تُرْسَ خَلاصِكَ تُعْطيني و يَمينُكَ تَعضُدُني و على الدَّوامِ تَستَجيب لي ( مز 18 /36)
زمن الصوم - التنشئة المسيحية 2009 - 2010 - البطريرك بشارة الراعي
2009 - 2010
البطريرك بشارة الراعي
مدخل الصوم الكبير
روم 14/14-23
يوحنا 2/1-11
زمن التغيير والتجدد
الصوم الكبير هو بمثابة رياضة روحية تدوم ستة اسابيع، تنتهي برتبة الوصول الى الميناء في احد الشعانين. ثم يليها اسبوع آلام الرب يسوع وصلبه لفدائنا، بحيث يتواصل واجب الصيام حتى سبت النور. ذلك انه قائم على الصلاة والتأمل، الصوم والاماتة، التصدق واعمال المحبة والرحمة. انه زمن التغيير والتجدد، وزمن ترميم العلاقات: مع الله الذي اٍسأنا اليه بالخطيئة، والابتعاد عن دائرة ارادته، والتعلّق بالماديات وتفضيلها عليه، ومع الذات التي شوّهناها بالخطيئة والشر؛ ومع الاخوة المحتاجين الذين جرحناهم باهمالنا لهم، والاخوة الذين أسأنا اليهم.
اولاً، الدخول في الصوم ومقتضياته
برتبة الرماد والصيام ندخل في مسيرة الصوم الكبير. هذا الدخول يعني:
بداية زمن من الالتزام الخاص في المعركة الروحية التي نواجه بها الشر الحاضر في العالم، وفي كل واحد منا، وحولنا. وهو موصوف بشهوات ثلاث: " شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الحياة" (1 يوحنا 2: 16)؛ والنظر الى الشر بالمواجهة، والاستعداد للنضال ضد مفاعيله، وبخاصة ضد اسبابه، حتى سببه الاصلي، الشيطان؛ والاقرار بالمسؤولية الشخصية عن معضلة الشر، وتحملها بوعي الضمير، وعدم رميها على الآخرين او على المجتمع او حتى على الله؛ وتلبية نداء الرب يسوع بحمل الصليب واتباعه بتواضع وثقة (متى16:24). مهما كان الصليب ثقيلاً، فانه ليس سوء حظ، ولا هو شرٌ يجب تجنّبه والهرب منه، بل هو مناسبة لاتباع المسيح، واتخاذ القوة منه للنضال ضد الخطيئة والشر. ولهذا السبب تقام كل يوم جمعة من ايام الصوم الكبير رتبة درب الصليب والزياح والتأمل في آلام المسيح الخلاصية؛ وخيراً تجديد القرار الشخصي والجماعي في مواجهة الشر مع المسيح. فان طريق الصليب هو الوحيد الذي يقود الى انتصار المحبة على البغض، والتقاسم على الانانية، والسلام على العنف.
من كل هذا المنظار يكون الصوم الكبير مناسبة فريدة للالتزام الروحي والتقشفي العميق القائم على نعمة المسيح الذي يجدد لنا الدعوة: " توبوا وآمنوا بالانجيل" ( مرقس1: 15).
تفتتح الكنيسة رحلة الصوم بحضور يسوع ومريم والتلاميذ في عرس قانا الجليل، جنوبي لبنان، وبآية تحويل الماء الى خمرة فائقة الجودة، على طلب من امه، وباعلان الوهيته، للدلالة ان زمن الصوم هو زمن التغيير في جوهر الانسان، وان اللقاء بالمسيح الذي يجري هذا التغيير هو " عرس الانسان الخلاصي".
من انجيل القديس يوحنا 2/1-11.
قال يوحنا الرسول: في اليَوْمِ الثَّالِث، كَانَ عُرْسٌ في قَانَا الـجَلِيل، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاك. ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلامِيذُهُ إِلى العُرْس. ونَفَدَ الـخَمْر، فَقَالَتْ لِيَسُوعَ أُمُّهُ: "لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر". فَقَالَ لَهَا يَسُوع: "مَا لِي ولَكِ، يَا امْرَأَة؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد!". فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَم: "مَهْمَا يَقُلْ لَكُم فَاْعَلُوه!". وكَانَ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حَجَر، مُعَدَّةٌ لِتَطْهيِر اليَهُود، يَسَعُ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ ثَمَانِينَ إِلى مِئَةٍ وعِشْرينَ لِيترًا، فقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَم: "إِملأُوا الأَجْرَانَ مَاءً". فَمَلأُوهَا إِلى فَوْق. قَالَ لَهُم: "إِسْتَقُوا الآنَ، وقَدِّمُوا لِرَئِيسِ الوَلِيمَة". فَقَدَّمُوا. وذَاقَ الرَّئِيسُ الـمَاءَ، الَّذي صَارَ خَمْرًا - وكانَ لا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، والـخَدَمُ الَّذينَ اسْتَقَوا يَعْلَمُون - فَدَعَا إِلَيْهِ العَرِيسَ وقَالَ لَهُ: "كُلُّ إِنْسَانٍ يُقَدِّمُ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ أَوَّلاً، حَتَّى إِذَا سَكِرَ الـمَدعُوُّون، قَدَّمَ الأَقَلَّ جُودَة، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ إِلى الآن!". تِلْكَ كَانَتْ أُولَى آيَاتِ يَسُوع، صَنَعَهَا في قَانَا الـجَلِيل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ.
في عرس قانا الجليل تجلّى سر الكنيسة، اداة الخلاص الشامل وعلامته[1]. لقد تكوّنت من المسيح رأسها، ومريم امها، والرسل كهنة العهد الجديد، والجماعة الحاضرة مع العروسين. ان طلب مريم من ابنها يسوع: "ليس لديهم خمر" ومن الخدم " بصنع ما يقول لهم يسوع"، يسمى تشفع مريم من اجل ابناء الكنيسة وبناتها وكل انسان. وهو تشفّع لا يُخيّب بفضل استحقاقاتها لدى الله الواحد والثالوث: الآب وهي ابنته المطيعة، والابن وهي امه المتواضعة والمتفانية، والروح القدس وهي عروسته النقية الطاهرة.
حضور الرب يسوع في عرس قانا أعطى الزواج كرامته وقدسيته، هو الذي سيرفع هذه المؤسسة الالهية الطبيعية الى رتبة سرّ يولي الزوجين نعمة تقدسهم وتنقي حبهم وتعضدهم في واجباتهم الزوجية والعائلية. ويكون هذا السّر الذي يجمع الزوجين وسيلة لحضور الله الواحد والثالوث حاضراً في حياتهم، كما يتبيّن من الاحتفال الليتورجي بسرّ الزواج.
ان تحويل الماء الى خمر في عرس بشري يستبق تحويل الخمر الى دم المسيح في " عرس الحمل"، الفصحي لخلاص العالم، وفداء الانسان. ويدل ان الحب الزوجي مدعو ليكون، على مثال حب المسيح" للكنيسة عروسته، متفانياً حتى بذل الذات.
والخمرة الجيّدة ترمز الى " خمرة" الروح القدس، هذا الحب الالهي المسكوب في قلب العروسين، الذي يمتزج بحبهما البشري ويقدسّه ويطهّره، بحيث يكون حب الواحد للآخر تجسيداً لحب الله اياه لكل واحد منهما.
هذه الآية الاولى التي حدثت مرة واحدة، هي اياها تتحقق بمفاعيل رموزها في حياة كل عريس وعروس يقترنان بسرّ الزواج، وذلك بقوة الروح القدس الذي يؤوّن ما فعل المسيح بالحضور والكلمات والايات ايام حياته التاريخية.
ان اظهار مجده هو ظهور الوهيته. وايمان التلاميذ هو جواب الانسان على عظائم الله، وعلى ما يوحي من اسراره المكتومة منذ الدهور.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
في كل يوم جمعة من زمن الصوم الكبير نتذكر آلام الرب يسوع لفداء العالم، لنجد فيها دعوة للتوبة، وقيمة لآلامنا، وتضامناً مع كل متألم. من ممارسة درب الصليب التقوية، نتأمل تباعاً في مراحله الاربع عشر.
في المرحلة الاولى والثانية، نتأمل في صلاة يسوع وخيانة يهوذا الاسخريوطي في بستان الزيتون (لوقا 22: 39-53).
ليلة من الألم والصلاة قضاها يسوع تحت جنح الظلام في بستان الزيتون، في وحشة وقلق وخوف، وحيداً، فيما تلاميذه الذين تبعوه قد غلبهم النعاس فاستسلموا للنوم. نبهّهم عند وصولهم: " صلوا لئلا تدخلوا في تجربة". ثم أيقظهم وقال لهم: " لماذا تنامون، قوموا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة".
وحدها الصلاة تقوينا لنغلب تجربة اليأس والتراجع امام المصاعب والمحن والاوجاع، وصمت الله. فيسوع، وقد اقتربت ساعة آلامه، ركع وصلى: " ايها الآب، اذا شئت أبعد عني هذه الكأس. ولكن لا تكن مشيئتي بل مشيئتك". وراح يعرق من الوجع النفسي والحسرة، وعرقه يتساقط كنقاط دم، في جهاد ونضال ضد اليأس والتراجع. فظهر لنا عندئذٍ ملاك أخذ يشدده. لا أحد يستطيع ان يتحمل ألمه من دون تعزية من الله وعضده؛ ولان المسيح بآلامه تضامن مع كل انسان، فقد أعطى لآلام البشر قيمة خلاصية، وجعلها تواصلاً لآلام الفداء. وهو بقوة قيامته يقطع معنا الطريق في ظلمة ليل الوحشة ويشددنا ويعزينا: " طوبى للحزانى، فانهم سيُعزّون" (متى 5: 4).
في تلك الليلة المظلمة، وقد غاب عنها النور، واشتد الألم النفسي والمعنوي، وتفاقم الحقد والبغض، وبلغت الخيانة ذروتها، وصل يهوذا الاسخريوطي على رأس فرقة من عظماء الكهنة والشيوخ وقوّاد حرس الهيكل، حاملين سيوفاً وعصياً ليعتقلوه. تقدّم يهوذا ليقبّل يسوع، فبادره الرب: " أبقبلة تسلّم ابن الانسان"؟ وبهذا ندّد يسوع بكل خيانة تُرتكب، وبكل مبادله للخير بالشر بداعي الحسد والمتاجرة والضعف في الشخصية. هذه مأساة تتجدد كل يوم في مجتمعنا: خيانات وعدم امانة وغش واحتيال وجحود. ولكن بعد الخيانة يأتي اليأس القاتل، كما جرى ليهوذا، بدلاً من التوبة والتعويض.
الى جانب العزلة النفسية وابتعاد الجميع عنه، وقد اختبرهما يسوع في بسيتان الزيتون وشربهما كأس مرارة، جاءت الخيانة من أحد تلاميذه الذين أحبهم واختارهم ليكونوا كهنة العهد الجديد، المؤتمنين على رسالة الخلاص. وجاء العنف مع فرقة يهوذا. ولما ضرب بالسيف احد تلاميذه واحداً من خدام عظماء الكهنة، وقطع اذنه، قام يسوع بمبادرة نبوية، فلمس اذنه وشفاه. واعطى الامثولة بعدم مواجهة الشر بالشر، والعنف بالعنف، بل الانتصار على الشر بالخير، وعلى العنف بالسلم.
وخاطب يسوع ضمائر الفرقة المسلّحة، كاشفاً ضعف نفوسهم وازدواجيتهم: "أكما على لصّ حملتم عليّ بسيوف وعصيّ، وقد كنت كل يوم معكم في الهيكل، فلم تمدوا عليّ يداً!". وقال لهم حقيقتهم المرّة القاتلة لنفوسهم: " ولكن هذه هي ساعتكم، وهذا هو سلطان الظلام!".
***
ثالثاً، سنة يوبيل مار مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)
في بداية سنة يوبيل مار مارون، وهي بعنوان " شهادة ايمان ومسيرة شعب"، وجّه البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير رسالة عامة للمناسبة، ترسم خطوط هذه الشهادة الايمانية وهذه المسيرة الرسالية.
1. اهداف السنة اليوبيلية
تبغي السنة اليوبيلية، من خلال نشاطاتها واحتفالاتها، الوصول الى الاهداف التالية:
1) مسيرة صلاة وفحص ضمير وفعل توبة وتفكير عميق من اجل تنقية القلوب وتغيير الذهنيات.
2) استخراج القيم المارونية من حياة القديس مارون والتقليد الماروني، من اجل التزام الموارنة دينياًُ وكنسياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً.
3) طرح اسئلة امام الله حول الذات المارونية والامانة للهوية الخاصة والرسالة الانجيلية، ومدى الالتزام بعيشهما مع الشهادة للمسيح الرب والمخلص في عالم اليوم.
4) اعادة اكتشاف الجذور وتوعية الاجيال الطالعة عليها، وعلى الدور والرسالة في مواجهة تحديات الحضور المسيحي في الشرق.
1. نقطة الانطلاق: روحانية القديس مارون
سلك مارون طريق القداسة التي هي صفة الله وميزته الجوهرية، فسعى الى اقامة علاقة وطيدة بالله عن طريق الايمان والصلاة والتأمل واخلاء الذات بالامانة والتقشّف والعيش في العراء. وكان يبغي في كل ذلك الانتماء الى الله لا الى الذات، وممارسة صلاة القلب لا صلاة الشفاه، والحب المطلق لله، وعمق الايمان بالمسيح الذي يستدعي اماتة الجسد من اجل تحرير الروح.
لقد غرس مارون بالقرب من انطاكية " حديقة النسك" القائمة على ملاقاة الله مباشرة وعامودياً في العراء، هروباً من مجتمع وثني في الامبراطورية الرومانية، ومن مجتمع مسيحي بالمظهر في الامبراطورية البيزنطية. ومن هذه الحديقة النسكية حمل هو، ورهبانه، الرسالة الانجيلية ببهائها الاول الرامية الى انماء الشخص البشري الذي من اجله صار الله انساناً بشخص المسيح، ليغنيه بالقيم الروحية.
وشكّل القديس مارون حالة روحية اشعاعية، تكوّنت منها الكنيسة المارونية، كنيسة النسك والعبادة والقداسة.
***
صلاة
ايها الرب يسوع على مثالك ندخل الصوم الاربعيني، راجين ان يكون، بكلمتك ونعمتك ومثالك، زمن استنارة وتوبة، زمن تغيير وتجدد. اننا نبغي ترميم العلاقة بالله وبالذات وبالاخوة. في آية تحويل الماء الى خمرة فاخرة، اردت ان ترمز الى تحويل باطن الانسان، ليكون في بيئته وبيته وكنيسته خمرة حب وفرح وخدمة. ويا مريم، علّمينا ما يجب ان نصنع، لكي نستحق عملية هذا التحويل في جوهر الذات.
في ذكرى آلامك الخلاصية، ايها المسيح، شددنا في السهر والصلاة لكي ننتصر على التجارب والمحن، اعطنا ان نشعر بقربك منا لنخرج من كل عزلة تفسية او معنوية.
في سنة يوبيل القديس مارون، ادخلنا الى جوهر اليوبيل وغايته، فيكون زمن التزام في السير بروحانية القديس مارون التى ترفع من المادية والاستهلاكية وعبادة الذات الى قمم الروح وبهاء قداسة الله وتفاني المحبة. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***
شفاء الابرص
روم 6/12-23
مرقس 1/40-45
التحرر من برص النفس
آية شفاء الابرص في الاسبوع الثاني من زمن الصوم علامة لرحمة الله وحنانه نحو بؤس الانسان، ولقدرته المتجلية في المسيح، الكاهن الازلي، على ازالة الخطيئة بالغفران والحياة الجديدة. تفعل الخطيئة في النفس فعل البرص في الجسد. وكلاهما تشويه وعزلة وموت. يتكلم نص الانجيل عن شفاء الابرص، ورسالة القديس بولس عن الخطيئة والتحرر منها.
اولاً، القراءات البيبلية
انجيل القديس مرقس 1: 40-45
أَتَى الى يَسُوعُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه، فجَثَا وقَالَ لَهُ: "إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي!". فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: "قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!". وفي الـحَالِ زَالَ عَنْهُ البَرَص، فَطَهُرَ. فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ وصَرَفَهُ حَالاً، وقالَ لَهُ: "أُنْظُرْ، لا تُخْبِرْ أَحَدًا بِشَيء، بَلِ اذْهَبْ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِن، وَقَدِّمْ عَنْ طُهْرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُم". أَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وبَدَأَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ويُذِيعُ الـخَبَر، حَتَّى إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا أَنْ يَدْخُلَ إِلى مَدِينَةٍ عَلانِيَة، بَلْ كانَ يُقِيمُ في الـخَارِج، في أَمَاكِنَ مُقْفِرَة، وكانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَان.
مشكلة البرص في الاعتقاد القديم مثلثة: انه مرض معدٍ يتآكل الجسم، وقصاص على خطيئة صاحبه او اهله، وفصل المريض عن حياة الجماعة. كانت الشريعة الكتابية توجب احضار الشخص المشبوه بالمرض امام الكاهن، لكي يتأكد من الامر ويعلن ان هذا الرجل مصاب بالبرص. فيتوجب عليه ان يلبس ثياباً رثّة، ويكشف رأسه، ويطوّل لحيته، ويصيح: نجسّ، نجسّ! ينعزل عن الجماعة، ويعيش خارج المحلّة المـأهولة (الاحبار 13: 1-3؛44-46).
أما مع المسيح فتبدّل كل شيء.
لقد مرّ بالمكان حيث كان الابرص، واتاح له امكانية الوصول اليه، والوقوع على قدميه والتماس الشفاء، خلافاً لما كان مفروضاً على الابرص. ويسوع لمسه بيده، فيما كان اهل زمانه يمنعون الاقتراب منه تجنباً للعدوى. ما يدل ان محبة يسوع ورحمته أقوى من الخوف من البرص. وقال له يسوع الكلمة الالهية الارفع والابسط: "لقد شئت، فاطهر" ( مر1: 41).
يعيش في العالم اليوم حوالي عشرين مليون ابرص. ولكن يوجد امراض تسمى " البرص الجديد" مثل الايدز والمخدّرات. هؤلاء المصابون ينبذهم المجتمع، ويفصلهم عن الجماعة، فيعيشون على هامشها. غير ان تصرف المسيح مع الابرص يعلمنا ان نمدّ يدنا اليهم، ونساعدهم ونشجعهم ونخفف من وحشتهم. ولنا امثال في شخص كل من القديس فرنسيس الاسيزي وراؤل فولّيرو (+1973).
الخطيئة هي برص النفس
انها تشوّه النفس بحيث تنتزع منها بهاء الصورة الالهية، وتميل بالعقل نحو الكذب، وبالارادة نحو الشر، وبالقلب نحو الحقد والبغض. ومن المعلوم ان زينة النفس هي العقل موطن الحقيقة، والارادة موطن الخير، والقلب موطن المحبة والمشاعر الانسانية.
كما اعاد يسوع النضارة والنقاء لجسد الابرص بشفائه، كذلك بالغفران الالهي وقوة الروح القدس يعيد يسوع الى النفس نقاوتها.
الخطيئة تستعبد النفس والجسد للخطيئة، كما يصفها القديس بولس الرسول في رسالته لهذا اليوم (روميه6: 12 و20 و21). والغفران يحرر منها ومن الموت الروحي الذي تتسبب به. والغفران يجعلنا عبّاداً لله احراراً، ويعطينا الحياة الالهية. أن كلمة المسيح للابرص " لقد شئت، فاطهر" اصبحت اليوم للتائب الملتمس مغفرة الخطايا من الله: " انا بالسلطان المعطى لي احلّك باسم الآب والابن والروح القدس".
مطلوب من كل واحد منا الاقرار بخطاياه، وبكشف جرحاته لمن هو قادر على شفائها. ينبغي تجاوز المقاومة الداخلية والحياء البشري امام ثقافة مجتمع ينكر الخطيئة، ويتكلّم عنها بهزء. ملك فرنسا القديس لويس التاسع قال يوماً في العلن: "أفضّل ثلاثين مرة ان أصاب بالبرص من ان ارتكب خطيئة مميتة واحدة".
الخطيئة تكسر الشركة مع الكنيسة، المتمثلة بالجماعة الرعوية، فلا بدّ من اجل استعادتها من ان يلجأ الخاطىء التائب الى الكاهن، رأس الجماعة وراعيها، لكي يعيدها اليه بالغفران والمصالحة، مثلما اعاد كاهن العهد القديم الابرص الذي شفي الى حياته وسط الجماعة. لهذا السبب قال يسوع للابرص: " اذهب الى الكاهن، وأره نفسك" (مر1: 44). فكما ان الكاهن هو الذي أعلن مرضه وفصله عن الجماعة، كذلك هو نفسه يعلن شفاءه وعودته الى حياة الجماعة.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
نتأمل في الحكم على يسوع بالموت. حكم عليه اولاً مجلس شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة والكتبة وعددهم 71، لانه قال عن نفسه انه المسيح ابن الله، مجيباً على السؤالين الموجهين اليه (لوقا22: 66-71). ان الذين حكموا عليه هم ابناء جماعته الدينية، وابناء وطنه. كتب عنه يوحنا في مقدمة انجيله: " جاء الى خاصته، وخاصته لم تعرفه" (يو11: 11). وفيه تمّت صلاة المزمور: " لو أن عدواً عيّرني لاحتملته، ولو أن مبغضي تعاظم حقده عليّ لتواريت عنه، ولكنك انت، يا حليفي وأنيسي، يا من تربطني به أحلى معاشرة، حين كنا معاً في بيت الله نسير" (مز55: 13-14).
العرفان بالجميل فضيلة سامية، ما احوج مجتمعنا اليها، كعلامة للحضارة الانسانية والخلقية وللترقّي. انها في اساس الحياة العائلية والاجتماعية.
اراد يسوع ان يرتقي بهم الى سمو دعوتهم المتجلية فيه: حين قال: " ان ابن الانسان سيجلس عن يمين الآب". فاستنتجوا وسألوه: " انت اذاً ابن الله؟" وعندما اجابهم: " انتم تقولون اني هو"، اثبتوا الجريمة ولم يدركوا ان هذا ابن الله صار انساناً ليشرك الانسان في حياته الألهية. ومن جهة ثانية، بقوله الحقيقة من دون خوف او هرب، يدعونا يسوع الى الشهادة للحقيقة بجرأة وبالصوت العالي.
ثم حكم الوالي بيلاطس على يسوع بالموت، نزولاً عند الحاح رؤساء الكهنة والقادة والشعب، رغم اقتناعه وترداده ان يسوع بريء ولا يستحق الموت. ونزولاً عند رغبتهم، عفا عن برأبّا القاتل والمجرم، بمناسبة عيد الفصح، وأسلم يسوع الى مشيئتهم (لو23: 13-25).
ان بيلاطس، بموقفه المتراجع عن الحقيقة والعدل، ارضاء للرؤساء وللشعب الاعمى والمعتدي، انما يجسّد صورة المسؤول الجبان. فيه ينكشف كل صاحب سلطة غير مكترث للعدالة والحق الذي يعطي الاولوية للوصولية والاستمرار في السلطة. هذه اللاأخلاقية في ممارسة السلطة تشلّ الضمير، تطفىء وخزه وتنحرف بالعقل، فتسهل الجريمة في اصدار حكم جائر وظالم بكل بساطة. ان لبيلاطس سابقة مماثلة كتب عنها لوقا في انجيله، وهي انه " خلط دماء الجليليين بذبائحهم" (لو13: 1). ان عدم الاكتراث هو الموت البطيء للانسانية الحقة. بحسب رؤية يوحنا في انجيله، دعا يسوع بيلاطس الى معرفة الحقيقة والى الاستناد اليها ليواجه مطلب الشعب الحاقد، لكنه رضخ لجبانته ووصوليته وموت ضميره. فاكتفى بالسؤال العابر: " ما هي الحقيقة؟". وخاف من معرفتها، فعفا عن برأبّا وأسلم يسوع (يو18: 37-40). على كل حال يبقى السؤال: "وما هي الحقيقة؟" مطروحاً على كل ضمير امام الشك والحيرة والنسبية الاخلاقية. اذا اجاب عليه الانسان بجديّة واخلاص، وجد المخرج الآمن,
***
ثالثاً، سنة يوبيل القديس مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)
السنة اليوبيلية دعوة للعودة الى الجذور من اجل تجديد الحاضر، كما يتوسع فيها السيد البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير في رسالته العامة للمناسبة.
1. جذور الكنيسة المارونية متأصلة في روحانية القديس مارون
استطاع القديس مارون ان يضع القاعدة الروحية للكنيسة المارونية التي تحمل اسمه، بفضل عيشه المخلص للانجيل، وايمانه الحي، ونشاطه الخارق، ونمط حياته المثالي، وكرازته النبوية، واشعاعه وتألقه في محيطه. لقد تميّز ببطولات ثلاث هي اساس الروحانية الكنسية المارونية.
أ- البطولة الروحية، تجلت في نهج الاقامة في العراء وفوق عمود، للتعبير عن التعلق بالوطن السماوي، وللاقتراب من الله بالانفتاح على السماء، والتحرر من الارض حتى الانفصال عنها. مثاله المسيح المعلق على الصليب في العراء.
ب- البطولة الانسانية، بلغت ذروتها بقوة الايمان والكهنوت والنسك وخدمة شعب الله حتى القدرة على اجتراح العجائب.
ج- البطولة الرسولية، ظهرت في الهداية والارشاد والتبشير بالانجيل وتحويل الهياكل الوثنية الى كنائس لعبادة الله وتقديس المؤمنين.
هذه البطولات الثلاث اعطت مارون قوة التأسيس، وجعلته رجل البدايات، والاساس الايماني الصلب الذي بُنيت عليه الكنيسة المارونية. فكانت بمثابة حركة مسيحية روحية تجددية، تجسّد توق الانسان المطلق الى الله والى الحرية، وانفتاحه على محيطه بخدمة كلمة الانجيل التي ترتقّي بالانسان والمجتمع.
2. شهادة ايمان ومسيرة و شعب
هذا هو عنوان السنة اليوبيلية، الذي يعبّر عن المراحل الخمس التي مرّ بها الموارنة في تكوين كنيستهم، هوية وبُنية ورسالة.
انطلقت المارونية من شخص فرد هو مارون الكاهن الناسك، ثم كوّنت مجموعة من التلاميذ المقتفين مثاله، اصبحت فيما بعد جماعة دينية منظمة معروفة " ببيت مارون"، الى ان صارت جماعة مؤسسة ذات وجهين: الاول، روحي جعلها كنيسة، والثاني، سوسيولوجي جعلها طائفة. واخيراً انتقلت الى مستوى الوجدان الجماعي، المعروف بالايديولوجية او العقيدة المارونية. هذه المراحل المرتبطة والمتكاملة جعلت من الموارنة " امّة" تحمل في طياتها بذور كيان وطن، حققته على ارض لبنان، عبر العصور، انطلاقاً من حدث مؤسس للتاريخ الماروني، هو الهجرة من سوريا الى لبنان. لقد وضع الموارنة في اساس تاريخهم التخلي عن الراحة والغنى في ارض الفقر والزهد مع الكرامة، والهرب من الاضطهاد، والبحث عن الحرية والاستقلال الذاتي. من كل هذا وُلد الوجدان الماروني، وسيظل كله المفسّر لكل أحداث تاريخ الموارنة. وبما ان الايمان الذي عاشه مارون الناسك أصبح قوة تفعل في تاريخ شعب، فان البعد الايماني عند الموارنة يعطي معنى لتاريخهم.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، اليك نلتجىء مثل الابرص، في زمن الصوم، ملتمسين الشفاء من برص النفس الذي هو حالة الخطيئة التي تشوّه صورة الله فينا. معك ايها المسيح يتبدّل كل شيء، لان منك الغفران والمصالحة والحياة الجديدة. قوِّ كل حامل سلطة لكي يدافع بشجاعة عن الحقيقة والعدالة، مصغياً الى صوت الله في اعماق ضميره، لا الى صوت المصلحة الذاتية او خوفاً من المغرضين. في سنة يوبيل القديس مارون، ساعدنا، بشفاعته، على عيش بطولاته الثلاث: الروحية والانسانية والرسولية. أيقظ فينا الوجدان الماروني التاريخي من اجل حماية الايمان والكيان. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن والى الابد، آمين.
***
شفاء المرأة النازفة
2 قورنتس 7/4-11
لوقا 8/43-48
الصلاة والألم باب الرجاء
المرأة النازفة لم تجد رجاءها الا في المسيح، من بعد ان خيّب آمالها فن الطب، وقد انفقت كل مقتناها. فقصدت يسوع بصلاة صامتة ظهرت في مبادرتها بلمس طرف ثوبه، بايمان وطيد انها بهذا اللمس ستنال نعمة الشفاء. الصوم الكبير هو زمن الصلاة والرجاء.
اولاً، القراءات البيبلية
من انجيل القديس لوقا 8: 43-48
َكانَتِ امْرَأَةٌ مُصَابَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَشْفِيَهَا.دَنَتْ مِنْ وَرَاءِ يَسُوع، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَفَجأَةً وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. فَقَالَ يَسُوع: "مَنْ لَمَسَنِي؟". وَأَنْكَرَ الـجَمِيع. فَقَالَ بُطْرُسُ وَمَنْ مَعَهُ: "يا مُعَلِّم، إِنَّ الـجُمُوعَ يَزْحَمُونَكَ وَيُضَايِقُونَكَ!". َقَالَ يَسُوع: "إِنَّ واحِدًا قَدْ لَمَسَنِي! فَإنِّي عَرَفْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي!".وَرَأَتِ الـمَرْأَةُ أَنَّ أَمْرَها لَمْ يَخْفَ عَلَيه، فَدَنَتْ مُرْتَعِدَةً وارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيه، وَأَعْلَنَتْ أَمَامَ الشَّعْبِ كُلِّهِ لِماذَا لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ شُفِيَتْ لِلْحَال. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: "يا ابْنَتِي، إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!.
الصلاة والرجاء ظهرا في آية شفاء المرأة النازفة منذ اثنتي عشرة سنة. من الصلاة والألم تعلّمت الرجاء بالمسيح وبقوة هذا الرجاء اقتحمت الجمع خلسة ولمست طرف ثوب يسوع، يقيناً منها انها ستشفى. فلم يخيّبها رجاؤها. والرجاء لا يخيّب.
يدعونا الصوم الكبير الى الصلاة والتوبة والصيام، وهي مناسبة دبّرتها العناية الالهية، من شأنها ان تجعل رجاءنا اكثر حيوية وصلابة. الصلاة بايمان تغذي الرجاء. ومن دون الصلاة لا يوجد رجاء[2].
لقد صلّت المرأة النازفة وتألمت شديداً من جراء نزف دمها منذ اثنتي عشرة سنة. فتشدد ايمانها وعظم رجاؤها، وكانا لها الدواء الوحيد الذي شفاها، بشهادة الرب يسوع: " تشجعي يا ابنتي! ايمانك احياك! اذهبي بسلام" ( لو8:48).
المرأة المتألمة منذ اثنتي عشرة سنة تمثّل كل انسان يتألم في وحدة موحشة خائفة، وكأنه متروك من الله والناس، هذا الاختبار عاشه يسوع اربعين يوماً في البرية حيث كان يصلي لابيه سراً ويصوم ويجوع، فانتصر على تجارب الشيطان الثلاث (متى 4: 1-11). وعاشه في بستان الزيتون حيث في الحزن والحسرة الخانقة صلّى لأبيه سراً: " الهي، الهي، لماذا تركتني؟" (متى 27: 46؛ مز 21: 1). انها صرخة كل انسان متألم يشعر وكأن الله غائب عنه، بل هي صرخة البشرية جمعاء. وتكتمل صرخة الصلاة هذه بالثقة البنوية الكبيرة والمطمئنة: " يا ابتِ بين يديك استودع روحي" (لو23: 46؛ مز 30:6).
ان الله هو مرساة الخلاص الوحيدة، عنده يجد كل متألم الشفاء الروحي والمعنوي والجسدي. المرأة " كانت انفقت جميع مقتناها على الاطباء، ولم يستطع احد ان يشفيها" ( لو8: 43). هذه هي الغاية من زمن الصوم الكبير. نعود الى الله، نبحث عنه بالصلاة والصوم والتصدق في الخفاء. وهو الذي يرى في الخفية يجازي ويشفي (متى6: 4 و6 و18). نبحث عن الله لنخرج من همومنا ومشاكلنا وامراضنا ووحشتنا، ونبتهل اليه في هذا الزمن المقبول، زمن الصوم، بصلاة الملكة استير: " ايها الرب ملكنا، انت الاوحد. أغثني أنا الوحيدة، والتي لا نصير لي سواك. فاني أخاطر بنفسي" (استير 4: 17). بوجه المخاطر الكبيرة نحتاج الى رجاء كبير، وهذا لا يتكل إلاّ على الله. وبقدر ما يكون الرجاء كبيراً، بقدر ذلك تكبر طاقتنا على احتمال الالم[3].
نزيف المرأة يرمز الى نزيف القيم من جراء الخطايا التي لا يتوب عنها الانسان، فتتراكم وتظهر في فقدانه القيم الروحية والاخلاقية والانسانية والاجتماعية. هذه حال عصرنا وبيئتنا. الصوم الكبير هو زمن الوقوف امام الله والانجيل وتعليم الكنيسة، زمن اللجوء الى المسيح لالتماس نعمة الشفاء من خلال وسائل ثلاث: الصلاة والتوبة لاستعادة القيم الروحية؛ الصوم والامانة لاستعادة القيم الانسانية؛ التصدق واعمال الرحمة لاستعادة القيم الاجتماعية.
والقديس بولس في رسالته لهذا الاحد يدعونا الى حالة الاسف عن الخطايا ونزيف القيم، فالى العودة الى الله بالتوبة لنيل المغفرة والحياة الالهية التي تنعشنا بالقيم. هكذا يخاطبنا، كما خاطب اهل كورتنس: " لقد فرحت كثيراً، لان حزنكم اتى بكم الى التوبة، ولانكم حزنتم في سبيل الله، فلم تخسروا شيئاً. لان الحزن في سبيل الله يصنع ندامة لا رجوع عنها، فتُعيد الحياة، وحزن العالم يصنع موتاً" ( 2 كور 7: 9-10).
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
في مسيرة الصليب نتأمل يسوع الذي يُجلد ويكلل باكليل من شوك، ويحاط بالهزء والسخرية (لو22: 63-65؛ يو19: 2-3). لقد تمّت نبوءة يسوع التي سبق وقالها للاثني عشر: " ها نحن صاعدون الى اورشليم، ويتمّ كل ما كُتب في الانبياء على ابن الانسان، لانه يُسلّم الى الشعب، فيهزأون به، ويتفلون في وجهه، ويجلدونه ويهينونه ويقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم" (لو18: 31-33).
هذا كله جرى داخل دار الولاية، فيما الشعب ينتظر في الخارج موكب الحكم بالصلب. لقد تمّ في الداخل عمل مشين ومخزِ بحق البشرية والحقيقة والعدل، سيتكرر عبر الاجيال بألف نوع وشكل في ظلمات الاقبية والسجون. يسوع يتضامن مع كل المعذّبين في اجسادهم، والمحقرين في كرامتهم ونفوسهم، من خلال ما تعرّض له من جلد وسخرية واساءة جسدية ومعنوية. وبهذا التضامن يشجع ويعزّي هؤلاء المعذّبين مثله، ويعطي قيمة خلاص وفداء لآلامهم، اذا عرفوا ان يقرنونها بآلامه البريئة التي افتدى بها الجنس البشري وخلّصه بقيامته.
فيما كان الحراس يسخرون من يسوع على انه نبي، كما روى انجيل لوقا (22: 63-65)، راح الجنود بهزأون بملوكيته: فضفروا على رأسه اكليل الشوك بدلاً من التاج الملوكي، وألبسوه كميصاً احمر بدلاً من وشاح الارجوان الملكي، وصفعوه على وجهه بدلاً من انحناءة الاجلال للملك، وقالوا له هازئين: "سلاماً يا ملك اليهود" بدلاً من التحية للامبراطور: " سلام ايها القيصر" ( انظر يو 16: 2-3).
احتمل يسوع كل الألم والاساءة والسخرية لكي يفتدي الانسان، ويحرره من روح الوحشية، ويرتفع به الى مستوى بهاء الصورة الالهية. وترك للعدل الالهي مصيره، فكانت قيامته من بين الاموات، وكان انتصاره على الخطيئة والحقد والشر، وجعلنا في حالة قيامة الى النعمة والمحبة والخير. ولهذا دعانا بولس الرسول " لان نتخلّق باخلاق المسيح..." (فيليبي 2: 5). لقد تحوّل يسوع من ملكُ الهزء والسخرية الى الملك المطلق في السماء وعلى الارض، الذي تجثو له كل ركبة، وبه يعترف كل لسان (انظر فيليبي 2: 10-11).
هذا الملك الالهي هو الذي سيدين الشعوب، فيحكم بالهلاك الابدي على كل الذين ينتهكون حرمة الجسد والنفس والروح عند اي انسان، ويشرك في مجده ليس فقط ضحايا هؤلاء الظالمين، بل وكل الذين أطعموا جائعا وسقوا عطشاناً وكسوا عرياناً واستقبلوا غريباً وزاروا مريضاً وافتقدوا سجيناً ( متى25: 31-46).
ان وجه يسوع، الذي تجلّى في بهاء الالوهة المشع على جبل طابور (لو9: 29) هو الآن مشوّه بايدي الحاقدين، وان الذي هو "ضياء مجد الله وصورة جوهره"(عبرانيين 1: 3)، يُذلّ الآن ويقبّح، تماماً كما وصفه آشعيا منذ خمسة مئة سنة من قبل: " أسلمت ظهري للضاربين، وخدّي للتافلين، ولم أستر وجهي عن الاهانات والبُصاق" (اشعيا 50: 6).
يعلمنا الرب يسوع بمثله ان نحتمل انتهاك كرامتنا من اجل الخير العام، من اجل الحق والعدل، من اجل الخير الاكبر. على لسانه يضع اشعيا نبوءته:
" السيّد الرب ينصرني، لذلك لم أخجل من الاهانة. ولذلك جعلت وجهي كالصوان، وانا عالم باني لا اُخزى. من منكم يخاف الرب فليسمع صوت عبده. ومن يسير في الظلمات ولا ضوء له، فليتوكّل على اسم الرب، وليعتمد على الهه" (اشعيا 50: 7 و10).
ثالثاً، سنة يوبيل القديس مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)
من رسالة السيد البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير العامة بمناسبية سنة اليوبيل، نتوقف عند الهوية المارونية.
حدد المجمع البطريركي الماروني الهوية المارونية بستة عناصر[4]:
1. هي كنيسة انطاكية سريانية ذات تراث ليتورجي خاص. بانطاكيتها تحمل امانة مثلثة: للهوية المسيحية الاساسية، لان في انطاكية دُعي تلاميذ المسيح لاول مرة مسيحيين (اعمال11: 26)؛ وللنفحة الرسولية، لان الكنيسة الانطاكية نشأت من تبشير الرسل وانفتحت على الامم؛ وللوحدة وللشركة الكاملة والمستمرة مع خليفة بطرس وكنيسة رومية. وبوصفها سريانية، فانها تحمل تراثاً لاهوتياً وروحياً وليتورجياً وقانونياً، مميّزاً بالطابع المريمي، والدعوة الى التوبة، ورجاء ملاقاة العروس السماوي في نهية الزمن. لم تبنَ الكنيسة المارونية على قاعدة اتنية او عرقية او جغرافية.
2. هي كنيسة خلقيدونية تؤمن بشخص المسيح الالهي الواحد وبطبيعتيه الكاملتين، الالهية والانسانية. وبهذه الصفة تحافظ على امانتها لسرّ التدبير الخلاصي بالمسيح، ولمفاعيل سرّ التجسّد، عبر الاتحاد الدائم بالله وعيش روحانية التجسّد في بيئتها المشرقية، من اجل ترقي الانسان والمجتمع بشمولية ابعاده.
3. هي كنيسة بطريركية ذات طابع كنسي ورهباني، وفقاً للتقليد الكنسي القديم، بحيث ان المجامع المسكونية الاولى اعترفت بالمؤسسة البطريركية. يرئس البطريرك كنيسته بمثابة اب ورأس، ويمارس سلطته عليها بالمجمعية الاسقفية، عبر السينودس البطريركي، وبروح التشاور والتوافق في الشؤون الكنسية العامة. اما طابعها النسكي الرهباني فيميّز روحانيتها وتنظيمها الكنسي، هي التي تكوّنت جماعة كنسية في دير مار مارون وفي ما حوله من اديار وجماعات مؤمنة، وتنظّمت بهيكلية نسكية وراعوية.
4. هي كنيسة في شركة تامة مع كرسي روما على اساس العقيدة الخلقيدونية. بفضل هذه الشركة استطاعت ان تؤدي رسالتها في محيطها بحيوية وفعالية.
5. هي كنيسة متجسّده في بيئتها اللبنانية والمشرقية، تنفحها بقيم الانجيل وتؤثر في تكوين ثقافتها، وتخدم تدبير الله الخلاصي لكل الناس في الزمان والمكان. لقد انطلقت من الدير الى الوطن.
6. هي كنيسة ذات طابع رسالي، تنتشر في مختلف البلدان، خارج النطاق البطريركي، وتتفاعل مع الثقافات المحلية من خلال تراثها وروحانيتها. انها مدعوة لتجمع دائماً بين الوطن الروحي، لبنان، حيث البطريركية وكل تراثها الكنسي واللاهوتي على المستوى العمودي، وبين انتشارها الكوني على المستوى الافقي.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، بالرجاء الوطيد نقبل كلمة الانجيل وتعليم الكنيسة ونتقبّل نعمة الغفران بالتوبة، ونغتذي بجسدك ودمك، راجين ان يتوقف نزيف قيمنا الروحية والانسانية والاجتماعية. اعطنا ان نضمّ الى آلامك الخلاصية كل ما يصيبنا من اساءة واذلال وهزء بالكرامة الشخصية، من اجل الخير الاكبر. في سنة يوبيل القديس مارون، انرنا بانوار روحك القدوس لكي ندرك هوية كنيستنا المارونية المتنوعة العناصر، فيتحقق هدف اليوبيل الذي هو شهادة ايمان ومسيرة حياة، لكي نسبح الثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***
الابن الشاطر
2 كورنتس 13/5-13
لوقا 15/11-32
الخطيئة والتوبة وثمار المصالحة
في انجيل اليوم تتأمل الكنيسة في مثل الابن الشاطر الذي من خلاله يعلّم يسوع معنى الخطيئة والتوبة وثمار المصالحة. ومع بولس تدعو كل انسان وكل جماعة مؤمنة للعيش في الفرح والوفاق والسلام الآتية من الله الواحد والثالوث.
اولاً، القراءات البيبلية
انجيل القديس لوقا 15: 11-32.
قالَ الربُّ يَسُوع: كانَ لرجل َابنان. فَقالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيه: يَا أَبي، أَعْطِنِي حِصَّتِي مِنَ الـمِيرَاث. فَقَسَمَ لَهُمَا ثَرْوَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَة، جَمَعَ الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ حِصَّتِهِ، وسَافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعِيد. وَهُنَاكَ بَدَّدَ مَالَهُ في حَيَاةِ الطَّيْش. وَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيء، حَدَثَتْ في ذلِكَ البَلَدِ مَجَاعَةٌ شَدِيدَة، فَبَدَأَ يُحِسُّ بِالعَوَز. فَذَهَبَ وَلَجَأَ إِلى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ ذـلِكَ البَلَد، فَأَرْسَلَهُ إِلى حُقُولِهِ لِيَرْعَى الـخَنَازِير. وَكانَ يَشْتَهي أَنْ يَمْلأَ جَوْفَهُ مِنَ الـخَرُّوبِ الَّذي كَانَتِ الـخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، وَلا يُعْطِيهِ مِنْهُ أَحَد. فَرَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَقَال: كَمْ مِنَ الأُجَرَاءِ عِنْدَ أَبي، يَفْضُلُ الـخُبْزُ عَنْهُم، وَأَنا هـهُنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَمْضي إِلى أَبي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، خَطِئْتُ إِلى السَّمَاءِ وَأَمَامَكَ. وَلا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. فَاجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ! فَقَامَ وَجَاءَ إِلى أَبِيه. وفِيمَا كَانَ لا يَزَالُ بَعِيدًا، رَآهُ أَبُوه، فَتَحَنَّنَ عَلَيْه، وَأَسْرَعَ فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ عَلى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ طَوِيلاً. فَقالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبي، خَطِئْتُ إِلى السَّمَاءِ وَأَمَامَكَ. وَلا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. فَقالَ الأَبُ لِعَبيدِهِ: أَسْرِعُوا وَأَخْرِجُوا الـحُلَّةَ الفَاخِرَةَ وَأَلْبِسُوه، واجْعَلُوا في يَدِهِ خَاتَمًا، وفي رِجْلَيْهِ حِذَاء، وَأْتُوا بِالعِجْلِ الـمُسَمَّنِ واذْبَحُوه، وَلْنَأْكُلْ وَنَتَنَعَّمْ! لأَنَّ ابْنِيَ هـذَا كَانَ مَيْتًا فَعَاش، وَضَائِعًا فَوُجِد. وَبَدَأُوا يَتَنَعَّمُون. وكانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ في الـحَقْل. فَلَمَّا جَاءَ واقْتَرَبَ مِنَ البَيْت، سَمِعَ غِنَاءً وَرَقْصًا. فَدَعا وَاحِدًا مِنَ الغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هـذَا ؟ فَقالَ لَهُ: جَاءَ أَخُوك، فَذَبَحَ أَبُوكَ العِجْلَ الـمُسَمَّن، لأَنَّهُ لَقِيَهُ سَالِمًا. فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُل. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه. فَأَجَابَ وقَالَ لأَبِيه: هَا أَنا أَخْدُمُكَ كُلَّ هـذِهِ السِّنِين، وَلَمْ أُخَالِفْ لَكَ يَوْمًا أَمْرًا، وَلَمْ تُعْطِنِي مَرَّةً جَدْيًا، لأَتَنَعَّمَ مَعَ أَصْدِقَائِي. ولـكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هـذَا الَّذي أَكَلَ ثَرْوَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ العِجْلَ الـمُسَمَّن! فَقالَ لَهُ أَبُوه: يَا وَلَدِي، أَنْتَ مَعِي في كُلِّ حِين، وَكُلُّ مَا هُوَ لِي هُوَ لَكَ. ولـكِنْ كانَ يَنْبَغِي أَنْ نَتَنَعَّمَ وَنَفْرَح، لأَنَّ أَخَاكَ هـذَا كانَ مَيْتًا فَعَاش، وَضَائِعًا فَوُجِد".
هو يسوع المعلم الالهي يشرح لنا في هذا المثل مفهوم الخطيئة، وطريق التوبة وثمار المصالحة الشخصية والجماعية.
1. مفهوم الخطيئة (لوقا 15: 12-16)
ان الابن الاصغر الذي طلب من ابيه ان "يشطر" اي " يقسم" له حصته في الميراث، وراح يعيش بعيداً عن الشركة مع ابيه واهل بيته, يمثّل كل انسان يتعلق بخيرات الدنيا، التي هي عطية من الله، ويبتعد عن الله ويخرج من اطار الجماعة الكنسية التي ينتمي اليها.
هذا هو جوهر الخطيئة: انها التعلّق بالذات وبخيرات الارض المادية والثقافية وباشخاص، وكأنها الغاية الاخيرة المنشودة، فيما هي عطايا ووسائل من الله لكي نعرفه اكثر ونحبه اكثر ونخدمه اكثر. هذا التعلّق يستتبعه انانية مفرطة، وتناسٍ لله المعطي، وكسرّ الشركة معه بالابتعاد عن دائرة ارادته وكلامه ووصاياه التي تنير درب الانسان وتجعله في حالة اتحاد به، وبالتالي خروج من الشركة مع الكنيسة، جماعة المؤمنين، التي تؤمّن له دفء الحياة بفرح وسلام، وتمكّنه من اداء رسالته في تاريخ الخلاص، ويستتبعه اخيراً العيش على الهوى الشخصي بحرية منفلتة من اي شريعة موحاة او طبيعية.
اما نتائج الخطيئة فهي الافتقار الروحي والعاطفي والاخلاقي، وعيش في الذّل، وفقدان الكرامة الشخصية.
الخطيئة فعل شخصي مسؤول فيه عصيان على الله، ومخالفة لكلامه وارادته ووصاياه، واساءة اليه، واستكبار عليه بسنّ " شريعة" ذاتية، واهمال عبادته وتكريمه. والخطيئة خطيئة أكانت بالفكر او بالقول او بالفعل، بسابق تصميم او بردّة فعل.
والخطيئة ايضاً " اساءة للانسان"، اما بالتعدي عليه في حقه بالحياة او في جسده او روحه او كرامته او في ممتلكاته او حقوقه او صيته، وإما بحرمانه مصيره التاريخي او الابدي، واما باهمال الواجبات نحوه.
والخطيئة اساءة للكنيسة بانتهاك قداستها، لكونها جماعة مقدسة بحضور الله الثالوث فيها وفي اعضائها، وبعدم الالتزام برسالتها، وبالتعدي على وحدة الجماعة والوفاق والسلام وشريعة المحبة الاخوية المتضامنة.
2. طريق التوبة (لوقا 15: 17-21)
تبدأ التوبة بوقفة وجدانية يرجع فيها الانسان الى نفسه، فاحصاً ضميره عن واقع حياته بالنسبة الى علاقاته بالله والذات والكنيسة والجماعة التي ينتمي اليها. كأنه يقف امام مرآة تكشف له حقيقة وجهه في ما هو، وفي ما يجب ان يكون. فيدرك حالته الشاذّة ويندم عليها متأسفاً. ويقصد ان يغيّر مسلكه: فيقرّر الرجوع الى الله، ويعترف بخطيئته، ويلزم نفسه بالتكفير عنها. وفي الواقع، ينهض وينفّذ قراره.
هذا ما يجري عندما يتقدم التائب من سرّ الاعتراف، حيث الله ينتظره بشخص الكاهن، المكلّف منه بسلطان الهي، ليسمع توبته ويمنحه باسم الله الثالوث الغفران عن خطاياه.
3. المصالحة وثمارها ( لو15: 20-23)
فيما الآب السماوي يحرّك مشاعر التوبة في ابنائه، فانه يقف في حالة انتظار لعودتهم. وكما يبادر الله الانسان الخاطىء باجتذابه الى التوبة، كذلك يبادره بمشاعر الحنان والرحمة، ويحتضنه ويقبّله قبلة الحب الابوي.
هذه اللوحة الانجيلية تتكرر كل مرّة يستقبل الكاهن شخصاً تائباً، يقصد الله من خلاله. فيبادره الكاهن بكلمة التشجيع وعاطفة الحنان والمحبة، ويستمع اليه معترفاً بخطاياه بتواضع وانسحاق قلب.
وعندما يمنحه الكاهن الحلّ من خطاياه، بما له من سلطان الهي، تتحقق فيه ثمار المصالحة مع الله المرموز اليها بثلاثة: الحلّة الفاخرة هي ثوب النعمة المبررة والحياة الجديدة؛ الخاتم هو تجديد عهد ابوة الله للتائب، وعهد بنوته لله؛ الحذاء يرمز الى الطريق الذي يفتحه المسيح امامه، ويدعوه الى اتباعه فيه.
بنتيجة هذه المصالحة وثمارها، يدخل التائب من جديد في الشركة مع الكنيسة متصالحاً مع ابنائها وبناتها المرموز اليهم، باهل البيت وبالشقيق الاكبر، وبذلك يكون اهلاً للجلوس الى مائدة جسد الرب ودمه المرموز اليها بالعجل المسمّن.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
نتأمل يسوع حاملاً صليبه، وقد خرج من دار الولاية حيث خضع للجلد والسخرية، لابساً قميصه، بعد ان تزعوا عنه الثوب الاحمر، وهو في طريقه الى الجلجلة ليصلب (انظر مرقس15: 20).
سلك يسوع الطريق، المعروف اليوم في اورشليم، " بطريق الآلام" الذي قدّسه بخطاه ودمه وعرق الجبين. فتضامن مع كل المتألمين جسدياً وروحياً، نفسياً ومعنوياً، ومع المظلومين والمقهورين والمستضعفين، ومع الحزانى واليائسين وفاقدي الرجاء والامل بغد أفضل، ومع المعذبين في اقبية التعذيب والسجون.
هؤلاء جميعاً مشى يسوع طريقهم، وهو القائم من الموت، يسير معهم فيها، يساعدهم في حمل صليبهم، وهم يضمّون صليبهم الى صليبه، مواصلين آلام الفداء. من اجلهم اراد التقليد ان يتذكر سقوط يسوع ثلاث مرات تحت الصليب، لكي يجدوا فيه الرفيق المتضامن معهم، فيما هم يرزحون تحت صلبانهم، وقد خارت كل قواهم. في المسيح الذي يقع تحت ثقل الصليب تتمثل البشرية المريضة والضعيفة.
ان السير نحو القيم والعمل على احلالها وهي المحبة بوجه الحقد، والعدالة بوجه الظلم، والحقيقة بوجه الكذب، والحرية بوجه العبودية، يقتضيان الكثير من التضحيات، ويواجهان العديد من الصعوبات والمعاكسات. هو صوت يسوع يردد: " من اراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (لو9: 23).
وبالصدفة يمرّ من هناك رجل اسمه سمعان القيريني. فأمره الجنود الرومان بان يحمل الصليب وراء يسوع (لو23: 26). ولكن لا صدفة عند الله. هذا الذي ساعد يسوع بحمل صليبه يمثّل كل انسان يقبل صليب الحياة الشخصي، ويحمله باسم يسوع، وكأنه صليب الرب، من اجل تواصل عمل الفداء. هذا شأن لقاء الله بالانسان. انه لقاء الصدفة في أعيننا، لكنه لحظة اللقاء، التي يدرك بها المسيح الانسان كما " ادرك" شاول –بولس على طريق دمشق (فيل3: 12)، من غير علم منه او بحث او رغبة.هذا ما قاله الله على لسان اشعيا النبي: " لقد وجدني من لم يبحث عني، وتراءيت لمن لم يطلبني" (اشعيا65: 1-2؛ روم10: 20).
الله ينتظرنا على دروب حياتنا اليومية، يقرع باب دارنا طالباً مكاناً على مائدتنا ليقاسمنا خبز الحياة (رؤيا 3: 20). ذلك على طريقة اللقاء بسمعان القريني اليهودي من منطقة ليبيا، الذي اصبح هو وابناه اسكندر وروفس مسيحيين (مر15: 21).. هذا هو اللقاء السرّي بين النعمة الالهية والعمل البشري، المؤدي الى تغيير مجرى الحياة. وعلى طريقة سمعان القيريني " يحمل المؤمن صليبه كل يوم ويتبع المسيح" (لو9: 23)، ومثل سمعان يساعد كل حامل صليب الألم او المرض او الحزن او الجوع او الاضطهاد، ومثل السامري الصالح يعتني به، ولا يتجاوز ويعبر (لو10: 30-37)، وعملاً بنداء بولس الرسول: " ليحمل بعضكم اثقال بعض. لانكم بهذا تتمون شريعة المسيح" (غلا6: 2).
***
ثالثاً، سنة يوبيل القديس مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)
تكشف رسالة غبطة السيد البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير للمناسبة العلاقة بين المارونية ولبنان.
بين الموارنة ولبنان رباط وثيق. " فالمارونية كتبت تاريخها الحقيقي الاول، ليس في كتب من ورق، بل في كتاب ارضها، اذ ساهمت في جعلها ارضاً للتلاقي والعبادة والعطاء والدفاع عن الذات".
ساهم الموارنة في تكوين الهوية اللبنانية المؤلفة من هوّيات الطوائف المسيحية والاسلامية، بقيام ميثاق الحياة المشتركة، في نظام ديموقراطي ليبرالي يتيح ممارسة حرية التفكير والتعبير والمعتقد، واحترام كرامة الشخص البشري.
بفضل كل ذلك، بات من الواجب المحافظة على الارض اللبنانية، من اجل المحافظة على الهوية وبالتالي على الكيان والديمومة، فعلى الحضور والدور الفاعلين داخل هذا الكيان ومنه في المحيط المشرقي.
ليست المحافظة على الارض والحضور والدور من اجل التقوقع والانغلاق على الذات، بل من اجل ما يشكل لبنان في بيئته المشرقية من قضية حضارية. ان له دعوة تاريخية جعلته " الوطن والرسالة والنموذج" كما سمّاه البابا يوحنا بولس الثاني. فلبنان رسالة العيش معاً بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين، وموطن الحوار المنظّم دستورياً بين الثقافات والاديان، والتعاون فيما بينها في الحكم والادارة. ولبنان نموذج للشرق التيوقراطي وللغرب المتعلمن، اذ انه دولة مدنية تحترم الهويات الدينية والثقافية التي تكوّن مجتمعه. ما يعني ان لبنان كدولة هو ذو نظام متوسّط بين التيوقراطية الدينية والعلمنة الكاملة.
ان سنة القديس مارون اليوبيلية تذكّرنا بأن لبنان يحمل قضية انسانية حضارية ولاهوتية تجسّدت في الميثاق الوطني الذي من خلاله ينظر اللبنانيون في آن الى الله والانسان والتاريخ. ويطرحون على العالم مسألة علاقة الاديان فيما بينها وتحاورها وتفاعلها، وبخاصة اللقاء والحوار بين المسيحية والاسلام. واليوبيل دعوة الى تحمل المسؤولية عن المحافظة على هذا الميثاق، والى السهر لئلا يتحول عن الجوهر ويصبح مجرد مطامع متضاربة، ومخاصصة ومقايضة او مجرد تسويات وتوازنات.
***
صلاة
ايها الآب السماوي، اجتذبنا اليك تأئبين، في زمن الصوم هذا، كما اجتذبت الابن الضال. فرجع الى نفسه، وادرك خطيئته وحالته المذلّة. ندم على حالته وتاب وقرر تغيير مجرى حياته بالعودة الى الشركة مع ابيه واهل بيته. اعطنا ان نسلّط نور الانجيل وتعليم الكنيسة على حياتنا واعمالنا وسلوكنا. حرّكنا على التوبة والعودة اليك. انك تنتظر، ايها الآب، كل واحد منا، لكي يقرّ بخطاياه فتمنحه عفرانك المحيي، وتصالحه: تلبسه ثوب النعمة، وتجدد له عهدك، وتفتح امامه طريقاً جديداً.
ايها الرب يسوع، قوّنا على حمل صليب الحياة، الذي هو امتداد لصليبك من اجل تواصل عمل الفداء، وادفعنا الى ان نساعد اخوتنا في حمل صليبهم، كما ساعدك سمعان القيريني.
في يوبيل القديس مارون، اعطنا يا رب، بشفاعته ان نلتزم بالمحافظة على لبنان-الرسالة والنموذج من اجل لقاء الثقافات والاديان. فنرفع التسبيح والمجد للآب والابن والروح القدس الآن والى الابد، آمين.
***
شفاء المخلع
1 طيموتاوس 5/24؛6: 1-5
مرقس 2/1-12
يسوع المسيح طبيب الارواح والاجساد
نحن في بداية الاسبوع الخامس من مسيرة الصوم الكبير، الذي هو مسيرة توبة. وقد أدركنا الخطيئة ومعناها ونتائجها المميتة. في شفاء الابرص بانت الخطيئة كبرص النفس، وفي شفاء المرأة النازفة، بانت كنزيف للقيم الروحية والخلقية، وفي مثل الابن الضال بانت كابتعاد عن الله وتعلّق بالخلوقات. اليوم في آية شفاء المخلع تبدو الخطيئة تفككاً لقوى النفس وعجزاً عن السير والتحرك وفقاً لقيم الروح، كما يصفها بولس الرسول في رسالته. كل هذه الشفاءات الجسدية بيّنت ان يسوع بقدرته الالهية قادر وحده ان يشفي الانسان من خطاياه المتنوعة. وكان البرهان الناطق، عن قدرة الله بالمسيح على مغفرة الخطايا من خلال شفاء المخلع.
اولاً، القراءات البيبلية
انجيل القديس مرقس 2: 1-12
بَعْدَ أَيَّامٍ عَادَ يَسُوعُ إِلى كَفَرْنَاحُوم. وسَمِعَ النَّاسُ أَنَّهُ في البَيْت. فتَجَمَّعَ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنْهُم حَتَّى غَصَّ بِهِمِ الـمَكَان، ولَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لأَحَدٍ ولا عِنْدَ البَاب. وكانَ يُخَاطِبُهُم بِكَلِمَةِ الله. فأَتَوْهُ بِمُخَلَّعٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةُ رِجَال. وبِسَبَبِ الـجَمْعِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الوُصُولَ بِهِ إِلى يَسُوع، فكَشَفُوا السَّقْفَ فَوْقَ يَسُوع، ونَبَشُوه، ودَلَّوا الفِرَاشَ الَّذي كانَ الـمُخَلَّعُ مَطْرُوحًا عَلَيْه. ورَأَى يَسُوعُ إِيْمَانَهُم، فقَالَ لِلْمُخَلَّع: "يَا ابْني، مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك!". وكانَ بَعْضُ الكَتَبَةِ جَالِسِينَ هُنَاكَ يُفَكِّرُونَ في قُلُوبِهِم: "لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هـذَا الرَّجُلُ هـكَذَا؟ إِنَّهُ يُجَدِّف! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ الـخَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟". في الـحَالِ عَرَفَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُم يُفَكِّرُونَ هـكَذَا في أَنْفُسِهِم فَقَالَ لَهُم: "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهـذَا في قُلُوبِكُم؟ ما هُوَ الأَسْهَل؟ أَنْ يُقَالَ لِلْمُخَلَّع: مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك؟ أَمْ أَنْ يُقَال: قُمْ وَاحْمِلْ فِرَاشَكَ وَامْشِ؟ ولِكَي تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا أَنْ يَغْفِرَ الـخَطَايَا عَلَى الأَرْض"، قالَ لِلْمُخَلَّع: "لَكَ أَقُول: قُم، إِحْمِلْ فِرَاشَكَ، واذْهَبْ إِلى بَيْتِكَ!". فقَامَ في الـحَالِ وحَمَلَ فِرَاشَهُ، وخَرَجَ أَمامَ الـجَمِيع، حَتَّى دَهِشُوا كُلُّهُم ومَجَّدُوا اللهَ قَائِلين: "مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هـذَا البَتَّة!".
يسوع في بيت سمعان- بطرس في كفرناحوم، حيث اعتاد ان يقيم كما في بيته. احتشد القوم لسماع كلام الله، مولّد الايمان. بقوة هذا الايمان، وفي ضوء كلامه، قام ثلاثة رجال بمبادرة ايمانية ملفتة: ثقبوا السقف المكوّن من خشب وتراب، ودلّوا المخلّع مع سريره حيث كان يسوع.
مفتاح هذه الآية كلمة مرقس الانجيلي: " لما رأى يسوع ايمانهم". الايمان هو قدرة الانسان على نيل كل ما يسأل الله ويطلبه منه. المبادرة الصامتة كانت ناطقة. فعلٌ منهم ورؤية من يسوع. لكن ايمان الانسان يلقى عند الله تجاوباً وعطاء اكبر مما يطلب، واوسع مما ينتظر.
لقد طرحوا المخلع امام يسوع لايمانهم بانه قادر على شفائه. اما يسوع ففاجأهم بالشفاء الاكبر والاكمل والضروري، فشفا المخلع من الشلل الروحي الذي يعطّل العقل عن معرفة الحقيقة والعيش في نورها، والارادة عن فعل الخير والالتزام به، والقلب عن الحب والرحمة والمشاعر الانسانية. الشلل الحقيقي المميت هو العيش في الكذب والضلال والالتواء، وهو فعل الشر على تنوّعه، والحقد والضغينة والبغض.
بيت سمعان-بطرس اليوم هو الكنيسة حيث نلتقي المسيح في كلمة الانجيل والقربان والتوبة وسائر الاسرار. صحيح ان " الله وحده" يستطيع ان يغفر الخطايا"، كما فكّر الفريسيون. الانسان يستطيع ارتكاب الخطايا، والله يستطيع ان يغفرها. لكن البعض في ايامنا يقول: " انا نفسي اشتكي على نفسي، ووحدي استطيع ان أحلّ من خطاياي". بل هناك من ينكر وجود معضلة تُسمى خطيئة. وهذه علامة لفقدان الحسّ الاخلاقي في ثقافة اليوم. عن هؤلاء يتكلم بولس الرسول في رسالته لهذا الاحد: " مِن الناس مَن خطاياهم معروفة وتسبقهم الى القضاء. ومنهم من خطاياهم تتبعهم"، مثل " الكبرياء ومرض السعي الى المجادلات والمماحكات، والحسد والخصام، والتجديف وسوء الظن والنزاعات. هذه أفسدت ضمائر اصحابها، فتعرّوا من الحق، وحسبوا خوف الله تجارة (انظر 1طيم 5: 24؛6: 4-5).
ابن الله المتجسد، يسوع المسيح، كاهن الخلاص والفداء يغفر الخطايا بقدرته الالهية. وسلّم هذا السلطان الالهي الى كهنة العهد الجديد الذين بواسطتهم يغفر الخطايا، وقد استحق هذا الغفران بموته لفداء الجنس البشري، وبقيامته لبعثهم للحياة الجديدة بالروح القدس.
آية شفاء المخلّع تقول لنا ان عندنا الهاً يغفر الخطايا، وينساها ويمحوها ويجعل منا خلقاً جديداً، ويعطينا ورقة بيضاء لنكتب عليها صفحة جديدة من حياتنا. ينبغي ان نحوّل وخز الضمير الى مديح وشكر لرحمة الله.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
نتأمل يسوع مصلوباً ( لو23: 33-39)
يسوع يُصلب على تلة الجلجلة مع مجرمين عن يمينه وشماله. فهتف: " ابتِ، اغفر لهم لانهم لا يعلمون ما يفعلون". اما الجند فاقترعوا على ثيابه، والشعب يعاين بصمت، والرؤساء يتهكمون: " أحيا آخرين! فليحيي نفسه إن كان هو المسيح مختار الله"! والجنود يهزأون: " ان كنت ملك اليهود، فأحيي نفسك"!. ولص الشمال يشتمه: " ان كنت انت المسيح، فنجِّ نفسك، ونجّنا نحن ايضاً وكان فوق رأسه علّة صلبه: " هذا هو ملك اليهود!".
لقد وعد يسوع ذات يوم: " اذا ما رُفعت عن الارض، اجتذبت اليّ الجميع" (لو12:23). ساعةُ صلبه حققت هذا الوعد. يسوع يتمم اخوّته الكاملة والشاملة، كأبن لله، مع الانسان الذي يتألم وينازع ويموت. وما من انسان ألاّ ويمر بهذه الثلاثة:
فيما كان اللصان لا يشعران إلا باوجاع المسامير، كان يسوع يشعر بألمه المقدّم لخلاص العالم. قلبه المطعون كان ينبض حباً خلاصياً.
ها نبوءة اشعيا تتحقق: " طُعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من اجل سلامنا، وبجرحه شفينا... قرّب نفسه ذبيحة اثم" (اشعيا53: 5 و10).
بيديه الممدودتين فوق الصليب يضم الكون كله، مثل الدجاجة تجمع فراخها تحت جناحيها (لو13: 34).
في ساعة الغفران المتفجر من الصليب، كان لص اليمين يوبّخ رفيقه، ويعترف بخطأه وباستحقاقه عقاب الصلب، ويعلن براءة يسوع. وبروح التوبة والرجاء يهتف الى يسوع: " اذكرني يا سيدي متى اتيت في ملكوتك". ويسوع يستجيب بفيض من حبه ورحمته: " الحق اقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس" ( لو23: 40-43).
هذه اللحظة الاخيرة تفتح كل آفاق الرجاء امام الخطأة، ولاسيما المزمنين المدمنين الرازحين في حالة الخطيئة الدائمة. ان محبة المسيح، التي تتجلّى فيها كل محبة الله، اقوى من كل خطيئة وشر.
بالمسيح صالح الله جميع البشر. ويدعوهم الى سعادة الغفران والخلاص.
***
ثالثاً، السنة الكهنوتية: الكاهن خادم اسرار الكنيسة الخلاصية
نواصل في هذه السنة الكهنوتية ابراز وجه الكاهن ورسالته الكهنوتية من خلال خدمة اسرار الكنيسة للخلاص، كما جاء في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.
الكاهن، باسم المسيح وبشخصه، يحيي ليتورجيا التدبير الخلاصي.
الليتورجيا هي الاحتفال بسرّ خلاصنا الذي يتحقق في الاسرار المقدسة، وهي بمثابة ينابيع تجري من محبة الآب ومن موت المسيح وقيامته وتبلغ الينا حياةً جديدة بالروح القدس. ولقد وصفها لنا يوحنا الرسول في رؤياه: العرش القائم في السماء الجالس عليه الله الرب، والحمل المذبوح وهو المسيح المصلوب والقائم، وينبوع ماء الحياة الجاري من عرش الله والحمل الرامز الى الروح القدس (رؤيا 22: 1 ؛ يو4: 10-14).
انها ليتورجيا السماء التي يقيمها المسيح الكاهن الاسمى في الهيكل الحقيقي الثابت ابداً، حيث يقدّم ذبيحة خلاص ورضى وشكران لله الآب بالروح القدس، ويعطي ذاته ذبيحة فداء، خبزاً روحياً لحياة العالم. ويشارك في هذه الليتورجيا السماوية الآباء والانبياء والعذراء ام الاله ويوسف البتول والرسل وسائر القديسين.
اما على مذابح الارض، فتحتفل الجماعة الكنسية بليتورجيا اسرار الخلاص. هذه الجماعة هي المسيح الكلي اي المسيح الرأس واعضاء جسده الذين ولدوا من جديد بالمعمودية. تحتفل بها بالاتحاد مع كنيسة السماء الممجدة. هذه الليتورجيا الارضية تعكس وتواصل الليتورجيا السماوية " الآن وهنا"، بقيادة من أقيموا في درجة الكهنوت المقدسة ليحييوا ليتورجيا اسرار الخلاص باسم المسيح وبشخصه. ان لكل واحد من اعضاء الجماعة الكنسية، الملتئمة حول المسيح في سرّ القربان، دوره الشخصي ما يستدعي منه مشاركة واعية وفاعلة[5].
الكاهن هو رأس الجماعة، ممثلاً رأسها الحقيقي وكاهنها الاسمى ووسيطها الوحيد يسوع المسيح. انه يحيي الاحتفال الليتورجي بورع وخشوع، مستحضراً الرب يسوع فاعل العمل الليتورجي مع سائر اعضاء جسده الملتئم حوله. ومن واجب الكاهن ان ينير العقول والضمائر، ويشرح العلامات والرموز المنظورة التي يتمّ من خلالها السرّ الخفي غير المنظور.
انها علامات ورموز متنوعة. بعض منها مرتبط بالخلق كالماء والنار والشموع، والبعض الآخر بالحياة البشرية كالغسل والمسح بالزيت وكسر الخبز، والبعض الآخر بتاريخ الخلاص كطقوس الآلام. ان هذه العناصر المادية، والرتب البشرية، والحركات التذكارية لعمل الله، تصبح بكلمة الايمان وقوة الروح القدس ادوات تحمل عمل المسيح الخلاصي والتقديسي. تاخذ الرموز والعلامات معانيها من ليتورجيا الكلمة التي هي جزء مكمّل للاحتفال الليتورجي، تعلن وتُشرح بالعظة وتعليم الكنيسة[6].
يحرص الكاهن ويعمل بشتى الوسائل على اشراك مؤمني رعيته في جميع الاحتفالات الليتورجية الخلاصية: في يوم الرب الذي هو الاحد، يوم القيامة والجماعة الليتورجية، ويوم العائلة المسيحية، ويوم الفرح والاستراحة من العمل؛ وفي السنة الطقسية التي يدور حول سرّ المسيح من التجسد والميلاد الى الموت والقيامة، فالى الصعود الى السماء وحلول الروح القدس يوم العنصرة، وانتظار الرجاء السعيد لمجيء الرب؛ وفي احياء تذكار القديسين، العذراء ام الله والرسل والشهداء والابرار، في ايام محددة من السنة الطقسية. الكنيسة على الارض تبيّن بتذكارهم انها متحدة بليتورجيا السماء، وتمجد المسيح الذي أتمّ خلاصه في اعضائه الممجدين، وتعتبر ان مثلهم يشجعها في دربها الى الآب[7].
***
صلاة
ايها الرب يسوع، اشفنا من شللنا الروحي، شلل العقل والارادة والقلب. وقدّس آلام المتألمين في اجسادهم وارواحهم. انت وحدك طبيب الاجساد والارواح. اعطنا ان نجعل من آلامنا ومحننا وصعوباتنا وسائل تكفير عن خطايانا وشرورنا، انت الذي كفّرت عن كل واحد منا. ولتكن ذكرى صلبك، وانت البريء، دعوة لنا وحافزاً لنتوب توبة لص اليمين. وفيما نحن نحتفل بليتورجيا الارض، ارفع عقولنا وافكارنا وقلوبنا الى ليتورجيا السماء، حيث تُمجّد انت حملاً مذبوحاً ممجّداً تجري منه ينابيع اسرار الخلاص على ارضنا. فترتفع من كل كنائس الارض آيات التسبيح والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***
شفاء الاعمى
2 قورنتس 10/1-7
مرقس 10/46-52
المسيح نور العقول والقلوب
بلغنا مع هذا الاحد الاسبوع السادس والاخير من زمن الصوم الكبير، آملين في ختام هذه المسيرة من الصلاة والصوم والتصدق ان نلتقي يسوع المسيح، وندرك انه يشفينا من العمى الروحي، كما شفى اعمى اريحا، وانه يعطينا رؤية جديدة للوجود والحياة والتاريخ، تهدم الافكار الخاطئة وتحدّ من المسلك المنحرف، على ما يقول بولس الرسول في رسالة هذا الاحد.
اولاً، القراءات البيبلية
انجيل القديس مرقس 10: 46-52
بَيْنَمَا يَسُوعُ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحا، هُوَ وتَلامِيذُهُ وجَمْعٌ غَفِير، كَانَ بَرْطِيمَا، أَي ابْنُ طِيمَا، وهُوَ شَحَّاذٌ أَعْمَى، جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الطَّريق. فلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيّ، بَدَأَ يَصْرُخُ ويَقُول: "يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!". فَانْتَهَرَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ لِيَسْكُت، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ صُرَاخًا: "يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!".فوَقَفَ يَسُوعُ وقَال: "أُدْعُوه!". فَدَعَوا الأَعْمَى قَائِلِين لَهُ: "ثِقْ وانْهَضْ! إِنَّهُ يَدْعُوك". فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَهُ، ووَثَبَ وجَاءَ إِلى يَسُوع. فقَالَ لَهُ يَسُوع: "مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ؟". قالَ لَهُ الأَعْمَى: "رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِر!". فقَالَ لَهُ يَسُوع: "أبصِره! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ".
ما يميّز اعمى اريحا عن الجمع الغفير المرافق ليسوع، ايمانه بشخص يسوع، وثقته به، ومعرفته على حقيقته. فعندما سأل الاعمى عن الشخص الماّر وسبب هذه الجمهرة، أجابوا انه " يسوع الناصري"، الذي هو بالنسبة اليهم رجل غير عادسي، لكنه مجرد " رجل" لا غير. اما الاعمى " المبصر" بايمانه فناداه بلقب من صلب جوهره: "يا ابن داود، ارحمني"، اي ايها المسيح المرسل من الله إشفني. لكن الناس الجاهلين ليسوع، غضبوا على الاعمى وألزموه بالسكوت لازدرائهم به واحتقاره. اما هو فازداد صياحاً: " يا ابن داود ارحمني".
"توقف" يسوع لان صراخ الاعمى المؤمن والواثق والعارف مسّه في الصميم، وأمر الذين أرغموه على السكوت بدعوته اليه. ففعلوا بكلمة لطيفة: " تشجّع، قم، انه يدعوك". وكان الحوار بين يسوع والاعمى، اراده الرب كشفاً وامتداحاً لايمان الاعمى. سأله يسوع: " ماذا تريد ان اصنع لك؟" فاجاب جواب الثقة والايمان والمعرفة الصامدة: " ربّي، ان أبصر". فشفاه يسوع بكلمة: " أبصر". وأعلن سرّ هذا الشفاء: " ايمانك أحياك". فكانت له رؤية جديدة ومسلك جديد عبّر عنهما مرقس الانجيلي في ختام هذه الآية: : ولساعته أبصر، وانطلق معه في الطريق".
العمى الحقيقي، الذي يريد الرب يسوع ان يشفي منه، هو عمى البصيرة والقلب الذي يُصاب به كل واحد منا، بل كل انسان بالمطلق. ما نحتاج اليه هو عين الايمان. يعطى لنا في المعمودية المسمّاة "بالاستنارة". فالمعمدون يقال عنهم " المستنيرون".
الايمان هو ان اؤمن بشخص يسوع المسيح، ايماناً كاملاً وناضجاً بانه ابن الله، مخلص العالم وفادي الانسان.
في آية شفاء اعمى آخر في اورشليم على بركة شيلوحا بمبادرة من يسوع (يوحنا 9: 6-7)، تتبيّن لنا المراحل الثلاث لمسيرة الايمان بالمسيح الذي يبلغ كماله ونضجه. عندما سأله الناس الذين كانوا يعرفون الاعمى عن كيفية انفتاح عينيه، اجاب: " رجل" اسمه يسوع جبل وحلاً..." (يو9: 11). انه بالنسبة اليه رجل ولا شيء آخر. وعندما سأله الفريسيون ماذا يقول عن هذا الرجل، اجاب: " انا اقول انه نبي" (يو9:17). وعندما التقاه يسوع ثانية، وكشف له انه " ابن الله"، " سجد له الاعمى وقال: انا اؤمن يا رب" (يو9: 27-28).
نرجو نحن، عبر مسيرة الصوم التي دامت الى الآن خمسة اسابيع، ان نحقق "وثبة" اعمى اريحا، واعمى اورشليم، فنصبح مسيحيين حقيقيين، بالمعنى الحقيقي، عندما نعلن ان يسوع هو الرب، ونعبده كإله.
أكون مسيحاً حقاً لا عندما اعترف بان يسوع رجل غير عادي، وانه نبي بامتياز قد فتح للعالم آفاقاً جديدة روحية واخلاقية؛ هذا يقرّ به جميع الناس، من مسيحيين وغير مسيحيين، بل عندما ابحث عنه مثل اعمى اريحا طالباً شفائي الشخصي من عماي الروحي والاخلاقي والاجتماعي بنور الانجيل وتعلم الكنيسة ونعمة غفران الخطايا والحياة الجديدة بالروح القدس، بواسطة خدمة الكنيسة في الاسرار المقدسة؛ وعندما أعبده بالروح والحق والممارسة الدينية، مثل اعمى بركة شيلوحا؛ وعندما اسلك طريقاً جديداً غير الطريق القديم المنحرف، كما سلك الاعميان.
ليست المسيحية فقط ايماناً بمجموعة حقائق موحاة علّمتها الكنيسة، بل هي قبل كل شيء ايمان بشخص المسيح الذي قال: " أمنوا بالله، وآمنوا بي" (يو14: 1). فالمؤمن الحقيقي بالمسيح يحبه، ويحفظ تعليمه، ويؤمن بما تعلّم كنيسته، ويحب الكنيسة.
هذا الايمان بالمسيح وبما تعلّم الكنيسة هو اساس العلم الذي يساعد على فهم ما نؤمن به، لا العكس. فالعلم لا يولّد الايمان، بل الوحي الالهي يولّد الايمان، والايمان ينير العلم. الايمان والعقل هما الجناحان اللذان يطير بهما الانسان الى معرفة حقيقة الله والانسان والتاريخ.
يدعونا بولس الرسول في رسالته الى المسلك الجديد بفضل رؤية الايمان: " ان كنا نسعى بحسب الجسد، لسنا نعمل بحسب الجسد، لان سلاح علمنا قوّة الله، به نهدم الحصون المنيعة، وننقض الافكار، وكل علوّ يرتفع ضد معرفة الله، ونعيد كل ضمير الى طاعة المسيح" (2كور10: 3-5).
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح
نتأمل يسوع فوق الصليب وامامه امه والتلميذ الحبيب.
ورأى يسوع من على صليبه مريم امه وبقربها التلميذ الذي كان يحبه، قال لامه: " يا امرأة، هذا ابنك". ثم قال للتمليذ: " ها هي امك". وللوقت اخذها التلميذ الى بيته (يو19: 25-27).
جال في خاطر مريم ام يسوع كل ما كانت تحفظه في قلبها من اقوال: نبوءة سمعان الشيخ والطفل يسوع ابن اربعين يوماً: " اما انتِ فيجوز بنفسك رمح، لتنجلي مضمرات قلوب الكثيرين" ( لو2: 35)؛ وكلمة الصبي يسوع في الهيكل لها ولابيه، وهو ابن اثنتي عشرة سنة: "لماذا تبحثان عني؟ ألا تعلمان انه يجب عليّ ان اكون في بيت ابي؟" (لو 2: 49).
وأدرك ان الساعة اتت لتحقيق هذه الكلمات. فكما قالت : نعم، يوم البشارة لارادة الله، قالت ايضاً على اقدام الصليب " نعم" للارادة الالهية عينها، بايمان ورجاء ومحبة. وعلى مثال ابنها، قبلت آلام الفداء بحب كبير، وتمزّق في القلب مرير، وحدها الام تعرفه، ولا يستطيع احدٌ وصفه. وبهذا استحقت ان تدعوها الكنيسة " شريكة الفداء".
وكما بألم المخاض الذي تحمّله يسوع ابنها، فوَلدت الكنيسة، البشرية الجديدة، مثل السنبلة من حبة القمح المائتة في الارض (يو12: 24)، كذلك مريم بألم المخاض، اصبحت ام جسده السرّي، الكنيسة، وام كل انسان، بشخص يوحنا التلميذ الحبيب.
من هذا المشهد تصبح آلام كل انسان، أعابرة كانت ام مزمنة، آلآم مخاض، اذ لا بدّ من ان يولد منها شيء جديد. لقد اعطت مريم لكل ام معنى عندما تفقد ابناً لها او ابنة. فتفتح قلبها على امومة شاملة. وجاءت مريم تعزي كل ابن او ابنة بفقد امه، بان له بشخص مريم مؤكّدة ان في السماء تسهر على رحلته على وجه الارض، الى ان يبلغ ميناء الخلاص.
***
ثالثاً، السنة الكهنوتية: الكاهن خادم اسرار الكنيسة الخلاصية
الكاهن، خادم اسرار الخلاص، هو حارس الكنيسة بيت الله، التي يجد فيها مكان اقامته المميّزة. ففي بيت الله هذا يجتمع المؤمنون، ويؤلفون الكنيسة المنظورة التي يسكن فيها الله مع الناس العائشين المصالحة والوحدة بالمسيح.
ان الكاهن، عبر هذه المهمة، يساعد المؤمنين ليؤلفوا هيكل الله الروحي. بحيث يكونون " حجارة حيّة" يتكون منها " البيت الروحي" (1 بطرس 2: 4-5)، ويؤدون العبادة لله " بالروح والحق" (يو4: 24). ويعتني " ببيت الله"، ليكون مكاناً لائقاً للصلاة والرتب المقدسة، ولائقاً بالقربان المقدس، حيث يجتمع المؤمنون ويحتفلون بحضور ابن الله مخلصاً، والمقدّم من اجلنا على المذبح لمصالحتنا وعزائنا[8]. عناصر بيت الله هي التالية:
المذبح هو صليب ربنا الذي تجري منه اسرار الخلاص. عليه تتم ذبيحة الصليب وتحضر تحت العلامات الاسرارية. وهو مائدة الرب المدعو اليها شعب الله. وهو كذلك رمز قبر المسيح الذي مات حقاً وقام حقاً.
بيت القربان يحتل المكان الاوفر كرامة ولياقة في الكنيسة، حيث يُحفظ فيه جسد الرب، وامامه تتم عبادة المؤمنين.
الميرون المقدس يحفظ ايضاً في مكان لائق، لانه العلامة الاسرارية لطابع الروح القدس وفعله، ويحفظ معه زيت العماد ومسحة المرضى.
المنبر او البيما هو الكرسي الذي يمارس منه الكاهن خدمته في قيادة الجماعة المصلية وادارة الصلاة.
القرّايات هي المكان الملائم لاعلان الكلمة، والمنظور من جميع المؤمنين بسهولة.
حوض المعمودية يحتل مكانه على مدخل الكنيسة، لان فيه تتم الولادة الثانية من الماء والروح، ويبدأ اول تجمع للمؤمنين، والدخول الى الكنيسة جماعة المعمدين.
كرسي الاعتراف والتوبة يحتل ايضاً مكاناً لائقاً في الكنيسة لانه يكمّل سرّ المعمودية. فان مواعيدها تتجدد في سرّ التوبة والمصالحة.[9]
صلاة
ايها الرب يسوع، انت نور العقول والقلوب، فاشفنا من عمى البصيرة والقلب لنعرفك ونسير على طريقك، طريق الحق والخير والجمال. نوّرنا بانوار صليبك الخلاصي، لكي على مثال مريم امك نشارك في آلآم الفداء من خلال صليب المرض والفقر والهموم، ونجد في قلب امك وامنا العزاء والرجاء بولادة جديدة. في هذه السنة الكهنوتية، اعضد الكهنة لكي يساعدوا جميع الناس ليصبحوا هيكلاً روحياً لله. فنرفع جميعنا المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***
احد الشعانين
فيليبي 1/1-13
يوحنا 12/12-22
ملوكية يسوع المسيح
في ختام الصوم الاربعيني، تتذكر الكنيسة دخول الرب يسوع الى اورشليم، واعلانه ملكاً بعفوية الشعب والاطفال. من خلال هذا الاحتفال تبيّنت ملامح ملوكيته في جوهرها، هذه التي اشركنا فيها بالمعمودية ومسحة الميرون. في مسيرة الصوم والصلاة والتوبة والتصدّق جددنا رسالتنا الملوكية القائمة على احلال الحقيقة والمحبة والحرية والعدالة. وبلغنا الى الميناء، لندخل مع المسيح الى عالم متجدد هو العائلة والرعية، المجتمع والوطن.
اولاً، القراءات
من انجيل القديس يوحنا: 12/12-24
لَمَّا سَمِعَ الـجَمْعُ الكَثِير، الَّذي أَتَى إِلى العِيد، أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلى أُورَشَليم، حَمَلُوا سَعَفَ النَّخْلِ، وخَرَجُوا إِلى مُلاقَاتِهِ وهُمْ يَصْرُخُون: "هُوشَعْنَا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبّ، مَلِكُ إِسرائِيل". ووَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَرَكِبَ عَلَيْه، كَمَا هُوَ مَكْتُوب: "لا تَخَافِي، يَا ابْنَةَ صِهْيُون، هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي رَاكِبًا عَلى جَحْشٍ ابْنِ أَتَان". ومَا فَهِمَ تَلامِيذُهُ ذـلِكَ، أَوَّلَ الأَمْر، ولـكِنَّهُم تَذَكَّرُوا، حِينَ مُجِّدَ يَسُوع، أَنَّ ذـلِكَ كُتِبَ عَنْهُ، وأَنَّهُم صَنَعُوهُ لَهُ. والـجَمْعُ الَّذي كَانَ مَعَ يَسُوع، حِينَ دَعَا لَعَازَرَ مِنَ القَبْرِ وأَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، كَانَ يَشْهَدُ لَهُ. مِنْ أَجْلِ هـذَا أَيْضًا لاقَاهُ الـجَمْع، لأَنَّهُم سَمِعُوا أَنَّهُ صَنَعَ تِلْكَ الآيَة. فَقَالَ الفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُم لِبَعْض: "أُنْظُرُوا: إِنَّكُم لا تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هَا هُوَ العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ ورَاءَهُ!". وكَانَ بَينَ الصَّاعِدِينَ لِيَسْجُدُوا في العِيد، بَعْضُ اليُونَانِيِّين. فَدَنَا هـؤُلاءِ مِنْ فِيلِبُّسَ الَّذي مِنْ بَيْتَ صَيْدَا الـجَلِيل، وسَأَلُوهُ قَائِلين:"يَا سَيِّد، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوع". َجَاءَ فِيلِبُّسُ وقَالَ لأَنْدرَاوُس، وأَنْدرَاوُسُ وفِيلِبُّسُ وقَالا لِيَسُوع.
يسوع يصعد لآخر مرة الى اورشليم ليشارك للمرة الاخيرة في عيد الفصح اليهودي. هو الصعود الاخير، هذه المرة، لا الى الهيكل الحجري حيث اراد الله ان يتّخذ اسمه مسكناً (تثنية الاشتراع،12: 11؛ 14: 23)، بل الى الهيكل الذي لم تصنعه الايدي، الى حضرة الله، عبر الصليب الذي هو سرّ " المحبة حتى النهاية" (يو13: 1). صعوده الى جبل الله الحقيقي، المكان النهائي للقاء الله والانسان.
وهي المشاركة الاخيرة بالفصح الذي حوّله يسوع الى " فصحه" الشخصي اي موته ذبيحة فداء عن الجنس البشري، وهو حمل العهد الجديد، ووليمة جسده ودمه لحياة العالم، وقيامته التي عبر بها وبالبشرية المفتداة من الموت الى الحياة الجديدة.
وكان قد استبق هذا " الفصح الجديد" باقامة لعازر من القبر، قبل ستة ايام (يو12: 1)، وبقبول مبادرة مريم اخت لعازر التي سكبت قارورة الطيب الغالي الثمن على قدمي يسوع، اذ اعتبرها استباقاً لتطييب جسده يوم دفنه المزمع (انظر يو:12/3 و7).
استقبلته الجموع في اورشليم، استقبال الملوك بسعف النخل والزيتون، وبكلمات المزمور 118: " هوشعنا مبارك الآتي باسم الرب ملك اسرائيل" ( يو12: 13).
ظهرت ملامح ملوكية يسوع في جوهرها.
ملوكيته موت وقيامة من اجل فداء العالم وانبعاثه لحياة جديدة، على مثال حبة الحنطة التي تقع في الارض وتموت فتعطي السنبلة (يو12: 24)؛ ملوكية الحب الاعظم الذي يبذل فيه نفسه عن احبائه؛ ملوكية الوداعة والتواضع المرموز اليهما بدخوله " على ظهر جحش" وضيع، لا على عربة الخيل كالامبراطور؛ ملوكية السلام الذي ينتزع كل خوف وتهديد من القلوب: " لا تخافي، يا ابنة صهيون"؛ ملوكية العبادة لله بالروح والحق (يو4: 23)، ولهذا دخل الهيكل، كما يروي انجيل متى، وطرد البائعين والشارين، وقلب موائد الصيارفة، ومقاعد باعة الحمام، وقال: " بيتي بيت صلاة يدعى، وانتم جعلتموه مغارة للصوص" ( متى21: 12 و13). لقد طهّر الهيكل ليكون مكان التلاقي بين الله والانسان؛ ملوكية الرحمة والشفاء، فمن بعد ان طهّر الهيكل الحجري، اعتنى بالهيكل البشري، وشفى اعميين ومقعدين كانوا قد قُدّموا أليه (متى21: 14).
الى هذه الملوكية نحن ننتمي بسرّي المعمودية والميرون، لنلتزم باحلالها في العائلة والرعية والمجتمع والوطن. تُعاش هذه الملوكية وتتجلّى في مملكة المسيح التي هي الكنيسة.
يوم الشعانين هو عيد الاطفال والشبيبة، لانهم هم الذين بعفوية ايمانهم ومحبة قلوبهم يستقبلون المسيح الملك في حياتهم، وهو يجعلهم قوّة تجددية في الكنيسة والمجتمع.
عيدهم دعوة للاهتمام بتربيتهم الروحية والثقافية والاخلاقية، ولاعطائهم دورهم البنّاء من اجل بناء محتمع أفضل. فالشباب الواعي والمسؤول هم ضمانة المستقبل وامله.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
نتأمل يسوع مائتاً على الصليب
في ذلك يوم الجمعة عندما صُلب يسوع، وقع الظلام على الارض كلها من الساعة الثانية عشرة ظهراً حتى الثالثة. فاظلمت الشمس، وانشق حجاب الهيكل من وسطه. وصرخ يسوع صرخة عظيمة وقال: يا ابتِ بين يديك استودع روحي. قال هذا ولفظ الروح (لو23: 44-46).
الظلام الذي وقع تنبأ عنه يسوع، عندما أسلمه يهوذا الى عظماء الكهنة والشيوخ وقواد حراس الهيكل، اذ قال: " هذي هي ساعتكم، وهذا هو سلطان الظلام" ( لو22: 52-53). يبدو ان هذا الظلام غلب الارض حيث مات الاله-الانسان. أجل، كان على ابن الله، لكي يكون حقاً انساناً واخاً لنا، ان يشرب هو ايضاً كأس الموت الذي هو حقاً هوية جميع بني آدم. وبهذا يصبح المسيح "شبيهاً باخوته في كل شيء" ( عبرانيين 2: 17). صار بالحقيقة والكليّة واحداً منا، حاضراً معنا في النزاع الكبير بين الحياة والموت، بل مع كل انسان ينازع ويموت على مدى التاريخ.
" احبهم حتى النهاية" (يو13: 1). بموت يسوع على الصليب تجلّى الله المحب لخلائقه حتى الاحتباس الحرّ ضمن حدود الألم والموت. وكان المصلوب لجميع الشعوب علامة مزدوجة: علامة بشرية شاملة لوحشة الموت والظلم والشر التي اختبرها " الجموع الذين احتشدوا وشاهدوا ورجعوا قارعين الصدور، والنساء وغيرهم من اصحاب يسوع الذين وقفوا بعيداً يشاهدون" ( لو 23: 48-49)؛ وعلامة الهية شاملة للرجاء، لانتظارات كل انسان يبحث بقلق عن الحقيقة، وهو متمثل " بقائد المئة الذي، لما رأى ما جرى، مجّد الله وقال: حقاً، ان هذا الرجل كان باراً!" (لو23: 47).
أظلمت الشمس، لان من هو نور العالم قد اغتيل. و" انشق حجاب الهيكل" لان رب الهيكل قد طُرد منه. وبهاتين العلامتين دلالة ان الشمس والهيكل يأخذان معناهما وقيمتهما من المسيح " النور الحقيقي" و " رب كل هيكل".
في لحظة موت يسوع وقد " أسلم الروح"، زرع في آلام جميع الناس وميتاتهم بذور الحياة الابدية. بقوة " الروح" ينتشلهم من لجة الموت الى الحياة لدى الله، اذا عاشوا اوفياء له، ومخلَّصين بالمسيح. وهم في ساعة موتهم يرددون بالرجاء الوطيد والثقة البنوية: " يا ابتِ، بين يديك استودع روحي".
***
ثالثاً، السنة الكهنوتية: الكاهن خادم اسرار الكنيسة الخلاصية
الكاهن هو وكيل اسرار الله، يحتفل بها ويوزع نعمها على المؤمنين والمؤمنات. المسيح انشأ الاسرار السبعة التي تشكل وحدة عضوية متكاملة، وتقسم الى ثلاثة: اسرار التنشئة المسيحية: المعمودية والميرون والقربان، واسرار الشفاء: التوبة ومسحة المرضى، واسرار الرسالة: الزواج والكهنوت.
انها تلامس كل مراحل الحياة المسيحية التي تشبه مراحل الحياة البشرية: الولادة بالمعمودية؛ النمو بالميرون وعطية الروح القدس؛ الاغتذاء من الحياة الابدية بالقربان؛ الشفاء من الخطيئة بالتوبة ومن امراض الجسد والروح بمسحة المرضى؛ الرسالة وتواصل نقل الحياة البشرية بالزواج، ونقل الحياة الالهية بالكهنوت. هذا التشبيه اجراه القديس توما الاكويني.
يحتل سرّ القربان في هذه الوحدة العضوية بين الاسرار مكانة مميّزة، لانها تنطلق كلها منه، واليه تترتّب كالى غايتها باجمعها[10].
سرّ المعمودية:
يحمل الكاهن اسم" اب" و " ابونا" بفضل سرّ المعمودية الذي هو الولادة الثانية من الماء بقوة الكلمة وعمل الروح القدس. على يد الكاهن يولد المؤمنون أبناء لله بالنعمة. انها ابوّة روحية تنشىء بين الكاهن والمؤمن رباطاً عضوياً روحياً يكون الاساس لعمله الكهنوتي والراعوي.
المعمودية هي المدخل الى الحياة بالروح القدس، والباب الى الاسرار الستة الاخرى. بالمعمودية يتحرر الانسان من الخطيئة ويولد من جديد ابناً لله؛ يصبح عضواً في جسد المسيح، ومنتمياً الى الكنيسة، ومشاركاً في رسالتها.
الولادة الجديدة التي تتم بالمعمودية انما تتحقق بالنزول الى الماء او بسكبه على الرأس ثلاث مرات مع لفظ كلمات التعميد وبذلك ترمز الى الموت مع المسيح عن الخطيئة والى القيامة معه للحياة الجديدة بالروح. ويصبح المعمّد " خليقة جديدة" ( 2كور 5: 17)، تستنير بكلمة الله " النور الذي ينير كل انسان" ( يو1: 9). وهكذا يصير المعمد من " ابناء النور"، بل نوراً يعكس وجه المسيح (1 تسا 5: 5).
اما رموز المعمودية والعلامات التي تحمل معاني روحية فهي: الماء يعني غسل النفس من الخطيئة؛ المسحة بزيت المعمودية تدل على المشاركة في كهنوت المسيح وملوكيته؛ الثوب الابيض علامة النعمة التي تستر خجلنا؛ الشموع ترمز الى اشعاع الايمان في حياة المسيحي. المعمودية عطية مجّانية من الله، ونعمة لا تفترض اي استحقاق من الانسان، وطابع لا يُمحى للدلالة على سيادة الله المطلقة[11].
لعناصر المعمودية ومفاعيلها صور في العهد القديم رمزت اليها:
المياه في بداية الخلق هي ينبوع الحياة والخصوبة. وهي اول عنصر في عملية الخلق، وكان روح الرب يرفرف فوقها (تكوين1: 2). المعمودية هي الخلق الجديد من الماء والروح (يو3: 5).
سفينة نوح التي حمت من الطوفان ترمز الى الخلاص بالمعمودية التي تعطى في داخل الكنيسة سفينة الخلاص (1بطرس3: 20). ماء الطوفان وضع نهاية للشر، وبداية للخير. هكذا ماء المعمودية يُميت الخطيئة، ويُنبت النعمة. عبور البحر الاحمر يعني تحرير شعب الله من عبودية مصر، ويرمز الى تحرير المعمّد من عبودية الخطيئة والشيطان والشر. عبور نهر الاردن الذي نال به شعب الله ارض الموعد لنسل ابراهيم هو صورة للحياة الابدية التي يعد بها الله ميراثه المبارك[12].
***
صلاة
ايها الرب يسوع، ها نحن في نهاية مسيرة الصوم الاربعيني، قد بلغنا اليك عبر الصوم والصلاة والتوبة واعمال المحبة والرحمة. فادخل ملكاً على قلوبنا. ادخل الى عائلاتنا ومجتمعنا ووطننا، لنوطّد معك الحقيقة والمحبة والحرية والعدالة، فيحّل السلام الحقيقي. أبهج اطفالنا وشبابنا بعيدهم، وليظلوا، بفضل تربيتهم الروحية والثقافية والاخلاقية، افواهاً صافية وقلوباً نقيّة تشهد لك وتعلنك الملك المطلق والاسمى. سرّ بنا في اسبوع آلامك وموتك لنتقدس بها ونقدّس اوجاعنا وامراضنا وهواجسنا. قدّس الكهنة، وكلاء اسرار الله الخلاصية، ليوزّعوها بامانة وسخاء وغيرة، من اجل حياة عالمنا الذي تعبر به بفصحك الى حياة جديدة. فنرفع آيات الشكر والمجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي
[1] . البابا بندكتوس السادس عشر، صلاة التبشير الملائكي، الاحد 10 شباط 2008.
[2] . البابا بندكتوس السادس عشر، عظة قداس اربعاء الرماد في 6 شباط 2008.
[3] . البابا بندكتوس السادس عشر، المرجع نفسه.
[4] . النص الثاني: " هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها"، 7-36.
[5] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1136-1144.
[6] . المرجع نفسه،1189-1190.
[7] . المرجع نفسه، 1193-1195.
[8] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1179-1181.
[9] المرجع نفسه،1182-1184.
[10] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1210-1212.
[11] . المرجع نفسه، 1216.
[12] . المرجع نفسه،1217-1221.