مَن رَدَّ الجَوابَ قَبلَ أَن يَسمَع فهُو ذو غَباوَةٍ و فَضيحة (ام 18 /13)
شفاء الاعمى 2006 - البطريرك بشارة الراعي
شفاء الاعمى
انجيل القديس مرقس 10/46-52
يسوع نور العقول والضمائر
اية شفاء الاعمى تختتم سلسلة الايات التي نقلتها آحاد الصوم السابقة، لتؤكد ان يسوع نور العقول والضمائر، وقد قال عن نفسه " انا نور العالم". (يو8/12). باعادة البصر لطيما ابن طيما، اعمى أريحا، كشف لنا انه هو النور وحده، وان لا احد يستطيع ان يعطي ما لا يملك. هذه الحقيقة الالهية، ادركها طيما الاعمى، فالتمس البصر من يسوع، بينما كان يلتمس صدقة من الناس، وهو "جالس يتسول على قارعة الطريق". هذا يعني انه كان وحده بصيراً، فعرف يسوع في جوهر طبيعته، خلافاً للجمع الكثير الذي كان يرافقه. ولهذا أرغموه ليسكت، لكنه كان يزداد صراخاً: " يا ابن داود ارحمني!" كان مبصراً بالعقل والقلب، بالرغم من انطفاء النور في عينيه، بفضل ايمانه الحي، كما يشهد يسوع: "اذهب، ايمانك احياك". (مر10/52). ليس يسوع نوراً للعيون وحسب، بل ما يعنيه هو ان يكون نوراً للضمائر البشرية. فالضمير هو العين الباطنية، والاداة البصيرة للنفس، التي تقود خطانا على طريق الخير. وهو المكان المقدس الذي يكشف فيه الله للانسان عن خيره الصحيح. ان الضمير الذي لا يثقف مسيحياً بكلام الله وتعليم الكنيسة، يصبح طاقة هدّامة لانسانية الانسان (المصالحة والتوبة،26). الضمير المظلم، مثل العمى، سير في ظلام الخطيئة والشر والفساد.
اولاً، شرح الآية الانجيلية
1. العمى الروحي
" انتهره الناس ليسكت " (مر10/48).
صرخة الايمان والفهم التي أطلقها الاعمى باعلى صوته جابهها الناس، بعماهم الروحي ، وانتهروه ليسكت. اما يسوع فسقطت الصرخة في قلبه، " فتوقف وامر الناس ان يدعوه "، ليشفي عماهم الروحي بعلامة شفاء عمى الاعمى الحسي ، فغيّروا موقفهم ولهجتهم وقالوا للاعمى: " تشجع، قمْ. انه يدعوك".
كلنا مصاب بالعمى سواء على مستوى الايمان او الرجاء او المحبة. ونحتاج الى شفاء ورؤية جديدة. وحده يسوع يستطيع اعطاءنا اياها. لانه " نور العالم" (يو8/12).
كلنا مصاب بالعمى الروحي كل مرة نخالف وصية الله الاولى في الناموس: " احبب الرب الهك من كل قلبك وكل نفسك وكل فكرك وكل قوتك "(متى22/37؛لو10/27)، وفي الوصايا العشر: " انا هو الرب الهك لا يكن لك اله غيري. فالرب الهك تعبد واياه وحده تخدم " (متى4/10). بمخالفة هذه الوصية نقع في العمى الروحي، لان بصيرتنا الداخلية قائمة على الفضائل الالهية الثلاث: الايمان والرجاء والمحبة.
يكون العمى الروحي، على صعيد الايمان، عندما لا نحافظ على الايمان ولا نغذيه بالتأمل في كلام الله والصلاة وبتعليم الكنيسة، ولا نرفض ما يتعارض معه. العمى الروحي هو الخطيئة ضد الايمان مثل: الشك الارادي برفض الاعتقاد بحقيقة موحاة من الله ومعروفة من الكنيسة لنؤمن بها، والشك غير الارادي بالتردد في الاعتقاد والخوف من غموضه؛ وعدم الايمان أي اهمال الحقيقة الموحى بها، او رفض قبولها عمداً؛ البدعة او الهرطقة وهي انكار حقيقة ايمانية باصرار؛ الجحود (انكار الايمان) وهو الرفض الكامل للايمان المسيحي؛ الانشقاق أي رفض الشركة مع الكنيسة.
ويظهر العمى الروحي، على صعيد الرجاء، في اليأس الذي هو انقطاع الانسان عن ان يترجى من الله خلاصه الشخصي، وعونه، او مغفرة خطاياه. فاليأس خطيئة ضد رحمة الله وامانته لوعوده؛ وفي الاعتداد المفرط بالنفس أي الاعتداد بالامكانات الذاتية وبنيل الخلاص بدون العون الالهي، او الاعتداد بقدرة الله ورحمته التي لا تحتاج الى توبة الانسان لمغفرة خطاياه، وبنيل المجد الابدي بدون استحقاق شخصي.
ويبان العمى الروحي، على صعيد المحبة، في اللامبالاة بالله ومحبته ورسومه، وتجاهل مبادرة المحبة الالهية وقوة الفداء؛ في نكران الجميل بعدم مبادرة محبة الله بالمحبة والطاعة لارادته؛ في الفتور أي التردد واهمال الاستجابة للمحبة الالهية؛ في السأم او الكسل الروحي برفض الفرح الآتي من الله، وعدم الاندهاش لجمال الله وعظائم اعماله؛ في الحقد على الله بسبب الشر الموجود في العالم، وبسبب ان الله يحرّم الخطايا وينزل العقوبات (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 2087-2094).
هذا العمى الروحي يعطل الرؤية الانسانية والخلقية والاجتماعية، ويظهر في انحراف العلاقات مع الناس، وتدنّي الاخلاق، وفقدان الالتزام الاجتماعي الصحيح الرامي الى الخير العام، فتطغى الروح الاستهلاكية والاباحية على المستوى الخلقي والسياسي والاقتصادي والاعلامي. والعمى يؤدي بنا الى عدم القدرة على قراءة علامات الازمنة، وقراءة الاحداث الخاصة والعامة، الاجتماعية والوطنية. الدستور المجمعي "الكنيسة في عالم اليوم " يكشف لنا كيف نقوم بهذه القراءة (الاعداد 4-10).
اجل، وحده المسيح يحررنا من هذا العمى ونتائجه وابعاده. واول العمى الذي يريد المسيح ان يحررنا منه هو محبة ذاتنا العشوائية، مصدر ازدرائنا للقريب، وهو علاقات الهيمنة والتسلط والنفوذ على الغير. كلمة بولس الرسول عن هذا التحرر: " ان المسيح قد حرّرنا لنكون احراراً" ( غلا 5/1)، دعوة لنا لنصمد ونناضل لئلا نسقط من جديد تحت نير العبودية، ولنعمل من اجل تحرير المستعبدين والمستضعفين، ونقاوم تجربة استعباد الناس لنا. حياتنا نضال روحي "باسلحة الله ضد عالم الظلمات والارواح الخبيثة، بسلاح الحق ودرع البّر وانجيل السلام وترس الايمان، وسيف الروح الذي هو كلمة الله، وبالصلاة والدعاء في الروح، وتبليغ سرّ الانجيل بجرأة" ( افسس6/10-20).
2. يسوع نورنا بشخصه وافعاله وتعليمه
بعد ان شفى الاعمى، اعلن يسوع عن نفسه: " انا نور العالم. من يتبعني لا يمشي في الظلام" ( يو8/12). فأمن به الناس، وادركوا انهم هم ايضاً به " نور العالم" ( متى5/14).
الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان"، يبين لنا ان يسوع هو نورنا الحقيقي بشخصه وافعاله وتعليمه ( 30-34).
أ- يسوع نور لنا بشخصه
انه اله حق وانسان حق، مساو للآب في طبيعته الالهية، ومساوٍ لنا في بشريته ( مجمع خلقيدونيا سنة 451). فيه نكتشف معنى كياننا البشري ورسالتنا المسيحية؛ في شخصه تلتقي البشرية ربها وتتحد به. ها هو معنا منذ الفي سنة، وفي تاريخنا عبر احداثه الكبيرة والصغيرة. وها نحن منذ الفي سنة نلتقي الله، ونحيا التزامات ترتدي قيمة ابدية، بمعنى ان رجاء الحياة الاخرى يوفرّ اسباباً جديدة للقيام بالمهام الارضية ( رجاء جديد للبنان، 30).
ب- يسوع نور لنا بافعاله
انه حاضر في ما بيننا وينضم الينا في الطريق، كما فعل مع تلميذي عماوس، ينقل كلام الله فتنشرح له القلوب، يكسر الخبز ويوزعه للمشاركة ويفتح عيوننا لنميّز حضوره، وفي بهاء نوره نندفع برجاء يصبح عندنا التزاماً (لوقا 24/13-35). اننا نتحمل مسؤولية فعلية في تحقيق مقاصد الله وتسريعها، متكلين على حضور القائم من الموت القائل لنا: "انا معكم طول الايام الى نهاية العالم" ( متى28/20)، وعلى ما لروحه القدوس من عمل صامت في العالم (المرجع نفسه، 29-32).
ج- يسوع نور بتعليمه
نحن مثل بطرس نقول: "يا رب، الى من نذهب وكلام الحياة الابدية عندك؛ نحن آمنا وعرفنا انك قدوس الله" (يو6/68-69). اننا نغتذي بكلامه حيثما وضعنا ونعمل على اعلان محبته. لقد اصبحنا في المسيح خلقاً جديداً (2كور5/17). ولهذا نخضع لشريعة المسيح (غلا6/2). انها نقيض شريعة العالم التي يختصرها يوحنا الرسول " بشهوة العين وشهوة الجسد والكبرياء الغنى" ( 1يو2/16). اما شريعة المسيح فهي قضيلة التجرد في استعمال خيرات الارض، وفضيلة الطهارة، في الفكر والنية، وفضيلة الطاعة لله وللرؤساء. وهكذا نشارك المسيح في خلاص العالم وتحريره بفرح القيامة. هو الله يتابع تدبير الخلاص بمساهمة المؤمنين: فبفضل " نعم "مريم حصلنا على تجسد ابن الله. الكلمة الازلي؛ وبفضل استجابة الرسل لنداء الرب بلغتنا كلمة الانجيل؛ وبواسطة رعاة الكنيسة وموآزرة صلاة الاخوة نحقق الاتحاد باعضاء جسد المسيح، والمصالحة مع الله؛ وبواسطة شهادتنا نحمل غيرنا الى معرفة المسيح ومحبته (المرجع نفسه، 32-34).
3. الروح القدس نورنا الداخلي بمواهبه.
" ايها النور الطوباوي املاء باطن قلوب مؤمنيك". هكذا تبتهل الكنيسة الى الروح القدس، عطية الآب، ليكون لنا الذاكرة والمفقّه والمحامي. انه يلامس العقول والقلوب ويرشدها الى دروب خدمة الحياة والعدالة والسلام. وينير الايمان الذي فينا بمواهب الحكمة والفهم والعلم.
بموهبة الحكمة يسدد الروح عقلنا لننظر الى شؤون الدنيا من منظار الله، ونفهمها بنور وحي الله، ونقاربها كما يرغب الله.
بموهبة الفهم يجعلنا نلج الى عمق الاسرار الالهية، مطابقين عقلنا المحدود على اللامحدود، وفكرنا المحتاج الى وضوح على تعليم اسرار الله.
بموهبة العلم يمكننا من تمييز القيم، بين تلك الاتية من الله وتلك الآتية من الشرير، وبين ما هو خير وما هو شر، لكون الشر خيراً منتقصاً، مبتوراً، منحرفاً ومرغوباً فيه. بهذه الموهبة نحسن الخيارات وسط صعوبات العالم ومحنه.
" حيث روح الرب هناك الحرية" (2كور3/17)، ذلك ان هذا الروح هو " روح الحق الذي يقود الى الحقيقة كلها" (يو16/13)، والحقيقية هي التي تحررنا (يو8/32). الحقيقة هي اصل الحرية واساس كل عمل تحرري ومقياسه. ان الحقيقة الانجيلية يجب ان يدعى اليها جميع الناس وفقاً لامر الرب يسوع (متى28/18-20؛ مر16/15). ومن حق جميع الناس ان تُعرض الحقيقة عليهم. والدعوة اليها تنطوي على احترام حرية كل شخص، وعلى التخلي عن كل شكل من اشكال الاخضاع والاكراه. ان الروح القدس الذي يرشد الكنيسة وابناءها وبناتها " الى الحق كله"، انما يوجّه مجرى الازمنة و " يجدد وجه الارض" ( مز104/30). انه حاضر في الضمير وينضجه لمزيد من احترام كرامة الشخص البشري. وهو ينبوع الشجاعة والبطولة والاقدام (الحرية المسيحية والتحرر، 3 و4).
اننا نواصل الصلاة مع الكنيسة: " هلم يا روح المحبة والسلام، يا روح الحق والقداسة والاتحاد، ويا روح الحكمة والحياة، اهدِالبشرية الى رؤية يسوع رب المجد ومخلص العالم".
**
ثانياً، الخطة الراعوية
بالرغم من ان عدداً غير يسير من شبيبتنا ملتزم في حياته الروحية، وفي ممارسة الواجبات الدينية، وفي المسلك الخلقي، فان عدداً اكبر ما زال في حالة خصام مع الله والقيم، وابتعاد عن الكنيسة، فلا بدّ من اخراجهم من الجهل وعقدة الخوف من الالتزام، وتكثيف رعايتهم الروحية.
تستعين الخطة الراعوية بالنص 11، الخاص بالشبيبة، الذي خصصه لهم المجمع البطريركي الماروني، في اطار التجرد الراعوي والروحي على مستوى الاشخاص. مسألة الشبيبة تقتضي من الجماعات المنظمة في كل رعية: لجان الشبيبة، لجنة العائلة، المنظمات الرسولية، السهرات الانجيلية، الجماعات الديرية، ان تقرأ واقع الشبيبة في محيط العائلة والرعية، وتتخذ مبادرات لمساعدة هذه الشبيبة للخروج من ضياعها، فالشباب مستقبل المجتمع والكنيسة والوطن. من صفوفهم ينبغي ان تخرج ذهنيات جديدة، ويبرز قادة جدد. انهم ضمانة المستقبل الافضل، فلا يجوز التفريط بهم.
1. يتهدد الشباب مناخات تحرر وهمية غالباً ما تفضي الى عبوديات قائلة: انحراف على المستوى العاطفي وراء الاحاسيس الرخيصة، والتفلت الجنسي بالبحث عن اشباع الرغبات، وفقدان الشفافية والصدقية في العلاقات العاطفية بين الجنسين، وانعدام التوازن الداخلي، والارتهان لتعاطي المخدرات. ما جعل الشبان والفتيات يعيشون ازمات الهوية ومأساة الضياع وحالات عزلة عن واقعهم وغربة عن قيمهم تؤدي الى حالة من اليأس والسطحية واللامبالاة (النص 11،الشبيبة، 16 و17).
تقتضي الخطة الراعوية القيام بعملية تحرير للشباب قائمة على الحقيقة والمحبة وعلى قاعدة القيم والشريعة الالهية والخلقية. ينبغي مساعدتهم على وعي حالة الخطيئة التي تفتح امامهم حرية وهمية تقضي الى ضياعهم وموتهم. انهم بخطيئتهم يحاولون التحرر من الله، فيستعبدون ذواتهم وتعلق بالمخلوق على نحوٍ مضلّ وهدام، فيعم قلوبهم القلق، ويحاولون تبديده بالضجيج وصخب الحياة.
2. وتقع الشبيبة فريسة تيارات الالحاد المقنّع، فتتعزز بين صفوفهم مذاهب المادية المفرطة والانحلالية والروح الاستهلاكية، وتتكون عندهم صورة خاطئة عن الله والكنيسة، وتنحجب عنهم معرفة الحقيقة. ولذلك يبتعدون عن الصلاة والممارسة الدينية يوم الاحد وينسلخون عن حياة الكنيسة. فيأتي البديل حب الظهور الفارغ والسطحية والتصنع والاغراء في اللباس والمسلك والتكاذب وتغليب الابتزال على الرقي والقبيح على الجميل والفساد على الطهر (النص 11، الشبيبة، 18).
ان الخطة الراعوية امام تحدٍ كبير هو اعادة الشبيبة الى سلّم القيم، والى تقييم عمرهم الذي هو عمر القرارات البطولية، لا عمر التراخي والاهمال.
3. ومن الظاهرات المقلقة الانتماء الاعمى لهذا او ذاك من التيارات السياسية، الذي يفرّق بين الشباب بالعنف والغوغائية. وكأن هذا التيار او ذاك اله يٌعبد، بينما هو مجرد وسيلة لخدمة الخير العام، من دون ان ينقض الآخر المختلف في اسلوبه ورأيه.
مطلوب من الخطة الراعوية تحرير الشباب من هذا الانتماء الاعمى والغوغائي، وتربيتهم على المفهوم السياسي الصحيح، وعلى ان الوطن هو الاساس والغاية، وان التيارات والاحزاب وسيلة تتغير، ولا مبرر لها سوى خدمة الخير العام، وان تعددية الآراء مشروعة شرط ان تصب في وحدة المصلحة العامة التي تزول امامها كل مصلحة فردية. ومن الضرورة بمكان العمل على ادخال هذه المفاهيم في اذهان الوالدين الذين يجرمون بحق اولادهم اذا اورثوهم انتماء اعمى، كان في اساس ازمات الامس.
صلاة
ايها الرب يسوع، يا نور الحق الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم، يا من كنت النور لبصيرة أعمى اريحا ولعينيه، كن النور المشع لشبيبتنا وفي طرقاتنا، لكي يراك الجميع كما انت. ففيك وحدك تنجلي حقيقة الله وحقيقة الانسان ومعنى التاريخ. وفي ضوء هذه المعرفة نسلك سلوكاً انسانياً ومسيحياً بالقول والعمل. اعطنا ان نتبعك في الطريق مثل الاعمى الذي شفيته، بل اعطنا ان نسألك مثله، وقد استنارت بك بصيرته، النور لعين العقل والقلب والضمير فينا. وعندها نستطيع ان ننشد: " الرب نوري وخلاصي فممن أخاف؟ بك نطق قلبي، اياك التمس قلبي، وجهك يا رب التمس". لك المجد لى الابد، آمين.