لِيَسْتَأصِل الرَّبُّ جَميعَ الشِّفاهِ المُتَمَلِّقة و اللِّسانَ النَّاطِقَ بِالكَلامِ المُفَخَّم ( مز 12 /4)
عرس قانا الجليل 2010 - البطريرك بشارة الراعي
مدخل الصوم الكبير
عرس قانا الجليل
يوحنا 2/1-11
زمن التغيير والتجدد
الصوم الكبير هو بمثابة رياضة روحية تدوم ستة اسابيع، تنتهي برتبة الوصول الى الميناء في احد الشعانين. ثم يليها اسبوع آلام الرب يسوع وصلبه لفدائنا، بحيث يتواصل واجب الصيام حتى سبت النور. ذلك انه قائم على الصلاة والتأمل، الصوم والاماتة، التصدق واعمال المحبة والرحمة. انه زمن التغيير والتجدد، وزمن ترميم العلاقات: مع الله الذي اٍسأنا اليه بالخطيئة، والابتعاد عن دائرة ارادته، والتعلّق بالماديات وتفضيلها عليه، ومع الذات التي شوّهناها بالخطيئة والشر؛ ومع الاخوة المحتاجين الذين جرحناهم باهمالنا لهم، والاخوة الذين أسأنا اليهم.
اولاً، الدخول في الصوم ومقتضياته
برتبة الرماد والصيام ندخل في مسيرة الصوم الكبير. هذا الدخول يعني:
بداية زمن من الالتزام الخاص في المعركة الروحية التي نواجه بها الشر الحاضر في العالم، وفي كل واحد منا، وحولنا. وهو موصوف بشهوات ثلاث: " شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الحياة" (1 يوحنا 2: 16)؛ والنظر الى الشر بالمواجهة، والاستعداد للنضال ضد مفاعيله، وبخاصة ضد اسبابه، حتى سببه الاصلي، الشيطان؛ والاقرار بالمسؤولية الشخصية عن معضلة الشر، وتحملها بوعي الضمير، وعدم رميها على الآخرين او على المجتمع او حتى على الله؛ وتلبية نداء الرب يسوع بحمل الصليب واتباعه بتواضع وثقة (متى16:24). مهما كان الصليب ثقيلاً، فانه ليس سوء حظ، ولا هو شرٌ يجب تجنّبه والهرب منه، بل هو مناسبة لاتباع المسيح، واتخاذ القوة منه للنضال ضد الخطيئة والشر. ولهذا السبب تقام كل يوم جمعة من ايام الصوم الكبير رتبة درب الصليب والزياح والتأمل في آلام المسيح الخلاصية؛ وخيراً تجديد القرار الشخصي والجماعي في مواجهة الشر مع المسيح. فان طريق الصليب هو الوحيد الذي يقود الى انتصار المحبة على البغض، والتقاسم على الانانية، والسلام على العنف.
من كل هذا المنظار يكون الصوم الكبير مناسبة فريدة للالتزام الروحي والتقشفي العميق القائم على نعمة المسيح الذي يجدد لنا الدعوة: " توبوا وآمنوا بالانجيل" ( مرقس1: 15).
تفتتح الكنيسة رحلة الصوم بحضور يسوع ومريم والتلاميذ في عرس قانا الجليل، جنوبي لبنان، وبآية تحويل الماء الى خمرة فائقة الجودة، على طلب من امه، وباعلان الوهيته، للدلالة ان زمن الصوم هو زمن التغيير في جوهر الانسان، وان اللقاء بالمسيح الذي يجري هذا التغيير هو " عرس الانسان الخلاصي".
من انجيل القديس يوحنا 2/1-11.
قال يوحنا الرسول: في اليَوْمِ الثَّالِث، كَانَ عُرْسٌ في قَانَا الـجَلِيل، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاك. ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلامِيذُهُ إِلى العُرْس. ونَفَدَ الـخَمْر، فَقَالَتْ لِيَسُوعَ أُمُّهُ: "لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر". فَقَالَ لَهَا يَسُوع: "مَا لِي ولَكِ، يَا امْرَأَة؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد!". فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَم: "مَهْمَا يَقُلْ لَكُم فَاْعَلُوه!". وكَانَ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حَجَر، مُعَدَّةٌ لِتَطْهيِر اليَهُود، يَسَعُ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ ثَمَانِينَ إِلى مِئَةٍ وعِشْرينَ لِيترًا، فقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَم: "إِملأُوا الأَجْرَانَ مَاءً". فَمَلأُوهَا إِلى فَوْق. قَالَ لَهُم: "إِسْتَقُوا الآنَ، وقَدِّمُوا لِرَئِيسِ الوَلِيمَة". فَقَدَّمُوا. وذَاقَ الرَّئِيسُ الـمَاءَ، الَّذي صَارَ خَمْرًا - وكانَ لا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، والـخَدَمُ الَّذينَ اسْتَقَوا يَعْلَمُون - فَدَعَا إِلَيْهِ العَرِيسَ وقَالَ لَهُ: "كُلُّ إِنْسَانٍ يُقَدِّمُ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ أَوَّلاً، حَتَّى إِذَا سَكِرَ الـمَدعُوُّون، قَدَّمَ الأَقَلَّ جُودَة، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ إِلى الآن!". تِلْكَ كَانَتْ أُولَى آيَاتِ يَسُوع، صَنَعَهَا في قَانَا الـجَلِيل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ.
في عرس قانا الجليل تجلّى سر الكنيسة، اداة الخلاص الشامل وعلامته[1]. لقد تكوّنت من المسيح رأسها، ومريم امها، والرسل كهنة العهد الجديد، والجماعة الحاضرة مع العروسين. ان طلب مريم من ابنها يسوع: "ليس لديهم خمر" ومن الخدم " بصنع ما يقول لهم يسوع"، يسمى تشفع مريم من اجل ابناء الكنيسة وبناتها وكل انسان. وهو تشفّع لا يُخيّب بفضل استحقاقاتها لدى الله الواحد والثالوث: الآب وهي ابنته المطيعة، والابن وهي امه المتواضعة والمتفانية، والروح القدس وهي عروسته النقية الطاهرة.
حضور الرب يسوع في عرس قانا أعطى الزواج كرامته وقدسيته، هو الذي سيرفع هذه المؤسسة الالهية الطبيعية الى رتبة سرّ يولي الزوجين نعمة تقدسهم وتنقي حبهم وتعضدهم في واجباتهم الزوجية والعائلية. ويكون هذا السّر الذي يجمع الزوجين وسيلة لحضور الله الواحد والثالوث حاضراً في حياتهم، كما يتبيّن من الاحتفال الليتورجي بسرّ الزواج.
ان تحويل الماء الى خمر في عرس بشري يستبق تحويل الخمر الى دم المسيح في " عرس الحمل"، الفصحي لخلاص العالم، وفداء الانسان. ويدل ان الحب الزوجي مدعو ليكون، على مثال حب المسيح" للكنيسة عروسته، متفانياً حتى بذل الذات.
والخمرة الجيّدة ترمز الى " خمرة" الروح القدس، هذا الحب الالهي المسكوب في قلب العروسين، الذي يمتزج بحبهما البشري ويقدسّه ويطهّره، بحيث يكون حب الواحد للآخر تجسيداً لحب الله اياه لكل واحد منهما.
هذه الآية الاولى التي حدثت مرة واحدة، هي اياها تتحقق بمفاعيل رموزها في حياة كل عريس وعروس يقترنان بسرّ الزواج، وذلك بقوة الروح القدس الذي يؤوّن ما فعل المسيح بالحضور والكلمات والايات ايام حياته التاريخية.
ان اظهار مجده هو ظهور الوهيته. وايمان التلاميذ هو جواب الانسان على عظائم الله، وعلى ما يوحي من اسراره المكتومة منذ الدهور.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
في كل يوم جمعة من زمن الصوم الكبير نتذكر آلام الرب يسوع لفداء العالم، لنجد فيها دعوة للتوبة، وقيمة لآلامنا، وتضامناً مع كل متألم. من ممارسة درب الصليب التقوية، نتأمل تباعاً في مراحله الاربع عشر.
في المرحلة الاولى والثانية، نتأمل في صلاة يسوع وخيانة يهوذا الاسخريوطي في بستان الزيتون (لوقا 22: 39-53).
ليلة من الألم والصلاة قضاها يسوع تحت جنح الظلام في بستان الزيتون، في وحشة وقلق وخوف، وحيداً، فيما تلاميذه الذين تبعوه قد غلبهم النعاس فاستسلموا للنوم. نبهّهم عند وصولهم: " صلوا لئلا تدخلوا في تجربة". ثم أيقظهم وقال لهم: " لماذا تنامون، قوموا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة".
وحدها الصلاة تقوينا لنغلب تجربة اليأس والتراجع امام المصاعب والمحن والاوجاع، وصمت الله. فيسوع، وقد اقتربت ساعة آلامه، ركع وصلى: " ايها الآب، اذا شئت أبعد عني هذه الكأس. ولكن لا تكن مشيئتي بل مشيئتك". وراح يعرق من الوجع النفسي والحسرة، وعرقه يتساقط كنقاط دم، في جهاد ونضال ضد اليأس والتراجع. فظهر لنا عندئذٍ ملاك أخذ يشدده. لا أحد يستطيع ان يتحمل ألمه من دون تعزية من الله وعضده؛ ولان المسيح بآلامه تضامن مع كل انسان، فقد أعطى لآلام البشر قيمة خلاصية، وجعلها تواصلاً لآلام الفداء. وهو بقوة قيامته يقطع معنا الطريق في ظلمة ليل الوحشة ويشددنا ويعزينا: " طوبى للحزانى، فانهم سيُعزّون" (متى 5: 4).
في تلك الليلة المظلمة، وقد غاب عنها النور، واشتد الألم النفسي والمعنوي، وتفاقم الحقد والبغض، وبلغت الخيانة ذروتها، وصل يهوذا الاسخريوطي على رأس فرقة من عظماء الكهنة والشيوخ وقوّاد حرس الهيكل، حاملين سيوفاً وعصياً ليعتقلوه. تقدّم يهوذا ليقبّل يسوع، فبادره الرب: " أبقبلة تسلّم ابن الانسان"؟ وبهذا ندّد يسوع بكل خيانة تُرتكب، وبكل مبادله للخير بالشر بداعي الحسد والمتاجرة والضعف في الشخصية. هذه مأساة تتجدد كل يوم في مجتمعنا: خيانات وعدم امانة وغش واحتيال وجحود. ولكن بعد الخيانة يأتي اليأس القاتل، كما جرى ليهوذا، بدلاً من التوبة والتعويض.
الى جانب العزلة النفسية وابتعاد الجميع عنه، وقد اختبرهما يسوع في بسيتان الزيتون وشربهما كأس مرارة، جاءت الخيانة من أحد تلاميذه الذين أحبهم واختارهم ليكونوا كهنة العهد الجديد، المؤتمنين على رسالة الخلاص. وجاء العنف مع فرقة يهوذا. ولما ضرب بالسيف احد تلاميذه واحداً من خدام عظماء الكهنة، وقطع اذنه، قام يسوع بمبادرة نبوية، فلمس اذنه وشفاه. واعطى الامثولة بعدم مواجهة الشر بالشر، والعنف بالعنف، بل الانتصار على الشر بالخير، وعلى العنف بالسلم.
وخاطب يسوع ضمائر الفرقة المسلّحة، كاشفاً ضعف نفوسهم وازدواجيتهم: "أكما على لصّ حملتم عليّ بسيوف وعصيّ، وقد كنت كل يوم معكم في الهيكل، فلم تمدوا عليّ يداً!". وقال لهم حقيقتهم المرّة القاتلة لنفوسهم: " ولكن هذه هي ساعتكم، وهذا هو سلطان الظلام!".
***
ثالثاً، سنة يوبيل مار مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)
في بداية سنة يوبيل مار مارون، وهي بعنوان " شهادة ايمان ومسيرة شعب"، وجّه البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير رسالة عامة للمناسبة، ترسم خطوط هذه الشهادة الايمانية وهذه المسيرة الرسالية.
1. اهداف السنة اليوبيلية
تبغي السنة اليوبيلية، من خلال نشاطاتها واحتفالاتها، الوصول الى الاهداف التالية:
1) مسيرة صلاة وفحص ضمير وفعل توبة وتفكير عميق من اجل تنقية القلوب وتغيير الذهنيات.
2) استخراج القيم المارونية من حياة القديس مارون والتقليد الماروني، من اجل التزام الموارنة دينياًُ وكنسياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً.
3) طرح اسئلة امام الله حول الذات المارونية والامانة للهوية الخاصة والرسالة الانجيلية، ومدى الالتزام بعيشهما مع الشهادة للمسيح الرب والمخلص في عالم اليوم.
4) اعادة اكتشاف الجذور وتوعية الاجيال الطالعة عليها، وعلى الدور والرسالة في مواجهة تحديات الحضور المسيحي في الشرق.
1. نقطة الانطلاق: روحانية القديس مارون
سلك مارون طريق القداسة التي هي صفة الله وميزته الجوهرية، فسعى الى اقامة علاقة وطيدة بالله عن طريق الايمان والصلاة والتأمل واخلاء الذات بالامانة والتقشّف والعيش في العراء. وكان يبغي في كل ذلك الانتماء الى الله لا الى الذات، وممارسة صلاة القلب لا صلاة الشفاه، والحب المطلق لله، وعمق الايمان بالمسيح الذي يستدعي اماتة الجسد من اجل تحرير الروح.
لقد غرس مارون بالقرب من انطاكية " حديقة النسك" القائمة على ملاقاة الله مباشرة وعامودياً في العراء، هروباً من مجتمع وثني في الامبراطورية الرومانية، ومن مجتمع مسيحي بالمظهر في الامبراطورية البيزنطية. ومن هذه الحديقة النسكية حمل هو، ورهبانه، الرسالة الانجيلية ببهائها الاول الرامية الى انماء الشخص البشري الذي من اجله صار الله انساناً بشخص المسيح، ليغنيه بالقيم الروحية.
وشكّل القديس مارون حالة روحية اشعاعية، تكوّنت منها الكنيسة المارونية، كنيسة النسك والعبادة والقداسة.
***
صلاة
ايها الرب يسوع على مثالك ندخل الصوم الاربعيني، راجين ان يكون، بكلمتك ونعمتك ومثالك، زمن استنارة وتوبة، زمن تغيير وتجدد. اننا نبغي ترميم العلاقة بالله وبالذات وبالاخوة. في آية تحويل الماء الى خمرة فاخرة، اردت ان ترمز الى تحويل باطن الانسان، ليكون في بيئته وبيته وكنيسته خمرة حب وفرح وخدمة. ويا مريم، علّمينا ما يجب ان نصنع، لكي نستحق عملية هذا التحويل في جوهر الذات.
في ذكرى آلامك الخلاصية، ايها المسيح، شددنا في السهر والصلاة لكي ننتصر على التجارب والمحن، اعطنا ان نشعر بقربك منا لنخرج من كل عزلة تفسية او معنوية.
في سنة يوبيل القديس مارون، ادخلنا الى جوهر اليوبيل وغايته، فيكون زمن التزام في السير بروحانية القديس مارون التى ترفع من المادية والاستهلاكية وعبادة الذات الى قمم الروح وبهاء قداسة الله وتفاني المحبة. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي