وإن أحسنتم إلى من يحسن إليكم فأي فضل لكم ؟ لأن الخاطئين أنفسهم يفعلون ذلك (لو 6 /33)
شفاء النازفة 2006 - البطريرك بشارة الراعي
شفاء النازفة
انجيل القديس لوقا 8/40-48
التعديات على كرامة المرأة
تمثل المرأة النازفة كل انسان ينزف من جراء معاناة في جسده او روحه او معنوياته او اخلاقه، وتمثل كل مجتمع ينزف في اقتصاده وحضارته وتقاليده وقيمه ، وكل وطن ينزف في مقوماته ونظامه. لقد شفاها يسوع، عندما لمست طرف ردائه بايمان ، فأعاد اليها كرامتها كامرأة. تشكّل الآية الانجيلية نموذجاً لطريقة شفاء كل شخص منا ، وشفاء مجتمعنا ووطننا .
اولاً، شرح اللوحة الانجيلية وابعادها
1. المرأة النازفة وواقعها الاجتماعي
" كانت هناك امرأة منزوفة منذ اثنتي عشرة سنة " (لو8/43).
كانت هذه المرأة تعاني من سيلان دم مستديم، خارجاً عن حيضها الشهري. ففقدت معه كل شيء: مالها وصحتها وكرامتها، وبلغت الى حدّ اليأس، وقد دام هذا الواقع اثنتي عشرة سنة .ففي شريعة العهد القديم، كانت تُعتبر المرأة النازفة نجاسة كل مرة يأتيها الحيض الشهري، فمن وما مسته او مسّها يصبح نجساً ، اشخصاً كان ام ثوباً او مكاناً. والمرأة المصابة بنزيف دائم كانت تُعتبر بذات الفعل نجاسة وخاطئة، وتمنع من مخالطة الناس والاقتراب من النبي. وكان عليها بعد شفائها بسبعة ايام، ان تحضر في اليوم الثامن الى الكاهن وتقدم فرخي حمام واحدة عطية شكرلله، وواحدة محرقة تكفير عن الخطيئة (انظر سفر الاحبار15/19-33).
لهذا السبب، ولكي لا تشهر المرأة النازفة امرها، انسلت بين الجمهور خلسة، من وراء يسوع، ولمست طرف ثوبه ، بدافع من ايمانها الذي تعدّت به كل احكام الشريعة، فشفيت واستعادت كل كرامتها ودورها كامرأة.
انها رمز لنزيف المرأة في كرامتها، أكان من جراء عيشها في حالة الخطيئة او في الاباحية او في امتهان الشر على انواعه كالعنف والدعارة والسرقة، ام بفعل من الخارج: من المجتمع او من غياب القوانين المدنية او من وسائل الاعلام بما تروج من اباحية جنسية في البرامج والدعايات او من الفلتان الاخلاقي والحرية المفرطة.
نددت الكنيسة في اكثر من وثيقة بكل ما ينتهك كرامة المرأة. نذكر منها رسالة البابا يوحنا بولس الثاني الى النساء ووثيقتين للمجلس الحبري لوسائل الاعلام: "الاباحية والعنف في وسائل الاعلام"، و"اداب الدعاية واخلاقيتها".
في رسالة الى النساء (1995)، نجد اشارة الى ما عانت منه المرأة وتعاني من شروط قاسية جعلت طريقها صعبة، وانتقصت من كرامتها، وشوّهت ميزاتها، وادّت الى تهميشها واستبعادها. فلم تتمكن من تحقيق ذاتها بكل معنى الكلمة، وحرم المجتمع من عبقريتها الروحية والانسانية والاجتماعية. وثمة عراقيل تمنع النساء من الاندماج الكامل في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ وتتعرض عطية الامومة الى العقوبة بدلاً من التقدير، مع عدم الاحترام للامهات العاملات. فتعاني من عدم مساواتها الفعلية في الحقوق الشخصية والاجور بالنسبة الى العمل، وفي الترقية العادلة في الوطنية، وتدبير شؤون العائلة. وتكشف الرسالة عن الاساءات المرتكبة بحق النساء في الحياة الجنسية كالعنف الجنسي، وخلق اجواء موبوءة باباحة اللذة الجنسية والمتاجرة باعتماد استغلال الجنس وتحويل اجساد الفتيات الى سلعة، وعن الحرمان على صعيد التنمية الشخصية .
اما وثيقة الاباحية والعنف في وسائل الاعلام (1989)، فتكشف عن الظاهرات المقلقة التي تتفشى عبر الكتب والمجلات والسينما والمسرح والتلفزيون واشرطة الفيديو، والدّش والانترنيت، وتسيء الى الشبان والفتيات والقاصرين. الاباحية الجنسية هي كل انتهاك يُرتكب عن طريق استخدام التقنيات البصرية والسمعية والمقروءة بحق السرّية الخاصة التي يتمتع بها الجسد البشري، ذكراً ام انثى، ويجعل من الشخص البشري وجسده سلعة تُسخّر لقضاء حاجة سيئة بقصد المتعة. والعنف هو كل مشهد يهدف الى اثارة الغرائز البشرية الدنيئة، بالاعتماد على ابراز القوة الجسدية والاذى والشهوة العدائية (عدد9). ويزاد عليهما اللجوء الى المخدرات والمسكرات من اجل اثارة الغرائز، اثارة افعل واشمل.
ان اسباب الفلتان في وسائل الاعلام متعددة نذكر منها:
انتشار اخلاقية متساهلة مبنية على ارضاء الذات باي ثمن كان، دونما رادع خلقي. انها خطيئة ضد وصايا الله، وضد قدسية الجسد الذي اصبح عضواً في جسد المسيح، وضد طهارة النفس التي هي هيكل الروح القدس، وضد فضيلة الحب.
الطمع بالربح، اذ اصبحت الاباحية صناعة تجارية تستغل الضعف البشري، ولاسيما ضعف الشبيبة والنفوس الرخيصة، ومن ضمن هذه التجارة ترويج الاباحية بواسطة الدّش، هذه جريمة منظمة ضد الله والانسان والمجتمع.
ادعاء الحريّة في التعبير والتصرف بشأن الاباحية الجنسية، لكن هذه الحرية تنتهك القيم الخلقية عند الشبيبة ، والسرّية الخاصة بكل انسان، والحشمة والاخلاق العامة.
تقاعص السلطات المدنية عن حماية الاخلاق العامة عن سنّ القوانين اللازمة والسهر على تطبيقها.
استقالة الاهل من مسؤولية حماية الحشمة والطهارة في بيوتهم ، وتربية اولادهم على حسن استعمال وسائل الاعلام وانتقاء البرامج ( الاباحية والعنف في وسائل الاعلام ،19-20).
وتعدّد وثيقة آداب الدعاية واخلاقيتها (1997) الاضرار الثقافية والخلقية والدينية التي تتسبب بها الدعايات الهدامة بمحتوياتها واساليبها المتعارضة مع القيم السليمة التقليدية. فهي تهمل المستوى الرفيع الغني والادبي لتنقاد الى السطحية وقباحة الذوق والانحطاط الخلقي، وتتجاهل المتطلبات التربوية والاجتماعية، وتهمل مراعاة فئات المجتمع كالاطفال والشبان والمسنين والفقراء (عدد12).
فثقافياً، تسيء الدعاية الى كرامة المرأة كسلعة لا كشخص، وتسخر من رسالتها كزوجة وام، وتقدمها في حقل التجارة والاعمال والمهن بصورة ذكورية مشوهة تتنكر لمواهبها المميزة وحدسها واحساسها الذي يسهم الى حدّ بعيد في احلال حضارة المحبة (عدد12).
اخلاقياً تتدنى الدعاية من المستوى الخلقي الرفيع الى المبتذل والمنحط والخلاعي، وتروّج وتلقنّ مواقف وتصرفات مناهضة للآداب من مثل الدعاية لصالح وسائل منع الحمل وكل ما يسبب الاجهاض، او لصالح منتوجات تشكّل خطراً على الصحة، والحملات التي تموّلها الحكومات من اجل تحديد الولادات اصطناعيا،ً وسواها.
دينياً، تستخدم الدعاية اشخاصاً او رسوماً دينية لبيع بعض المنتوجات، بطريقة مضرة ومهينة، فتستغل الديانة وتتعامل معها بوقاحة (عدد13).
2. استعادة كرامة الشخص البشري
" لمست طرف ردائه فوقف نزيف دمها حالاً " (لو8/44).
كشف يسوع هذا الامر بالسؤال: " من لمسني" ؟ وبالجواب " ايمانك شفاك، اذهبي بسلام "، فاعلن حقيقتين :
الاولى، اننا بالايمان بيسوع واللجوء اليه ننال ما نريد ونشفى مما نعاني. المهم في الحياة ان نؤمن بالمسيح، بشخصه وكلامه وافعاله، فهو الله الذي جاء وحلّ بيننا ليخلصنا من كل ما يؤلمنا ويشوه كرامتنا. لا يكفي ان نرى بالعين او نسمع بالاذن. كثيرون من اهل زمانه رأوه وسمعوه، لكنهم رفضوه، لم يبالوا به، صلبوه. ينبغي ان نراه بعين الايمان ونسمع كلامه بالقلب والضمير. المهم ان نلجأ اليهً: المرأة لمست طرف ردائه، نحن نقبله في سرّ الافخارستيا غذاءً روحياً، ومنه ننال الغفران والشفاء في سرّ التوبة على يد الكاهن المكلف بقبول التوبة الصادقة ومنح الغفران، ويشفينا من امراضنا ويقدسها بواسطة سرّ مسحة المرضى. الثانية، ان يسوع بامتداحه ايمان المرأة وشفائها من نزيفها، اعادها الى كرامتها الاولى، التي كانت قد خسرتها انسانياً واجتماعياً وشرعياً بنزيفها.
الانسان في حياته التاريخية هو، بتحديد اللاهوت، " روح متجسّد " لا " حيوان ناطق " كما تحدده الفلسفة والعلوم الانسانية. انه مخلوق على صورة الله وفي الوقت عينه مشدود الى التراب. الافخارستيا التي يتناولها تحييه من موت الخطيئة، ترفعه من مستوى ابن التراب الى كرامة ابن الله، من الفساد الى الحياة الابدية. هذا ما نشير اليه في رتبة اثنين الرماد: الكاهن يرش الرماد على جبين المؤمنين قائلاً: " اذكر يا انسان انك من التراب والى التراب تعود "، ثم يناوله جسد الرب قائلاً: " جسد المسيح للحياة الابدية ".
للكنيسة تعليم مميز عن كرامة النساء وحقوقهن ورسالتهن: المرأة لما تمثّل في حياة البشرية، المرأة الام قابلة الكائن البشري وهاديته، المرأة الزوجة معطية ذاتها لزوجها من اجل وحدة الحب والحياة، المرأة العاملة المساهمة في بناء المجتمع ثقافياً وروحياً وفنياً واجتماعياً واقتصادياً، المرأة المكرسة تقف ذاتها على خدمة الله وجميع الناس. ولكن من النساء من يمتهن الشر، وتنقلب انوثتهن الى كيد وحقد بدون حدود، ويتحولّن الى افاعي يبخنّ السُّم باستباحة الاكاذيب والتلفيقات، شرط الوصول الى مأربهن. هؤلاء لم يعرفن الانجيل ولا التوبة ولا الافخارستيا. وعندما ينحشرن امام حائط الحقيقة يلجأن الى نوبات بكاء ودموع. ما أشرّ المرأة عندما تفقد انوثتها وكرامتها ورسالتها.
ما أحرج النساء المستعبدات من الداخل ومن الخارج، النازفات في قيمهن والكرامة، الى حرية المسيح. الكنيسة تحمل همّ تحريرهن، لكي ينلن السيطرة الداخلية على افعالهن الخاصة، وتقرير مصيرهن على اساس الاخلاقية والانعتاق من الشّر الادبي. ولن تستطيع المرأة، ولا أحد سواها، ان تكون حرّة إلاّ بقدر ما تنفذ الى طريق معرفة الحقيقة، وبقدر ما تكون هذه المعرفة، لا اي قوة اخرى، مرشدة لارادتها. ان من يمارس السيطرة الحقيقية على الذات، يحقق دعوته الملوكية التي لابناء الله ( انظر الحرية المسيحية والتحرر، 26 و27 و30). عندما يتحقق ذلك في المرأة يصحّ القول المأثور:
" اذا اردت ان تتبين اخلاق شعب ، فانظر الى وجوه نسائه ".
ثانياً، الخطة الراعوية
لان" مستقبل البشرية يمرّ عبر الاسرة" (البابا يوحنا بولس الثاني)، وكذلك مستقبل المجتمع اللبناني، تتوجه الخطة الراعوية الى مساعدة العائلة اللبنانية عامة والمسيحية خاصة لتستعيد " رسالتها في ان تظل للحياة مهداً يحميها، وللقيم حصناً يصونها، لئلا يفقد المجتمع وجهه الانساني" ( النص المجمعي العاشر: في العائلة، 32). من اجل هذه الغاية تقرأ الجماعات العائلية والمنظمات الرسولية والمجالس الرعوية والمؤسسات والجماعات الديرية، واقع العائلة عندنا، وتتخذ مبادرات حلول في ضوء مسيرة تجدد الاشخاص كما يقودها المجمع البطريركي الماروني في النص 10 حول العائلة، 19-32).
على المستوى الديني والثقافي والاجتماعي تتساءل الخطة الراعوية عن واقع العائلة بنتيجة تحديات ثلاثة:
1. التباس في جوهر الايمان: دخول نوع من العلمنة ادّت الى إلحاد جديد، هو بالرغم من مظاهر التعلق الخارجي بالدين، ان الانسان يعتبر نفسه قيمة مطلقة على المستوى الانساني، وان العلم والتقدم التقني قادران وحدهما على تحرير الانسان مما يعاني من حاجة على كل صعيد. ما خفض الممارسة الدينية، وافرغ يوم الاحد، يوم الرب، من قدسيته ومن واجب المشاركة في الافخارستيا التي تبني الشركة مع الله والاتحاد بين الناس، فتشرذمت العائلة (النص10، في العائلة،20). فاذا بالرعية امام تحدٍ كبير هو كيفية اجتذاب الشبيبة والعائلة الى الحياة الروحية والرعوية (عدد26).
2. النزعة المادية الاستهلاكية: ساد مجتمعنا منطق الربح السريع، واشباع حاجات الفرد وتكثيرها في الوقت عينه، فاعتبر الناس ان الحاجة نقص، أياً كانت، فتنشط الرغبة الملحة في ازالته، وهكذا عمّت ذهنية استهلاكية، تناولت على التوالي:
أ- التحصيل العلمي اصبح غاية بحدّ ذاته ووسيلة وحيدة لتأمين حياة انتاجية نفعية، على حساب الواجبات الدينية، وخدمة الانسان والمجتمع، علماً ان التحصيل العلمي وسيلة للصيرورة وليس فقط للتملك، ووسيلة لنمو الانسان نمواً شاملاً، ولخير المجتمع والجنس البشري (المرجع المذكور، 23).
ب- الحياة الجنسية تفقد بعدها الانساني والروحي والخلقي في اطار الحياة الزوجية كما رتبّها الخالق ورممها الفادي الالهي. غير انها تشهد اليوم تراخياً وانفلاتاً في السلوك الجنسي خارج الزواج وفي اطاره بسبب المشاهد المنافية للقيم الروحية والاخلاقية والنفسانية التي تجتاح بها وسائل الاعلام حدود البيوت والضمائر والكل يعلم ان الامم انما تقوم على الاخلاق، وتسقط اذا هي سقطت (المرجع المذكور، 22).
ج-الحياة الاجتماعية باتت تضيق للعلاقات الانسانية والواجبات العائلية، من جراء الانصراف كلياً الى سدّ الحاجات، وسارت ذهنية سطحية تعتمد على المظاهر ولو على حساب الراحة والامكانيات، ما سلب روح القناعة والاكتفاء. كما تشهد بعض العائلات استقالة الاهل من مسؤولياتهم التربوية بسبب غيابهم المستمر عن الاولاد، بداعي العمل وسواه، فانجرف بعض الشباب الى الانحراف الخلقي وتعاطي المخدرات والاستسلام للفساد والفلتان (المرجع المذكور، 24).
د- الحياة المهنية فقدت قيمة العمل وجوهره، لانه راح يتجه نحو الربح السريع واشباع الحاجات المادية والكمالية، بدلاً من ان يكرن العمل تحقيقاً للذات ومجالاً للنمو والترقي والتضامن الانساني والاجتماعي. وصار الربح يبرّر الوسيلة على حساب القيم الاخلاقية (المرجع نفسه، 25).
3. التحديات الاجتماعية: امام تبدّل الاوضاع الاقتصادية والثقافية، لم تستطع العائلة بلورة دورها الجديد وابعاد رسالتها. والمرأة، على الرغم من ايجابية مشاركتها في كافة القطاعات التربوية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، فقد تراجعت على صعيد دورها التربوي في العائلة، بسبب غيابها عن الاولاد ومواكبتهم والاصغاء الى حاجاتهم، وتراجع دورها الاساسي في جعل البيت واحة سلام وتفاهم ونمو لسائر افراد العائلة (النص العاشر،في العائلة ، 29-30). والعلاقات العائلية توترت بسبب هجرة الاب وغيابه عن دوره، واضطرار الزوجين للغياب المستمر بداعي العمل، وافتقاد الاولاد لحضورهما. واذا بالعائلة ترزح تحت اعباء التعليم والطبابة والسكن، متروكة من المؤسسات العامة، ومن مبادرات التضامن على مستوى الرعية (المرجع المذكور، 31).
ان الخطة الراعوية تهدف الى مساعدة العائلة في مواكبة مسيرة التغيير، من دون ان تتنكر لرسالتها.
صلاة
الشكر لك، ايها الرب يسوع، لانك ضمّدتَ جراح البشر، وسكبت عليها الدواء الشافي بنعمتك وقوة الايمان بك. بذلت نفسك واوصيتنا بالمحبة. اننا نضرع من اجل حاجات عائلاتنا: اشرق الايمان والرجاء في النفوس، وأنر الضمائر، وسكّن القلوب بالسلام الداخلي وأحلّ فيها الفرح الحقيقي، واحفظ العائلة مبعث رجاء وتضامن لافرادها ولسائر العائلات، مثلما كانت العائلة المقدسة في الناصرة وفي الكنيسة الناشئة. لك المجد والشكر وبواسطتك للاب والروح الحي والمحيي الى الابد، آمين.