شَفَتا البارَ تعرِفانِ المَرضِيَّ و أَفْواهُ الأَشرْارِ تَعرِفُ الخَدائع (ام 10 /32)
شفاء الابرص 2010 - البطريرك بشارة الراعي
شفاء الابرص
روم 6/12-23
مرقس 1/40-45
التحرر من برص النفس
آية شفاء الابرص في الاسبوع الثاني من زمن الصوم علامة لرحمة الله وحنانه نحو بؤس الانسان، ولقدرته المتجلية في المسيح، الكاهن الازلي، على ازالة الخطيئة بالغفران والحياة الجديدة. تفعل الخطيئة في النفس فعل البرص في الجسد. وكلاهما تشويه وعزلة وموت. يتكلم نص الانجيل عن شفاء الابرص، ورسالة القديس بولس عن الخطيئة والتحرر منها.
اولاً، القراءات البيبلية
انجيل القديس مرقس 1: 40-45
أَتَى الى يَسُوعُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه، فجَثَا وقَالَ لَهُ: "إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي!". فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: "قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!". وفي الـحَالِ زَالَ عَنْهُ البَرَص، فَطَهُرَ. فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ وصَرَفَهُ حَالاً، وقالَ لَهُ: "أُنْظُرْ، لا تُخْبِرْ أَحَدًا بِشَيء، بَلِ اذْهَبْ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِن، وَقَدِّمْ عَنْ طُهْرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُم". أَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وبَدَأَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ويُذِيعُ الـخَبَر، حَتَّى إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا أَنْ يَدْخُلَ إِلى مَدِينَةٍ عَلانِيَة، بَلْ كانَ يُقِيمُ في الـخَارِج، في أَمَاكِنَ مُقْفِرَة، وكانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَان.
مشكلة البرص في الاعتقاد القديم مثلثة: انه مرض معدٍ يتآكل الجسم، وقصاص على خطيئة صاحبه او اهله، وفصل المريض عن حياة الجماعة. كانت الشريعة الكتابية توجب احضار الشخص المشبوه بالمرض امام الكاهن، لكي يتأكد من الامر ويعلن ان هذا الرجل مصاب بالبرص. فيتوجب عليه ان يلبس ثياباً رثّة، ويكشف رأسه، ويطوّل لحيته، ويصيح: نجسّ، نجسّ! ينعزل عن الجماعة، ويعيش خارج المحلّة المـأهولة (الاحبار 13: 1-3؛44-46).
أما مع المسيح فتبدّل كل شيء.
لقد مرّ بالمكان حيث كان الابرص، واتاح له امكانية الوصول اليه، والوقوع على قدميه والتماس الشفاء، خلافاً لما كان مفروضاً على الابرص. ويسوع لمسه بيده، فيما كان اهل زمانه يمنعون الاقتراب منه تجنباً للعدوى. ما يدل ان محبة يسوع ورحمته أقوى من الخوف من البرص. وقال له يسوع الكلمة الالهية الارفع والابسط: "لقد شئت، فاطهر" ( مر1: 41).
يعيش في العالم اليوم حوالي عشرين مليون ابرص. ولكن يوجد امراض تسمى " البرص الجديد" مثل الايدز والمخدّرات. هؤلاء المصابون ينبذهم المجتمع، ويفصلهم عن الجماعة، فيعيشون على هامشها. غير ان تصرف المسيح مع الابرص يعلمنا ان نمدّ يدنا اليهم، ونساعدهم ونشجعهم ونخفف من وحشتهم. ولنا امثال في شخص كل من القديس فرنسيس الاسيزي وراؤل فولّيرو (+1973).
الخطيئة هي برص النفس
انها تشوّه النفس بحيث تنتزع منها بهاء الصورة الالهية، وتميل بالعقل نحو الكذب، وبالارادة نحو الشر، وبالقلب نحو الحقد والبغض. ومن المعلوم ان زينة النفس هي العقل موطن الحقيقة، والارادة موطن الخير، والقلب موطن المحبة والمشاعر الانسانية.
كما اعاد يسوع النضارة والنقاء لجسد الابرص بشفائه، كذلك بالغفران الالهي وقوة الروح القدس يعيد يسوع الى النفس نقاوتها.
الخطيئة تستعبد النفس والجسد للخطيئة، كما يصفها القديس بولس الرسول في رسالته لهذا اليوم (روميه6: 12 و20 و21). والغفران يحرر منها ومن الموت الروحي الذي تتسبب به. والغفران يجعلنا عبّاداً لله احراراً، ويعطينا الحياة الالهية. أن كلمة المسيح للابرص " لقد شئت، فاطهر" اصبحت اليوم للتائب الملتمس مغفرة الخطايا من الله: " انا بالسلطان المعطى لي احلّك باسم الآب والابن والروح القدس".
مطلوب من كل واحد منا الاقرار بخطاياه، وبكشف جرحاته لمن هو قادر على شفائها. ينبغي تجاوز المقاومة الداخلية والحياء البشري امام ثقافة مجتمع ينكر الخطيئة، ويتكلّم عنها بهزء. ملك فرنسا القديس لويس التاسع قال يوماً في العلن: "أفضّل ثلاثين مرة ان أصاب بالبرص من ان ارتكب خطيئة مميتة واحدة".
الخطيئة تكسر الشركة مع الكنيسة، المتمثلة بالجماعة الرعوية، فلا بدّ من اجل استعادتها من ان يلجأ الخاطىء التائب الى الكاهن، رأس الجماعة وراعيها، لكي يعيدها اليه بالغفران والمصالحة، مثلما اعاد كاهن العهد القديم الابرص الذي شفي الى حياته وسط الجماعة. لهذا السبب قال يسوع للابرص: " اذهب الى الكاهن، وأره نفسك" (مر1: 44). فكما ان الكاهن هو الذي أعلن مرضه وفصله عن الجماعة، كذلك هو نفسه يعلن شفاءه وعودته الى حياة الجماعة.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
نتأمل في الحكم على يسوع بالموت. حكم عليه اولاً مجلس شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة والكتبة وعددهم 71، لانه قال عن نفسه انه المسيح ابن الله، مجيباً على السؤالين الموجهين اليه (لوقا22: 66-71). ان الذين حكموا عليه هم ابناء جماعته الدينية، وابناء وطنه. كتب عنه يوحنا في مقدمة انجيله: " جاء الى خاصته، وخاصته لم تعرفه" (يو11: 11). وفيه تمّت صلاة المزمور: " لو أن عدواً عيّرني لاحتملته، ولو أن مبغضي تعاظم حقده عليّ لتواريت عنه، ولكنك انت، يا حليفي وأنيسي، يا من تربطني به أحلى معاشرة، حين كنا معاً في بيت الله نسير" (مز55: 13-14).
العرفان بالجميل فضيلة سامية، ما احوج مجتمعنا اليها، كعلامة للحضارة الانسانية والخلقية وللترقّي. انها في اساس الحياة العائلية والاجتماعية.
اراد يسوع ان يرتقي بهم الى سمو دعوتهم المتجلية فيه: حين قال: " ان ابن الانسان سيجلس عن يمين الآب". فاستنتجوا وسألوه: " انت اذاً ابن الله؟" وعندما اجابهم: " انتم تقولون اني هو"، اثبتوا الجريمة ولم يدركوا ان هذا ابن الله صار انساناً ليشرك الانسان في حياته الألهية. ومن جهة ثانية، بقوله الحقيقة من دون خوف او هرب، يدعونا يسوع الى الشهادة للحقيقة بجرأة وبالصوت العالي.
ثم حكم الوالي بيلاطس على يسوع بالموت، نزولاً عند الحاح رؤساء الكهنة والقادة والشعب، رغم اقتناعه وترداده ان يسوع بريء ولا يستحق الموت. ونزولاً عند رغبتهم، عفا عن برأبّا القاتل والمجرم، بمناسبة عيد الفصح، وأسلم يسوع الى مشيئتهم (لو23: 13-25).
ان بيلاطس، بموقفه المتراجع عن الحقيقة والعدل، ارضاء للرؤساء وللشعب الاعمى والمعتدي، انما يجسّد صورة المسؤول الجبان. فيه ينكشف كل صاحب سلطة غير مكترث للعدالة والحق الذي يعطي الاولوية للوصولية والاستمرار في السلطة. هذه اللاأخلاقية في ممارسة السلطة تشلّ الضمير، تطفىء وخزه وتنحرف بالعقل، فتسهل الجريمة في اصدار حكم جائر وظالم بكل بساطة. ان لبيلاطس سابقة مماثلة كتب عنها لوقا في انجيله، وهي انه " خلط دماء الجليليين بذبائحهم" (لو13: 1). ان عدم الاكتراث هو الموت البطيء للانسانية الحقة. بحسب رؤية يوحنا في انجيله، دعا يسوع بيلاطس الى معرفة الحقيقة والى الاستناد اليها ليواجه مطلب الشعب الحاقد، لكنه رضخ لجبانته ووصوليته وموت ضميره. فاكتفى بالسؤال العابر: " ما هي الحقيقة؟". وخاف من معرفتها، فعفا عن برأبّا وأسلم يسوع (يو18: 37-40). على كل حال يبقى السؤال: "وما هي الحقيقة؟" مطروحاً على كل ضمير امام الشك والحيرة والنسبية الاخلاقية. اذا اجاب عليه الانسان بجديّة واخلاص، وجد المخرج الآمن,
***
ثالثاً، سنة يوبيل القديس مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)
السنة اليوبيلية دعوة للعودة الى الجذور من اجل تجديد الحاضر، كما يتوسع فيها السيد البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير في رسالته العامة للمناسبة.
1. جذور الكنيسة المارونية متأصلة في روحانية القديس مارون
استطاع القديس مارون ان يضع القاعدة الروحية للكنيسة المارونية التي تحمل اسمه، بفضل عيشه المخلص للانجيل، وايمانه الحي، ونشاطه الخارق، ونمط حياته المثالي، وكرازته النبوية، واشعاعه وتألقه في محيطه. لقد تميّز ببطولات ثلاث هي اساس الروحانية الكنسية المارونية.
أ- البطولة الروحية، تجلت في نهج الاقامة في العراء وفوق عمود، للتعبير عن التعلق بالوطن السماوي، وللاقتراب من الله بالانفتاح على السماء، والتحرر من الارض حتى الانفصال عنها. مثاله المسيح المعلق على الصليب في العراء.
ب- البطولة الانسانية، بلغت ذروتها بقوة الايمان والكهنوت والنسك وخدمة شعب الله حتى القدرة على اجتراح العجائب.
ج- البطولة الرسولية، ظهرت في الهداية والارشاد والتبشير بالانجيل وتحويل الهياكل الوثنية الى كنائس لعبادة الله وتقديس المؤمنين.
هذه البطولات الثلاث اعطت مارون قوة التأسيس، وجعلته رجل البدايات، والاساس الايماني الصلب الذي بُنيت عليه الكنيسة المارونية. فكانت بمثابة حركة مسيحية روحية تجددية، تجسّد توق الانسان المطلق الى الله والى الحرية، وانفتاحه على محيطه بخدمة كلمة الانجيل التي ترتقّي بالانسان والمجتمع.
2. شهادة ايمان ومسيرة و شعب
هذا هو عنوان السنة اليوبيلية، الذي يعبّر عن المراحل الخمس التي مرّ بها الموارنة في تكوين كنيستهم، هوية وبُنية ورسالة.
انطلقت المارونية من شخص فرد هو مارون الكاهن الناسك، ثم كوّنت مجموعة من التلاميذ المقتفين مثاله، اصبحت فيما بعد جماعة دينية منظمة معروفة " ببيت مارون"، الى ان صارت جماعة مؤسسة ذات وجهين: الاول، روحي جعلها كنيسة، والثاني، سوسيولوجي جعلها طائفة. واخيراً انتقلت الى مستوى الوجدان الجماعي، المعروف بالايديولوجية او العقيدة المارونية. هذه المراحل المرتبطة والمتكاملة جعلت من الموارنة " امّة" تحمل في طياتها بذور كيان وطن، حققته على ارض لبنان، عبر العصور، انطلاقاً من حدث مؤسس للتاريخ الماروني، هو الهجرة من سوريا الى لبنان. لقد وضع الموارنة في اساس تاريخهم التخلي عن الراحة والغنى في ارض الفقر والزهد مع الكرامة، والهرب من الاضطهاد، والبحث عن الحرية والاستقلال الذاتي. من كل هذا وُلد الوجدان الماروني، وسيظل كله المفسّر لكل أحداث تاريخ الموارنة. وبما ان الايمان الذي عاشه مارون الناسك أصبح قوة تفعل في تاريخ شعب، فان البعد الايماني عند الموارنة يعطي معنى لتاريخهم.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، اليك نلتجىء مثل الابرص، في زمن الصوم، ملتمسين الشفاء من برص النفس الذي هو حالة الخطيئة التي تشوّه صورة الله فينا. معك ايها المسيح يتبدّل كل شيء، لان منك الغفران والمصالحة والحياة الجديدة. قوِّ كل حامل سلطة لكي يدافع بشجاعة عن الحقيقة والعدالة، مصغياً الى صوت الله في اعماق ضميره، لا الى صوت المصلحة الذاتية او خوفاً من المغرضين. في سنة يوبيل القديس مارون، ساعدنا، بشفاعته، على عيش بطولاته الثلاث: الروحية والانسانية والرسولية. أيقظ فينا الوجدان الماروني التاريخي من اجل حماية الايمان والكيان. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن والى الابد، آمين.