أَطيَبُ مِنَ الحَياةِ رَحمَتُكَ. و إِيَّاكَ تُسبِّحُ شَفَتايَ (مز 63 /4)
شفاء الاعمى 2010 - البطريرك بشارة الراعي
شفاء الاعمى
2 قورنتس 10/1-7
مرقس 10/46-52
المسيح نور العقول والقلوب
بلغنا مع هذا الاحد الاسبوع السادس والاخير من زمن الصوم الكبير، آملين في ختام هذه المسيرة من الصلاة والصوم والتصدق ان نلتقي يسوع المسيح، وندرك انه يشفينا من العمى الروحي، كما شفى اعمى اريحا، وانه يعطينا رؤية جديدة للوجود والحياة والتاريخ، تهدم الافكار الخاطئة وتحدّ من المسلك المنحرف، على ما يقول بولس الرسول في رسالة هذا الاحد.
اولاً، القراءات البيبلية
انجيل القديس مرقس 10: 46-52
بَيْنَمَا يَسُوعُ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحا، هُوَ وتَلامِيذُهُ وجَمْعٌ غَفِير، كَانَ بَرْطِيمَا، أَي ابْنُ طِيمَا، وهُوَ شَحَّاذٌ أَعْمَى، جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الطَّريق. فلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيّ، بَدَأَ يَصْرُخُ ويَقُول: "يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!". فَانْتَهَرَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ لِيَسْكُت، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ صُرَاخًا: "يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!".فوَقَفَ يَسُوعُ وقَال: "أُدْعُوه!". فَدَعَوا الأَعْمَى قَائِلِين لَهُ: "ثِقْ وانْهَضْ! إِنَّهُ يَدْعُوك". فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَهُ، ووَثَبَ وجَاءَ إِلى يَسُوع. فقَالَ لَهُ يَسُوع: "مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ؟". قالَ لَهُ الأَعْمَى: "رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِر!". فقَالَ لَهُ يَسُوع: "أبصِره! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ".
ما يميّز اعمى اريحا عن الجمع الغفير المرافق ليسوع، ايمانه بشخص يسوع، وثقته به، ومعرفته على حقيقته. فعندما سأل الاعمى عن الشخص الماّر وسبب هذه الجمهرة، أجابوا انه " يسوع الناصري"، الذي هو بالنسبة اليهم رجل غير عادسي، لكنه مجرد " رجل" لا غير. اما الاعمى " المبصر" بايمانه فناداه بلقب من صلب جوهره: "يا ابن داود، ارحمني"، اي ايها المسيح المرسل من الله إشفني. لكن الناس الجاهلين ليسوع، غضبوا على الاعمى وألزموه بالسكوت لازدرائهم به واحتقاره. اما هو فازداد صياحاً: " يا ابن داود ارحمني".
"توقف" يسوع لان صراخ الاعمى المؤمن والواثق والعارف مسّه في الصميم، وأمر الذين أرغموه على السكوت بدعوته اليه. ففعلوا بكلمة لطيفة: " تشجّع، قم، انه يدعوك". وكان الحوار بين يسوع والاعمى، اراده الرب كشفاً وامتداحاً لايمان الاعمى. سأله يسوع: " ماذا تريد ان اصنع لك؟" فاجاب جواب الثقة والايمان والمعرفة الصامدة: " ربّي، ان أبصر". فشفاه يسوع بكلمة: " أبصر". وأعلن سرّ هذا الشفاء: " ايمانك أحياك". فكانت له رؤية جديدة ومسلك جديد عبّر عنهما مرقس الانجيلي في ختام هذه الآية: : ولساعته أبصر، وانطلق معه في الطريق".
العمى الحقيقي، الذي يريد الرب يسوع ان يشفي منه، هو عمى البصيرة والقلب الذي يُصاب به كل واحد منا، بل كل انسان بالمطلق. ما نحتاج اليه هو عين الايمان. يعطى لنا في المعمودية المسمّاة "بالاستنارة". فالمعمدون يقال عنهم " المستنيرون".
الايمان هو ان اؤمن بشخص يسوع المسيح، ايماناً كاملاً وناضجاً بانه ابن الله، مخلص العالم وفادي الانسان.
في آية شفاء اعمى آخر في اورشليم على بركة شيلوحا بمبادرة من يسوع (يوحنا 9: 6-7)، تتبيّن لنا المراحل الثلاث لمسيرة الايمان بالمسيح الذي يبلغ كماله ونضجه. عندما سأله الناس الذين كانوا يعرفون الاعمى عن كيفية انفتاح عينيه، اجاب: " رجل" اسمه يسوع جبل وحلاً..." (يو9: 11). انه بالنسبة اليه رجل ولا شيء آخر. وعندما سأله الفريسيون ماذا يقول عن هذا الرجل، اجاب: " انا اقول انه نبي" (يو9:17). وعندما التقاه يسوع ثانية، وكشف له انه " ابن الله"، " سجد له الاعمى وقال: انا اؤمن يا رب" (يو9: 27-28).
نرجو نحن، عبر مسيرة الصوم التي دامت الى الآن خمسة اسابيع، ان نحقق "وثبة" اعمى اريحا، واعمى اورشليم، فنصبح مسيحيين حقيقيين، بالمعنى الحقيقي، عندما نعلن ان يسوع هو الرب، ونعبده كإله.
أكون مسيحاً حقاً لا عندما اعترف بان يسوع رجل غير عادي، وانه نبي بامتياز قد فتح للعالم آفاقاً جديدة روحية واخلاقية؛ هذا يقرّ به جميع الناس، من مسيحيين وغير مسيحيين، بل عندما ابحث عنه مثل اعمى اريحا طالباً شفائي الشخصي من عماي الروحي والاخلاقي والاجتماعي بنور الانجيل وتعلم الكنيسة ونعمة غفران الخطايا والحياة الجديدة بالروح القدس، بواسطة خدمة الكنيسة في الاسرار المقدسة؛ وعندما أعبده بالروح والحق والممارسة الدينية، مثل اعمى بركة شيلوحا؛ وعندما اسلك طريقاً جديداً غير الطريق القديم المنحرف، كما سلك الاعميان.
ليست المسيحية فقط ايماناً بمجموعة حقائق موحاة علّمتها الكنيسة، بل هي قبل كل شيء ايمان بشخص المسيح الذي قال: " أمنوا بالله، وآمنوا بي" (يو14: 1). فالمؤمن الحقيقي بالمسيح يحبه، ويحفظ تعليمه، ويؤمن بما تعلّم كنيسته، ويحب الكنيسة.
هذا الايمان بالمسيح وبما تعلّم الكنيسة هو اساس العلم الذي يساعد على فهم ما نؤمن به، لا العكس. فالعلم لا يولّد الايمان، بل الوحي الالهي يولّد الايمان، والايمان ينير العلم. الايمان والعقل هما الجناحان اللذان يطير بهما الانسان الى معرفة حقيقة الله والانسان والتاريخ.
يدعونا بولس الرسول في رسالته الى المسلك الجديد بفضل رؤية الايمان: " ان كنا نسعى بحسب الجسد، لسنا نعمل بحسب الجسد، لان سلاح علمنا قوّة الله، به نهدم الحصون المنيعة، وننقض الافكار، وكل علوّ يرتفع ضد معرفة الله، ونعيد كل ضمير الى طاعة المسيح" (2كور10: 3-5).
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح
نتأمل يسوع فوق الصليب وامامه امه والتلميذ الحبيب.
ورأى يسوع من على صليبه مريم امه وبقربها التلميذ الذي كان يحبه، قال لامه: " يا امرأة، هذا ابنك". ثم قال للتمليذ: " ها هي امك". وللوقت اخذها التلميذ الى بيته (يو19: 25-27).
جال في خاطر مريم ام يسوع كل ما كانت تحفظه في قلبها من اقوال: نبوءة سمعان الشيخ والطفل يسوع ابن اربعين يوماً: " اما انتِ فيجوز بنفسك رمح، لتنجلي مضمرات قلوب الكثيرين" ( لو2: 35)؛ وكلمة الصبي يسوع في الهيكل لها ولابيه، وهو ابن اثنتي عشرة سنة: "لماذا تبحثان عني؟ ألا تعلمان انه يجب عليّ ان اكون في بيت ابي؟" (لو 2: 49).
وأدرك ان الساعة اتت لتحقيق هذه الكلمات. فكما قالت : نعم، يوم البشارة لارادة الله، قالت ايضاً على اقدام الصليب " نعم" للارادة الالهية عينها، بايمان ورجاء ومحبة. وعلى مثال ابنها، قبلت آلام الفداء بحب كبير، وتمزّق في القلب مرير، وحدها الام تعرفه، ولا يستطيع احدٌ وصفه. وبهذا استحقت ان تدعوها الكنيسة " شريكة الفداء".
وكما بألم المخاض الذي تحمّله يسوع ابنها، فوَلدت الكنيسة، البشرية الجديدة، مثل السنبلة من حبة القمح المائتة في الارض (يو12: 24)، كذلك مريم بألم المخاض، اصبحت ام جسده السرّي، الكنيسة، وام كل انسان، بشخص يوحنا التلميذ الحبيب.
من هذا المشهد تصبح آلام كل انسان، أعابرة كانت ام مزمنة، آلآم مخاض، اذ لا بدّ من ان يولد منها شيء جديد. لقد اعطت مريم لكل ام معنى عندما تفقد ابناً لها او ابنة. فتفتح قلبها على امومة شاملة. وجاءت مريم تعزي كل ابن او ابنة بفقد امه، بان له بشخص مريم مؤكّدة ان في السماء تسهر على رحلته على وجه الارض، الى ان يبلغ ميناء الخلاص.
***
ثالثاً، السنة الكهنوتية: الكاهن خادم اسرار الكنيسة الخلاصية
الكاهن، خادم اسرار الخلاص، هو حارس الكنيسة بيت الله، التي يجد فيها مكان اقامته المميّزة. ففي بيت الله هذا يجتمع المؤمنون، ويؤلفون الكنيسة المنظورة التي يسكن فيها الله مع الناس العائشين المصالحة والوحدة بالمسيح.
ان الكاهن، عبر هذه المهمة، يساعد المؤمنين ليؤلفوا هيكل الله الروحي. بحيث يكونون " حجارة حيّة" يتكون منها " البيت الروحي" (1 بطرس 2: 4-5)، ويؤدون العبادة لله " بالروح والحق" (يو4: 24). ويعتني " ببيت الله"، ليكون مكاناً لائقاً للصلاة والرتب المقدسة، ولائقاً بالقربان المقدس، حيث يجتمع المؤمنون ويحتفلون بحضور ابن الله مخلصاً، والمقدّم من اجلنا على المذبح لمصالحتنا وعزائنا[8]. عناصر بيت الله هي التالية:
المذبح هو صليب ربنا الذي تجري منه اسرار الخلاص. عليه تتم ذبيحة الصليب وتحضر تحت العلامات الاسرارية. وهو مائدة الرب المدعو اليها شعب الله. وهو كذلك رمز قبر المسيح الذي مات حقاً وقام حقاً.
بيت القربان يحتل المكان الاوفر كرامة ولياقة في الكنيسة، حيث يُحفظ فيه جسد الرب، وامامه تتم عبادة المؤمنين.
الميرون المقدس يحفظ ايضاً في مكان لائق، لانه العلامة الاسرارية لطابع الروح القدس وفعله، ويحفظ معه زيت العماد ومسحة المرضى.
المنبر او البيما هو الكرسي الذي يمارس منه الكاهن خدمته في قيادة الجماعة المصلية وادارة الصلاة.
القرّايات هي المكان الملائم لاعلان الكلمة، والمنظور من جميع المؤمنين بسهولة.
حوض المعمودية يحتل مكانه على مدخل الكنيسة، لان فيه تتم الولادة الثانية من الماء والروح، ويبدأ اول تجمع للمؤمنين، والدخول الى الكنيسة جماعة المعمدين.
كرسي الاعتراف والتوبة يحتل ايضاً مكاناً لائقاً في الكنيسة لانه يكمّل سرّ المعمودية. فان مواعيدها تتجدد في سرّ التوبة والمصالحة.[9]
صلاة
ايها الرب يسوع، انت نور العقول والقلوب، فاشفنا من عمى البصيرة والقلب لنعرفك ونسير على طريقك، طريق الحق والخير والجمال. نوّرنا بانوار صليبك الخلاصي، لكي على مثال مريم امك نشارك في آلآم الفداء من خلال صليب المرض والفقر والهموم، ونجد في قلب امك وامنا العزاء والرجاء بولادة جديدة. في هذه السنة الكهنوتية، اعضد الكهنة لكي يساعدوا جميع الناس ليصبحوا هيكلاً روحياً لله. فنرفع جميعنا المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي