كما أَحَبَّني الآب فكذلكَ أَحبَبتُكم أَنا أَيضاً اُثبُتوا في مَحَبَّتي (يو 15 /9)
عرس قانا الجليل 2006 - البطريرك بشارة الراعي
مدخل الصوم- عرس قانا الجليل
انجيل القديس يوحنا 2/1-11
الصوم زمن التجدد والتغيير
بعد ثلاثة ايام من اعتماد الرب يسوع في نهر الاردن على يد يوحنا المعمدان، افتتح حياته العلنية بالمشاركة مع تلاميذه ومريم امه في عرس قانا الجليل واجرى آية تحويل الماء الى خمر ممتاز.
الآية هي علامة العهد المسيحاني الذي يصنع كل شيء جديداً بالكلمة ونعمة الفداء. مع المسيح كل قديم يمضي. يطل يسوع كأدم الجديد، ومريم كحواء الجديدة، وتبدأ ولادة جديدة وخلق جديد. لهذا السبب اختارت الكنيسة انجيل هذه الآية في مدخل الصوم الكبير للدلالة انه زمن التغيير استعداداً لولادة فصحية جديدة: تغيير في العلاقة مع الله بالصلاة والتوبة من اجل استعادة البنوّة له؛ وتغيير في العلاقة مع الذات بالصوم والاماتة من اجل التحرر من كل ما يعيب هذه البنوة وصورة الله فينا؛ وتغيير في العلاقة مع الناس باعمال الرحمة والمحبة والتصدق من اجل ترميم الاخوّة الشاملة. مثل هذا التغيير، بوجوهه الثلاثة، لا يجريه الاّ المسيح الفادي، بقدرته الالهية وحلول الروح القدس، بتشفع مريم امه وام البشرية جمعاء. هذا ما تدل عليه معجزة تحويل الماء الى خمرة جيدة في عرس قانا الجليل، فالاعجوبة علامة.
اولاً، شرح الانجيل
1. مع المسيح كل قديم يمضي
" كان هناك ست اجاجين من صخر موضوعة لتطهير اليهود" (يو2/6).
كانت الاجاجين تستعمل لتطهير اليهود طقوسياً بالاغتسال بالماء قبل الطعام ولغسل كل ما يبتاعونه من السوق قبل اكله، مع الكؤوس والصحون واواني النحاس والاسرّة(مرقس7/2-4). كانت تسع الواحدة نسبياً مئة ليتر، والست معدل 600 ليتراً. ارتضى يسوع تحويل الماء الى خمر ليكون رمزاً واعلاناً مسبقاً لتصميم الخلاص الشامل الذي هو خمرة المسيح المتفجرة من الاسرار.
تمثّل الاجاجين الست الستة الآف سنة من تاريخ العالم، وتمثّل الخمر الجديدة " سبت العالم" الذي حمله يسوع الى تمامه باعادة بهاء صورة الله في الانسان المخلوق في اليوم السادس بالفداء (تكوين1/26-32). الاجاجين والممارسات الطقوسية اليهودية ترمز الى كل تدبير العهد القديم (القديس افرام)، وبالتالي الى شريعة موسى. اما الخمرة الجديدة فترمز الى النعمة المعطاة بالمسيح، على ما جاء في مقدمة انجيل يوحنا: "ان كان الناموس بموسى، فبيسوع كانت النعمة والحق" (يو1/17). الخمرة القديمة التي نفدت هي رمز للشريعة والانبياء، والجديدة التي اعطاها يسوع تعني العقيدة الجديدة (اوريجانوس)، على ما اعلن الرب: "لا تظنوا اني اتيت لاحلّ الناموس او الانبياء، ما اتيت لاحلّ بل لاكمّل"(متى1/17). التعليم الجديد هو الخبز والخمر اللذين يسدان الجوع والعطش: " انا هو خبز الحياة. من يأت الي فلن يجوع، ومن يؤمن بي فلن يعطش الى الابد. من يأكل من جسدي ويشرب من دمي، فله الحياة الابدية وانا اقيمه في اليوم الاخير" (يو6/35و54). هذا التفسير يستند الى دعوة الرب في سفر الامثال: " هلموا كلوا من خبزي واشربوا من الخمر التي مزجت، اتركوا السذاجة فتحيوا، اسلكوا طريق الفطنة" ( امثال9/5-6). خبز المسيح وخمرته هما خبز الكلمة والقربان.
ويرمز الخمر الى الروح القدس الذي يعطيه المسيح والذي سماه الماء الحي: " من هو عطشان فليأت اليّ ويشرب. من يؤمن بي، كما قالت الكتب، تجري من جوفه انهار ماء الحياة. هذا قاله عن الروح الذي سوف يقبله المؤمنون" (يو7/37-39).الاجاجين الفارغة من الماء ترمز الى عدم امانة اليهود وعدم مشاركتهم في عرس المسيح مع الكنيسة، فحلّ محلهم شعوب الامم المرموز اليهم بالماء الذي ملأ الاجاجين (القديس قبريانوس ).ورأى فيها القديس كليمانض الاسكندري نهاية التطهير بالماء وبداية التقديس بدم الفداء وبالروح القدس المرموز اليهما بالخمرة الجديدة. فدم المسيح وعمل الروح يغسلان خطايا البشر. ان العالم يتجدد بالمسيح والروح القدس: " ارسل روحك ايها المسيح فيتجدد وجه الارض".
2. مريم المرأة الجديدة
" ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد" (يو2/4)
استعمل يسوع لفظة " يا امرأة" بدلاً من " يا امي" للدلالة على الجديد فيها: ليست مريم ام يسوع وحسب، بل وام البشرية المفتداة التي هي الكنيسة، المتمثلة بشخص يوحنا على اقدام الصليب:" يا يوحنا هذه امك"، بل هي الوسيطة بين يسوع والبشر. انها في آن شريكة المسيح الفادي، وخاضعة خضوعاً كاملاً له، وتسمى امرأة العهد الجديد. المرأة مريم هي حواء الجديدة، ام جميع الاحياء ( تكوين3/20)، كما تعني لفظة "امرأة". وهي بالتالي عروس المسيح آدم الجديد، كما كانت حواء المرأة القديمة عروس أدم الاول (1كور15/21-26؛ 54-57). انها عروس المسيح في عمل الخلاص الذي بدأ في عرس قانا، وسيتحقق على الجلجلة: " يا امرأة، هذا ابنك" (يو19/26)، وسيكتمل بانتصار المرأة، رمز الكنيسة، على التنين في رؤيا يوحنا (الفصل21)، تحقيقاً لوعد الله في سفر التكوين بأن المرأة، مريم البريئة من دنس الخطيئة الاصلية، ستنتصر على الحية: " اضع عداوة بينك وبين المرأة: هي تسحق رأسك، "وانت تترصدين عقبها" (تكوين3/15)، للدلالة ان الكنيسة المتمثلة بالمرأة الجديدة تبقى موضوع اضطهاد الحية وانصارها من قوى الشر، من دون ان تقوى عليها ( انظر متى 16/18).
مريم المرأة هي " عروس المسيح"، الكلمة المتجسد: " هلمي معي من لبنان ايتها العروس! هلمي معي من لبنان، من مرابض الاسود، من جبال النمور" ( اناشيد 4/8). في عرس قانا الجليل يتجلى " عرس يسوع ومريم" اللذين حققا تحويل الماء الى خمرة جديدة، رمز العبور من العهد القديم الى الجديد، وكأن مريم ام يسوع "تعمل" كعروس الكلمة المتجسد، رأس شعب الله الجديد، هذا الذي يمثله التلاميذ الاول الحاضرون في العرس، وقد رأوا مجده فآمنوا به" (يو2/11). ومريم هي بالتالي ام هذا الشعب الجديد، الذي هو الكنيسة. وهكذا عرس قانا يصبح، في الرمز، العرس الخلاصي، عرس محبة المسيح للبشرية، في العهد الجديد؛ وهو عرس لا يتحقق من دون مريم، ام النعمة والرحمة. ان كل تقليد الكنيسة ينقل لنا هذا التفسير. في آية قانا رمى يسوع اول زرع لعرس حبه الروحي الذي اراد الاحتفال به مع البشرية جمعاء، مفتدياً اياها وموحدها في كنيسته. في هذا العرس مريم حاضرة وتتوسط لاجراء المعجزة، لكونها ام الشعوب، ولأن "جميع الشعوب تطوبها" (لو1/48). سيكتمل العرس بعرس الحمل الالهي في السماء، حيث تتحول آلامنا الى خمرة حب في السعادة الابدية. وهكذا في عرس قانا تتمثل ثلاثة اسرار: المعمودية (بالماء)، والافخارستيا (بالخمر)، والزواج (بالعرس) Mariologia biblica p. 332-337) P. Stefano Manelli,).
الافخارستيا هي الاحتفال " بعرس الحمل"، والكنيسة تتهيأ بابنائها وبناتها، بحجارتها واثاثها لهذا العرس. كما يشهد يوحنا: " سمعت مثل صوت جمع كثير يقول: هللويا! الرب الهنا القدير قد ملك. فلنفرح ونبتهج! ولنمجّد الله، فقد حان عرس الحمل، وعروسه قد تزينت ولبست كتاناً براقاً خالصاً هو اعمال البر التي يقوم بها القديسون"(رؤيا19/6-8). وكانت الدعوة الشاملة الى وليمة الخلاص: " وقال لي الملاك: اكتب " طوبى للمدعوين الى وليمة عرس الحمل" ( رؤيا19/9). الذبيحة هي عرس الحمل، والمناولة القربانية هي الوليمة التي هو مضيفها. القداس ذبيحة وتقدمة ووليمة، كما ننشد في طلبة زياح القربان المقدس: " يا ذبيحة بلا دم، يا تقدمة طاهرة، يا وليمة حلوة تخدمها الملائكة".
3. وساطة مريم ام يسوع وامنا
" ليس عندهم خمر...افعلوا ما يقوله لكم" (يو2/3و5).
لولا وساطة مريم لما كانت الآية، ولما كانت كل معانيها. كُتب الكثير عن جواب يسوع" ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد"، وعن كلمة مريم " افعلوا ما يقوله لكم". ينبغي ان نفهم ذلك انطلاقاً من فهم مريم لا من فهمنا نحن للالفاظ: بالنسبة الى فهم مريم، فقد شعرت بان المعجزة آتية لا محاله، لانها تعرف يسوع في العمق، وعايشته ثلاثين سنة في الناصرة، واختبرت قدرته على العجائب من خلال معجزات خفية داخل جدران البيت الوضيع (انظر Manelli، ص321 الحاشية11). ولذلك قالت ببساطة: " افعلوا ما يقوله لكم".
هي مريم الوسيطة التي "تقف بين ابنها يسوع والبشر في واقع ما يعانون من حرمان وفقر وألم. انها تتخذ لذاتها مكاناً " في الوسط"، اذ تقوم بدور الوسيط، ليس من الخارج، بل من موقع امومتها، مدركة قدرتها على ان تعرض لابنها حاجات البشر او بالاحرى حقها في ذلك. وساطتها تحمل طابع الضراعة: " مريم تضرع" لاجل البشر (البابا يوحنا بولس الثاني: ام الفادي،21).بسبب تشفع مريم، ظهر الكثير في آية عرس قانا: ايمان مريم الكبير بابنها، ومحبتها للعروسين، وقدوتها للتلاميذ، وحب يسوع لامه، وجودته وقدرته ومجده، وايمان التلاميذ الاول. وظهرت بنوع خاص قدرة مريم ام يسوع بحيث ان الله يستجيب كل طلب يصل اليه بواسطة مريم، ويجعل " ساعة" تدخله في تاريخ البشر " ساعة " وساطتها. ولهذا سمتها التقوى المسيحية "اماً قديرة" و" ام المعونة الدائمة". فكما بكلمة نعم: " ليكن لي حسب قولك"، يوم البشارة، فتحت الابواب لتجسد الكلمة، وكانت الباب الذي عبر من خلاله ابن الله من السماء الى الارض، كذلك، بوساطتها في عرس قانا، نالت استباق " ساعة" ظهور يسوع المسيحاني، فقدمته لجميع الناس (Manelli ، ص325-326)، واستباق ولادة الكنيسة من "ساعة" يسوع على الجلجلة بصلبه، هذه الكنيسة التي ستوزع اسرار الخلاص وتعطي خمرة المسيح في الافخارستيا (المرجع نفسه، حاشية 23).
مريم نفسها تلهمنا كل يوم " لان نفعل ما يقول لنا يسوع"، لكي نحصل على ما نلتمس بواسطتها من خير ونعم. في قانا استهل يسوع " ساعته" بفضل ضراعة مريم وطاعة الخدام، وظهرت مريم امام البشر وكأنها الناطق باسم ابنها، تعبّر عن ارادته وترشد الى ما يقتضيه تجلي قدرة المسيح الخلاصية (ام الفادي،21 ).
ثانياً، الخطة الراعوية
بحضور الرب يسوع وتلاميذه في عرس قانا الجليل، وفي آية تحويل الماء الى خمرة ممتازة بوساطة مريم، تقدس الزواج، واعيدت اليه كرامته، وتطهر الحب الزوجي، وتبدل الزوجان من " انا وانت" الى " نحن"، واصبح العروسان خمرة جديدة تسكب في المجتمع البشري.
ترتكز الخطة الراعوية في هذا الاسبوع على ابراز قيمة الزواج والعائلة، واهمية التحضير لهما، ومواكبة الازواج والعائلات الفتية في ضوء توصيات المجمع البطريركي الماروني في النص العاشر حول العائلة في اطار تجدد الاشخاص راعوياً وروحياً. يتم هذا التركيز على مستوى الاسرة ولجنة العائلة في الرعية والمجلس الرعائي والمنظمات الرسولية واللقاءات الانجيلية ولقاءات الشبيبة.
1. لا بدّ اولاً من التركيز على قيمة الزواج- العهد كما نقرأ في النص المجمعي: الزواج عهد بين الرجل والمرأة، بمعنى شركة حياة وحب على صورة الله الثالوث وعهده الخلاصي مع البشر. انه عهد حرّ ومسؤول مدى الحياة، يعبّر عنه الزوجان بالرضى المتبادل، اقتداء بعهد الحب بين المسيح والكنيسة ( انظر افسس 5/22-33). عهد يستنير من كلمة الله والانجيل الذي تتشابك عليه يدا العروسان، ويتثبت ببركة الثالوث الاقدس الذي يجعل الاثنين جسداً واحداً ( انظر متى 19/5)، وخلية جديدة لمجتمع جديد، وكنيسة بيتية مصغرة تعكس كنيسة المسيح. بقوة هذا العهد يسير الزوجان متحليين بالامانة الزوجية على مستوى وحدة الافكار والمشاعر والعلاقة الزوجية واسعاد الواحد الآخر، وتقديس الواحد الآخر، هذه الامانة هي اكليل مجدهما وكرامتهما. وبفضل هذا العهد ينفتح الزوجان على سرّ نقل الحياة، مشاركين الله في خلقه وابوته وامومته، وعلى تربية الحياة مكملين رسالة المسيح الخلاصية ( انظر النص العاشر: في العائلة، 44-55).
2. لبلوغ هذا المفهوم وهذا الهدف، يوصي المجمع البطريركي الماروني:
أ- بانشاء جماعات عائلية في الرعايا وفقاً للدليل الذي وضعته اللجنة الاسقفية للعائلة والحياة في لبنان.
ب- التزام الخاطبين بتحضير زواجهم في مراكز التحضير للزواج في كل ابرشية، وفقاً للبرنامج الموحّد الذي وضعته اللجنة الاسقفية للعائلة والحياة.
ج- توجيه الازواج والعائلات، في حالة التعثر الى " مركز الاصغاء" في كل ابرشية، حال قيام اي صعوبة او خلاف، قبل التوجه الى المحاكم الكنسية.
د- احياء الصلاة في العائلة باعتماد كتاب " صلاة العائلة" الذي وضعته اللجنة الاسقفية المذكورة، وفقاً لازمنة السنة الليتورجية، وتشجيع مبادرات اخرى مثل صلاة المسبحة التأملية مع تكريم ايقونة العذراء والعائلة المقدسة. ان تكريم العذراء مريم والعائلة المقدسة قد احتلّ على مدى الاجيال مكاناًَ مرموقاً في البيوت والعائلات. فمن الضرورة السهر على هذا التقليد في العائلات الجديدة ولمحافظ عليه.
3. تشمل الخطة الراعوية اعتماد الرسالة العامة التي اصدرها مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك في15آب2005، بعنوان: " العائلة مسؤولية الكنيسة والدولة".
صلاة
ايها المسيح، العروس السماوي، الذي ابهجتَ العروس الارضي بالماء المحال خمراً، أرونا من ينابيع انجيلك كلمة الحياة، ومن نِعم اسرارك المحيية. حوّل الشر خيراً، والحزن رجاء، والمرارة حلاوة، والخصومة اتفاقاً وسلاماً، بخمرة دمك السرّي المعصورة بالحربة على الصليب. أروِ بخمرة حبك العائلات المسيحية والذين تعاهدوا على الحياة الزوجية الامينة، فيسيروا بحسب شريعة الانجيل، ويوطدوا حياتهم على الايمان بك والاتكال عليك. با مريم، المرأة الساهرة في قانا على حاجات العروسين، كوني لنا عند ابنك، فادي الانسان، الشفيعة والمحامية، لكي يسلك الازواج والعائلات حسبما تأمر به كلمته، فيدركوا السعادة الحقة ويشهدوا لجمال الحب والتفاني المتبادل، له المجد والشكر مع الآب والروح القدوس الى الابد، آمين.
*****