فلما سمع يسوع قال: هذا المرض لا يؤول إلى الموت بل إلى مجد الله ليمجد به ابن الله (يو 11 /4)
شفاء المخلع 2010 - البطريرك بشارة الراعي
شفاء المخلع
1 طيموتاوس 5/24؛6: 1-5
مرقس 2/1-12
يسوع المسيح طبيب الارواح والاجساد
نحن في بداية الاسبوع الخامس من مسيرة الصوم الكبير، الذي هو مسيرة توبة. وقد أدركنا الخطيئة ومعناها ونتائجها المميتة. في شفاء الابرص بانت الخطيئة كبرص النفس، وفي شفاء المرأة النازفة، بانت كنزيف للقيم الروحية والخلقية، وفي مثل الابن الضال بانت كابتعاد عن الله وتعلّق بالخلوقات. اليوم في آية شفاء المخلع تبدو الخطيئة تفككاً لقوى النفس وعجزاً عن السير والتحرك وفقاً لقيم الروح، كما يصفها بولس الرسول في رسالته. كل هذه الشفاءات الجسدية بيّنت ان يسوع بقدرته الالهية قادر وحده ان يشفي الانسان من خطاياه المتنوعة. وكان البرهان الناطق، عن قدرة الله بالمسيح على مغفرة الخطايا من خلال شفاء المخلع.
اولاً، القراءات البيبلية
انجيل القديس مرقس 2: 1-12
بَعْدَ أَيَّامٍ عَادَ يَسُوعُ إِلى كَفَرْنَاحُوم. وسَمِعَ النَّاسُ أَنَّهُ في البَيْت. فتَجَمَّعَ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنْهُم حَتَّى غَصَّ بِهِمِ الـمَكَان، ولَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لأَحَدٍ ولا عِنْدَ البَاب. وكانَ يُخَاطِبُهُم بِكَلِمَةِ الله. فأَتَوْهُ بِمُخَلَّعٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةُ رِجَال. وبِسَبَبِ الـجَمْعِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الوُصُولَ بِهِ إِلى يَسُوع، فكَشَفُوا السَّقْفَ فَوْقَ يَسُوع، ونَبَشُوه، ودَلَّوا الفِرَاشَ الَّذي كانَ الـمُخَلَّعُ مَطْرُوحًا عَلَيْه. ورَأَى يَسُوعُ إِيْمَانَهُم، فقَالَ لِلْمُخَلَّع: "يَا ابْني، مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك!". وكانَ بَعْضُ الكَتَبَةِ جَالِسِينَ هُنَاكَ يُفَكِّرُونَ في قُلُوبِهِم: "لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هـذَا الرَّجُلُ هـكَذَا؟ إِنَّهُ يُجَدِّف! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ الـخَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟". في الـحَالِ عَرَفَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُم يُفَكِّرُونَ هـكَذَا في أَنْفُسِهِم فَقَالَ لَهُم: "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهـذَا في قُلُوبِكُم؟ ما هُوَ الأَسْهَل؟ أَنْ يُقَالَ لِلْمُخَلَّع: مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك؟ أَمْ أَنْ يُقَال: قُمْ وَاحْمِلْ فِرَاشَكَ وَامْشِ؟ ولِكَي تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا أَنْ يَغْفِرَ الـخَطَايَا عَلَى الأَرْض"، قالَ لِلْمُخَلَّع: "لَكَ أَقُول: قُم، إِحْمِلْ فِرَاشَكَ، واذْهَبْ إِلى بَيْتِكَ!". فقَامَ في الـحَالِ وحَمَلَ فِرَاشَهُ، وخَرَجَ أَمامَ الـجَمِيع، حَتَّى دَهِشُوا كُلُّهُم ومَجَّدُوا اللهَ قَائِلين: "مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هـذَا البَتَّة!".
يسوع في بيت سمعان- بطرس في كفرناحوم، حيث اعتاد ان يقيم كما في بيته. احتشد القوم لسماع كلام الله، مولّد الايمان. بقوة هذا الايمان، وفي ضوء كلامه، قام ثلاثة رجال بمبادرة ايمانية ملفتة: ثقبوا السقف المكوّن من خشب وتراب، ودلّوا المخلّع مع سريره حيث كان يسوع.
مفتاح هذه الآية كلمة مرقس الانجيلي: " لما رأى يسوع ايمانهم". الايمان هو قدرة الانسان على نيل كل ما يسأل الله ويطلبه منه. المبادرة الصامتة كانت ناطقة. فعلٌ منهم ورؤية من يسوع. لكن ايمان الانسان يلقى عند الله تجاوباً وعطاء اكبر مما يطلب، واوسع مما ينتظر.
لقد طرحوا المخلع امام يسوع لايمانهم بانه قادر على شفائه. اما يسوع ففاجأهم بالشفاء الاكبر والاكمل والضروري، فشفا المخلع من الشلل الروحي الذي يعطّل العقل عن معرفة الحقيقة والعيش في نورها، والارادة عن فعل الخير والالتزام به، والقلب عن الحب والرحمة والمشاعر الانسانية. الشلل الحقيقي المميت هو العيش في الكذب والضلال والالتواء، وهو فعل الشر على تنوّعه، والحقد والضغينة والبغض.
بيت سمعان-بطرس اليوم هو الكنيسة حيث نلتقي المسيح في كلمة الانجيل والقربان والتوبة وسائر الاسرار. صحيح ان " الله وحده" يستطيع ان يغفر الخطايا"، كما فكّر الفريسيون. الانسان يستطيع ارتكاب الخطايا، والله يستطيع ان يغفرها. لكن البعض في ايامنا يقول: " انا نفسي اشتكي على نفسي، ووحدي استطيع ان أحلّ من خطاياي". بل هناك من ينكر وجود معضلة تُسمى خطيئة. وهذه علامة لفقدان الحسّ الاخلاقي في ثقافة اليوم. عن هؤلاء يتكلم بولس الرسول في رسالته لهذا الاحد: " مِن الناس مَن خطاياهم معروفة وتسبقهم الى القضاء. ومنهم من خطاياهم تتبعهم"، مثل " الكبرياء ومرض السعي الى المجادلات والمماحكات، والحسد والخصام، والتجديف وسوء الظن والنزاعات. هذه أفسدت ضمائر اصحابها، فتعرّوا من الحق، وحسبوا خوف الله تجارة (انظر 1طيم 5: 24؛6: 4-5).
ابن الله المتجسد، يسوع المسيح، كاهن الخلاص والفداء يغفر الخطايا بقدرته الالهية. وسلّم هذا السلطان الالهي الى كهنة العهد الجديد الذين بواسطتهم يغفر الخطايا، وقد استحق هذا الغفران بموته لفداء الجنس البشري، وبقيامته لبعثهم للحياة الجديدة بالروح القدس.
آية شفاء المخلّع تقول لنا ان عندنا الهاً يغفر الخطايا، وينساها ويمحوها ويجعل منا خلقاً جديداً، ويعطينا ورقة بيضاء لنكتب عليها صفحة جديدة من حياتنا. ينبغي ان نحوّل وخز الضمير الى مديح وشكر لرحمة الله.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
نتأمل يسوع مصلوباً ( لو23: 33-39)
يسوع يُصلب على تلة الجلجلة مع مجرمين عن يمينه وشماله. فهتف: " ابتِ، اغفر لهم لانهم لا يعلمون ما يفعلون". اما الجند فاقترعوا على ثيابه، والشعب يعاين بصمت، والرؤساء يتهكمون: " أحيا آخرين! فليحيي نفسه إن كان هو المسيح مختار الله"! والجنود يهزأون: " ان كنت ملك اليهود، فأحيي نفسك"!. ولص الشمال يشتمه: " ان كنت انت المسيح، فنجِّ نفسك، ونجّنا نحن ايضاً وكان فوق رأسه علّة صلبه: " هذا هو ملك اليهود!".
لقد وعد يسوع ذات يوم: " اذا ما رُفعت عن الارض، اجتذبت اليّ الجميع" (لو12:23). ساعةُ صلبه حققت هذا الوعد. يسوع يتمم اخوّته الكاملة والشاملة، كأبن لله، مع الانسان الذي يتألم وينازع ويموت. وما من انسان ألاّ ويمر بهذه الثلاثة:
فيما كان اللصان لا يشعران إلا باوجاع المسامير، كان يسوع يشعر بألمه المقدّم لخلاص العالم. قلبه المطعون كان ينبض حباً خلاصياً.
ها نبوءة اشعيا تتحقق: " طُعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من اجل سلامنا، وبجرحه شفينا... قرّب نفسه ذبيحة اثم" (اشعيا53: 5 و10).
بيديه الممدودتين فوق الصليب يضم الكون كله، مثل الدجاجة تجمع فراخها تحت جناحيها (لو13: 34).
في ساعة الغفران المتفجر من الصليب، كان لص اليمين يوبّخ رفيقه، ويعترف بخطأه وباستحقاقه عقاب الصلب، ويعلن براءة يسوع. وبروح التوبة والرجاء يهتف الى يسوع: " اذكرني يا سيدي متى اتيت في ملكوتك". ويسوع يستجيب بفيض من حبه ورحمته: " الحق اقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس" ( لو23: 40-43).
هذه اللحظة الاخيرة تفتح كل آفاق الرجاء امام الخطأة، ولاسيما المزمنين المدمنين الرازحين في حالة الخطيئة الدائمة. ان محبة المسيح، التي تتجلّى فيها كل محبة الله، اقوى من كل خطيئة وشر.
بالمسيح صالح الله جميع البشر. ويدعوهم الى سعادة الغفران والخلاص.
***
ثالثاً، السنة الكهنوتية: الكاهن خادم اسرار الكنيسة الخلاصية
نواصل في هذه السنة الكهنوتية ابراز وجه الكاهن ورسالته الكهنوتية من خلال خدمة اسرار الكنيسة للخلاص، كما جاء في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.
الكاهن، باسم المسيح وبشخصه، يحيي ليتورجيا التدبير الخلاصي.
الليتورجيا هي الاحتفال بسرّ خلاصنا الذي يتحقق في الاسرار المقدسة، وهي بمثابة ينابيع تجري من محبة الآب ومن موت المسيح وقيامته وتبلغ الينا حياةً جديدة بالروح القدس. ولقد وصفها لنا يوحنا الرسول في رؤياه: العرش القائم في السماء الجالس عليه الله الرب، والحمل المذبوح وهو المسيح المصلوب والقائم، وينبوع ماء الحياة الجاري من عرش الله والحمل الرامز الى الروح القدس (رؤيا 22: 1 ؛ يو4: 10-14).
انها ليتورجيا السماء التي يقيمها المسيح الكاهن الاسمى في الهيكل الحقيقي الثابت ابداً، حيث يقدّم ذبيحة خلاص ورضى وشكران لله الآب بالروح القدس، ويعطي ذاته ذبيحة فداء، خبزاً روحياً لحياة العالم. ويشارك في هذه الليتورجيا السماوية الآباء والانبياء والعذراء ام الاله ويوسف البتول والرسل وسائر القديسين.
اما على مذابح الارض، فتحتفل الجماعة الكنسية بليتورجيا اسرار الخلاص. هذه الجماعة هي المسيح الكلي اي المسيح الرأس واعضاء جسده الذين ولدوا من جديد بالمعمودية. تحتفل بها بالاتحاد مع كنيسة السماء الممجدة. هذه الليتورجيا الارضية تعكس وتواصل الليتورجيا السماوية " الآن وهنا"، بقيادة من أقيموا في درجة الكهنوت المقدسة ليحييوا ليتورجيا اسرار الخلاص باسم المسيح وبشخصه. ان لكل واحد من اعضاء الجماعة الكنسية، الملتئمة حول المسيح في سرّ القربان، دوره الشخصي ما يستدعي منه مشاركة واعية وفاعلة[5].
الكاهن هو رأس الجماعة، ممثلاً رأسها الحقيقي وكاهنها الاسمى ووسيطها الوحيد يسوع المسيح. انه يحيي الاحتفال الليتورجي بورع وخشوع، مستحضراً الرب يسوع فاعل العمل الليتورجي مع سائر اعضاء جسده الملتئم حوله. ومن واجب الكاهن ان ينير العقول والضمائر، ويشرح العلامات والرموز المنظورة التي يتمّ من خلالها السرّ الخفي غير المنظور.
انها علامات ورموز متنوعة. بعض منها مرتبط بالخلق كالماء والنار والشموع، والبعض الآخر بالحياة البشرية كالغسل والمسح بالزيت وكسر الخبز، والبعض الآخر بتاريخ الخلاص كطقوس الآلام. ان هذه العناصر المادية، والرتب البشرية، والحركات التذكارية لعمل الله، تصبح بكلمة الايمان وقوة الروح القدس ادوات تحمل عمل المسيح الخلاصي والتقديسي. تاخذ الرموز والعلامات معانيها من ليتورجيا الكلمة التي هي جزء مكمّل للاحتفال الليتورجي، تعلن وتُشرح بالعظة وتعليم الكنيسة[6].
يحرص الكاهن ويعمل بشتى الوسائل على اشراك مؤمني رعيته في جميع الاحتفالات الليتورجية الخلاصية: في يوم الرب الذي هو الاحد، يوم القيامة والجماعة الليتورجية، ويوم العائلة المسيحية، ويوم الفرح والاستراحة من العمل؛ وفي السنة الطقسية التي يدور حول سرّ المسيح من التجسد والميلاد الى الموت والقيامة، فالى الصعود الى السماء وحلول الروح القدس يوم العنصرة، وانتظار الرجاء السعيد لمجيء الرب؛ وفي احياء تذكار القديسين، العذراء ام الله والرسل والشهداء والابرار، في ايام محددة من السنة الطقسية. الكنيسة على الارض تبيّن بتذكارهم انها متحدة بليتورجيا السماء، وتمجد المسيح الذي أتمّ خلاصه في اعضائه الممجدين، وتعتبر ان مثلهم يشجعها في دربها الى الآب[7].
***
صلاة
ايها الرب يسوع، اشفنا من شللنا الروحي، شلل العقل والارادة والقلب. وقدّس آلام المتألمين في اجسادهم وارواحهم. انت وحدك طبيب الاجساد والارواح. اعطنا ان نجعل من آلامنا ومحننا وصعوباتنا وسائل تكفير عن خطايانا وشرورنا، انت الذي كفّرت عن كل واحد منا. ولتكن ذكرى صلبك، وانت البريء، دعوة لنا وحافزاً لنتوب توبة لص اليمين. وفيما نحن نحتفل بليتورجيا الارض، ارفع عقولنا وافكارنا وقلوبنا الى ليتورجيا السماء، حيث تُمجّد انت حملاً مذبوحاً ممجّداً تجري منه ينابيع اسرار الخلاص على ارضنا. فترتفع من كل كنائس الارض آيات التسبيح والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.