء، عن وعي، ثمّ افتدائها بعطايا للفقراء. لذا العادة القويمة، اليوم، ألا يؤخَذ المالُ الأسود لبناء الكنائس بل لإعانة الفقراء فقط.
أمّا الكنائس فالمسعى هو التّثبّت من نقاوة الأموال المتّخذة لبنيانها حتّى تكون الحجارة تعبيرًا عن نقاوة الإيمان وسلامة القلوب واجتهاد القوم أن تكون تقدماتُهم من أتعابهم لا صدى لأهوائهم.
في عالم تكدّه المادّيّة لا قيمة لجدال من هذا النّوع. النّاس يبنون الكنائس الحجريّة كأنّها قِيَمٌ في ذاتها. الإنجازات لدى الأكثرين فضيلة، بِغَضّ النّظر عن مصادر ما تتحقّق به هذه الإنجازات. مال الرّقيق الأبيض والرّشوة والتّهريب والغشّ والمخدّرات مال تنفقه في شهواتك أو تنفِّذ به مشاريع للرذيلة أو تبني به الكنائس لا فرق. المال، واقعًا، سيِّد مطلق في هذا الدّهر لا تُنجِز شيئًا من دونه، ولا تنظر، عادةً، في ما أتى منه بل في ما هو ذاهب إليه.
هكذا يَتصوّر الأمورَ أكثرُ النّاس وهكذا يتصرّفون. لذا تختلط عطايا المبارَكين السّالكين بمخافة الله، الّذين يحصّلون القرش بالعرَق والأمانة، بأموال الغشّاشين والسّماسرة والسُّرَّاق المتعطّشين إلى المجد الباطل.
مفهومُ أنّ ما لله يُنشَأ بالإيمان والبَرَكة ليس المستَنَد المعوَّلَ عليه في الممارسة الكنسيّة، اليوم، بعامة. المتعارَف عليه أنّك تجمع المال من المتبرّعين بغضّ النّظر عن مقاصدهم ومراميهم، من الحفلات، من الأنشطة المختلفة، وحتّى من التّومبولا وما شاكلها، ثمّ تبني ثمّ تكرِّس بتلاوة النّصوص وإتمام الطّقوس.
لا هكذا يُشاد البنيان الكنسيّ! لا المال يبني الكنائس ولا الطّقوس تجعل الموضع مسكنًا للنّعمة الإلهيّة بالضّرورة. الكنائس تُبنَى بالبرَكة أوّلاً وثانيًا وأخيرًا. لذا قيل "إن لم يبنِ الرّبّ البيت فباطلاً يتعب البنّاؤون". الباني هو الله. هذا هو معنى بناء الكنائس بالبَرَكة. للمؤمنين دورُهم طبعًا. وأقول المؤمنون لأنّه ليس غير المؤمنين ولا بغير الإيمان يجوز أن تُبنى الكنائس.
أمّا دور المؤمنين فأن يقدِّموا من نتاج إيمانهم وثمر تعبهم ما تيسّر. لذلك فقط المال النّظيف مقبول.
هذا قد يكون كثيرًا أو قليلاً، كافيًا أو غير كاف. لا يهمّ. المطلوب أن يقدّم المؤمنون من السّمك الّذي اصطادوا (يو 21: 10). لا ينهمنّ المؤمنون بجمع المال من هنا وهناك كيفما اتّفق ليُكملوا البنيان. هذا عمل الله وليس عملهم.
لا نعرف تمامًا كيف يعمل الله. فقط نعرف أنّه يعمل. هو يحرّك القلوب وله خدّامه. لا يجوز أن تكون الكنيسة من بناء النّاس بل من بناء الله والمؤمنين معًا.
وليس عملُ الله، في ذلك، تحصيلَ حاصل إن لم يسلك المؤمنون في الإيمان والطّلبة. أن يعتمد النّاس على تدابيرهم بالكامل ويعتبروا عون الله لهم أمرًا مفروغًا منه، كلامٌ في الهواء. الكنيسة الّتي تُبنَى ببركة الله وغيرَة المؤمنين عجائبيّة تحديدًا لأنّ إصبع الله فيها. مكانَ صلاة تكون لا مجرّد مكان اجتماع.
متى اجتمعوا فيها اجتمعوا إلى ربّهم لا فقط لإتمام طقس. الله يكون حاضرًا فيها بشكل مميّز. يكون مُتّخِذَها ومَن فيها كخاصة له. الكنيسة الّتي تبنيها البَرَكة تساهم في جعل المؤمنين كنيسة، فتكون كنيسة الحجر معينًا وتعبيرًا عن كنيسة البشر ويكون الكلّ تعبيرًا عن جسد المسيح.
بالأيقونة نتعاطى الإلهيّات، والبناء الكنسيّ أيقونة حجريّة تحدِّث عمّا فوق.
في مقابل المادّيّة المزعومة لهذا الدّهر وما تتضمّنه لجهة النّفسانيّات والفكريّات، الحقّ أنّنا نتعاطى الخليقة روحيًّا. منطلَق كلِّ ما هو قائم، إنسانًا وحجرًا ونباتًا وحيوانًا وما منه وما إليه، منطلَق روحيّ وكذلك مآلُه. ليس هناك ما يمكن اعتباره مادةً حياديّة. الله مالئٌ الكلّ ولا شيء منعزلاً عنه.
كذلك رئيس سلطان الهواء، الرّوح الّذي يعمل الآن في أبناء المعصية (أف 2: 2).
لا شيء في الإنسان أو يمتّ إليه إلاّ وراءه قوى روحيّة إلهيّة أو شيطانيّة مقاوِمة لما لروح الله. ثمّة تضاد قائم، على كلّ صعيد، بين ما لله وما لإبليس. المحبّة تؤثّر في كلّ ما لنا وما هو من حولنا وكذلك البغضاء. اسم الله يؤثّر وتغييب الاسم يؤثّر.
سلام المسيح يؤثّر وفكر الشّيطان يؤثّر. الرّحمة تؤثّر والحسد يؤثّر. ما نعانيه وتعانيه الخليقة وكذلك ما نعاينه، إن كنّا لننظر بعين القلب، هو انعكاس لهذا التّضاد بين ما لروح الله وعدوّ الله. ما في قلب الإنسان، في ما يختصّ بما للإنسان، هو المصدر، وما للجسد والنّفس والفكر والمادّة هو أداة. لذا نرى في المرض، مثلاً، واقعًا روحيًّا أولاً وأخيرًا، وكذلك في الألم.
العلاقات كلّها مغمّسة بالرّوحيّات. الحضارات والثّقافات والعلوم والآداب قيم روحيّة، سالبة أو موجبة، أوّلاً وقبل كلّ شيء. الأسد الّذي صار خادمًا للقدّيس جيراسيموس الأردنيّ حرّكه روح الرّبّ حتّى تصرّف كأنّه كائن عاقل.
كذلك الكلب المسعور الّذي هاجم القدّيس سلوان الآثوسي فعل فيه إبليس. لا هذا ولا ذاك كان استثناء بل لأنّ القوى الدّافعة لكلّ الخليقة روحيّة الطّابع، درينا أو لم ندرِ.
على هذا ليس بناء الكنائس أمرًا مادّيًّا بحتًا. قبل البناء البرَكة، وقبل المال ما في قلب الإنسان. ما تُبنى فيه الحجارة من قوى روحيّة هو المفاعل المؤثّر في ما يُشاع في المكان أوّلاً. نحن نشيد قيمًا روحيّة قبل أيّ شيء آخر. هيكلنا النّعمة أولاً وكذا موضع اجتماعنا. لذا نحرص على أن نبني الملكوت في كل ما نؤدّيه.
ليست العبرة في أن نطعم الجيّاع وحسب، العبرة في أن نحبّ. ولا العبرة في أن تكون لنا أبنية جميلة المظهر، هذه ارتحلت إلى الأبد مع هيكل أورشليم الأرضيّة، العبرة في أن تكون لنا أبنية تحدّث عن بهاء الملكوت الّذي نحن إليه.
"كلّ ما فعلتم فاعملوا من القلب كما للرّبّ ليس للنّاس، عالمين أنّكم من الرّبّ ستأخذون جزاء الميراث" (كو 3: 23).
عندما تنفتح العيون على ما للرّبّ الإله في كلّ عمل وقول يزدهر الملكوت فيما بيننا، وعندما يقتصر الجهد على ما لأمجاد النّاس يُغيَّب الملكوت ولو ملأنا الأرض كتب لاهوت ومؤسّسات وكنائس. الأهمّ أن يكون ما هو هنا أيقونة لما هو فوق!