وأَنا بائسٌ مِسْكين السَّيِّدُ يَهتَمُّ لي. أَنتَ نُصرَتْي و مُخَلِّصي فلا تُبطئْ يا إلهي. ( مز 40 /18)
شفاء الاعمى 2008 - البطريرك بشارة الراعي
الاحد9 اذار 2008
شفاء الاعمى
المسيح نور العقول والقلوب
من انجيل القديس مرقس 10/46-52
قالَ مَرقُسُ البَشير: بَيْنَمَا يَسُوعُ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحا، هُوَ وتَلامِيذُهُ وجَمْعٌ غَفِير، كَانَ بَرْطِيمَا، أَي ابْنُ طِيمَا، وهُوَ شَحَّاذٌ أَعْمَى، جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الطَّريق. فلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيّ، بَدَأَ يَصْرُخُ ويَقُول: "يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!". فَانْتَهَرَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ لِيَسْكُت، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ صُرَاخًا: "يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!".فوَقَفَ يَسُوعُ وقَال: "أُدْعُوه!". فَدَعَوا الأَعْمَى قَائِلِين لَهُ: "ثِقْ وانْهَضْ! إِنَّهُ يَدْعُوك". فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَهُ، ووَثَبَ وجَاءَ إِلى يَسُوع. فقَالَ لَهُ يَسُوع: "مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ؟". قالَ لَهُ الأَعْمَى: "رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِر!". فقَالَ لَهُ يَسُوع: "أبصِره! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ".
انجيل الاحد الاخير من زمن الصوم قبل احد الشعانين، اختارته الكنيسة للدلالة ان مسيرة الصوم تبلغ بنا الى رؤية يسوع بعين الايمان لتصلح رؤيتنا للانسان والاشياء والعالم. بهذه الرؤية الجديدة ندخل اسبوع آلام الفداء وفصح الرب، على ان يتواصل عمل الفداء في آلامنا، وان يكون الفصح فصحنا نعبر به الى قيامة القلب، الى حياة جديدة.
1. الاعمى المبصر
" ايمانك خلصك، أبصر" ( مر10/52).
اعمى اريحا كان مبصراً بايمانه، قبل ان يبصر بعينيه، هذا ما اراد يسوع ان يكشفه للجمع الغفير بشفائه. ادرك يسوع ان الاعمى كان مبصراً، عندما بدأ يصرخ صرخة الايمان، وقد سمع ان يسوع الناصري مارّ من هناك: " يا ابن داود ارحمني!" والناس الكثيرون الذين انتهروه ليسكت، لم يكونوا " مبصرين". فبالنسبة اليهم يسوع هو فقط الناصري، اما بالنسبة الى الاعمى فهو المسيح الملك الجديد، المنتظر، حامل الرحمة الالهية، ولهذا ازداد صراخاً، لشدة ايمانه المبصر: " يا ابن داود ارحمني!"
اجل، الاعمى كان مبصراً: فلقب " ابن داود" يعني ان يسوع الناصري رجل ارسله الله الى شعبه بمواعيد الخلاص المسيحانية. عندما شفى يسوع رجلاً كان اعمى واخرس، فتكلم وأبصر، دهش الجموع وقالوا: " لعل هذا هو ابن داود" ( متى12/23). وعندما دخل اورشليم لآخر مرة قبيل آلامه، هتف له الشعب بعفوية: "هوشعنا لابن داود! مبارك الآتي باسم الرب!" ( متى21/9). الملاك جبرائيل بشّر مريم بأن المولود منها " ?يكون عظيماً وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب عرش داود ابيه" (لو1/32).
هذا الايمان عند الاعمى، بما له من اساس نبوي، استوقف يسوع، فطلب ان يدعوه ولما فعلوا، " خلع الاعمى رداءه ووثب آتياً الى يسوع"، منقاداً اليه ببصيرة قلبه وعقله. ولكي يعطي البرهان للجمع ان الاعمى وحده كان مبصراً حقاً بايمانه، سأله: " ماذا تريد ان اصنع لك؟" فاجاب: "يا معلمي ان ابصر". فقال له: " اذهب ايمانك خلصك!" وللحال أبصر وراح يتبع يسوع في الطريق" (مر10/49-52).
تكشف آية شفاء الاعمى ان البصر الحقيقي هو بصر الايمان النابع من عقل مستنير وقلب محب. كلنا عميان، طالما لا تنفتح لنا عين اخرى على العالم، غير عيننا الحسية، هي عين الايمان. هذه ترينا عالماً آخر يفوق العالم الذي نراه بأعين الجسد، هو عالم الله، عالم الحياة الابدية، عالم الانجيل، عالم لا ينتهي بنهاية العالم. الايمان نافذة تفتح امامنا افقاً لا حدود له، ولكن لا الايمان العمومي، بل الايمان بشخص ابن الله يسوع مسيح، المرسل من الله الذي يتكلم ويعمل باسمه، انه الحقيقة التي تنير "العميان" وكلنا منهم. ايماننا ايمان بحقيقة المسيح، بشخصه. نحن نؤمن لاننا التقينا شخصاً جديراً بالايمان، شخصاً يوحي ثقة. الايمان كالحب، فالحب لا يوجد اذا لم يكن حباً لشخص، كذلك الايمان لا يوجد ان لم يكن ايماناً بشخص. هذه عظمة ايمان طيما الاعمى، كان وحده مبصراً حقاً.
2. الايمان بالمسيح النور
ليس الايمان المسيحي في الاساس ايماناً باشياء، كوجود الله والآخرة وامثالها، بل ايمان بشخص. لا نجد في الانجيل كلاماً من الرب يسوع يدعو الى " الايمان بهذه او تلك من الحقائق"، بل دعوة: " آمنوا بالله، وآمنوا بي" ( يو14/1). المشكلة اليوم هي في قلة الممارسة الدينية، والانحطاط الخلقي، وممارسة التسلط والاستضعاف والظلم. اصحابها يدّعون انهم مؤمنون، فيما يعانون من ازمة الايمان بشخص يسوع المسيح الذي قال عن نفسه: " انا هو الطريق والحق والحياة" (يو14/6). بدونه ضياع وضلال وموت، اكدّه بقوله: " ان لم تؤمنوا اني انا هو، تموتوا في خطاياكم" (يو8/24). ذلك ان المسيح هو النور، كما قال عن نفسه: انا هو نور العالم. من يتبعني، لن يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة" ( يو8/12). بهذا المعنى انهى مرقس الانجيلي رواية شفاء اعمى اريحا: " أبصر وراح يتبع يسوع في الطريق" (مر10/52). فكان أفضل التابعين له، لانه مشى بنور حقيقته التي تعطي الحياة.
آية شفاء الاعمى برهان على ان يسوع هو نور العالم. لقد قال ذلك صريحاً عندما شفى اعمى على طريق هيكل اورشليم: " ما دمتُ في العالم، انا نور العالم". ثم تفل في التراب وصنع طيناً ومسح به عيني الاعمى، وامره ان يغتسل في بركة شيلوح. فاغتسل وعاد مبصراً ( يو9/5-7). بهذه الحركة، استبق المعمودية، التي هي الاغتسال بالماء والروح، وكشف ان عين الايمان تنفتح في المعمودية، ولهذا كان الاقدمون يسمون المعمودية "الاستنارة"، والمعمدين "المستنيرين". ويقول بولس الرسول المعمودية في رسالته الى العبرانيين: " ان الذين استناروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية واشتركوا في الروح القدس، وسقطوا، فانهم يصلبون ابن الله مرة ثانية ويعرّضونه للعار" (عبر6/4-6). الايمان والمعمودية لا ينفصلان: اعلان كلام الله ينير عقول السامعين بالحقيقة الموحاة، ويولّد فيهم جواب الايمان، فيطلب المؤمن ان يعتمد. علّمت الكنيسة في التعليم المسيحي (فقرة 1253) ان " المعمودية سرّ الايمان"، اداته وعلامته، انطلاقاً من كلام الرب: "اذهبوا في الارض كلها، واكرزوا بالانجيل للخليقة جمعاء. فمن آمن واعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يدان" (مر16/15-16).
3. المعرفة والمسلك الخلقي
" وللوقت أبصر وانطلق في الطريق".
أبصر الاعمى بعينيه بعد ان كان مبصراً بايمانه وعقله : آمن ففهم . كانت لديه المعرفة بالايمان والمعرفة بالعقل. " لم يكن يسوع الناصري عنده ابن يوسف النجار فقط، بل " ابن داود"، المسيح المنتظر الذي كتب عنه الانبياء. في رسالته العامة " الايمان والعقل " (14 ايلول1998)، كتب خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني في سياق شرحه لكلمة القديس انسلموس اؤمن لأفهم : " لا يمكن الفصل بين العقل والايمان من دون ان يفقد الانسان قدرته على معرفة ذاته ، والله والعالم، معرفة وافية . ان معرفة احوال العالم واحداث التاريخ معرفة راسخة لا تتم الاّ اذا رافقها اعلان ايماننا بالله الذي يعمل فيها. فالايمان يرهف النظر الباطن، ويتيح للعقل ان يكتشف، في سياق هذه الاحداث ، ملامح العناية الالهية وحضورها الفاعل" ( الايمان والعقل ،16).
بسبب معرفته ليسوع بالايمان والعقل ، بدأ الاعمى، الذي شفي، مسلكاً خلقياً جديداً، "فانطلق معه في الطريق. لقد وجد عند يسوع الجواب على الخير والشر. لا شك في انه طرح ذاك السؤال الاساسي الذي وجهه الشاب الغني الى المسيح : " ايها المعلم الصالح ماذا اصنع من الصلاح لتكون لي الحياة الابدية " (متى19/16).
كل لقاء مع المسيح يعطي الجواب الوحيد على هذا السؤال الذي يملاء رغبات قلب الانسان . ولذلك اقام الله كنيسته لكي يتمكن البشر من تحقيق مثل هذا اللقاء بالمسيح , لانها تسعى وتوجّه كل انسان الى ان يجد المسيح الذي يقطع معه مسيرة الحياة ( تألق الحقيقة ،7).
الصوم يتيح لنا ان نعرف بالايمان سر المسيح والتعليم الصحيح (2تيمو 4/3) وشرف حالتنا الجديدة كابناء الله " ، وان نسلك كما يليق ببشارة المسيح ( فيليبي1/27). اننا بقبولنا الاسرار وبالصلاة ننال نعمة المسيح ومواهب روحه التي تهيئنا لهذه الحياة الجديدة " ( تألق الحقيقة ، 5).
***
ثانياً، الرجاء المسيحي
وجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، بتاريخ 30 تشرين الثاني 2007، رسالة عامة بعنوان: "بالرجاء خُلّصنا". نخصص لها القسم الثاني من التنشئة المسيحية.
نبدأ اليوم بتحديد مفهوم الرجاء (الفقرتان 1 و2).
الرجاء ثمرة الايمان
الرجاء هو الصمود والثبات والاعتصام في ما نؤمن به ( عبر10/23)، يسمّيه بولس الرسول: "ثقة الايمان" ( عبر 10/22)، وبطرس هامة الرسل: " رجاء الايمان" ( 1 بطرس 3/15). في آية شفاء الاعمى على طريق اريحا، تبيّن رجاؤه في صرخة الاستغاثة بيسوع، بالرغم من نهي المارّة له ليسكت. اما هو فكان يزداد صراخاً حتى توقّف يسوع ودعاه.
الرجاء هو ثمرة الايمان بالمسيح، اذ لا رجاء من دون الايمان بالله. كتب بولس الرسول الى اهل افسس الذين كانوا وثنيين، وكانت لهم آلهتهم، لكنهم كانوا هائمين في عالم مظلم وامام مستقبل قائم، وقال انهم كانوا بدون رجاء: " كنتم بذاك الزمان، قبل ان يأتيكم المسيح، بعيدين عن تدبير شعب الله، غريبين عن عهد الخلاص، وكنتم من دون رجاء، ومن دون اله لكم في العالم" ( افسس2/12).
الرجاء ضمانة المستقبل
المؤمن الذي يرجو يدرك ان له مستقبلاً، ولو لم يعرف تفاصيل ما ينتظره. يعرف ان حياته لا تنتهي في العدم. ولذا دعانا بولس الرسول: " ايها الاخوة، لا تكونوا محبطين كالذين لا رجاء لهم" ( اتسا 4/12). لا يصبح حاضرنا قابلاً للحياة، ما لم يتأكد لنا المستقبل كواقع ايجابي. هذا يعني ان المسيحية ليست فقط " بشرى سارّة تنقل امراً مجهولاً. لكنها في أن اعلام ( information) واكمال ( performation). ليس الانجيل نقلاً فقط لعناصر يمكن معرفتها، بل هو انتاج لافعال من شأنها ان تغيّر مجرى الحياة وتجددها. ان من يرجو يعيش حياة جديدة اعطيت له. عودة البصر الى اعمى اريحا وسيره في الطريق الجديد مع يسوع يثبّت هذا القول.
الانجيل اعلان بشرى وانتاج افعال، كما جاء في انجيل لوقا، عندما قرأ يسوع في مجمع الناصرة ذات سبت من نبؤة اشعيا التي تحققت فيه: " روح الرب عليّ مسحني لابشر المساكين، وارسلني لاعلن للمأسورين تخلية سبيلهم، وللعميان عودة البصر اليهم، وافرّج عن المظلومين" (لو4/18). هذا الاعلان اصبح فيما بعد افعالاً في معجزاته اوردها الانجيليون الاربعة. " "الايمان جوهر الامور التي ترجى، وبرهان الحقائق التي لا ترى" ( عبرانيين 11/1). بفعل هذا الايمان، صرخ اعمى اريحا الى يسوع، وكان لديه اليقين انه سيعيد له البصر، لانه ابن داود. وبفضله مشى بطرس على سطح الماء، ومست النازفة طرف ثوب يسوع وشفيت (لو8/44).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي السابع " الكهنة في الكنيسة المارونية"، وتحديداً الثوابت اللاهوتية في الاختيار والدعوة والتنشئة في الخدمة الكهنوتية (الفقرات32-35).
ان التقليد العائد الى الرسل والكنيسة الاولى يرتكز على الثوابت اللاهوتية التالية:
1. حاجة الكنيسة
الحاجة تحدد الخدمة الواجب ملؤها قبل تحديد المؤهلات المطلوبة ودعوة الشخص المناسب. فكل خدمة في الكنيسة تقتضيها حاجة، وفي ضوء الحاجة تحدد المؤهلات، ويُطلب اختيار الشخص المنسب. هكذا جرى عند اختيار متّيا ليتولى منصب يهوذا الاسخريوطي (اعمال1/20).
2. دور الشعب في الاختيار
للجماعة المسيحية دور هام في اختيار الشخص المناسب للخدمة المطلوبة، لانها تعرفه. وبالتالي تتحمل تبعة المسؤولية في تقديمه الى الاسقف ومرافقته بعد رسامته، وتسانده في خدمته وتؤمن له معيشة لائقة.
3. دعوة الاسقف
الاسقف يتخذ القرار في قبول من يختاره الشعب ويرسله للتنشئة. ثم يدعوه باسم النعمة الالهية، في الرسامة الكهنوتية، ليعبّر له عن دعوة الله التي تتم " اليوم" و" الآن"، ويمنحه الكهنوت بوضع اليد، داعياً الروح القدس ليحلّ عليه ويجعله اهلاً للخدمة التي توكل اليه، بمشاركة الجماعة المسيحية الملتئمة حول الليتورجيا الالهية.
4. رباط الخطبة
بالرسامة الكهنوتية ينشأ رباط بين المرتسم والجماعة المسيحية عبر " الخطبة" على المذبح التابع للابرشية. فهو يلتزم بالامانة للخدمة، والجماعة المسيحية بمسؤولية تأمين معيشته.
صلاة
ايها الرب يسوع، النور الآتي الى العالم، ساعدنا لنستنير بك وبكلامك الحي والمحيي. لقد ملأ نورك عيني الاعمى المنطفئتين، فليملأ هذا النور عتمة العقول والضمائر والقلوب. اعطنا رؤية جديدة لحياتنا واحداثنا وللعالم، لنسير في طريق جديد، هو أنت. وكما وضع الاعمى رجاءه فيك فنال البصر، امنحنا نحن ايضاً ان نرى فيك رجاءنا الوحيد والاكيد، لنصمد في الحق والخير والجمال. نشكرك على اختيارك كهنة من بيننا يحملون الينا والى المجتمع نور انجيل الخلاص، ينير ثقافات كل جيل. لك المجد والتسبيح ايها المسيح الاله، مع ابيك المبارك، وروحك الحي القدوس، الآن والى الابد. آمين.