فقالت أمه للخدم: مهما قال لكم فافعلوه (يو 2 /5)
شفاء الابرص 2009 - البطريرك بشارة الراعي
الاحد الثاني من الصوم
شفاء الابرص
روم 6/12-23
مر 1/25-45
لتحرر من عبودية الخطيئة
سميّنا الصوم الكبير " زمن التغيير" في باطن الانسان وفي علاقته مع الله والذات والناس. كانت علامة التغيير آية تحويل الماء الى خمر في عرس قانا الجليل، اجترحها الرب يسوع للدلالة انه قادر على تغيير الانسان في جوهره الداخلي بقوة الانجيل ونعمة الاسرار وفعل الروح القدس.
رسالة بولس الرسول لهذا الاحد تدعونا الى التحرر من الخطيئة والعيش في حالة النعمة. هذا التحرر هو تغيير في النفس والقلب. فالخطيئة تؤول الى الموت، والنعمة الى الحياة الابدية في المسيح.
آية شفاء الابرص التي يرويها الانجيل علامة خارجية للشفاء من البرص الداخلي الذي هو الخطيئة. فكما البرص يتآكل جلد الانسان ويشوهه ويصبح مرضاً معدياً، ويؤدي الى الموت الحسي، كذلك الخطيئة تتآكل العقل والارادة والقلب والضمير، وتشوّه صورة الله في الانسان، وتفسد اخلاق الآخرين، وتؤدي الى الموت الروحي والهلاك الابدي.
اولاً، عام القديس بولس، شرح الرسالة والانجيل
1. رسالة القديس بولس الرسول الى اهل رومية 6/12-23
إِذًا فَلا تَمْلِكَنَّ الـخَطيئَةُ بَعْدُ في جَسَدِكُمُ الـمَائِت، فَتُطيعُوا شَهَوَاتِهِ. وَلا تَجْعَلُوا أَعْضَاءَكُم سِلاَحَ ظُلْمٍ لِلخَطِيئَة، بَلْ قَرِّبُوا أَنْفُسَكُم للهِ كَأَحْيَاءٍ قَامُوا مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، واجْعَلُوا أَعْضَاءَكُم سِلاحَ بِرٍّ لله. فلا تَتَسَلَّطْ عَلَيْكُمُ الـخَطِيئَة، لأَنَّكُم لَسْتُم في حُكْمِ الشَّرِيعَةِ بَلْ في حُكْمِ النِّعْمَة. فَمَاذَا إِذًا؟ هَلْ نَخْطَأُ لأَنَّنَا لَسْنَا في حُكْمِ الشَّرِيعَة، بَلْ في حُكْمِ النِّعْمَة؟ حَاشَا! أَلا تَعْلَمُونَ أَنَّكُم عِنْدَمَا تَجْعَلُونَ أَنْفُسَكُم عَبيدًا لأَحَدٍ فَتُطيعُونَهُ، تَكُونُونَ عَبيدًا للَّذي تُطيعُونَه: إِمَّا عَبيدًا لِلخَطِيئَةِ الَّتي تَؤُولُ إِلى الـمَوت، وإِمَّا لِلطَّاعَةِ الَّتي تَؤُولُ إِلى البِرّ. فَشُكْرًا للهِ لأَنَّكُم بَعْدَمَا كُنْتُم عَبيدَ الـخَطيئَة، أَطَعْتُم مِنْ كُلِّ قَلْبِكُم مِثَالَ التَّعْلِيمِ الَّذي سُلِّمْتُمْ إِلَيْه. وَبَعْدَ أَنْ حُرِّرْتُم مِنَ الـخَطِيئَة، صِرْتُم عَبيدًا لِلبِرّ. وأَقُولُ قَوْلاً بَشَرِيًّا مُرَاعَاةً لِضُعْفِكُم: فَكَمَا جَعَلْتُم أَعْضَاءَكُم عَبيدًا لِلنَّجَاسَةِ وَالإِثْمِ في سَبِيلِ الإِثْم، كَذـلِكَ اجْعَلُوا الآنَ أَعْضَاءَكُم عَبيدًا لَلبِرِّ في سَبيلِ القَدَاسَة. فَلَمَّا كُنْتُم عَبيدَ الـخَطِيئَة، كُنْتُم أَحْرَارًا مِنَ البِرّ. فأَيَّ ثَمَرٍ جَنَيْتُم حِينَئِذٍ مِنْ تِلْكَ الأُمُورِ الَّتي تَسْتَحُونَ مِنْهَا الآن؟ فإِنَّ عَاقِبَتَهَا الـمَوْت. أَمَّا الآن، وقَدْ صِرْتُم أَحراَرًا مِنَ الـخَطِيئَةِ وعَبيدًا لله، فإِنَّكُم تَجْنُونَ ثَمَرًا لِلقَدَاسَة، وعَاقِبَتُهَا الـحَيَاةُ الأَبَدِيَّة. لأَنَّ أُجْرَةَ الـخَطِيئَةِ هِيَ الـمَوت. أَمَّا مَوْهِبَةُ اللهِ فَهيَ الـحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ في الـمَسيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا.
يتكلم بولس الرسول عن عملية التحرير من عبودية الخطيئة والعيش في حالة النعمة التي هي حرية ابناء الله. هذا التحرير تمَّ بالمعمودية التي هي موت عن الخطيئة وقيامة الى الحياة الابدية بالمسيح. فصارت حياة المسيحي سعياً دائماً الى هذا التحرر بتعليم الكنيسة الذي سُلّم اليه. فبمقدار ما يعيش الانسان في نور الحقيقة ويصنع الخير، يصير اكثر حرية. لا توجد حريّة حقيقية إلا في خدمة ما هو خير وعدل. خيار فعل الشر هو افراط في الحرية ويقود الى "عبودية الخطيئة" (الآية 17) ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1733).
التحرير هو في جوهره تغيير في نفس الانسان وفي مسلكه الجسدي، فيغيّر اعضاء جسده من وسيلة للخطيئة الى وسيلة للخير (الآية 13). لكن هذا التغيير الخارجي انما هو نتيجة التغيير في النية والقلب. النفس الجميلة تجمّل الجسد، والقبيحة تفسده: " ان جذور الخطايا تكمن في قلب الانسان" (المرجع نفسه،1873).
الخطيئة بحدّ ذاتها تجرح طبيعة الانسان والتضامن البشري، لانها اساءة للعقل والحقيقة والضمير المستقيم. ولانها كذلك فهي اساءة لله: " لك وحدك خطئت، والشر قدامك صنعت" (مز51/4). انها نقص في محبة الله ومحبة القريب. بل هي ضد محبة الله لنا. وتبعد قلبنا عنه، وتعصاه، وتسعى " لتكون مثل الله" ( تك3/5) في سلطة الامر والنهي (المرجع نفسه،1849-1850).
ان يسوع المسيح الذي " شابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة" (عبرانيين 4/15)، هو الانسان المثالي. اليه يتوق الانسان بعيش سرّ الصليب والفصح، كسرّ عبور من الانطواء على نفسه وانانيته، ومن اثبات ذاته، الى الانفتاح على الله. يجد الانسان نفسه في تجاوز ذاته. والحال ان يسوع هو الانسان الذي تجاوز نفسه كلياً، و" اخلى ذاته"، فوجد نفسه حقاً، اذ " رفعه الله وأعطاه اسماً يفوق كل الاسماء..." ( فيليبي2/6 و9)[4].
مَسَحَ المسيح اساءة الانسان اللامتناهية لله بموته على الصليب، وجعلنا بقيامته "تحت حكم النعمة" ( روم6/14). ذلك اننا وُلدنا من جنبه المطعون بالحربة وقد " جرى منه دم وماء" ( يو19/34) يمثلان سرَّي العماد والقربان، اللذين منهما يولد الانسان، وتتكون جماعة المؤمنين التي هي الكنيسة.
" جنب يسوع المفتوح" جعل وجود يسوع منفتحاً كلياً على كل انسان ليجتذبه اليه انساناً جديداً، انسان المستقبل، انسان التضحية والانفتاح والعطاء. ان مستقبل الانسان متعلّق بالصليب، وخلاصه هو الصليب. ولن يجد الانسان نفسه ما لم " ينظر الى ذاك الذي طُعن" ( يو 19/37)[5].
هذه هي عملية التحرير بالمسيح، لاستعادة بهاء صورة الله في الانسان.
2. آية شفاء الابرص عملية تحرير ( مرقس1/25-45).
يسوع المنفتح على الآخر اجتذب الابرص اليه. وهذا التمس منه ان يحرره من برصه. فكان له ما طلب. شفاه يسوع من برص جسده، ليبيّن لنا انه وحده قادر على شفائنا من برص النفس والعقل والارادة والقلب الذي هو الخطيئة، وانه وحده قادر ان يعيد الينا بهاء صورة الله.
ظلله بالرحمة الالهية " فاشفق عليه ومدّ يده ولمسه وقال: قد شئت فاطهر" (مر1/41).
الصوم هو زمن الانفتاح على المسيح: يجتذبنا الى التوبة والتماس الغفران. نقف امامه، مثل الابرص، بكل حالة برص النفس. يده التي تلمسنا هي كلمة الحياة ونعمة سرّ التوبة والقربان، بواسطة يد الكاهن.
نقف امامه بعقل شوهته الخطيئة فانحرف عن انوار الحقيقة المطلقة وجنح الى الكذب والاحتيال والازدواجية؛ وبارادة انحرفت عن حب الله والناس، ومالت الى الشر والظلم والاستبداد؛ وبحرية مالت الى الاستعباد للذات وللنزوات، ولاشخاص بشريين، ولايديولوجيات.
والمسيح، بواسطة خدمة الكاهن، يغفر خطيئتنا ويطهرنا ويعيد الينا جمال صورة الله، ويعود بنا الى الشركة مع الله والناس. وهذا ما عناه يسوع عندما قال للابرص: " اذهب الى الكاهن، وأرِه نفسك للشهادة". الغفران يأتي من الله بواسطة خدمة الكاهن الذي يعمل باسم الله الثالوث. قال الطوباوي اسحق: " ان الكنيسة لا يمكنها ان تغفر شيئاً من دون المسيح. والمسيح لا يريد ان يغفر شيئاً من دون الكنيسة. لا يمكن الكنيسة ان تغفر شيئاً إلا لمن يتوب اي لمن مسّه المسيح اولاً. والمسيح لا يريد ان يمنح مغفرته لمن يحتقر الكنيسة[6].
بفعل تواضع يقرّ الخاطي بخطاياه امام الكاهن ملتمساً الغفران، كما فعل الابرص امام المسيح.
***
ثانياً، الوثيقة التعليمية: كرامة الشخص البشري[7]
كرامة الكائن البشري
لكل كائن بشري كرامته وقيمته، وهما تتحدران من الزواج كثمرة حب نابع من الله ومسكوب في قلب الوالدين، وتُحاط وتُحترم في اطار العائلة. لقد اسس الله الزواج بحكمته وعنايته، ليحقق في البشرية تصميم حبه. فيما يتبادل الزوجان هبة الذات الشخصية والخاصة والاستئثارية، في شركة الاشخاص التي بها يتكاملان، انما يعاونان الله في خلق حياة جديدة في تربيتها. فاذا بكلمة "نعم" لشركة الحياة الزوجية، تتواصل لتكون " نعم" لحياة جديدة تولد منهما بكل مسؤولية وحب. كرامة الكائن البشري تأتي من كون نقل الحياة مكتوباً في الطبيعة، أما شرائعه فتبقى بمثابة قاعدة غير مكتوبة بالاحرف ينبغي التقيد بها (الفقرة 6).
كرامة الكائن البشري تأتي ايضاً من كونه مخلوقاً على صورة الله ومثاله (تك1/26)، ومن كون ابن الله صار بشراً ( انظر يوحنا 1/14)، وضمّ الطبيعة البشرية الى الوهيته في وحدة شخصه. وهكذا بتجسده اكّد من جديد كرامة الجسد والنفس اللذين يكوّنان الكائن البشري. فلم يحتقر المسيح الجسد البشري بل كشف معناه وقيمته. "فقط في سرّ الكلمة المتجسد ينجلي سرُّ الانسان"[8].
واذ صار الابن واحداً منا، فقد اعطانا ان نكون نحن " ابناء الله" (يو1/2) و"مشاركين في الطبيعة الالهية" (2بطرس 1/4). رفع هكذا كرامة الحياة البشرية الى شرف القُدسية. فانكشف تدبير حبه وحكمته في انه اراد ان يكون الناس " على شبه صورة ابنه الوحيد" ( روم8/29) (الفقرة 7).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تعرض الخطة الراعوية من النص المجمعي الثالث عشر: " الرعية والعمل الراعوي"، دور كاهن الرعية (الفقرات 30-40).
كاهن الرعية عطية الله لشعبه، حسب وعده على لسان ارميا: "واعطيكم رعاة على وفق قلبي" ( ارميا3/5). فكان الراعي الصالح بامتياز يسوع المسيح (يو10/11؛ عبرانيين13/20).
1. يقوم الكاهن بعمل الرعاية باسم المسيح وبقوة الروح القدس، فهو الذي وكّل اليه رعاية شعب الله، رعاية الراعي لخرافه ( انظر يو21/15-17؛ 1بطرس5/2). هو الروح القدس، الذي وُسم به الكاهن، يصورّه على صورة يسوع المسيح الكاهن والراعي الصالح. حضوره في الرعية امتداد للمسيح الراعي الاوحد والاعظم، متشّبهاً بنمط حياته، عاكساً صورته بشفافية. اما الثمار الروحية فهي من عمل الروح القدس الذي يحقق بقوة الخلاص الذي تممه الرب يسوع بموته وقيامته.
2. الكاهن هو خادم الجماعة في الكنيسة السّر والشركة والرسالة. في الكنيسة-السّر، يحقق حضور المسيح ويساعد المؤمنين على الاتحاد به وبواسطته بالآب والروح القدس. في الكنيسة- الشركة، يبني وحدة الجماعة بالحقيقة والمحبة، ومن خلال تناغم المواهب والخِدم. في الكنيسة الرسالة، يقود الجماعة الى الشهادة للمسيح بالانتصار على العداوة والظلم والتفرقة، وباحلال العدالة والمحبة والسلام.
يعمل الكاهن في تحقيق السّر والشركة والرسالة من خلال وظيفته المثلثة كمعلم ومقدّس ومدبّر للجماعة، التي يستمدها من المسيح النبي والكاهن والملك. فالكاهن مكرّس بسرّ الكهنوت على صورة المسيح الكاهن الاعظم والابدي. انه، في الوقت عينه، على مثال المسيح، اخ بين اخوته المؤمنين يعكس محبة المسيح والله الآب، وهو لهم أب يلدهم بالايمان، ويفتقدهم في بيوتهم، ويقف على حاجاتهم الروحية والزمنية.
3. من اجل ان يقوم كاهن الرعية بكامل دوره، يوصي المجمع بما يلي:
أ- تنشئة الكهنة روحياً وثقافياً وراعوياً، فمسكونياً ورسالياً، بدءاً من المدرسة الاكليريكية، وتواصلاً بالتنشئة المستدامة.
ب-تفرّغهم ما امكن لخدمة الرعية، بحيث يكون لخدمة الرعية الدور الاساس، ويتمكن الكاهن من زيارة ابناء الرعية في بيوتهم، ولاسيما تفقّد المرضى والمتألمين.
ج- تأمين معيشة الكاهن بالتعاون مع ابناء الرعية، بحيث تكون لائقة وعادلة مع ضمانات حياتية.
د- توزيع الكهنة على الرعايا والمناطق وفقاً لحاجاتها، على ان يتم ذلك بالتحاور والتفاهم والطاعة البنوية. وحيث يكثر عدد الكهنة يجب توزيعهم ايضاً على جماعات الانتشار.
ه- الاهتمام بالدعوات بالتعاون الوثيق مع لجنة الدعوات في الابرشية. يرافق الكاهن الدعوة في رعيته، ويميّز علاماتها ويدرجها في حياة الرعية.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، مثل الابرص نلجأ اليك، ملتمسين الشفاء من البرص الروحي والاخلاقي الذي يشوّه انسانيتنا المخلوقة على صورة الله. اسمعنا صوتك ينقينا بلسان الكاهن في سرّ التوبة التي تحررنا من عبوديات الارض وتدخلنا في حالة حرية ابناء الله. فليكن الصوم الكبير، بما يزخر من صوم واماتات، وصلاة وتوبة، واعمال خير ورحمة، زمن التغيير حقاً، مثل الطبيعة التي تتهيأ في الربيع لمواسم العطاء. ألهم العائلات والعاملين في حقل الطب على احترام قدسية الحياة البشرية النابعة من كرامة الزواج الذي اسسه الله الآب بفيض من حبه وحكمته، وقدسته انت، يا رب، بنعمة السّر. ونصلي لكي يحافظ الجميع على كل كائن بشري يتكوّن في حشى الام، لانه اصبح بك ابناً لله وحاملاً صورته، ولان كل تعدّ عليه جرم ضد الله. بارك يا رب خدمة الكهنة لكي تؤدي بالمؤمنين الى سرّ الاتحاد بالله الثالوث، والى حياة الشركة في الوحدة والتضامن، والى الالتزام برسالة الكنيسة في خدمة العدالة والمحبة والسلام. فنرفع التسبيح والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي