فستحملين و تلدين ابنا فسميه يسوع سيكون عظيما وابن العلي يدعى و يوليه الرب الإله عرش أبيه داود و يملك على بيت يعقوب أبد الدهر، و لن يكون لملكه نهاية (لو 1 /31-33)
زمن الصوم - التنشئة المسيحية 2010 - 2011 - البطريرك بشارة الراعي
زمن الصوم - التنشئة المسيحية
2009 - 2010
البطريرك بشارة الراعي
|
|
|
أحد مدخل الصوم عرس قانا الجليل 6 آذار 2011 روم 14/14-23 يوحنا 2/1-11 الصوم زمن العبور الى حياة جديدة نفتتح اليوم زمن الصوم الكبير، ونبدأه غداً باثنين الرماد. فماذا يعني زمن الصوم، الى ماذا ترمز رتبة الرماد؟ وماذا يقول لنا كلام الله في قراءات هذا الاحد.
اولاً، زمن الصوم زمن الصوم هو اتباع يسوع في طريق التواضع والتشبّه به في قبول ارادة الله، وفي الانتصار على تجربة الشرير وروح الشر[1]. انفرد يسوع في برّية اليهودية في الصوم والصلاة ومحاربة تجارب الشيطان، اربعين يوماً، بعد قبوله المعمودية في نهر الاردن من يد يوحنا المعمدان. كل هذه الايام الاربعين التي قضاها يسوع في الصمت والصوم، كانت له تسليماً كاملاً للآب ولتصميم حبّه. هذه كانت "معموديته" التي تعني الارتماء في ارادة الآب، مثل " النزول في الماء" (الغطاس)، وبهذا المعنى هي استباق لآلامه وللصليب. عيشه في البرّية لهذه المدة الطويلة يعني مواجهة المجرّب وهجوماته وحيداً بسلاح الصلاة والتواضع. هذا المجرّب أوقع آدم وحواء وتسبب بطردهما من الفردوس لعصيانهما الله. الطرد من الفردوس يرمز الى الخروج من شركة الاتحاد والحب مع الله. فعل يسوع كل ذلك من اجل خلاصنا، بالطاعة الكاملة لمحبة الآب الرحيمة، الآب الذي " هكذا أحب العالم، حتى جاد بابنه الوحيد" ( يو 3/ 16). اتباع يسوع في " برّية الصوم"، بالاصغاء لكلام الله والاغتذاء منه، وبالصلاة والصمت الداخلي، وبالانتصار على التجارب الشريرة، هو الشرط لقبول عطية الخلاص من الله، واستعادة شركة الاتحاد والحب معه، والمشاركة في " فصحه" الذي هو عبور الى الحياة مع الله. زمن الصوم اذن زمن ليتورجي يدعونا في كل سنة لتجديد خيار اتباع يسوع في الصلاة والتقشف وسماع كلام الله والتواضع لنشارك في انتصاره على الخطيئة والموت. اما رتبة الرماد، فهي علامة التوبة، وفعل تواضع امام الله. أقرّ انا المؤمن ما انا عليه، خليقة سريعة العطب، مصنوعة من التراب وعائدة الى التراب، لكنها ايضاً مخلوقة على صورة الله، ومرتّبة لتنطلق اليه. من تراب نعم، لكنها خليقة محبوبة، صنعها الحب الالهي، ونفخ فيها نسمة الحياة. انها قادرة على تمييز صوته والاجابة عليه. حرّة ولكن قادرة على معصيته بالسقوط في تجربة الكبرياء والاكتفاء الذاتي. هذه هي الخطيئة، معصية الله والنقص في محبته. في زمن الصوم يُدعى كل واحد منا ليطبّق على نفسه صلاة المزمور 50: " انا عارف بآثامي، وخطيئتي امامي في كل حين. لك وحدك خطئت، والشرّ قدامك صنعت" ( مزمور 50: 5-6). *** ثانياً، القراءات المقدسة انجيل القديس يوحنا 2/1-11. قال يوحنا الرسول: في اليَوْمِ الثَّالِث، كَانَ عُرْسٌ في قَانَا الـجَلِيل، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاك. ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلامِيذُهُ إِلى العُرْس. ونَفَدَ الـخَمْر، فَقَالَتْ لِيَسُوعَ أُمُّهُ: "لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر". فَقَالَ لَهَا يَسُوع: "مَا لِي ولَكِ، يَا امْرَأَة؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد!". فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَم: "مَهْمَا يَقُلْ لَكُم فَاْفعَلُوه!". وكَانَ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حَجَر، مُعَدَّةٌ لِتَطْهيِر اليَهُود، يَسَعُ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ ثَمَانِينَ إِلى مِئَةٍ وعِشْرينَ لِيترًا، فقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَم: "إِملأُوا الأَجْرَانَ مَاءً". فَمَلأُوهَا إِلى فَوْق. قَالَ لَهُم: "إِسْتَقُوا الآنَ، وقَدِّمُوا لِرَئِيسِ الوَلِيمَة". فَقَدَّمُوا. وذَاقَ الرَّئِيسُ الـمَاءَ، الَّذي صَارَ خَمْرًا - وكانَ لا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، والـخَدَمُ الَّذينَ اسْتَقَوا يَعْلَمُون - فَدَعَا إِلَيْهِ العَرِيسَ وقَالَ لَهُ: "كُلُّ إِنْسَانٍ يُقَدِّمُ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ أَوَّلاً، حَتَّى إِذَا سَكِرَ الـمَدعُوُّون، قَدَّمَ الأَقَلَّ جُودَة، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ إِلى الآن!". تِلْكَ كَانَتْ أُولَى آيَاتِ يَسُوع، صَنَعَهَا في قَانَا الـجَلِيل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ. بدأ يسوع رسالته الخلاصية بحضور عرس في قانا الجليل، ليكشف من جديد قيمة الزواج وقدسيته، وكرامة العائلة ودورها، روحياً ككنيسة بيتية تصلي وتنقل الايمان من جيل الى جيل، وتربوياً كمدرسة طبيعية اولى تربي على العلم والمعرفة والقيم، واجتماعياً كخليّة اساسية للمجتمع تدرّب على نسج العلاقات بين الاشخاص على اساس من الحب والتفاني والاحترام. نقول " يكشف من جديد"، لانه أظهر ذلك اولاً بولادته وتربيته ونموه في عائلة يوسف ومريم في الناصرة. ويريد بذلك ان تكون العائلة بابعادها الثلاثة نموذجاً ومنطلقاً للعائلة المسيحية، بل لكل عائلة دموية، وبالتالي للعائلة الاوسع، على مستوى المجتمع والوطن. ويريد فوق ذلك ان يستبق عرسه الخلاصي بافتداء البشرية جمعاء، واتحاده بالكنيسة عروسته. لقد استبق عرس الحمل الذي يدعو اليه كل من يؤمن به، وينفتح لعمله الخلاصي.ويتقدس بنعمته ويتجدد بروحه القدوس: " طوبى للمدعوين الى وليمة عرس الحمل" ( رؤيا 19: 9). حضوره برفقة امه مريم الشفيعة والكلية القداسة وتلاميذه في عرس قانا، هو علامة لحضور الكنيسة في اساس الزواج وحياة العائلة، ومن خلال خدمة الكلمة ونعمة السّر المقدس يحضر الله بفعل روحه القدوس، ويقدس حبّ الزوجين واعمالهم وافراحهم واحزانهم، كما يقدّس الحياة العائلية. هذا يعني ان الزواج والعائلة وسيلة لتلبية الدعوة الشاملة الى القداسة. مريم، ام يسوع، وامنا، تسهر على حاجات الحياة الزوجية والعائلية، وتتشفع لدى ابنها الالهي من اجل تلبية هذه الحاجات: " ليس عندهم خمر". وتدعو الازواج واعضاء العائلة ليصنعوا بموجب كلام الانجيل: " افعلوا ما يقوله لكم". يسوع يحوّل بقدرته الالهية الماء الى خمر فائق الجودة، للدلالة ان عطاء الله كامل، ويفوق كل انتظاراتنا. لكنه بهذه الآية-العلامة استبق تحويل الخمر الى دمه الفادي، في عرسه الخلاصي. هذا ما سيفعله في ذاك " خميس الاسرار"، ليلة آلامه وموته، ويفعله هو اياه اسرارياً في القداس الالهي، الذي هو استمرارية ذبيحة الفداء وليمة جسده ودمه لحياة العالم. من خلال هذا التحويل المزدوج يريد ان يحوّل حياة الانسان من الداخل: " ها انا آتٍ لاصنع كل شيء جديداً" (رؤيا 21: 5). ان الخمر الفائق الجودة الذي أبهج كل المدعوين الى العرس يرمز الى عطية الروح القدس، وهو محبة الله المسكوبة في قلب الزوجين. هذا الحب الالهي يقدّس حب الزوجين ويطهرّه ويسنده ويقويّه، ويشركهما في عمل الخلق ونقل الحياة البشرية، بابوة وامومة مسؤولة، ويجعل منهما " جماعة حب وحياة" على صورة الله الثالوث، متحدين برباط لا ينفصم مثل اتحاد المسيح بالكنيسة (افسس 5: 31-32). في رسالة القديس بولس الى اهل روما ( 14: 14-23)، التي تقرأها الكنيسة في هذا الاحد، تذكرنا باننا بالمعمودية والميرون ننتمي الى ملكوت المسيح المعروف بملكوت الله، الذي يبدأ في الكنيسة، ويكتمل في ملكوت السماء. هذا الانتماء يتعدى الاكل والشرب، ليكون التزاماً في الخير والسلام والفرح في الروح القدس. من يفعل ذلك انما يخدم المسيح، ويكون مرضيّاً لدى الله، ومقبولاً لدى الناس. *** ثالثاً، عائلة جماعة المؤمنين[2]
زمن الصوم مناسبة لتجديد الحياة الزوجية والعائلية في قدسيتها وكرامتها ورسالتها، ومناسبة ايضاً لبناء العائلة الاجتماعية بعناصرها الاربعة، على مثال الجماعة المسيحية الاولى، كما يصفها كتاب اعمال الرسل: " كان جماعة المؤمنين مواظبين على سماع تعليم الرسل، والشركة الاخوية وكسر الخبز والصلاة" ( اعمال 2: 42). العنصر الاول تعليم الرسل، اي ما يختص بسرّ يسوع المسيح: حياته ورسالته وموته وقيامته. هذا ما يسمّيه بولس الرسول " الانجيل" اي الخبر السّار. الجماعة المسيحية مدعوة لسماع هذا التعليم الذي تنقله الكنيسة، والذي يجمع المؤمنين ويوحدّهم. العنصر الثاني الشركة الاخوية، وهي وحدتهم الروحية التي يعبّرون عنها بتقاسم خيرات الدنيا مع المحتاجين والفقراء، " فلم يكن بينهم محتاج" (اعمال 2: 42-45). الشركة والتقاسم هما اساس الاخوّة بين الناس والصداقة والمودّة. الشركة هي اولاً الاتحاد بالله عبر الايمان، ووحدة مع جميع الناس، وتقاسم خيرات الدنيا مع الاخوة الفقراء. العنصر الثالث كسر الخبز الذي هو ذبيحة القداس، حيث يسوع يهب ذاته لحياة المؤمنين: " هذا هو جسدي يُبذل من اجلكم. هذا هو دمي يراق من اجلكم". الكنيسة بكل ابنائها وبناتها تعيش من الافخارستيا. العنصر الرابع الصلاة، هو موقف المؤمنين بالمسيح الذي يرافق حياتهم اليومية بالطاعة لارادة الله، عملاً بدعوة بولس الرسول: " كونوا فرحين دائماً، وصلّوا من دون انقطاع، وارفعوا الشكر لله عن كل شيء. هذه هي مشيئة الله نحونا بالمسيح يسوع ( اتسا5: 16-18). الصلاة هي موقف الابناء تجاه الآب السماوي الذي ينفتح على الاخوّة مع جميع الناس. الصلاة المسيحية مشاركة في صلاة يسوع، واختبار بنوي بامتياز. على هذه العناصر الاربعة يقوم ايضاً زمن الصوم، بالاضافة الى ممارسة الصيام والتقشف. *** رابعاً، اتباع يسوع في درب صليبه في كل يوم جمعة من زمن الصوم نتذكر آلام يسوع الخلاصية ونتبعه في درب صليبه، لالتماس الغفران، ونضمّ آلامنا الى آلامه تعويضاً وتكفيراً عن خطايانا، ومن اجل تواصل آلام الفداء لخلاص العالم. في كل اسبوع نتأمل في مرحلتين من مراحل درب الصليب. المرحلة الاولى، يسوع محكوم عليه بالموت حكم رؤساء اليهود على يسوع بالموت لانه قال عن نفسه انه ابن الله، وادّعى انه ملك هذا العالم، ملك اليهود، " هو الذي مرّ يعمل الخير" (اعمال 10: 38). لكن الانجيل والكتب المقدسة تقول انه مات من اجلنا، ولأن الله احبنا حتى انه جاد بابنه الوحيد لكي تكون لنا الحياة (يو 3: 16-17). فلنوجّه انظارنا الى خطايانا والى الله الغني بالرحمة الذي يسمّينا احباءه (يو 15: 15). درب الصليب هو درب حياتنا المطبوع بالتوبة والآلم وعرفان الجميل لله، درب الايمان والفرح. المرحلة الثانية، يسوع يحمل صليبه بعد الحكم عليه بالموت من قلوب متحجرة، كان الاذلال والشتم والسخرية. من المؤسف ان الآلاف من صفحات تاريخ البشر ملاءى بمثل هذه المظالم. ان كل تحقير واذلال وتعذيب لاي انسان هو اعادة لما جرى ليسوع، البريء والقدوس: " كل ما فعلتم لاخوتي هؤلاء الصغار، فلي فعلتموه" ( متى 25: 40). درب الصليب التماس للغفران عن كل الاساءات، وتجديد للعزم على تجنّبها والكفّ عنها. *** صلاة ايها الرب يسوع، اجتذبنا، في زمن الصوم الذي نبدأه، لنتبعك على طريق التواضع والتوبة، متشبهين بك في قبول ارادة الله، وفي الانتصار على تجارب الشرير وعلى روح الشّر. وليكن غذاؤنا الاساسي، كلام الحياة الذي يملأ نفوسنا رجاء بك، ويغني عقولنا وقلوبنا من حقيقتك، فتفتحها على آفاق جديدة ورؤية جديدة ومسلك جديد. قدّس بكلمتك ونعمتك وحلول روحك القدوس الازواج والعائلات، واحفظ الاسرة كنيسة بيتية للصلاة والايمان، ومدرسة طبيعية للقيم، وخليّة حيّة للمجتمع. وانتِ يا مريم، اسهري على الحياة الزوجية والعائلية، وتشفعي من اجلها، والهمي الازواج والآباء والامهات واولادهم ليعملوا بما يطلب منهم الرب في الانجيل والكنيسة في تعليمها، فتتحقق رغباتك ورغبات القلب الالهي. فنرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين. ***
[1]. افكار مستوحاة من عظة البابا بندكتوس السادس عشر، الاربعاء 17 شباط 2010 في كنيسة القديسة سابينا – روما. [2]. الافكار مستوحاة من خطاب البابا بندكتوس السادس عشر، في مقابلة الاربعاء 19 كاتنون الثاني 2011. |
أحد شفاء الأبرص 13 آذار 2011 |
|
|
روم 6/12-23 مرقس 1/40-45 نعمة يسوع وحدها تبرر الانسان
من آية تحويل الماء الى خمر فائق الجودة، تبدأ عملية تحويل الانسان من حالة المرض الى حالة الصحة، ومن حالة الخطيئة الى حالة النعمة، ومن حالة الفساد الى حالة الطهر والنقاء. يسوع، فادي الانسان، هو طبيب الاجساد والارواح. زمن الصوم هو زمن التحوّل والتجدد.
اولاً، القراءات المقدسة انجيل القديس مرقس 1: 40-45 أَتَى الى يَسُوعُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه، فجَثَا وقَالَ لَهُ: "إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي!". فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: "قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!". وفي الـحَالِ زَالَ عَنْهُ البَرَص، فَطَهُرَ. فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ وصَرَفَهُ حَالاً، وقالَ لَهُ: "أُنْظُرْ، لا تُخْبِرْ أَحَدًا بِشَيء، بَلِ اذْهَبْ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِن، وَقَدِّمْ عَنْ طُهْرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُم". أَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وبَدَأَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ويُذِيعُ الـخَبَر، حَتَّى إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا أَنْ يَدْخُلَ إِلى مَدِينَةٍ عَلانِيَة، بَلْ كانَ يُقِيمُ في الـخَارِج، في أَمَاكِنَ مُقْفِرَة، وكانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَان. ايمان والتماس وشفاء. الابرص يعرب عن ايمانه بأن يسوع قادر على شفائه، فتوسّل اليه ليشفيه. يسوع استجاب لصلاته، واعطاه حسب ايمانه اي الشفاء من البرص، هذا المرض المشوّه لجسد الانسان، والمعدي الذي يفصل المصاب به عن الجماعة، ويلزمه بالعيش في البراري. لكن يسوع هو دائماً صاحب المبادرة الاولى الذي يبحث عن الخاطىء والمريض ليشفيه. أليس هو الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس، كلمة الله وابن الآب، الذي "نزل من السماء لاجلنا ولاجل خلاصنا"، كما نقول في النؤمن؟ اسمه " يسوع" يعني " الله الذي يحلّص شعبه من خطاياهم" ( متى 1: 21)، و" عمانوئيل – الله معنا" ( متى 1: 23). قصد يسوع الابرص في القفر: " قام قبل طلوع الفجر، وذهب الى مكان قفر، واخذ يصلي هناك... ثم سار في كل الجليل، فوافاه ابرص". البرص هو رمز الخطيئة التي تشوّه نفس الانسان، عقله وارادته وقلبه، حريته وضميره. انها مرض مميت مثل البرص، يدنّس الكائن البشري، المخلوق في الاساس على صورة الله، صورة القدوس والبارّ. بالخطيئة خسر الانسان براءته، ولا يستطيع ان يصبح باراً من جديد إلاّ ببرارة الله، وبرارة حبّه. هذه البرارة ظهرت في الايمان بيسوع المسيح" (روم 3: 22).[1] الخطيئة هي في اساس كل فساد وظلم وشر في العالم، المعبّر عنه " بالاثم" في الكتب المقدسة. ان اول عمل برّ او صلاح هو الاقرار بالاثم الشخصي المتأصل في اعماق الذات، والتماس الشفاء منه والغفران: " اذا، شئت، فأنت قادر ان تطهّرني". الصيام والتقشف والتأسف ثلاثة تبقى من دون قيمة في نظر الله، ما لم تكن علامة القلب التائب حقاً وباخلاص. هكذا ينبغي ان تكون ممارسات الصوم والصلاة والتصدّق وافعال الرحمة علامات لتوبة القلب، في نظر الله الذي يسبر اعماق القلوب، لا في نظر الانسان. فالمكافأة الحقيقية ليست من اعجاب الآخرين بل من صداقة الله والنعمة التي يمنحها، وهي نعمة تعطي السلام والقوة لفعل الخير، ولمحبة من لا يستحق، ولمغفرة الاساءة. ان برّ المسيح ظاهر في محبته للابرص، وقد راح يبحث عنه حيث هو. الابرص يحمل مرضاً معدياً، وهو علامة لخطيئته العظيمة امام الله الذي عاقبه بالبرص، حسب مفهوم العهد القديم. فكان ينبغي على الكاهن ان يتحقق من برصه، ويأمر بفصله عن الجماعة، لئلا يعديها جسدياً وروحياً. وكان على الكاهن، عندما يعرف بشفاء أبرص، ان يتحقق من شفائه ويأمر باعادته الى الحياة مع الجماعة، على ان يقدّم تقدمة تكفير وشكر وعرفان لله ( راجع احبار 13: 46؛ 14: 19-20). لهذا السبب أمر يسوع الابرص ان يُري نفسه للكاهن ويقدّم تقدمة عن طهره، شهادة للجماعة. اما هو فلم يكتفِ بذلك بل راح يشهد لمحبة يسوع التي تشفي وتبرر. لا بدّ، في زمن الصوم، وهو مناسبة للتوبة والتجدد والتغيير، من أن نقصد الرب يسوع في سرّ الاعتراف، لنقرّ بخطايانا الشخصية لله، بواسطة الكاهن الذي فوََّض اليه الكاهن الازلي يسوع المسيح، سماع الاعتراف، ومنح نعمة الغفران والشفاء والحياة الجديدة. اما تقدمة التكفير والشكر والعرفان فهي ذبيحة القداس، حيث الرب يسوع يكفّر عن خطايانا، وهو بذبيحته صلاة الشكر والعرفان. لقد حمل يسوع كل خطايانا، وهو البار، لكي نصبح نحن برّ الله (2 كور 5: 21)، وندخل في البّر الاعظم الذي هو برّ المحبة ( راجع روم 13: 8-10). في رسالة القديس بولس الرسول الى اهل روما ( 6: 12-23) لهذا الاحد، الكلمة تدور حول الخطيئة التي اذا تملّكت في الجسد، استعبدتنا لشهواته. فنخسر حرية ابناء الله، ونعيش عبيداً للخطيئة والشهوات المنحطّة. هذه العبودية برص روحي واخلاقي يشوّه جمال النفس المخلوقة على صورة الله. العبودية للخطيئة والشهوات الرديئة " تؤدي الى الموت"، لانها عصيان على الله وشريعته. في زمن الصوم نلجأ الى الرب يسوع، مثل الابرص، ملتمسين نعمة الشفاء والحياة الجديدة. يقول لنا بولس الرسول بكلام صريح ان " اجرة الخطيئة الموت، اما نعمة الله فهي الحياة الابدية بالمسيح يسوع ربنا".
*** ثانياً، الارشاد الرسولي: كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالته [1].
من القسم الاول وهو بعنوان " الله الذي يتكلم"، نتناول ما جاء بموضوع" كلمة الله والروح القدس" (الفقرتان 15 و16). بما ان يسوع المسيح هو الكلمة النهائية التي قالها الله واعطى الخليقة والتاريخ معناها النهائي، وقال عن نفسه في رؤيا يوحنا: " أنا الاول والآخر" ( رؤيا 1:17)، لا يمكن ان نفهم فهماً اصيلاً الوحي المسيحي وكلمات الرب من دون فعل الروح القدس البارقليط، " روح الحق" ( يو 14: 16). لانه هو الذي أوحى الكتب المقدسة (القديس ايرونيموس)، وهو الذي خلق كلماتها وهو الذي يفتحها ويفسّر مضمونها (القديس غريغوريوس الكبير). فعندما يكشف لنا الروح القدس مضمونها، نستطيع ان نجني ثمارها (القديس يوحنا فم الذهب). لكي ندرك فهم كلمة الله ينبغي ان يُقبل فعل البارقليط في الكنيسة وفي قلب المؤمنين بواسطة النصوص والافعال الليتورجية حيث تُعلن الكلمة وتُسمع وتُشرح. لذلك تصلي الجماعة المؤمنة: " ارسل يا رب روحك القدوس البارقليط الى نفوسنا واعطنا ان نفهم الكتب التي اوحاها". ويصلي الواعظ: "اعطني يا رب امكانية تفسير كلامك كما يليق، لكي يجني المؤمنون الحاضرون ثمارها". وفي ختام عظته يصلي من جديد: " ارسل يا اله خلاصنا روحك القدوس الى شعبك. تعال ايها الرب يسوع وكلّم ضمائر الجميع، وهيّىء قلوبهم للايمان، واقتدْ نفوسنا اليك يا اله المراحم". اجل، يقول القديس ابريناوس: " ان الذين لا ينالون شركة الروح القدس، لا يتناولون قوت الحياة من حضن امهم الكنيسة، ولا يستقون شيئاً من الينبوع الفائق النقاوة الذي يجري من جسد المسيح". فكلمة الله تأتي الينا في جسد المسيح (الكنيسة)، وفي الجسد القرباني، وفي جسد الكتب المقدسة بفعل الروح القدس. ولذلك، لا نستطيع قبولها وفهمها كاملة إلا بنعمة الروح عينه. لا يمكن الفصل بين رسالة الأبن ورسالة الروح القدس، لانهما تشكلان تدبير الخلاص الواحد. فالروح القدس الذي فعل عند تجسّد الكلمة في حشى العذراء الام، هو الذي اقتاد يسوع في جميع مراحل رسالته، ووُعد به للتلاميذ. والروح الذي يتكلم بالانبياء، هو الذي يعضد الكنيسة ويلهمها في مهمة اعلان كلمة الله وفي كرازة الرسل. هذا الروح عينه هو الذي ألهم مؤلفي الكتب المقدسة.
*** ثالثاً، اتباع يسوع في درب صليبه نتابع مسيرتنا وراء يسوع في درب صليبه، تكفيراً وتوبةً، ومسيرة في درب جديد. المرحلة الثالثة، يسوع يقع تحت الصليب مرة اولى عانى يسوع آلاماً حسّية مبرّحة من جراء الجلد في الليلة السابقة واليوم من ثقل الصليب. لكنه قبلها متضامناً مع العائلة البشرية جمعاء، وبخاصة مع كل الذين يعانون هذه الآلام اليوم. انه يعطيها قيمة خلاصية، ويقدس حامليها، ويمجّد الآب بما ينتج عنها من ثمار فداء في العالم. وفيما نحن ننظر الى الرب يسوع واقعاً تحت الصليب، نسأله ان يفتح قلوبنا الى تضامن اوسع مع كل المتألمين من حولنا، لنخفف من اوجاعهم بصلاتنا ومساعدتنا لهم. المرحلة الرابعة، يسوع يلتقي مريم امه في هذا اللقاء، مريم ام يسوع التي يحطّم الوجع كل كيانها، تجدد كلمة " نعم" التي قالتها يوم البشارة، وبها اصبحت ام يسوع التاريخي. واليوم تجددها فتصبح بها ام المسيح الكلّي، الكنيسة، وتفتح لنا وللبشرية جمعاء باب الخلاص. امومة مريم هي علامة ناطقة لمحبة الله ورحمته لنا، لكل واحد وواحدة منا. اننا بثقة بنوية نلتجىء الى مريم في ظروف حياتنا الصعبة. نتعلم من مريم، في ضوء آلام الفادي الالهي، ان الآلام التي تأتينا ونحمل صليبها، ليست آلاماً للموت، بل هي آلام مخاض من اجل حياة جديدة وثمار خلاصية في العالم.
صلاة ايها الرب يسوع، نأتي اليك في زمن الصوم، وانت تأتِ لملاقاتنا، مثل ذاك الابرص، ملتمسين منك ان تنقي نفوسنا وقلوبنا من الخطيئة التي تشوّهها. اعطنا ان ندرك ان خطايانا الشخصية هي في اساس تفشي الفساد والشر في مجتمعاتنا، حتى بتنا نعيش كفي هيكلية خطيئة. ذلك ان الخطيئة مرض معدٍ. حررنا من الخطيئة لنختبر حرية ابناء الله، ونكون دعاة الحرية الحقيقية التي تعطي الانسان سعادته وكرامته. ايها الروح القدوس افتح اذهاننا لفهم كلام الله في الانجيل وتعليم الكنيسة، فنجني ثمارها. وانت يا مريم امنا، ساعدينا لكي نرى وجه يسوع في كل ألم ينتابنا، وفي كل صليب يأتينا، فنقول مثلك نعم لارادة الله، لكي تثمر آلامنا حياة جديدة في الكنيسة والعائلة والمجتمع، فنرفع المجد والتسبيح ايها اللاب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين. ***
[1]. الافكار مستوحاة من عظة البابا بندكتوس السادس عشر في اربعاء الرماد 22 شباط 2010.
[2]. هذا الارشاد " كلمة الله Verbum Domini " اصدره البابا بندكتوس السادس عشر بتاريخ 30 ايلول 2010. |
|
شفاء المرأة النازفة 20 آذار 2011
2 قورنتس 7/4-11 لوقا 8/43-48 العدالة ثمرة البرارة
زمن الصوم يمتاز عن سواه في انه الزمن المقبول والمناسب، الذي تظهر فيه نعمة الله الشافية، كما يقول بولس الرسول: " نحثّكم بالاّ تجعلوا نعمة الله المعطاة باطلة. فها هو الآن الزمن الموآتي، وها هو الآن زمن الخلاص" ( 2كور 6: 1-2). المرأة النازفة عرفت ان تدخل زمن الخلاص.
اولاً، القراءات المقدسة من انجيل القديس لوقا 8: 43-48 َكانَتِ امْرَأَةٌ مُصَابَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَشْفِيَهَا.دَنَتْ مِنْ وَرَاءِ يَسُوع، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَفَجأَةً وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. فَقَالَ يَسُوع: "مَنْ لَمَسَنِي؟". وَأَنْكَرَ الـجَمِيع. فَقَالَ بُطْرُسُ وَمَنْ مَعَهُ: "يا مُعَلِّم، إِنَّ الـجُمُوعَ يَزْحَمُونَكَ وَيُضَايِقُونَكَ!". َقَالَ يَسُوع: "إِنَّ واحِدًا قَدْ لَمَسَنِي! فَإنِّي عَرَفْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي!".وَرَأَتِ الـمَرْأَةُ أَنَّ أَمْرَها لَمْ يَخْفَ عَلَيه، فَدَنَتْ مُرْتَعِدَةً وارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيه، وَأَعْلَنَتْ أَمَامَ الشَّعْبِ كُلِّهِ لِماذَا لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ شُفِيَتْ لِلْحَال. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: "يا ابْنَتِي، إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!. يسوع في طريقه الى بيت يائيرس، رئيس المجمع، لكي يشفي ابنه، تلبية لالتماس ابيه. المرأة المصابة بنزيف تغتنم هذه الفرصة، وفيها ايمان وطيد لانها اذا تمكّنت من لمس طرف ثوب يسوع تشفى من نزيفها. وهذا ما حصل. يسوع عرف بايمانها الداخلي العميق، هو الذي "يعرف ما في قلب الانسان" ( يو 2: 25). فلبّى طلب ايمانها الصامت، لكنه الناطق في قلب يسوع. الايمان موقف ومسلك، وكذلك الصلاة، قبل ان يكونا اعلاناً بالكلمات. حرّمت شريعة العهد القديم المرأة المصابة بنزيف من ان تلمس اي شيء من أمتعة البيت او ان تلمس احداً، لاعتبار نزيف دمها دنساً يدنّس كلَّ شيء وكل شخص. لهذا السبب لم تجرؤ ان تلتمس شفاءها بالكلام امام الجمع، الذي لم يكن يعرف بأمرها وخافت من ان تشككه وتثير غضبه. لكن ايمانها علّمها ما فعلت. الايمان هو لغة القلب لا الشفاه. ولهذا اراد يسوع ان يكشف سرّها، ويمتدح ايمانها، ليعطيها امثولة للجمع الحاضر. واراد بنوع خاص ان يكسر كل حاجز بينه وبين الانسان، اياً كان ضعفه، واياً كانت خطاياه وشروره. يسوع يُسقط كل الحواجز التي يقيمها البشر فيما بينهم. زمن الصوم المناسب والمقبول هو زمن اسقاط حواجز التفرقة والنزاع والعداوة والخلافات بين الناس، بنعمة المصالحة والغفران. هكذا فعل يسوع ايضاً عندما " تحنّن على ذاك الابرص، ومدّ يده ولمسه، فطهر من برصه". في هاتين الحادثتين، علّمنا الرب يسوع الخروج من موقف عدم الاكتراث بالاخوة المحتاجين، مادّياً وروحياً ومعنوياً وانمائياً وثقافياً. علّمنا ألاّ نعيش في اللامبلاة تجاه اي محتاج أو في تجاهله، بل ان نلتزم بالعدالة الطبيعية التي هي ثمرة حالة البرارة. فلنتذكر الطوباوي الاب يعقوب حداد الكبوشي الذي، بفضل برارته وقداسته، أنجز اكبر افعال ومشاريع ومؤسسات على مستوى هذه العدالة. هذه تعني " اعطاء كل واحد ما هو له". ان " ما هو له" لا يقف عند حدود التصدّق العابر، بل هو توفير حياة كريمة تمكّن الانسان من ان يعيش من هذه المحبة التي يعطيها الله وحده، الى جانب المساعدة المادية الضرورية. " تبقى العدالة التوزيعية ناقصة اذا لم تعطِ الانسان الاله الحق" ( القديس اغسطينوس )[1]. النجاسة الحقيقية لا تأتي من امور خارجية، مثل نزيف الدم، والبرص، بل من داخل قلب الانسان، كما علّم الرب يسوع ذات يوم: " لا شيء من خارج الانسان، اذا دخله، ينجّسه. ان ما يخرج من باطن الانسان هو الذي يدنسّه. فمن الداخل، من قلب البشر تخرج مقاصد السوء" ( مر 7: 14-15؛ 20-21). ان ما نشهده من فساد على مستوى الاخلاق والعلاقات بين الناس وممارسة السلطة والادارة والمسؤولية، انما ينبع من قلوب لا يسكن فيها الله، قلوب من حجر لا تعرف المشاعر الانسانية، قلوب مملوءة من محبة الذات والانانية، قلوب لا تعرف الصلاة والتوبة، ولا تنفتح لقبول كلام الله ونعمة الاسرار وعطية الروح القدس. وهذا أسوأ نزيف تصاب به مجتمعاتنا ويؤدي الى موت قيمها ومعنى الوجود والتاريخ فيها. لفظة " صدّيق وصدقة" في الكتاب المقدس تبيّن العلاقة العميقة بين الايمان بالله، فنقول صدّيقاً او باراً، وبين ممارسة العدالة تجاه القريب، ونقول " الصدقة" او " التصدّق". ونقول في الفرنسية Juste و Justice. وهكذا لا تنفصل البرارة عن التصدّق. بل التصدق هو ثمرة البرارة. كما ذكرنا في مثل الطوباوي الاب يعقوب. والتصدق على المحتاج، لاسيما الفقير والغريب واليتيم والارمل ( خروج 20: 12-17)، ليس سوى مبادلة ما اعطاه الله. هذا هو مفهوم فضيلة العدالة. الله يسمع صراخ الفقير واليتيم والغريب والمستعبد، ويطالب باغاثتهم. زمن الصوم هو الزمن المناسب والمقبول للحصول على نعمة البرارة، وممارسة فضيلة العدالة. يحدّثنا القديس بولس الرسول في رسالته الثانية الى اهل كورنتس 7: 4-11. عن الحزن الذي يؤدي الى التوبة او الشفاء. انها دعوة لنا " لنحزن حزناً مرضياً لله"، اي لنقبل محن الحياة ومصائبها ومصاعبها بصبر وتسليم لارادة الله، ونجعل منها وسيلة لتقديس الذات. كتب المكرم البابا يوحنا بولس الثاني، الذي سنحتفل باعلانه طوباوياً في اوال ايار المقبل، ان على كل واحد منا ان يكتب صفحته الخاصة في انجيل الألم الخلاصي" (الرسالة العامة في الألم الخلاصي). ان مثل هذا الحزن المرضي لله، يقول بولس الرسول، " يصنع توبة للخلاص لا ندم عليها"، فيما " حزن العالم اي الذي من دون رجاء فيصنع موتاً". ويضيف الرسول ان الخوف المرضي لله " ينشىء فينا الاجتهاد والاعتذار والاستنكار والخوف والشوق والغيرة". *** ثانياً، الارشاد الرسولي: كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها Verbum Domini
من هذا الارشاد الرسولي، ومن القسم الاول الذي هو بعنوان: " الله الذي يتكلم"، نتناول موضوع التقليد والكتب المقدسة (الفقرتان 17 - 18). الرباط العميق بين الروح القدس وكلمة الله يضع الاسس لفهم معنى وقيمة التقليد الحي والكتب المقدسة. ان كلمة الله التي قيلت في الزمن أعطيت وسُلّمت للكنيسة بشكل نهائي، لكي يتمكن اعلان الخلاص من ان يُنقل بفاعلية الى كل الازمنة وفي كل زمان. نقرأ في الدستور العقائدي Dei Verbum – كلمة الله حول الوحي الالهي: " يسوع المسيح، من بعد ان تمم هو نفسه وأعلن بفمه الانجيل الموعود سابقاً من الرسل، أمر رسله بكرازته للجميع كينبوع لكل حقيقة خلاصية ولكل قاعدة اخلاقية، ناقلاً اليهم مواهبه الالهية. فتمّ كل ذلك بامانة، تارة على يد الرسل الذين نقلوا، في كرازتهم الشفوية والامثلة والمؤسسات، سواء ما كانوا قد تلقنوه من فم يسوع بالعيش معه وبرؤية افعاله، سواء ما اكتسبوه من الهامات الروح القدس، وتارة على يد هؤلاء الرسل والرجال من محيطهم الذين، بالهام من الروح القدس عينه، سلّموا خطياً رسالة الخلاص" ( عدد 7). هؤلاء هم كتبوا الاناجيل واعمال الرسل والرسائل والرؤيا. فالاناجيل الاربعة كتبها رسولان مرقس ويوحنا، ورجلان من المحيط متى ولوقا، كاتب اعمال الرسل هو لوقا، ثم رسائل بولس الحامل لقب رسول، ورسائل كلٍ من بطرس الرسول ويوحنا الرسول ويعقوب الرسول ويهوذا اخيه، وكاتب الرؤيا هو يوحنا الرسول. هذا هو التقليد الرسولي. لكن هذا التقليد من اصل رسولي هو واقع حيّ وديناميكي ، ويتنامى في الكنيسة على هدي الروح القدس، لا بمعى انه يتغيّر في حقيقته التي هي ابدية، بل بمعنى ان فهم الواقعات والكلمات المنقولة يتنامى، من خلال التأمل والدرس والاختبار الروحي وكرازة الذين، عبر الخلاقة في الاسقفية أعطوا موهبة الحقيقة الأكيدة[2] هذا هو التقليد الحي. انه جوهري واساسي لكي تتمكن الكنيسة من النمو على مدى الزمن في فهم الحقيقة الموحاة في الكتب المقدسة ككلمة الله، لان تقليد الكنيسة الحي هذا، هو الذي حدد قانونية الكتب الاصلية ورذل تلك المنحولة، وبفضل هذا التقليد تكون الكتب مفهومة باكثر عمقاً وفاعلية من دون توقف. من الضرورة اذن تربية ابناء الكنيسة وبناتها وتنشئتهم بشكل واضح على التقرّب من الكتب المقدسة بالارتباط مع تقليد الكنيسة الحي، من اجل النمو في حياتهم الروحية. فكلمة الله (Logos- Verbum) الذي صار بشراً هو الكلمة التي صارت كتاباً، وجسده هو كل تعاليم الكتب المقدسة. تعيش الكنيسة في يقين من ان ربها، الذي يتكلم في الماضي، لا يزال يواصل نقل كلمته اليها اليوم، من دون انقطاع، في تقليدها الحي، والكتاب المقدس. وهكذا كلمة الله الموحاة لنا في الكتاب المقدس تشكل مع تقليد الكنيسة الحي القاعدة الاسمى للايمان (الدستور العقائدي في الوحي الالهي، 21). ***
ثالثاً، اتباع يسوع في درب صليبه نسير في كل يوم جمعة وراء يسوع في درب صليبه، مشاركين في آلام الخلاص، وتائبين عن خطايانا وشرورنا. المرحلة الخامسة، يسوع يساعده سمعان القيريني في حمل صليبه ادرك الجند ان قوى يسوع قد خارت، فسخّروا سمعان القيريني الذي كان عائداً من حقله، وحمّلوه الصليب وراء يسوع. انه يذكّرنا بقول الرب: " من اراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (متى 16: 24). ما يعني ان كل مرض وحدث مؤلم وموت عزيز قد اصبح في ضوء صليب يسوع وفعلة سمعان القيريني صليباً خلاصياً نحمله وراء يسوع. بعد الصلب، يسوع قام من الموت كأول بين اخوة كثيرين" (روم 8: 29؛ 1 كور 15: 20). لا نستطيع ان نفصل الصليب عن القيامة. فقط بايماننا بالقيامة نستطيع ان نحمل صلبان الحياة، ونتبع يسوع في درب صليبه.
المرحلة السادسة، فيرونيكا تمسح وجه يسوع مسحت فيرونيكا وجه يسوع المشوّه بافعال خطايا البشر، لكنه يبقى وجه ابن الله، فانطبعت صورة هذا الوجه الفادي على المنديل، للدلالة ان الرب متضامن مع كل الذين تتشوّه وجوههم بالمرض والآلم والظلم والاعتداء، وان صورة وجهه المطبوعة على المنديل تتكرر في آلام المتألمين. ان مسيرة درب الصليب لا تأخذ قيمتها ولا تعطي ثمارها، ما لم تفتح قلوبنا الى مبادرات محبة وتضامن مع كل من يتألم من حولنا. ايها الرب يسوع، اطبع في قلوبنا صورة وجهك حامل آلام الفداء، لكي تمتلىء من مشاعر الحنان والرحمة. *** صلاة ايها الرب يسوع، اعطنا ان نكلمك بلغة القلب المؤمن، مثل المرأة النازفة، وان نلمس نعمة اسرارك بايمان فنشفى من نزيف القيم الروحية والخلقية والانسانية التي تسببها خطايانا. ساعدنا على اسقاط كل الحواجز لننفتح على بعضنا البعض بروح التضامن والترابط، وبروح العدالة الطبيعية، وننصرف الى مساعدة اخوتنا الذين في الحاجة والفاقة. انعش قلوبنا بالمشاعر الانسانية وامنحنا نعمة البرارة وأطلقنا في خدمة العدالة الاجتماعية. ولتكن كلمتك، ايها الرب، الموحاة في الكتب المقدسة والمنقولة الينا بتقليد الكنيسة الحي، هادية لنا الى الحقيقة والحياة. نسألك ان تعيننا في حمل صليبك المتجلي في صلبان حياتنا، واطبع وجهك المعزّي على وجه المتألمين. فنرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***
[1].هذه الافكار مستوحات من رسالة البابا بندكتوس السادس عشر لصوم 2010 بتاريخ 30 تشرين الاول 2010.
[2].الدستور العقائدي في الوحي الالهي، الفقرتان 7 و8. |
***
أحد الابن الشاطر 27 اذار 2011 |
|
|
الابن الشاطر 2 كورنتس 13/5-13 لوقا 15/11-32 التوبة والمصالحة نحن في منتصف زمن الصوم الكبير. تختار الكنيسة من الانجيل مثل الابن الشاطر او الضال، لتعلمنا مفهوم الخطيئة والتوبة والمصالحة من فم المعلم الالهي من بعد ان تأملنا في آيتي شفاء الابرص والنازفة، وادركنا ان البرص ونزيف الدم علامة للخطيئة ومفاعليها في حياة الانسان والمجتمع، وان لجؤ الاثنين الى يسوع رمز للعودة الى الله بروح التوبة، وان شفاءهما رمز للمصالحة ومفاعيلها في النفس والجماعة.
اولاً، القرءات المقدسة انجيل القديس لوقا 15: 11-32. قالَ الربُّ يَسُوع: كانَ لرجل َابنان. فَقالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيه: يَا أَبي، أَعْطِنِي حِصَّتِي مِنَ الـمِيرَاث. فَقَسَمَ لَهُمَا ثَرْوَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَة، جَمَعَ الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ حِصَّتِهِ، وسَافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعِيد. وَهُنَاكَ بَدَّدَ مَالَهُ في حَيَاةِ الطَّيْش. وَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيء، حَدَثَتْ في ذلِكَ البَلَدِ مَجَاعَةٌ شَدِيدَة، فَبَدَأَ يُحِسُّ بِالعَوَز. فَذَهَبَ وَلَجَأَ إِلى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ ذـلِكَ البَلَد، فَأَرْسَلَهُ إِلى حُقُولِهِ لِيَرْعَى الـخَنَازِير. وَكانَ يَشْتَهي أَنْ يَمْلأَ جَوْفَهُ مِنَ الـخَرُّوبِ الَّذي كَانَتِ الـخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، وَلا يُعْطِيهِ مِنْهُ أَحَد. فَرَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَقَال: كَمْ مِنَ الأُجَرَاءِ عِنْدَ أَبي، يَفْضُلُ الـخُبْزُ عَنْهُم، وَأَنا هـهُنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَمْضي إِلى أَبي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، خَطِئْتُ إِلى السَّمَاءِ وَأَمَامَكَ. وَلا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. فَاجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ! فَقَامَ وَجَاءَ إِلى أَبِيه. وفِيمَا كَانَ لا يَزَالُ بَعِيدًا، رَآهُ أَبُوه، فَتَحَنَّنَ عَلَيْه، وَأَسْرَعَ فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ عَلى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ طَوِيلاً. فَقالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبي، خَطِئْتُ إِلى السَّمَاءِ وَأَمَامَكَ. وَلا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. فَقالَ الأَبُ لِعَبيدِهِ: أَسْرِعُوا وَأَخْرِجُوا الـحُلَّةَ الفَاخِرَةَ وَأَلْبِسُوه، واجْعَلُوا في يَدِهِ خَاتَمًا، وفي رِجْلَيْهِ حِذَاء، وَأْتُوا بِالعِجْلِ الـمُسَمَّنِ واذْبَحُوه، وَلْنَأْكُلْ وَنَتَنَعَّمْ! لأَنَّ ابْنِيَ هـذَا كَانَ مَيْتًا فَعَاش، وَضَائِعًا فَوُجِد. وَبَدَأُوا يَتَنَعَّمُون. وكانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ في الـحَقْل. فَلَمَّا جَاءَ واقْتَرَبَ مِنَ البَيْت، سَمِعَ غِنَاءً وَرَقْصًا. فَدَعا وَاحِدًا مِنَ الغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هـذَا ؟ فَقالَ لَهُ: جَاءَ أَخُوك، فَذَبَحَ أَبُوكَ العِجْلَ الـمُسَمَّن، لأَنَّهُ لَقِيَهُ سَالِمًا. فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُل. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه. فَأَجَابَ وقَالَ لأَبِيه: هَا أَنا أَخْدُمُكَ كُلَّ هـذِهِ السِّنِين، وَلَمْ أُخَالِفْ لَكَ يَوْمًا أَمْرًا، وَلَمْ تُعْطِنِي مَرَّةً جَدْيًا، لأَتَنَعَّمَ مَعَ أَصْدِقَائِي. ولـكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هـذَا الَّذي أَكَلَ ثَرْوَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ العِجْلَ الـمُسَمَّن! فَقالَ لَهُ أَبُوه: يَا وَلَدِي، أَنْتَ مَعِي في كُلِّ حِين، وَكُلُّ مَا هُوَ لِي هُوَ لَكَ. ولـكِنْ كانَ يَنْبَغِي أَنْ نَتَنَعَّمَ وَنَفْرَح، لأَنَّ أَخَاكَ هـذَا كانَ مَيْتًا فَعَاش، وَضَائِعًا فَوُجِد". المعلم الالهي، يسوع المسيح، يعرض لنا بالمثل كل لاهوت الخطيئة والتوبة والمصالحة. 1. الخطيئة (لو 15: 13- 16) هي التعلق بالذات وخيرات الدنيا، مع نسيان معطيها الذي هو الله. هذا فعل خيانة في مفهوم الكتاب المقدس. والخطيئة هي كسر الشركة مع الله ونعمته ودفء محبته، والعيش خارج دائرة الاتحاد به والاستنارة بكلامه، واهمال وصاياه وتجاهلها ومخالفتها، والتمتع بحرية تتفلّت من كل القيود، وهي في الحقيقة حرية كاذبة، وسراب حرية. اما نتائج الخطيئة فهي الافتقار من القيم، والانحطاط الاجتماعي، وفقدان المكرامة والعوز الى كل شيء بسبب خسارة كل شيء. الخطيئة في اساسها هي التصرف ورسم مشروع الحياة، بالاستغناء عن الله ، عن كلامه وعن وصاياه ونعمه ومحبته وعنايته. هذا الاستغناء هو انجراف وراء شهوات العالم الثلاث التي يتكلم عنها يوحنا الرسول في رسالته الاولى ( 1 يو 2: 16): وهي شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الحياة. زمن الصوم يقدّم لنا المناسبة والوسائل للخروج من الانجراف فيها، وللانتصار عليها. هذه التجارب الثلاث جرّب بها ابليس الرب يسوع، اثناء صيامه اربعين يوماَ في البريّة، وانتصر عليها يسوع بقوة كلام الله، كما يخبر لوقا في انجيله (لو 4: 1-12). التجرية الاولى، شهوة الجسد، وهي الجوع والحاجة الماديّة. طلب اليه الشيطان اعطاء الامر بتحويل الحجارة الى خبز. يسوع ينتصر بقوة كلمة الله: " ليس بالخبز وحده، يحيا الانسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" ( تثنية 8: 3). التجربة الثانية، شهوة العين، وهي تملّك خيرات الارض من دون حدود وشبع، وشهوة السلطة. لقد وعده بها المجرّب كلها وطلب منه في المقابل ان يسجد له ويخضع لمشيئته. اما يسوع فعاد من جديد ليستمدّ قوته للانتصار على هذه التجربة من كلمة الله: " لله وحده تسجد، واياه وحده تعبد" ( تثنية 6: 13). التجربة الثالثة، كبرياء الحياة اي الكبرياء والغرور بالنفس. يطلب اليه المجرّب اجتراع معجزة استعراضية، بحيث يرمي بنفسه من قمة جناح الهيكل، فتأتي الملائكة، كما يقول كلام الله، وتحمله لئلا يصطدم بالحجارة. اما يسوع فانتصر ايضاً بكلام الله نفسه في مكان آخر: " لا تجرّب الرب الهك" ( تثنية 6: 16).
2. التوبة ( لوقا 15: 17- 20) لفظة توبة باليونانية " ميتانويا" تعني الثورة على الذات، بحيث يدرك الخاطي انه على خطأ، ومن الضرورة ان يخرج من حالته السيئة. التوبة مسيرة عودة الى الله عبر محطات متتالية ومتكاملة، هي: فحض الضمير، وهو الدخول الى اعماق الذات، والوقوف امام حضرة الله، وحقيقته ووصاياه وتعليمه، وسماع صوته. فالضمير هو صوت الله في اعماق الانسان. يدرك الخاطي عندئذٍ انه على خطأ، ويستعرض خطاياه. الاسف والندامة يشعر بهما التائب في هذه الوقفة الوجدانية، ويرى ذاته مضطراً، لكي يعيش بسلام وسعادة، الى اصلاح واقعه. قرار التغيير وتنفيذه: " اقوم وارجع الى ابي". انه قرار الخروج من الحالة الشاذّة المميتة والضائعة، وقطع اسبابها وظروفها. ينفّذ التائب قراره ويمشي نحو الله، ويكسر علاقته بالماضي: " قام وعاد الى ابيه". الاعتراف لله بالذنوب، الغاية منه ادراك الاخطاء، والوقوف بتواضع وانسحاق قلب امام عظمة قداسة الله وعدله، وحقارة الانسان ومحدوديته وسرعة عطبه. التوبة، بكل مكوّناتها ومحطاتها، هي اجراء تغيير في الاتجاه على طريق الحياة، والسير عكس التيار الذي هو اسلوب حياة سطحي منحرف ووهمي. التائب الحقيقي يتطلّع الى اعلى درجة من الحياة المسيحية، ويلج الى عمق الانجيل الحي والشخصي الذي هو يسوع المسيح. شخص يسوع هو هدف التائب وطريقه نحو الحياة الحقّة، يستنير بكلامه ويتقوى بنعمته. ليست التوبة مجرد قرار اخلاقي لتصحيح المسلك، بل هي في جوهرها خيار ايمان: "توبوا وآمنوا بالانجيل" ( مر 1: 15). التوبة هي الايمان بالانجيل، هي كلمة " نعم" لشخص المسيح في الانجيل، هو الذي يقدم ذاته لهذا التائب " طريقاً وحقيقة وحياة"، يحرره ويخلّصه. لا تقف التوبة عند حدود لحظة الاعتراف، بل تشمل كل الحياة اليومية القائمة على اساس: "توبوا وآمنوا بالانجيل". نحن مدعوون كل يوم للعيش تحت نظر المسيح وبالثقة الكاملة به والالتزام مثله بتتميم ارادة الآب في كل الظروف. بهذا المعنى اتخذ الطوباوي الاخ اسطفان نعمه شعاره : " الله يراني". التوبة فعل تواضع. فالمتواضع وحده يقبل بان يحرره آخر من " الانا". ويعطيه " ذاته" ويدخله في برارة الحب ( روم 13: 8 -10). هذا يحصل في سرّي المصالحة والافخارستيا[1].
3. المصالحة (لو 15: 20 -24). هي جواب الله على توبة الانسان طالب الغفران والمصالحة، فهو " لا يريد موت الخاطي بل حياته". لكن الله هو صاحب المبادرة الاولى للمصالحة، من خلال دعوته الصامتة الى التوبة، من خلال صوت الضمير. المصالحة تنبع من محبة الله اللامحدودة التي ترافق الخاطي، وتتحيّن الفرص لكي يعود الى نفسه ويسمع صوته. لقد اشار الى ذلك المثل الانجيلي بالقول: " وفيما كان بعيداً، رآه ابوه، فتحنن عليه..." وكان يراه من دون اي شكّ في كل محطات توبته، ولذلك لم يدعه يكمّل اعترافه، " فضمّه الى صدره وراح يقبله". المهمّ انه نفّذ قرار التغيير والخروج من حالة الخطيئة واسبابها وظروفها. اما ثمار التوبة والمصالحة فهي غفران الخطايا، وفي الوقت عينه هبة الحياة الجديدة بالروح القدس. وقد رمز اليها المثل الانجيلي باربعة: الثوب الفاخر هو حالة البرارة باستعادة بهاء صورة الله فينا. الخاتم عهد الابوة والبنوة بين الله والانسان، عربوناً لميراث الملكوت السماوي. الحذاء هو الاتجاه الجديد في دروب الحياة اليومية، على خطى الرب يسوع. وليمة العجل المسمّن هي المشاركة في وليمة جسد الرب ودمه في القداس. بالتوبة والمصالحة يعود الخاطىء من ضياعه، ويقوم من موته. وللمصالحة ثمار على مستوى الجماعة المؤمنة وهي الفرح والسعادة العائدين اليها بعودة الاخ الضال. زمن الصوم هو بمثابة رياضة روحية كبيرة للاستنارة بنور الانجيل والتوبة والمصالحة والحياة الجديدة. ولهذا السبب تُنظم رياضة اسبوعية في كل رعية، نرجو ان يشارك فيها المؤمنون في رعاياهم. نجد في رسالة القديس بولس الرسول الثانية الى اهل كورنتس 13: 5 – 13، التحية الثالوثية التي فيها ينبع الغفران والمصالحة اللذين هما عمل الله الثالوث: محبة الآب التي ارسلت الابن ليفتدي البشر ويخلصهم من خطاياهم بموته وقيامته، وافاضت الروح القدس لكي يحقق فينا ثمار الفداء بنعمة حلوله. ولهذا نحن كلنا مدعوون لنغفر ونصالح، لنكون حقاً ابناء الله، واخوة بعضنا لبعض. تبرز هذه الدعوة في المثل الانجيلي عندما دعا الاب ابنه الاكبر ليشارك في المغفرة والمصالحة وفرح العائلة. ***
ثانياً، الارشاد الرسولي: كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها-Verbum Domini
نتناول من الارشاد الرسولي " كلمة الله" موضوع " جواب الانسان على الله الذي يتكلم" (الفقرتان 22 و23). الله يتكام ويأتي لملاقاة الانسان، ويكشف عن نفسه في حوار يقتضي اولوية كلمة الله الموجّهة الى الانسان. هذا الحوار يُسمى سرّ العهد الذي يعبّر عن العلاقة بين الله الذي يدعو بكلمته والانسان الذي يجيب، مع العلم اليقين ان ذلك ليس لقاء بين طرفين متعاقدين قائمين على قدم المساواة. فما نسمّيه بالعهد القديم والعهد الجديد ليس فعل تفاهم بين طرفين متساويين، بل مجرد هبة من الله. بهبة من حبّه تتخطى كل مسافة، الله يصنع منا شركاء في حواره، محققاً سرّ اتخاذ الحب بين المسيح والكنيسة. في اطار هذه النظرة، يبدو كل انسان كأنه هدف الكلمة، بحيث يُخاطب ويدعى للدخول في حوار الحب بجواب حرّ. هكذا يجعل الله كل واحد منا قادراً على سماعه وعلى الاجابة الى الكلمة الالهية، الانسان مخلوق بالكلمة ويعيش بها. لا يستطيع ان يفهم ذاته، ما لم ينفتح لهذا الحوار. اننا بالنعمة مدعوون لنتشبّه بالمسيح، ولنتحوّل اليه. في هذا الحوار، الله يسمع الانسان ويجيب على طلباته، والانسان يجد جواباً على تساؤلاته العميقة التي تسكن قلبه. كلمة الله لا تناقض الانسان، ولا تقتل رغباته الاصيلة، بل على العكس، تنيرها وتنقيها وتسير بها الى كمالها. اجل، الله وحده يروي العطش الذي في قلب كل انسان. ثمة ظاهرة ولاسيما في الغرب، هي انتشار الفكرة بأن الله غريب عن حياة الانسان، ومعضلاته، بل وبأن حضوره قد يشكّل تهديداً لاستقلاليته. لكن في الواقع، كل تدبير الخلاص يبيّن لنا ان الله يتكلم ويتدخل في التاريخ لصالح الانسان ولخلاصه الشامل. من المهم راعوياً ان نعرض كلمة الله في قدرتها للاجابة على المعضلات التي يواجهها الانسان في الحياة اليومية، وعلى طموحاته. ان ثمرة الكتب المقدسة هي ملء السعادة الابدية، لانها تحتوي الحياة الابدية، وهي مكتوبة لا لكي نؤمن وحسب، بل ايضاً لكي ننال الحياة الابدية التي تروي كل رغباتنا (القديس بونا فنتورا). *** ثالثاً، اتباع يسوع في درب صليبه
نسير مع يسوع في درب صليبه، ونتتلمذ لتعليم المحبة والرحمة والمشاركة في عمل الفداء. المرحلة السابعة، يسوع يقع تحت الصليب مرة ثانية يسوع يقع تحت الصليب بجسد أضناه الألم الحسّي، وبقلب كسره حقد البشر، ورفضهم لمحبته ورسالته، وخيانة يهوذا، وهرب التلاميذ ونكران بطرس له ثلاث مرات. سقط تحت وطأة خطايانا وخطايا كل البشر على مدى التاريخ. من رحمة الله اللامتناهية نلتمس الغفران عن كل هذه الخطايا، وامام هذه الرحمة الالهية نضع حداً للشر الذي يصنعه الانسان وفي الوقت نفسه يقع ضحيته.
المرحلة الثامنة، يسوع يلتقي نساء اورشليم اللواتي يبكين بالحقيقة هو يسوع الذي يبكي على خطايا البشر وشرورهم هو الذي اعتاد ان يتحنن على الجماهير ( مر 8: 2). انه موقف الله تجاه كل انسان، موقف الحنان والرحمة: " لا تبكين عليّ، بل على نفوسكن واولادكن". البكاء الحقيقي هو البكاء على الذات التي تميل الى الشر وارتكاب المعاصي. هذا البكاء كفيل بالتوبة الحقيقية والعزاء الحقيقي: " طوبى للحزانى فانهم يعزّون" ( متى 5: 4). *** صلاة ايها الآب السماوي، اعطنا ان ندرك في ضوء تعليم الانجيل، ان الخطيئة ابتعاد عن دفء محبتك ونور كلمتك، وتعلّق بعطاياك حتى العبادة ونسيانك، وبالتالي هي افتقار مرير وخسارة بهاء كرامتنا كابناء لك بالابن الوحيد يسوع المسيح. خاطب قلوبنا وحرّكها بنعمة الوعي لحالتنا البائسة، والندامة عليها، والتوبة اليك. اعطنا القوة على القرار بالعودة اليك، بروح التواضع والانسحاق. صالحنا يا رب بقوة محبتك اللامتناهية، أعِدْ الينا برارة الابناء، جدّد لنا عهد البنوّة، افتح امامنا طريقاً جديداً، واهلنا للجلوس الى مائدة جسد ابنك الفادي ودمه، مائدة المحبة، وعلمنا ان نكون جماعة المصالحة وسفراءها. واعطنا في كل حالة من حياتنا ان نصغي الى كلمتك لكي نجد جواباً على تساؤلاتنا وارواءً لرغباتنا، ولكي نرى في ضوئها شرّ خطايانا فنبكيها بروح التوبة. ونرفع المجد والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين. ***
[1] . راجع خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلة الاربعلاء 17 شباط 2010. |
أحد شفاء المخلع 3 نيسان 2011 |
|
|
شفاء المخلع 1 طيموتاوس 5/24-6: 5 مرقس 2/1-12 يسوع طبيب الشلل الروحي والجسدي نبدأ القسم الثاني من زمن الصوم بآية شفاء المقعد او المخلع في كفرناحوم. بيّن يسوع ان الخطيئة ونتائجها " تخلّع" الشخص البشري في ذاته الداخلية، وتفكك الرابط بين الايمان والافعال، بين الهوية والمسلك، بين الداخل والخارج، وتضع الشخص في حالة شلل روحي واخلاقي واجتماعي، تماماً كما يفعل مرض الشلل بالجسم واعضائه. يسوع وحده قادر ان يشفي من الشللين.
اولاً، القراءات البيبلية انجيل القديس مرقس 2: 1-12 بَعْدَ أَيَّامٍ عَادَ يَسُوعُ إِلى كَفَرْنَاحُوم. وسَمِعَ النَّاسُ أَنَّهُ في البَيْت. فتَجَمَّعَ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنْهُم حَتَّى غَصَّ بِهِمِ الـمَكَان، ولَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لأَحَدٍ ولا عِنْدَ البَاب. وكانَ يُخَاطِبُهُم بِكَلِمَةِ الله. فأَتَوْهُ بِمُخَلَّعٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةُ رِجَال. وبِسَبَبِ الـجَمْعِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الوُصُولَ بِهِ إِلى يَسُوع، فكَشَفُوا السَّقْفَ فَوْقَ يَسُوع، ونَبَشُوه، ودَلَّوا الفِرَاشَ الَّذي كانَ الـمُخَلَّعُ مَطْرُوحًا عَلَيْه. ورَأَى يَسُوعُ إِيْمَانَهُم، فقَالَ لِلْمُخَلَّع: "يَا ابْني، مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك!". وكانَ بَعْضُ الكَتَبَةِ جَالِسِينَ هُنَاكَ يُفَكِّرُونَ في قُلُوبِهِم: "لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هـذَا الرَّجُلُ هـكَذَا؟ إِنَّهُ يُجَدِّف! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ الـخَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟". في الـحَالِ عَرَفَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُم يُفَكِّرُونَ هـكَذَا في أَنْفُسِهِم فَقَالَ لَهُم: "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهـذَا في قُلُوبِكُم؟ ما هُوَ الأَسْهَل؟ أَنْ يُقَالَ لِلْمُخَلَّع: مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك؟ أَمْ أَنْ يُقَال: قُمْ وَاحْمِلْ فِرَاشَكَ وَامْشِ؟ ولِكَي تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا أَنْ يَغْفِرَ الـخَطَايَا عَلَى الأَرْض"، قالَ لِلْمُخَلَّع: "لَكَ أَقُول: قُم، إِحْمِلْ فِرَاشَكَ، واذْهَبْ إِلى بَيْتِكَ!". فقَامَ في الـحَالِ وحَمَلَ فِرَاشَهُ، وخَرَجَ أَمامَ الـجَمِيع، حَتَّى دَهِشُوا كُلُّهُم ومَجَّدُوا اللهَ قَائِلين: "مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هـذَا البَتَّة!". نستطيع ان نسمي هذه الصفحة الانجيلية " انجيل الانسان وكرامته"، هذا الانسان الذي تغمره محبة الله بالمسيح. ولذلك كتب المكرم البابا يوحنا بولس الثاني الذي ستحتفل الكنيسة باعلانه طوباوياً في اول ايار المقبل، في رسالته العامة الاولى " فادي الانسان": " الانسان الحي هو للكنيسة دربها الوحيد وطريقها الاساسي" (فقرة 14). I. 1. شفاء المقعد استعادة لبهاء الشخص البشري " مغفورة لك خطاياك ..قم احمل سريرك وامشِ " ( مر2/5 و11). في مبادرة يسوع المزدوجة ، شفاء النفس اولاً من خطاياها ثم الجسد من شلله، تبيّن ان يسوع هو طبيب النفوس والاجساد. عنه تنبأ اشعيا: "يأتي زمن يغفر فيه الرب كل خطيئة ويشفي كل مرض" (اشعيا 33/24)، وهو عينه خاطب شعبه بلسان موسى: " انا الرب الذي هو طبيبك " (خروج 15/26). الى هذا الرب الطبيب نصلي في المزمور السادس: "ارحمني يا رب فلا قوة لي ، واشفني فأن عظامي قد تزعزعت ونفسي اضطربت كثيراً. عدْ يا رب ونجّ نفسي ولاجل رحمتك خلّصني. قد تعبت من تنهدي في كل ليلة أروي سريري ، وبدموعي ابلّل فراشي". هذه صلاة المريض والمعاق، صلاة الحزين والمظلوم، صلاة السجين والمتروك في عزلته، صلاة التائب عن خطاياه وشروره، هذه صلاة كل انسان، لان لا أحد الاّ وهو مريض سواء في جسده ام نفسه ام معنوياته. ما اجراه الرب يسوع مع مقعد كفرناحوم هو اعادة الانسان الى بهائه الاول. ففي الاساس، كل شيء خلقه الله كان حسناً جداً (تكوين1/31)، وخلق الانسان على صورته ومثاله (تكوين1/27) أي كاملاً في جمال جسده ونفسه، كما يصفه المزمور8: "ما الانسان حتى تذكره، وابن آدم حتى تفتقده ؟ وضعته قليلاً دون الاله ، بالمجد والكرامة كللته. على صنع يديك سلطتَه، وكلَّ شيء تحت قدميه جعلتَه". كل هذه الكرامة هي ان الانسان وحده، دون سواه من بين الخلائق المنظورة، قادر على ان يعرف الله ويحبه، ووحده مدعو من خلال المعرفة والحب، للمشاركة في حياة الله. لقد خُلق لهذه الغاية، وهذا هو السبب الاساسي لكرامته . تتجلى كرامته في كونه شخصاً قادراً ان يعرف نفسه، ويضبطها، ويبذل ذاته باختياره، ويدخل في شركة مع غيره من الاشخاص، على اساس من الحقيقة والعدل والخير، فيؤلفون معاً وحدة اساسها أصل مشترك ، ورباطها التضامن البشري والمحبة[1]. الشخص البشري كائن جسدي وروحاني معاً، رواية خلقه صوّرته بكلام رمزي: "جَبَلَ الله الانسان تراباً من الارض ونفخ في انفه نسمة حياة، فصار الانسان نفساً حية (تكوين2/7). الانسان بكامله مرادٌ من الله . يشترك جسده في كرامة صورة الله ، بفضل النفس الروحانية التي فيه ، وهو معدّ للقيامة في اليوم الاخير . كان الانسان في حالة برارة اصلية، كاملاً ومنظَّماً، لكنه بالخطيئة فقدها وهدم التناغم مع الذات ومع الغير ومع الخلق: تحطمت سيطرة قوى النفس على الجسد (تك3/7)، واصبحت علاقة الرجل بالمرأة تحت تأثير المشادات الموسومة بطابع الشهوة والسيطرة (تك3/11-16)؛ ونُقض التناغم مع الخلقية كلها : فاصبحت الخليقة المنظورة بالنسبة الى الانسان غريبة ومعادية (تك3/17و19)، واُخضعت الخليقة لعبودية الفساد (روم8/20)، ودخل الموت في تاريخ البشرية (روم5/12). لهذا السبب بدأ الرب يسوع بشفاء نفس المخلع من شللها كأساس، ثم الجسد من شلله كنتيجة. ذلك ان النفس عندما تشفى وتتقدس، يتقدس بها الجسد كله بامراضه وعاهاته التي تتخذ قيمة فداء، اذ تتواصل بواسطتها ألام الفادي الالهي .
2. الانسان درب الكنيسة من اجل الفداء " لكي تعلموا ان ابن الانسان له سلطان ان يغفر الخطايا في الارض، قال للمقعد: قمْ فاحمل فراشك واذهب الى بيتك "(مر2/10). بهذه المبادرة الالهية الشاملة لشخص المقعد استبق الرب يسوع عمل الفداء الذي هو خلق الانسان من جديد. يسوع هو ايقونة الفداء باتخاذه الطبيعة البشرية التي رفعها الى مقام عظيم، دون ان يذيبها فيه. " انه ابن الله الذي بتجسده انضمَّ نوعاً ما الى كل انسان : فاشتغل بيدي انسان، وفكرّ بعقل انسان، وعمل بارادة انسان، واحب بقلب انسان، وولد من عذراء وصار حقاً واحداً منا ، مشابهاً لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة . وهكذا كشف بجلاء الانسان للانسان عينه وابان له سمو دعوته . ولذلك لا يتضح سرّ الانسان الاّ في سرّ الكلمة المتأنس"[2] . الفداء غفران وشفاء: غفران الله للخطيئة هو بداية الشفاء؛ والمرض يصبح طريق التوبة أي الرجوع الى الله: حمل الرجال الاربعة ذاك المقعد الى يسوع أي " ارجعوه " اليه، فغفر له وشفاه . وصلّى المقعد المتعافى صلاة حزقيا ملك يهوذا حين مرض وشفاه الرب من مرضه : " ها ان مرارتي تحولّت الى هناء ، لانك نجيّت نفسي من هوّة الهلاك ونبذت جميع خطاياي وراء ظهرك "(اشعيا38/17). الله وحده يغفر الخطايا. يسوع المسيح ابن الله يقول عن نفسه " ابن الانسان له السلطان ان يغفر الخطايا على الارض " ومارس هذا السلطان الالهي: " مغفورة لك خطايا ". واعطى سلطانه الالهي الى البشر، الاساقفة والكهنة، لكي يمارسوه باسمه في سرّ التوبة: "خذوا الروح القدس، من غفرتم خطاياهم تُغفر لهم، ومن أمسكتم عليهم الغفران يُمسك عليهم " (يوحنا20/23). والمسيح الطبيب الذي تحنن على المرضى وشفاهم من جميع عاهاتهم، اعطى رسله وكهنة العهد الجديد هذا السلطان " اشفوا المرضى " (متى10/8)، وارسلهم مشركاً اياهم بخدمة الرحمة والشفاء:" ومضوا يدعون الناس الى التوبة،ومسحوا بالزيت كثيراً من المرضى فشفوهم " (مرقس 6/12-13). ثم جدّد لهم هذا الارسال بعد قيامته: " اذهبوا في العالم كله، واعلنوا البشارة الى الخلق اجمعين. والذين يؤمنون تصحبهم هذه الآيات: فباسمي يضعون ايديهم على المرضى فيشفون "(مر16/15-18). نقرأ في الرسالة العامة " فادي الانسان": "الانسان هو بمثابة الطريق الاول الذي يجب على الكنيسة ان تسلكه لدى قيامها برسالتها. انه طريق الكنيسة الرئيسي الاول الذي شقه المسيح الرب، انه الطريق الذي يمرّ دائماً بسرّ التجسد والفداء. لذلك على الكنيسة ان تتنبّه لما يتهدد الانسان من اخطار، وان تعرف ايضاً كل ما يعرقل حياته الحقة "[3]. وفي الرسالة العامة "انجيل الحياة " نقرأ: " بقوة سرّ كلمة الله المتجسّد، كل انسان اصبح موكولاً الى الكنيسة والى محبتها الوالدية. فكل ما يهدد كرامة الانسان وحياته لا يمكن الاّ ان يمسّها في صميم فؤادها، ويصيبها في عمق ايمانها بابن الله المتجسد والفادي، وبرسالتها القائمة على نشر انجيل الحياة في العالم كله ولكل الخلقية " (فقرة3). ونجد انواع الجرائم والانتهاكات التي تستهدف الحياة البشرية: كل ما يتصدى للحياة ذاتها: كالقتل على انواعه والاجهاض والانتحار؛ كل ما هو انتهاك لحصانة الانسان: كالتعذيب الجسدي والادبي والنفسي؛ كل ما يهين كرامة الانسان: كالدعارة والمتجارة بالنساء والاطفال، وظروف الحياة المنحطة، والاعتقالات الاعتباطية، والنفي، وظروف العمل المشينة. مقعد كفرناحوم صورة عن كل انسان وشعب ومجتمع فككه الانحراف والفساد، بسبب انهيار علاقته بالله من جراء الخطيئة. فالسلام مع الله سلام مع الخليقة كلها. هذا هو مضمون وصايا الله العشر القائمة على ركيزتين متلازمتين: حب الله (الوصايا الثلاث الاول ) وحب الانسان (الوصايا السبع الباقية). الخطيئة هي في الاساس انتهاك لحب الله الذي يؤدي الى نوع من شلل في حياتنا الانسانية والعائلية والاجتماعية والوطنية. رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى تلميذه طيموتاوس، تصف هذا الشلل على المستوى الشخصي والجماعي. ***
ثانياً، الارشاد الرسولي: كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها – Verbum Domini
نختار اليوم من هذا الارشاد الرسولي موضوع " الحوار مع الله الذي يتمّ بواسطة كلماته" (الفقرة 24). الله الذي يتكلم، يعلمنا كيف نتكلم معه. في هذه الحالة، الكلمة التي يوجهها الانسان الى الله تصبح بدورها كلمة الله. هذه هي ميزة حوار كل الوحي المسيحي. هذا ما نجده في كتاب المزامير، حيث الله يعطينا كلمات نستطيع بواسطتها ان نتوجّه اليه، ونعرض امامه حياتنا بالتخاطب معه، محوّلين الحياة ذاتها الى حركة دائمة باتجاه الله. وفي المزامير نجد كل انواع المشاعر التي يختبرها الانسان في وجوده، ويرفعها بحكمة الى الله، وهي: الفرح والألم، القلق والرجاء، الخوف والحسرة. كما نجد في كتب اخرى من الكتاب المقدس نصوصاً تعبّر عن الطريقة التي يتوجه بها الانسان الى الله بشكل صلاة تشفّع مثل عند اشعيا: " يسكن في الاعالي السالك في البّر والمتكلم بالاستقامة، الرافض مكاسب المظالم والنافض كفيّه من قبض الرشوة، السادّ آذنه عن خبر الدم، والمغمض عينيه عن رؤية الشر" (اشعيا 33: 15-16؛ وبشكل نشيد فرح بالانتصار (اشعيا 15)، ومناجاة للرب في مضايق الرسالة ومحنها (ارميا 20: 7 8). وهكذا كل وجود الانسان يصبح حواراً مع الله الذي يتكلم ويسمع ويدعو الى الالتزام في الحياة. جواب الانسان الى الله الذي يتكلم انما هو طاعة الايمان (الفقرة 25). بحيث يسلّم ذاته بكليتها لله وبكل حرية، مقدماً له خضوع عقله وارادته الكامل لما يوحيه. لكي يقبل الانسان الوحي الالهي، ينبغي عليه ان يفتح ضميره وقلبه لفعل الروح القدس الذي يساعده على فهم كلمة الله الحاضرة في الكتب المقدسة. في الواقع، هو اعلان الكلمة الالهية الذي يولّد الايمان الذي به يتحّد قلبنا بالحقيقة الموحاة، ونسلّم ذواتنا للمسيح (راجع روم 10: 17). كل تاريخ الخلاص يبين لنا الرباط الوثيق بين كلمة الله والايمان الذي يتمّ في اللقاء مع المسيح. وكون يسوع المسيح يثبت في التاريخ كل حين، في جسده الذي هو الكنيسة، فان فعل الايمان به هو في آن شخصي وكنسي. *** ثالثاً، اتباع يسوع في درب صليبه
درب صليب الفداء اصبح درباً ملوكياً يعلّم ثقافة المحبة والرحمة. هذا الدرب نمشيه وراء يسوع من اجل حضارة المحبة. المرحلة التاسعة، يسوع يقع تحت الصليب مرة ثالثة يسوع يقع من جراء الآلام الجسدية وخيانات البشر، ولكن ايضاً من اجل تتميم ارادة الآب، التي في سبيلها جعل يسوع ذاته" خطيئة من اجلنا". عليه تقع كل خطايا البشر، فيتحقق هذا التبادل السرّي العجيب بيننا نحن الخطأة وبرّ الله العادل. فيما نحن نسير مع الرب يسوع الذي يمشي ويسقط تحت ثقل الصليب، نسأله ان يحرّك في قلوبنا مشاعر التوبة والآلم مع عرفان بالجميل اقوى. المرحلة العاشرة، يسوع يُعرّى من ثيابه عندما اُغتيل يسوع في بستان الزيتون، عُرّي من كرامته كانسان، ومن كرامته كأبن لله، ويكتمل اليوم تعرّيه من ثيابه. فيُعرض عرياناً على نظر اهل اورشليم والبشرية جمعاء. لقد تعرّى من كل ذاته ليقدّم ذاته ضحية فداء عنا ومن اجلنا، وليستر بثوب نعمته الخلاصية عري خطايانا وشرورنا. فلننظر الى عرينا الروحي والاخلاقي كما ينكشف امام الله وامام اخوتنا في البشرية. فلنخلع عنا الادّعاء بأننا أحسن مما نحن عليه في حقيقة داخلنا، ولنكن اكثر صراحة واكثر شفافية، فالابغض على قلب يسوع انما هو الرياء والازدواجية. اعطني يا رب روح التوبة الحقيقية لأتعرى امامك وامام نفسي روحياً، لكي تستر انت عار خطيئتي بثوب نعمتك ورحمتك اللامتناهية. ***
صلاة ايها الرب يسوع، اليك نأتي في زمن الصوم، حاملين امراض الجسد والنفس، فنلتمس منك الشفاء، انت طبيب النفوس والاجساد. اعطنا ان ننظر الى الانسان نظرتك اليه، وقد جعلته طريقك وطريق الكنيسة، فنتضامن معه ونحمي حياته التي افتديتها بموتك على الصليب. انرنا بكلمة انجيلك، لكي نعطيك جواب ايماننا، فنتقبل الحقيقة الموحاة ونعمل بموجبها وفيما نحن نسير معك، كل يوم جمعة، في درب صليب الفداء، حرّك فينا مشاعر التوبة عن خطايانا التي كفرّت انت عنها بآلامك وموتك على الصيب. ونرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين. ***
[1] . انظر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 355-361. [2] .الكنيسة في عالم اليوم 22. العذراء مريم الكلية القداسة هي تحفة الفداء التي نناجيها : " مرآة العدل ونجمة الصبح ". |
شفاء الاعمى
2 قورنتس 10/1-7
مرقس 10: 46- 52
الخطيئة والعمى الروحي
هو الاحد الاخير من زمن الصوم قبل أحد الشعانين واسبوع الآلام. تذكر فيه الكنيسة آية شفاء الاعمى، بأمل استقبال الرب يسوع في احد الشعانين والولوج معه في سرّ آلامه الخلاصية برؤية جديدة، نكون قد اكتسبناها مما قدّم لنا الصوم الكبير من لقاءات شخصية مع الرب يسوع. بفضل هذه الرؤية الجديدة نتمكن من تحقيق ما يدعونا اليه القديس بولس الرسول في رسالته لهذا الاحد: “ان نهدم الافكار الخاطئة، وكل شموخ يرتفع ضد معرفة الله، وان نأسر كل فكر لطاعة المسيح".
اولاً، القراءات البيبلية
انجيل القديس مرقس 10: 46-52.
بَيْنَمَا يَسُوعُ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحا، هُوَ وتَلامِيذُهُ وجَمْعٌ غَفِير، كَانَ بَرْطِيمَا، أَي ابْنُ طِيمَا، وهُوَ شَحَّاذٌ أَعْمَى، جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الطَّريق. فلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيّ، بَدَأَ يَصْرُخُ ويَقُول: "يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!". فَانْتَهَرَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ لِيَسْكُت، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ صُرَاخًا: "يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!".فوَقَفَ يَسُوعُ وقَال: "أُدْعُوه!". فَدَعَوا الأَعْمَى قَائِلِين لَهُ: "ثِقْ وانْهَضْ! إِنَّهُ يَدْعُوك". فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَهُ، ووَثَبَ وجَاءَ إِلى يَسُوع. فقَالَ لَهُ يَسُوع: "مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ؟". قالَ لَهُ الأَعْمَى: "رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِر!". فقَالَ لَهُ يَسُوع: "أبصِره! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ". وللوقتِ أبصرَ وإنطلقَ معه في الطَريق.
1. الرؤية الجديدة
" يا ابن داود ارحمني" ( مر10/47).
بين الجمع الكثير الذي كان يتبع يسوع، وهو خارج من اريحا، متجهاً الى اورشليم، واحد رآه على حقيقته هو الاعمى طيما بن طيما . كلهم عرفوه بعيونهم انه يسوع الناصري، اما هو فعرفه بقلبه انه ابن داود. ولما سأله يسوع: " ماذا تريد ان اصنع لك"، اجابه بما أملى عليه ايمانه من فهم: "رابوني، أي يا معلم، ان أبصر".
الرؤية الجديدة هي رؤية القلب، رؤية الايمان المقرونة برؤية العقل. هذه هي هبة الفهم، احدى مواهب الروح القدس. الرؤية الحقيقية ليست رؤية العين بل البصيرة الداخلية، بصيرة القلب والعقل: "اؤمن لأفهم"، حسب مقولة القديس انسلموس . وجّه الرب يسوع ملامة اشعيا الى الذين ينظرون ولا يبصرون، يسمعون ولا يفهمون (متى13/13): " سمعاً تسمعون ولا تفهمون. ونظراً تنظرون ولا تدركون. لأن قلب هذا الشعب بات غليظاً . فثقّلوا آذانهم، واغمضوا عيونهم، لئلا يبصروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم ، ويفهموا بقلوبهم، ويرتدوا فأشفيهم " ( اشعيا6/9).
هذا ما حصل مع الجمع الذي سمع صرخة الاعمى: " يا ابن داود ارحمني "! لكنهم لم يفهموا، بل " انتهروه ليسكت ". كانت صرخته بمثابة نداء لهم من فوق، فلم يدركوه. كانت مجرد صرخة سمعتها اذانهم، لا قلوبهم وعقولهم. هؤلاء لم يرتدوا الى يسوع ليشفيهم من عمى قلوبهم وعقولهم، كما فعل الاعمى ليشفى من عمى عيونه، بعد ان شفي بالايمان بيسوع من عمى البصيرة الداخلية. آية شفائه علمتهم ان الاعمى هو المبصر حقاً. والتفت يسوع الى تلاميذه وقال: " اما انتم، فطوبى لعيونكم التي ترى ولآذانكم التي تسمع " (متى13/16). العمى الحقيقي هو عمى الروح، منه يريد الرب يسوع ان يشفينا ، والبرهان هو آية شفاء الاعمى: بما انه يستطيع ان يعطي نوراً للعيون المنطفئة، يستطيع ايضاً ان ينير القلوب والعقول والضمائر المظلمة . كلنا عرضة لهذا العمى. الصوم الكبير هو زمن الشفاء من عمى الروح . الى كلمة الله " النور الحق الذي ينير كل انسان " (يو1/9)، نرفع صلاتنا: "أضىء علينا بنور وجهك، يا رب " ( مز4/7)، " فبنورك نرى نور الحقيقة يا يسوع النور"، وهكذا نصير، كما يقول بولس الرسول، " نوراً في الرب " و " ابناء النور" (افسس5/8).
الرب معنا في سرّ القربان ، لينير طريقنا بشخصه وكلامه ونعمته ومحبته، فنشهد له الشهادة الصحيحة في اقوالنا وافعالنا ومواقفنا. الرؤية الجديدة هي ان نرتفع بالايمان والعقل من المنظور والمسموع والمحسوس الى الحقيقة الموحاة، الى سرّ المسيح. فالايمان لا يستند الى الحواس، لان من يؤمن انما يؤمن بما لا يرى، كما يقول بولس الرسول: " "الايمان هو الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه" (عبرانيين 11/1).
2. العمى الروحي
" انتهره الناس ليسكت " (مر10/48).
صرخة الايمان والفهم التي أطلقها الاعمى باعلى صوته جابهها الناس، بعماهم الروحي، وانتهروه ليسكت. اما يسوع فقد سقطت هذه الصرخة في قلبه، " فتوقف وامر الناس ان يدعوه "، ليشفي عماهم الروحي بعلامة شفاء عمى الاعمى الحسي، فغيّروا موقفهم ولهجتهم وقالوا للاعمى: " تشجع ، قمْ . انه يدعوك ".
كلنا نُصاب بالعمى الروحي كل مرة نخالف وصية الله الاولى في الناموس: " احبب الرب الهك من كل قلبك وكل نفسك وكل فكرك وكل قوتك "(متى22/37؛لو10/27)، وفي الوصايا العشر: " انا هو الرب الهك لا يكن لك اله غيري . فالرب الهك تعبد واياه وحده تخدم " (متى4/10). بمخالفة هذه الوصية نقع في العمى الروحي.
نُصاب بالعمى الروحي، على صعيد الايمان، عندما لا نحافظ عليه ولا نغذيه بالتأمل في كلام الله والصلاة وبتعليم الكنيسة، ولا نرفض ما يتعارض معه. العمى الروحي هو الخطيئة ضد الايمان مثل: الشك الارادي برفض الاعتقاد بحقيقة موحاة من الله ومعروضة من الكنيسة لنؤمن بها، والشك غير الارادي بالتردد في الاعتقاد والخوف من غموضه؛ عدم الايمان أي اهمال الحقيقة الموحاة، او رفض قبولها عمداً ؛ البدعة او الهرطقة وهي انكار حقيقة ايمانية باصرار؛ الجحود (انكار الايمان) وهو الرفض الكامل للايمان المسيحي؛ الانشقاق أي رفض الشركة مع الكنيسة.
ونصاب بالعمى الروحي، على صعيد الرجاء، عندما نقع في اليأس الذي هو انقطاع الانسان عن ان يترجى من الله خلاصه الشخصي، وعونه، او مغفرة خطاياه. فاليأس خطيئة ضد رحمة الله وامانته لوعوده؛ وعندما نقع في الاعتداد المفرط بالنفس، بالامكانات الذاتية وبنيل الخلاص بدون العون الالهي، او الاعتداد بقدرة الله ورحمته التي لا تحتاج الى توبة الانسان لمغفرة خطاياه ، وبنيل المجد الابدي بدون استحقاق شخصي.
ونصاب بالعمى الروحي ، على صعيد المحبة ، عندما نعيش في اللامبالاة بالله ومحبته ورسومه ، او في تجاهل مبادرة المحبة الالهية وقوة الفداء ؛ في نكران الجميل بعدم مبادلة محبة الله بالمحبة والطاعة لارادته ؛ في الفتور أي التردد واهمال الاستجابة للمحبة الالهية ؛ في السأم او الكسل الروحي برفض الفرح الآتي من الله ، وعدم الاندهاش لجمال الله وعظائم اعماله ؛ في الحقد على الله بسبب الشر الموجود في العالم، وبسبب ان الله يحرّم الخطايا وينزل العقوبات[1].
هذا العمى الروحي يعطل الرؤية الانسانية والخلقية والاجتماعية، ويظهر في انحراف العلاقات مع الناس، وتدنّي الاخلاق، وفقدان الالتزام الاجتماعي الصحيح الرامي الى الخير العام، فتطغى الروح الاستهلاكية والاباحية والمنفعة الشخصية والفئوية على المستوى الخلقي والسياسي والاقتصادي والاعلامي. ويؤدي بنا الى عدم القدرة على قراءة علامات الازمنة، وقراءة الاحداث الخاصة والعامة ، الاجتماعية والوطنية . الدستور المجمعي "الكنيسة في عالم اليوم " يكشف لنا كيف نقوم بهذه القراءة ( الاعداد 4-10).
كلنا أعمى وبحاجة الى رؤية جديدة. وحده يسوع قادر ان يعطينا اياها: " انا نور العالم ، من يتبعني لا يمشي في الظلام، بل يجد نور الحياة " (يو8/12).
3. المعرفة والمسلك الخلقي
" وللوقت أبصر وانطلق معه في الطريق " (مر10/52).
هذا الشخص هو ذاك " الاعمى الذي كان يجلس يتسول على جانب الطريق" (مر10/46). عنه كتب بولس الرسول: " اختار الله ما هو جاهل في العالم ليخزي الحكماء، واختار ما هو حقير في العالم وغير موجود ، ليُبيد الموجود " (1كور1/27-28). اجل، اختار الله ما يحسبه العقل " جهالة " و " عثرة " ليكشف لنا تدبيره الخلاصي. هذا الاعمى، ببصيرته وشفائه، كشف للجمع حقيقة المسيح ورسالته .
أبصر الاعمى بعينيه بعد ان كان مبصراً بايمانه وعقله : آمن ففهم. توفرت عنده المعرفة بالايمان والمعرفة بالعقل. " يسوع الناصري" ليس بالنسبة اليه يسوع ابن يوسف النجار فقط بل هو " ابن داود" أي المسيح المنتظر الذي كتب عنه الانبياء. نقرأ في الرسالة العامة " الايمان والعقل " (14 ايلول1998): " لا يمكن الفصل بين العقل والايمان، بدون ان يفقد الانسان قدرته على ان يعرف ذاته ، ويعرف الله والعالم معرفة وافية. ان معرفة احوال العالم واحداث التاريخ معرفة راسخة لا تتم الاّ اذا رافقها اعلان ايماننا بالله الذي يعمل فيها. فالايمان يرهف النظر الباطن ويتيح للعقل ان يكتشف ،في سياق هذه الاحداث، ملامح العناية الالهية وحضورها الفاعل"[2].
وانطلق معه في الطري . بسبب معرفته ليسوع بالايمان والعقل، بدأ الاعمى، الذي شفي، مسلكاً خلقياً جديداً. ذلك انه وجد عند يسوع الجواب على الخير والشر، ولا شك في انه طرح ذاك السؤال الاساسي في حياة كل انسان، الذي وجهه الشاب الغني الى المسيح: "ايها المعلم الصالح ماذا اصنع من الصلاح لتكون لي الحياة الابدية " (متى19/16).
كل لقاء مع الرب يسوع يعطي الجواب الوحيد على هذا السؤال الذي يملاء رغبات قلب الانسان. ولذلك " اقام الله كنيسته لكي يتمكن البشر من تحقيق مثل هذا اللقاء بالمسيح, لانها هي تسعى الى هذا فقط: ان يجد المسيحَ كلُ انسان، لكي يكمل المسيح مسيرة الحياة معه"[3] .
زمن الصوم يتيح لنا ان " نعرف بالايمان سر المسيح " والتعليم الصحيح " (2طيمو 4/3) وشرف حالتنا الجديدة كابناء الله "، وان نسلك كما يليق ببشارة المسيح (فيليبي1/27). اننا بقبولنا الاسرار وبالصلاة ننال نعمة المسيح ومواهب روحه التي تهيئنا لهذه الحياة الجديدة "[4] ( تألق الحقيقة ، 5).
***
ثانياً، الارشاد الرسولي: كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها- Verbum Domini
نتناول من هذا الارشاد الرسولي موضوع " الخطيئة كعدم سماع لكلمة الله" (الفقرة 26).
تكشف كلمة الله الخطيئة التي تسكن قلب الانسان. بارتكابها تنفصل الحرية عن الحوار مع الله الذي من اجله خلقنا. نجد في عهدي الكتاب المقدس القديم والجديد ان الخطيئة هي عدم سماع كلمة الله، وكسرُ للعهد، وانغلاق الذات عن الله الذي يدعو الى الشركة معه.
ويبيّن لنا الكتاب المقدس كيف ان خطيئة الانسان هي عصيان وعدم سماع. ان طاعة يسوع الجذرية حتى الموت على الصليب هي التي اسقطت قناع الخطيئة. بطاعته تمَّ العهد الجديد بين الله والانسان، واُعطينا امكانية المصالحة. فيسوع اُرسل من عند الآب ذبيحة تكفير عن خطايانا وخطايا العالم أجمع ( 1 يو 2: 2؛ 4: 10؛ عبرانيين 7: 27). وهكذا قُدمّت لنا امكانية الفداء مع بداية حياة جديدة بالمسيح.
امنا مريم العذراء الكلية القداسة هي مثال لنا وقدوة في سماع كلمة الله، هي التي بجواب " نعم" على كلمة الله وعلى رسالته تممت ملء الدعوة الالهية الموجّهة الى البشرية (الفقرتان 27 و28). في شخص مريم تمّ التبادل بين كلمة الله والايمان. من البشارة حتى العنصرة مريم تظهر لنا كامرأة ذات جهوزية كاملة لقبول ارادة الله، وسماع كلمته من دون شرط (لو 1: 38), وحفظ احداث حياة ابنها الكلمة في قلبها. مريم هي صورة الكنيسة في سماع كلمة الله التي فيها اصبحت بشراً، وهي رمز الانفتاح على الله وعلى الآخرين، ورمز السماع الفاعل الذي يتفاعل مع الكلمة الالهية بحيث تطبع حياة الانسان وتعطيها شكلها.
في نشيدها " تعظم نفسي الرب" مريم تتماهى مع الكلمة، وتعظم الله بكلمته اياها في نشيد الايمان الذي هو صورة نفسها المنسوجة من خيوط الكتاب المقدس، تلك الخيوط المأخوذة من كلمة الله.
ان العلاقة بين مريم ام الكلمة وام الايمان، تبيّن لنا كيف ان عمل الله في العالم يقتضي دائماً حريتنا، لان الكلمة الالهية المقبولة بايمان تحوّلنا من الداخل، وتعطي دفعاً لعملنا الرسولي والراعوي الذي يصبح تجسيداً للكلمة. يقول القديس امبروسيوس: " كما ان مريم وحدها اعطت جسداً للكلمة، كذلك كل واحد منا يعطي المسيح ثمرة لايمانه في سماع الكلمة والاحتفال بالاسرار.
***
ثالثاً، اتباع يسوع على درب صليبه
نسير وراء يسوع على درب الصليب، ونتطلع الى المعلق فوق الصليب فادياً بلغ ذروة حبه للانسان، كل انسان، لكي اذا نظرنا اليه بروح التوبة ننال الحياة الجديدة.
المرحلة الحادية عشر: يسوع مسمّر على الصليب
يسوع على الصليب يتمم رسالة الفداء، فيما الصالبون والحاضرون يسخرون منه ومن رسالته: " خلص الآخرين ولا يقدر ان يخلّص نفسه. اذا كان ابن الله، فلينزل عن الصليب لكي نؤمن به" (متى 27: 42-43). شعر يسوع بألم لا يوصف في قلبه، حتى انه صرخ: " الهي ، الهي، لماذا تركتني؟" ( مر15: 34). انه يتضامن معنا ومع كل الذين يختبرون المحن الكبيرة حتى الشعور بانهم منسيون من الله او متروكون، وربما يشكون بوجود الله. ابن الله، الذي شرب كأس المرارة حتى الثمالة والذي قام من بين الاموات، يدعونا بشخصه وحياته وموته لنثق بالله وبعنايته محبته.
المرحلة الثانية عشر: يسوع مائت على الصليب
عندما يموت شخص بعد آلام كثيرة، غالباً ما نقول بارتياح: " لقد انتهى من الآلم". ربما نقول هذا ايضاً عن يسوع. انها كلمات قصيرة وسطحية بالنسبة لموت ابن الله. لكن عند موت يسوع، انشق حجاب الهيكل من فوق الى اسفل، وحدثت علامات خارقة اخرى، حتى ان قائد المئة الذي كان يتولى الحراسة اعلن عن ايمان اذ قال: " بالحقيقة كان هذا ابن الله!" ( متى 27: 51-54). في الحقيقة لا يوجد سرٌ اكثر غموضاً من موت ابن الله المتحد بالله الآب والذي هو ينبوع الحياة وملئوها. ولكن لا شيء اكثر انارة، لان مجد الله يسطع، مجد محبته الكلية القدرة والرحمة. امام موت يسوع، جوابنا صمت العبادة. نسلّم نفوسنا اليه، نضمها بين يديه، سائلينه الاّ يفصلنا شيء عنه في حياتنا وفي مماتنا ( راجع روم 8: 38-39).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، في ختام مسيرة الصوم الكبير، نأتي اليك مثل الاعمى، ملتمسين من نورك الشفاء من العمى الروحي، والرؤية الجديدة لحياتنا وللتاريخ. اعطنا ان نراك من خلال الخلق واحداث حياتنا اليومية، لنحسن قرءاة العلامات التي تكشف لنا حضور الله الذي يرانا بعين محبته وعنايته ورحمته. واعطنا ان نعكس نورك في اعمالنا ومواقفنا وعلاقاتنا مع الآخرين. ويا مريم علمينا ان نسمع مثلك كلمة الله في القلب، ونجيب عليها بطاعة الايمان في كل ظروف حياتنا الحلوة والمرة، وان نقف مثلك امام صليب الألم بخضوع الارادة وثقة القلب، راجين بداية حياة جديدة، فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***
[1] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 2087- 2094.
[2] . الايمان والعقل،16.
[3] . انجيل الحياة،7.
[4]
.المرجع نفسه،5.