"كَرَاهَةُ الرَّبِّ شَفَتَا كَذِبٍ، أَمَّا الْعَامِلُونَ بِالصِّدْقِ فَرِضَاهُ" ( أمثال 12: 22)
شفاء الابرص 2011 - البطريرك بشارة الراعي
أحد شفاء الأبرص 13 آذار 2011 |
|
|
روم 6/12-23 مرقس 1/40-45 نعمة يسوع وحدها تبرر الانسان
من آية تحويل الماء الى خمر فائق الجودة، تبدأ عملية تحويل الانسان من حالة المرض الى حالة الصحة، ومن حالة الخطيئة الى حالة النعمة، ومن حالة الفساد الى حالة الطهر والنقاء. يسوع، فادي الانسان، هو طبيب الاجساد والارواح. زمن الصوم هو زمن التحوّل والتجدد.
اولاً، القراءات المقدسة انجيل القديس مرقس 1: 40-45 أَتَى الى يَسُوعُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه، فجَثَا وقَالَ لَهُ: "إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي!". فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: "قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!". وفي الـحَالِ زَالَ عَنْهُ البَرَص، فَطَهُرَ. فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ وصَرَفَهُ حَالاً، وقالَ لَهُ: "أُنْظُرْ، لا تُخْبِرْ أَحَدًا بِشَيء، بَلِ اذْهَبْ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِن، وَقَدِّمْ عَنْ طُهْرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُم". أَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وبَدَأَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ويُذِيعُ الـخَبَر، حَتَّى إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا أَنْ يَدْخُلَ إِلى مَدِينَةٍ عَلانِيَة، بَلْ كانَ يُقِيمُ في الـخَارِج، في أَمَاكِنَ مُقْفِرَة، وكانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَان. ايمان والتماس وشفاء. الابرص يعرب عن ايمانه بأن يسوع قادر على شفائه، فتوسّل اليه ليشفيه. يسوع استجاب لصلاته، واعطاه حسب ايمانه اي الشفاء من البرص، هذا المرض المشوّه لجسد الانسان، والمعدي الذي يفصل المصاب به عن الجماعة، ويلزمه بالعيش في البراري. لكن يسوع هو دائماً صاحب المبادرة الاولى الذي يبحث عن الخاطىء والمريض ليشفيه. أليس هو الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس، كلمة الله وابن الآب، الذي "نزل من السماء لاجلنا ولاجل خلاصنا"، كما نقول في النؤمن؟ اسمه " يسوع" يعني " الله الذي يحلّص شعبه من خطاياهم" ( متى 1: 21)، و" عمانوئيل ? الله معنا" ( متى 1: 23). قصد يسوع الابرص في القفر: " قام قبل طلوع الفجر، وذهب الى مكان قفر، واخذ يصلي هناك... ثم سار في كل الجليل، فوافاه ابرص". البرص هو رمز الخطيئة التي تشوّه نفس الانسان، عقله وارادته وقلبه، حريته وضميره. انها مرض مميت مثل البرص، يدنّس الكائن البشري، المخلوق في الاساس على صورة الله، صورة القدوس والبارّ. بالخطيئة خسر الانسان براءته، ولا يستطيع ان يصبح باراً من جديد إلاّ ببرارة الله، وبرارة حبّه. هذه البرارة ظهرت في الايمان بيسوع المسيح" (روم 3: 22).[1] الخطيئة هي في اساس كل فساد وظلم وشر في العالم، المعبّر عنه " بالاثم" في الكتب المقدسة. ان اول عمل برّ او صلاح هو الاقرار بالاثم الشخصي المتأصل في اعماق الذات، والتماس الشفاء منه والغفران: " اذا، شئت، فأنت قادر ان تطهّرني". الصيام والتقشف والتأسف ثلاثة تبقى من دون قيمة في نظر الله، ما لم تكن علامة القلب التائب حقاً وباخلاص. هكذا ينبغي ان تكون ممارسات الصوم والصلاة والتصدّق وافعال الرحمة علامات لتوبة القلب، في نظر الله الذي يسبر اعماق القلوب، لا في نظر الانسان. فالمكافأة الحقيقية ليست من اعجاب الآخرين بل من صداقة الله والنعمة التي يمنحها، وهي نعمة تعطي السلام والقوة لفعل الخير، ولمحبة من لا يستحق، ولمغفرة الاساءة. ان برّ المسيح ظاهر في محبته للابرص، وقد راح يبحث عنه حيث هو. الابرص يحمل مرضاً معدياً، وهو علامة لخطيئته العظيمة امام الله الذي عاقبه بالبرص، حسب مفهوم العهد القديم. فكان ينبغي على الكاهن ان يتحقق من برصه، ويأمر بفصله عن الجماعة، لئلا يعديها جسدياً وروحياً. وكان على الكاهن، عندما يعرف بشفاء أبرص، ان يتحقق من شفائه ويأمر باعادته الى الحياة مع الجماعة، على ان يقدّم تقدمة تكفير وشكر وعرفان لله ( راجع احبار 13: 46؛ 14: 19-20). لهذا السبب أمر يسوع الابرص ان يُري نفسه للكاهن ويقدّم تقدمة عن طهره، شهادة للجماعة. اما هو فلم يكتفِ بذلك بل راح يشهد لمحبة يسوع التي تشفي وتبرر. لا بدّ، في زمن الصوم، وهو مناسبة للتوبة والتجدد والتغيير، من أن نقصد الرب يسوع في سرّ الاعتراف، لنقرّ بخطايانا الشخصية لله، بواسطة الكاهن الذي فوََّض اليه الكاهن الازلي يسوع المسيح، سماع الاعتراف، ومنح نعمة الغفران والشفاء والحياة الجديدة. اما تقدمة التكفير والشكر والعرفان فهي ذبيحة القداس، حيث الرب يسوع يكفّر عن خطايانا، وهو بذبيحته صلاة الشكر والعرفان. لقد حمل يسوع كل خطايانا، وهو البار، لكي نصبح نحن برّ الله (2 كور 5: 21)، وندخل في البّر الاعظم الذي هو برّ المحبة ( راجع روم 13: 8-10). في رسالة القديس بولس الرسول الى اهل روما ( 6: 12-23) لهذا الاحد، الكلمة تدور حول الخطيئة التي اذا تملّكت في الجسد، استعبدتنا لشهواته. فنخسر حرية ابناء الله، ونعيش عبيداً للخطيئة والشهوات المنحطّة. هذه العبودية برص روحي واخلاقي يشوّه جمال النفس المخلوقة على صورة الله. العبودية للخطيئة والشهوات الرديئة " تؤدي الى الموت"، لانها عصيان على الله وشريعته. في زمن الصوم نلجأ الى الرب يسوع، مثل الابرص، ملتمسين نعمة الشفاء والحياة الجديدة. يقول لنا بولس الرسول بكلام صريح ان " اجرة الخطيئة الموت، اما نعمة الله فهي الحياة الابدية بالمسيح يسوع ربنا".
*** ثانياً، الارشاد الرسولي: كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالته [1].
من القسم الاول وهو بعنوان " الله الذي يتكلم"، نتناول ما جاء بموضوع" كلمة الله والروح القدس" (الفقرتان 15 و16). بما ان يسوع المسيح هو الكلمة النهائية التي قالها الله واعطى الخليقة والتاريخ معناها النهائي، وقال عن نفسه في رؤيا يوحنا: " أنا الاول والآخر" ( رؤيا 1:17)، لا يمكن ان نفهم فهماً اصيلاً الوحي المسيحي وكلمات الرب من دون فعل الروح القدس البارقليط، " روح الحق" ( يو 14: 16). لانه هو الذي أوحى الكتب المقدسة (القديس ايرونيموس)، وهو الذي خلق كلماتها وهو الذي يفتحها ويفسّر مضمونها (القديس غريغوريوس الكبير). فعندما يكشف لنا الروح القدس مضمونها، نستطيع ان نجني ثمارها (القديس يوحنا فم الذهب). لكي ندرك فهم كلمة الله ينبغي ان يُقبل فعل البارقليط في الكنيسة وفي قلب المؤمنين بواسطة النصوص والافعال الليتورجية حيث تُعلن الكلمة وتُسمع وتُشرح. لذلك تصلي الجماعة المؤمنة: " ارسل يا رب روحك القدوس البارقليط الى نفوسنا واعطنا ان نفهم الكتب التي اوحاها". ويصلي الواعظ: "اعطني يا رب امكانية تفسير كلامك كما يليق، لكي يجني المؤمنون الحاضرون ثمارها". وفي ختام عظته يصلي من جديد: " ارسل يا اله خلاصنا روحك القدوس الى شعبك. تعال ايها الرب يسوع وكلّم ضمائر الجميع، وهيّىء قلوبهم للايمان، واقتدْ نفوسنا اليك يا اله المراحم". اجل، يقول القديس ابريناوس: " ان الذين لا ينالون شركة الروح القدس، لا يتناولون قوت الحياة من حضن امهم الكنيسة، ولا يستقون شيئاً من الينبوع الفائق النقاوة الذي يجري من جسد المسيح". فكلمة الله تأتي الينا في جسد المسيح (الكنيسة)، وفي الجسد القرباني، وفي جسد الكتب المقدسة بفعل الروح القدس. ولذلك، لا نستطيع قبولها وفهمها كاملة إلا بنعمة الروح عينه. لا يمكن الفصل بين رسالة الأبن ورسالة الروح القدس، لانهما تشكلان تدبير الخلاص الواحد. فالروح القدس الذي فعل عند تجسّد الكلمة في حشى العذراء الام، هو الذي اقتاد يسوع في جميع مراحل رسالته، ووُعد به للتلاميذ. والروح الذي يتكلم بالانبياء، هو الذي يعضد الكنيسة ويلهمها في مهمة اعلان كلمة الله وفي كرازة الرسل. هذا الروح عينه هو الذي ألهم مؤلفي الكتب المقدسة.
*** ثالثاً، اتباع يسوع في درب صليبه نتابع مسيرتنا وراء يسوع في درب صليبه، تكفيراً وتوبةً، ومسيرة في درب جديد. المرحلة الثالثة، يسوع يقع تحت الصليب مرة اولى عانى يسوع آلاماً حسّية مبرّحة من جراء الجلد في الليلة السابقة واليوم من ثقل الصليب. لكنه قبلها متضامناً مع العائلة البشرية جمعاء، وبخاصة مع كل الذين يعانون هذه الآلام اليوم. انه يعطيها قيمة خلاصية، ويقدس حامليها، ويمجّد الآب بما ينتج عنها من ثمار فداء في العالم. وفيما نحن ننظر الى الرب يسوع واقعاً تحت الصليب، نسأله ان يفتح قلوبنا الى تضامن اوسع مع كل المتألمين من حولنا، لنخفف من اوجاعهم بصلاتنا ومساعدتنا لهم. المرحلة الرابعة، يسوع يلتقي مريم امه في هذا اللقاء، مريم ام يسوع التي يحطّم الوجع كل كيانها، تجدد كلمة " نعم" التي قالتها يوم البشارة، وبها اصبحت ام يسوع التاريخي. واليوم تجددها فتصبح بها ام المسيح الكلّي، الكنيسة، وتفتح لنا وللبشرية جمعاء باب الخلاص. امومة مريم هي علامة ناطقة لمحبة الله ورحمته لنا، لكل واحد وواحدة منا. اننا بثقة بنوية نلتجىء الى مريم في ظروف حياتنا الصعبة. نتعلم من مريم، في ضوء آلام الفادي الالهي، ان الآلام التي تأتينا ونحمل صليبها، ليست آلاماً للموت، بل هي آلام مخاض من اجل حياة جديدة وثمار خلاصية في العالم.
صلاة ايها الرب يسوع، نأتي اليك في زمن الصوم، وانت تأتِ لملاقاتنا، مثل ذاك الابرص، ملتمسين منك ان تنقي نفوسنا وقلوبنا من الخطيئة التي تشوّهها. اعطنا ان ندرك ان خطايانا الشخصية هي في اساس تفشي الفساد والشر في مجتمعاتنا، حتى بتنا نعيش كفي هيكلية خطيئة. ذلك ان الخطيئة مرض معدٍ. حررنا من الخطيئة لنختبر حرية ابناء الله، ونكون دعاة الحرية الحقيقية التي تعطي الانسان سعادته وكرامته. ايها الروح القدوس افتح اذهاننا لفهم كلام الله في الانجيل وتعليم الكنيسة، فنجني ثمارها. وانت يا مريم امنا، ساعدينا لكي نرى وجه يسوع في كل ألم ينتابنا، وفي كل صليب يأتينا، فنقول مثلك نعم لارادة الله، لكي تثمر آلامنا حياة جديدة في الكنيسة والعائلة والمجتمع، فنرفع المجد والتسبيح ايها اللاب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين. ***
[1]. الافكار مستوحاة من عظة البابا بندكتوس السادس عشر في اربعاء الرماد 22 شباط 2010.
[2]. هذا الارشاد " كلمة الله Verbum Domini " اصدره البابا بندكتوس السادس عشر بتاريخ 30 ايلول 2010.
|