و مَن أَخطأ إِلَيَّ ظَلَمَ نَفسَه. كُلّ مَن يُبغِضني يُحِبُّ المَوت (ام 8 /36)
زمن الصوم - التنشئة المسيحية 2008 - 2009 - البطريرك بشارة الراعي
2008 - 2009
البطريرك بشارة الراعي
احد مدخل الصوم
عرس قانا الجليل
روم 14/14-23
يوحنا2/1-11
الصوم الكبير زمن التغيير
بهذا الاحد نفتتح زمن الصوم الكبير الذي يبدأ غداً الاثنين، المعروف "باثنين الرماد"، لان فيه يرش الرماد على الرأس او ترسم به اشارة الصليب على الجبين كعلامة للدعوة الى التوبة، مع هذه الكلمات: " تذكّر يا انسان انك من التراب والى التراب تعود" ( تك 3/19) وهي كلمات قالها الله لآدم بعد خطيئته.
انه زمن التغيير في العلاقة مع الله والذات والاخوة بروح التوبة وتبديل المسلك والموقف. يقوم هذا الزمن على ثلاثة: الصلاة والصوم والصدقة.50
بالصلاة نعود الى الله بالاستغفار وطلب الغفران. بالصوم نروّض النفس لتنتصر على ما فيها من اميال منحرفة. بالصدقة نقوم باعمال محبة نحو الفقراء والمعوزين مادياً ومعنوياً وروحياً.
القراءات البيبلية تدعونا الى هذا التغيير. في الرسالة الى اهل رومية بولس الرسول يدعو الى العناية بالاخوة متجنبّين الشكوك لكي لا نعطّل فيهم عمل الله. في انجيل آية تحويل الماء الى خمر، بتشفّع ام يسوع، علامة للتغيير الذي تجريه نعمة المسيح في قلب الانسان وجوهره.
لكن الكل يقع تحت عنوان واحد: الحياة من أجل الآخرين.
اولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والانجيل
1. رسالة القديس بولس الرسول الى أهل رومية: 14/14-23
وإِنِّي عَالِمٌ ووَاثِقٌ، في الرَّبِّ يَسُوع، أَنْ لا شَيءَ نَجِسٌ في ذَاتِهِ، إِلاَّ لِمَنْ يَحْسَبُهُ نَجِسًا، فَلَهُ يَكُونُ نَجِسًا. فإِنْ كُنْتَ مِنْ أَجْلِ الطَّعَامِ تُحْزِنُ أَخَاك، فَلا تَكُونُ سَالِكًا في الـمَحَبَّة. فَلا تُهْلِكْ بِطَعَامِكَ ذَاكَ الَّذي مَاتَ الـمَسِيحُ مِنْ أَجْلِهِ! إِذًا فَلا تَسْمَحُوا بَأَنْ يَصِيرَ الـخَيْرُ فيكُم سَبَبًا للتَّجْدِيف. فَلَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ بِرٌّ وَسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس. فَمَنْ يَخْدُمُ الـمَسِيحَ هـكَذَا فهوَ مَرْضِيٌّ لَدَى الله، ومَقْبُولٌ لَدَى النَّاس. فَلْنَسْعَ إِذًا إِلَى مَا هوَ لِلسَّلام، ومَا هُوَ لِبُنْيَانِ بَعْضِنَا بَعْضًا. فَلا تَنْقُضْ عَمَلَ اللهِ مِنْ أَجْلِ الطَّعَام؛ لأَنَّ كُلَّ شَيءٍ طَاهِر، ولـكِنَّهُ يَنْقَلِبُ شَرًّا عَلى الإِنْسَانِ الَّذي يَأْكُلُ وَيَكُونُ سَبَبَ عَثْرَةٍ لأَخِيه. فَخَيْرٌ لَكَ أَنْ لا تَأْكُلَ لَحْمًا، ولا تَشْرَبَ خَمْرًا، ولا تَتَنَاوَلَ شَيئًا يَكُونُ سَبَبَ عَثْرَةٍ لأَخِيك. واحْتَفِظْ بِرأْيِكَ لِنَفْسِكَ أَمَامَ الله. وطُوبَى لِمَنْ لا يَدِينُ نَفْسَهُ في مَا يُقَرِّرُهُ! أَمَّا الـمُرْتَابُ في قَرَارِهِ، فَإِنْ أَكَلَ يُدَان، لأَنَّ عَمَلَهُ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْ يَقِينٍ وإِيْمَان. وكُلُّ عَمَلٍ لا يَصْدُرُ عَنْ يَقِينٍ وإِيْمَانٍ فَهُوَ خَطِيئَة.
تُتلى هذه الرسالة في مطلع الصوم الكبير للدلالة انه زمن الانتباه الى الاخ الآخر وعدم تشكيكه في المسلك والموقف، حتى بتناول الطعام: " لا تَهلك بطعامك ذاك الذي مات المسيح من اجله...فخير لك ان لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراًَ، ولا تتناول شيئاً يكون سبب عثرة وشكّ لاخيك" (الآيتان 15 و21).
في كلام بولس دعوتان:
الاولى، الى اشراك الاخر المعوز في ما عندك من خيرات. دعوة الى تقاسم خيرات الارض، هذه التي رتّبها الله لجميع الناس. ردد آباء الكنيسة القديسون، امثال باسيليوس ويوحنا فم الذهب: " إن انت لم تطعم آخاك، قتلته".
في رسالته بمناسبة يوم السلام العالمي لسنة 2009، وهي بعنوان: "مكافحة الفقر، بناء السلام"، كشف البابا بندكتوس السادس عشر ان الفقر يشمل ثلاثة: الفقر المادي الى طعام وشراب وسكن ولباس؛ والفقر المعنوي الى حقوق وكرامة وتعزية وعلاقات انسانية وقيم روحية وخلقية؛ والفقر الثقافي الى علم وتربية وحضارة وترقٍ للشخص البشري وللمجتمع. " اطعام الآخر" يعني اخراجه من حالات فقره، "هذا الذي مات المسيح من اجله".
الدعوة الثانية، الى عدم تشكيك الآخر والتسبب بعثاره، المادي والمعنوي والروحي، بأنانيتك عندما تحتفظ بخيراتك لنفسك فقط، وتحرم غيرك منها. فكأنك تلطمه على خده عندما تتنعّم وحدك امامه، وتتحداه بغناك، وتدفعه الى الكفر وارتكاب الشر.
فالشكوك يمقتها الرب يسوع: " من يشكك احد اخوتي هؤلاء الصغار، خير له ان يُعلّق في عنقه حجر ويلقى في البحر" (متى18/6). ويدعو بولس الرسول في مكان آخر الى تجنب الشكوك وحمل الآخر الى الخطيئة بسبب الطعام (انظر 1كور8/10-13).
الشك موقف او مسلك يقود الآخر الى ارتكاب الشر بالفكر او بالعمل او بالاهمال. والشخص الذي يرتكب الشكوك يصبح مجرِّباً لاخيه: يهدم فضيلته وقيمه وقد يتسبب بموته الروحي، وبحمله الى ارتكاب الاساءة نحو الله او نحو الانسان (انظر كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2284).
قد يكون الموقف او المسلك المشكك من قبل اشخاص عاديين، او من قبل مسؤولين في الكنيسة والمجتمع والدولة. ما يجعل الشك اكثر خطورة وضرراً. المسؤول ملزم، بحكم طبيعته ووظيفته، بتعليم الغير وتربيته واستعمال الاموال العامة، من مال وقدرات واملاك، مادية وثقافية، للخير العام الذي منه خير الجميع. فان لم يفعل، يقول عنه الرب يسوع، ما قاله عن الكتبة والفريسيين "انهم ذئاب بثوب حملان" ( متى7/15). هذا ما نقرأه ايضاً في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (فقرة 2285).
الصوم الكبير هو ايضاً " زمن السلوك بالمحبة". وهي فضيلة تصلح كل شيء. بدونها، على ما سمعنا في رسالة بولس الرسول، يصبح كل شيء نجساً، فيما خلقه الله طاهراً (الآية 14)؛ وما هو خير يصبح شيئاً للتجديف (الآية 16) الذي ينقض عمل الله (الآية 16). اما بالمحبة فيُبنى " ملكوت الله الذي ليس اكلاً وشرباً، بل استقامة وسلام وفرح بالروح القدس وبنيان بعضنا بعضاً (الآيتان 17 و19).
زمن الصوم الكبير يقدّم لنا الوسائل " لنعيش وفقاً للانسان الجديد المخلوق على صورة الله بالبر والحق، نابذين الشهوات الفاسدة والخدّاعة، وملتزمين التجدد الروحي في الاذهان" (افسس4/20-24).
2. عرس قانا الجليل: الحياة عيش من اجل الاخرين (يوحنا2/1-11)
افتتح الرب يسوع حياته العلنية ورسالته الخلاصية مشاركاً في عرس قانا الجليل، الى جانب امه والتلاميذ، نواة الكنيسة، فاعطى الزواج كرامته. بدأ الخلاص بتقديس الزواج، من بعد ان فقد قدسيته بخطيئة الزوجين الاولين آدم وحواء فأعاد اليه الحب المقدس، المرموز اليه بالخمرة الجديدة، خمرة الروح القدس الذي هو الحب المسكوب في قلب الزوجين. بآية تحويل الماء الى خمر، استبق تحويل الخمر الى دمه، عربون حبه اللامتناهي. ودعا الزوجين الى الايمان به، من خلال الآية ليدركا ان عمل الله متواصل في حياتهما.
المسيح معني بالانسان وبخلاصه، وكانت حياته كلها من اجل كل انسان. انه لنا المثال والقدوة. ولولا انتباه مريم امه وتشفعها ووساطتها، لما كانت الآية. تتميز حياة مريم ايضاً انها من اجل الانسان.
علّم الكردينال راتسنغر، الذي اصبح البابا بندكتوس السادس عشر، في كتابه " مدخل الى الايمان المسيحي" ان " الحياة عيش من اجل الآخرين"[1]. قال: "يقتضي الايمان المسيحي التزام الفرد بان يكون من اجل الجماعة، لا من اجل نفسه. تميّز الرب يسوع بمظهر الوجود من اجل الكثرة- من اجلكم" (مرقس 14/24). ان ذراعي المسيح الممدودتين على الصليب تعبير لاثنتين متلازمتين: العبادة والاخوّة. فامتداد اليدين بشكل صليب يعبّر عن حالة الصلاة والعبادة من جهة، وعن التضحية الكلية من اجل البشر الذين تعانقهم بروح الاخوّة، من جهة ثانية.
ويضيف: " أنْ نكون مسيحيين يعني اساساً الانتقال من الكينونة من اجل الذات الى الكينونة من اجل الآخرين... ان كلمة يسوع التي تحثنا على حمل الصليب وراءه تعبّر عن واجب الانسان بترك عزلته " أناه" وطمأنينته، وخروجه من ذاته ليتبع المصلوب ويضع صليباً على " أناه"، ويحيا من اجل الآخرين".
" التضحية هي التي تغذي حياة العالم". هذا هو سرّ موت المسيح وقيامته المشبَّه بحبّة الحنطة التي تموت وتعطي السنبلة (يو12/24). هذا السّر متواصل بالتأوين، الآن وهنا، في سّر الافخارستيا الذي هو ذبيحة ومناولة، تضحية تُبذل وحياة تُعطي. من سّر القربان نستمد " حضارة العيش من اجل الآخرين".
****
ثانياً، الوثيقة التعليمية " كرامة الشخص البشري"
بمناسبة مرور عشرين سنة على الوثيقة التعليمية "هبة الحياة" [2]، اصدر مجمع عقيدة الايمان وثيقة تعليمية جديدة بعنوان " كرامة الشخص البشري"[3] حول بعض مسائل اخلاقيات الحياة. الداعي لهذا التعليم هو التقنيات الجديدة في طب الحياة، التي تدخل في اطار حياة الكائن البشري والعائلة، وتطرح تساؤلات جديدة، وبخاصة في قطاع البحث حول الاجّنة البشرية واستعمال الخلايا الاساسية لاهداف علاجية وسواها من مجالات الطب الاختباري. اسئلة جديدة تقتضي اجوبة مناسبة لها (المقدمة،1).
فيما الكنيسة تعرض مبادىء وتقويمات اخلاقية للابحاث الطبية حول الحياة البشرية، فهي تستنير من العقل والايمان، لتعطي نظرة شاملة عن الانسان ودعوته. انها ترى في العلم خدمة ثمينة لخير حياة كل كائن بشري وكرامته. وتتمنى ان تأتي الابحاث العلمية لترتقي بطب الحياة، بحيث يشهد المسيحيون لايمانهم في هذا المجال، ويستفيد من الابحاث من هم ضحايا الامراض، ويتشدد بالرجاء المتألمون في اجسادهم وارواحهم (المقدمة،3).
كرامة الشخص البشري (4-6).
لكل كائن بشري، منذ الحبل به حتى مماته، كرامة الشخص. هذا المبدأ الاساسي يعبّر عن " نعم للحياة" كبير، ويجب ان يكون المحور لكل تفكير حول البحث في طب الحياة واخلاقياتها (المقدمة،1).
ينعم الجنين البشري منذ البداية بكرامة الشخص. فلا يمكن اعتباره، منذ مراحل وجوده الاولى، مجرد كتلة خلايا. ان جسم الجنين ينمو تدريجياً وفقاً "لبرنامج" محدَّد تماماً، مع هدف خاص يظهر في ولادة كل طفل. هذا يقتضي احتراماً غير مشروط للكائن البشري في شموليته الجسدية والروحية، ومعاملته كشخص منذ الحبَل به، والاقرار بحقوقه وفي مقدمتها حقه في الحياة.
هذا التأكيد الاخلاقي المطابق للشرع الادبي الطبيعي والمطبوع في قلب الانسان، والموجود في كل الثقافات والحضارات، ينبغي له ان يكون في اساس كل نظام قانوني. فمنذ ظهور الحياة البشرية يوجد حضور شخصي نابع من فرادة هذا الكائن الذي يبدأ مراحل وجوده، فلا يخضع عبرها كلها، قبل الولادة وبعدها، لاي تغيير في الطبيعة أو لأي تدرّج في القيمة المعنوية. بل له صفة انسانية واخلاقية.
لذلك يتخذ تقدّم الابحاث الطبية حول الحياة البشرية في مراحل وجودها الاولى، وحول هيكليات الانسان ومسار انجابه، وجهاً ايجابياً ووجهاً سلبياً. فهو ايجابي عندما يساعد على اصلاح الخلل في مراحل الحياة، وهو سلبي عندما يُستعمل لالغاء كائنات بشرية، او عندما يعتمد وسائل تنتهك كرامة الشخص او تتنافى وخير الانسان الشامل.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي الثالث عشر: الرعية والعمل الراعوي، في القسم المختص بدور الرعية ويحدده النص باربعة (الفقرات 21-29).
1. تثقيف الايمان لدى المعمدين وفقاً لاعمارهم وحالاتهم، ليتمكنوا من الالتزام الواعي في حياتهم المسيحية كنسياً ورعوياً.
2. احياء الممارسة الدينية من خلال:
أ- حثّ ابناء الرعية على قبول الاسرار بتهيئتهم لها، ولاسيما المعمودية والميرون والقربان والتوبة والزواج، وباعداد الاحتفال بها وشرح رموزها، لتأتي المشاركة فيها واعية وخاشعة ومصلية. وكذلك بالنسبة الى الرتب الليتورجية والزياحات والتساعيات. والكل مع ما يقتضي من تنظيم وترتيب واناشيد، توفر للشعب مشاركة فعلية ومثمرة.
ب- التوعية على اهمية الاحتفال بالقداس الالهي، ووعي اقسامه الثلاثة: التعليم والذبيحة والمناولة، بحيث تتحقق في المؤمنين ثمار الفداء، وينطلقون باندفاع الى حياة جديدة مستنيرة بالايمان، ومشددة بنعمة الشفاء، ومتقوية بغذاء جسد الرب والحياة الالهية.
ج- العظة في القداس وفي كل احتفال جماعي بالاسرار بحيث تكون اعلاناً لسرّ المسيح وتحقيقاً لكلمة الله ولتعليم الكنيسة في واقع الحياة اليومية واحداثها.
3. اذكاء الروح التعاونية بالتنشئة على روح التضامن والتعاضد، وايجاد الفرص لمبادرات يتقاسم فيها ابناء الرعية خيراتهم الزمنية والروحية والثفافية.
4. تنمية الروح الرسولية والرسالية من خلال تحديد اهداف رسولية وفقاً لحاجات الرعية وتطلعاتها؛ والعمل على التعاون والتكامل بين المنظمات والحركات الرسولية في الرعية؛ وتعزيز حوار الحياة مع ابناء الكنائس الاخرى بمبادرات مسكونية، ومع اتباع الديانات غير المسيحية على صعيد القيم الخلقية والروحية والاجتماعية؛ وتوصية ابناء الرعية بالشهادة للمسيح فيها وخارجاً عن حدودها.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، لقد صمت اربعين يوماً وانتصرت على تجارب الشيطان، لكي تكفّر عن خطايا البشر وتعلمنا وتضمن لنا الانتصار على الشيطان وتجاربه. بارك صيامنا ليكون زمناً مقبولاً لله الآب، تكفيراً وتعويضاً عن الشرور الشخصية والعامة، وتغييراً في المسلك، وترميماً للعلاقة مع الله والذات والناس. اجعله، ربِ، زمن تقاسم خيرات الله المادية والروحية والثقافية مع الاخوة المعوزين. ولتكن حياتنا عيشاً من اجل الآخرين، ننتبه الى حاجاتهم، مثل مريم امك في عرس قانا الجليل، ونلبّي هذه الحاجات بقوة محبتك. ألهم الجميع ولاسيما العاملين في حقل الطب احترام كرامة الحياة البشرية منذ اللحظة الاولى لتكوينها حتى نهايتها الطبيعية. لتكن رعايانا مدارس ايمان وصلاة وتضامن. فنرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد. آمين.
****
الاحد الثاني من الصوم
شفاء الابرص
روم 6/12-23
مر 1/25-45
التحرر من عبودية الخطيئة
سميّنا الصوم الكبير " زمن التغيير" في باطن الانسان وفي علاقته مع الله والذات والناس. كانت علامة التغيير آية تحويل الماء الى خمر في عرس قانا الجليل، اجترحها الرب يسوع للدلالة انه قادر على تغيير الانسان في جوهره الداخلي بقوة الانجيل ونعمة الاسرار وفعل الروح القدس.
رسالة بولس الرسول لهذا الاحد تدعونا الى التحرر من الخطيئة والعيش في حالة النعمة. هذا التحرر هو تغيير في النفس والقلب. فالخطيئة تؤول الى الموت، والنعمة الى الحياة الابدية في المسيح.
آية شفاء الابرص التي يرويها الانجيل علامة خارجية للشفاء من البرص الداخلي الذي هو الخطيئة. فكما البرص يتآكل جلد الانسان ويشوهه ويصبح مرضاً معدياً، ويؤدي الى الموت الحسي، كذلك الخطيئة تتآكل العقل والارادة والقلب والضمير، وتشوّه صورة الله في الانسان، وتفسد اخلاق الآخرين، وتؤدي الى الموت الروحي والهلاك الابدي.
اولاً، عام القديس بولس، شرح الرسالة والانجيل
1. رسالة القديس بولس الرسول الى اهل رومية 6/12-23
إِذًا فَلا تَمْلِكَنَّ الـخَطيئَةُ بَعْدُ في جَسَدِكُمُ الـمَائِت، فَتُطيعُوا شَهَوَاتِهِ. وَلا تَجْعَلُوا أَعْضَاءَكُم سِلاَحَ ظُلْمٍ لِلخَطِيئَة، بَلْ قَرِّبُوا أَنْفُسَكُم للهِ كَأَحْيَاءٍ قَامُوا مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، واجْعَلُوا أَعْضَاءَكُم سِلاحَ بِرٍّ لله. فلا تَتَسَلَّطْ عَلَيْكُمُ الـخَطِيئَة، لأَنَّكُم لَسْتُم في حُكْمِ الشَّرِيعَةِ بَلْ في حُكْمِ النِّعْمَة. فَمَاذَا إِذًا؟ هَلْ نَخْطَأُ لأَنَّنَا لَسْنَا في حُكْمِ الشَّرِيعَة، بَلْ في حُكْمِ النِّعْمَة؟ حَاشَا! أَلا تَعْلَمُونَ أَنَّكُم عِنْدَمَا تَجْعَلُونَ أَنْفُسَكُم عَبيدًا لأَحَدٍ فَتُطيعُونَهُ، تَكُونُونَ عَبيدًا للَّذي تُطيعُونَه: إِمَّا عَبيدًا لِلخَطِيئَةِ الَّتي تَؤُولُ إِلى الـمَوت، وإِمَّا لِلطَّاعَةِ الَّتي تَؤُولُ إِلى البِرّ. فَشُكْرًا للهِ لأَنَّكُم بَعْدَمَا كُنْتُم عَبيدَ الـخَطيئَة، أَطَعْتُم مِنْ كُلِّ قَلْبِكُم مِثَالَ التَّعْلِيمِ الَّذي سُلِّمْتُمْ إِلَيْه. وَبَعْدَ أَنْ حُرِّرْتُم مِنَ الـخَطِيئَة، صِرْتُم عَبيدًا لِلبِرّ. وأَقُولُ قَوْلاً بَشَرِيًّا مُرَاعَاةً لِضُعْفِكُم: فَكَمَا جَعَلْتُم أَعْضَاءَكُم عَبيدًا لِلنَّجَاسَةِ وَالإِثْمِ في سَبِيلِ الإِثْم، كَذـلِكَ اجْعَلُوا الآنَ أَعْضَاءَكُم عَبيدًا لَلبِرِّ في سَبيلِ القَدَاسَة. فَلَمَّا كُنْتُم عَبيدَ الـخَطِيئَة، كُنْتُم أَحْرَارًا مِنَ البِرّ. فأَيَّ ثَمَرٍ جَنَيْتُم حِينَئِذٍ مِنْ تِلْكَ الأُمُورِ الَّتي تَسْتَحُونَ مِنْهَا الآن؟ فإِنَّ عَاقِبَتَهَا الـمَوْت. أَمَّا الآن، وقَدْ صِرْتُم أَحراَرًا مِنَ الـخَطِيئَةِ وعَبيدًا لله، فإِنَّكُم تَجْنُونَ ثَمَرًا لِلقَدَاسَة، وعَاقِبَتُهَا الـحَيَاةُ الأَبَدِيَّة. لأَنَّ أُجْرَةَ الـخَطِيئَةِ هِيَ الـمَوت. أَمَّا مَوْهِبَةُ اللهِ فَهيَ الـحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ في الـمَسيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا.
يتكلم بولس الرسول عن عملية التحرير من عبودية الخطيئة والعيش في حالة النعمة التي هي حرية ابناء الله. هذا التحرير تمَّ بالمعمودية التي هي موت عن الخطيئة وقيامة الى الحياة الابدية بالمسيح. فصارت حياة المسيحي سعياً دائماً الى هذا التحرر بتعليم الكنيسة الذي سُلّم اليه. فبمقدار ما يعيش الانسان في نور الحقيقة ويصنع الخير، يصير اكثر حرية. لا توجد حريّة حقيقية إلا في خدمة ما هو خير وعدل. خيار فعل الشر هو افراط في الحرية ويقود الى "عبودية الخطيئة" (الآية 17) ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1733).
التحرير هو في جوهره تغيير في نفس الانسان وفي مسلكه الجسدي، فيغيّر اعضاء جسده من وسيلة للخطيئة الى وسيلة للخير (الآية 13). لكن هذا التغيير الخارجي انما هو نتيجة التغيير في النية والقلب. النفس الجميلة تجمّل الجسد، والقبيحة تفسده: " ان جذور الخطايا تكمن في قلب الانسان" (المرجع نفسه،1873).
الخطيئة بحدّ ذاتها تجرح طبيعة الانسان والتضامن البشري، لانها اساءة للعقل والحقيقة والضمير المستقيم. ولانها كذلك فهي اساءة لله: " لك وحدك خطئت، والشر قدامك صنعت" (مز51/4). انها نقص في محبة الله ومحبة القريب. بل هي ضد محبة الله لنا. وتبعد قلبنا عنه، وتعصاه، وتسعى " لتكون مثل الله" ( تك3/5) في سلطة الامر والنهي (المرجع نفسه،1849-1850).
ان يسوع المسيح الذي " شابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة" (عبرانيين 4/15)، هو الانسان المثالي. اليه يتوق الانسان بعيش سرّ الصليب والفصح، كسرّ عبور من الانطواء على نفسه وانانيته، ومن اثبات ذاته، الى الانفتاح على الله. يجد الانسان نفسه في تجاوز ذاته. والحال ان يسوع هو الانسان الذي تجاوز نفسه كلياً، و" اخلى ذاته"، فوجد نفسه حقاً، اذ " رفعه الله وأعطاه اسماً يفوق كل الاسماء..." ( فيليبي2/6 و9)[4].
مَسَحَ المسيح اساءة الانسان اللامتناهية لله بموته على الصليب، وجعلنا بقيامته "تحت حكم النعمة" ( روم6/14). ذلك اننا وُلدنا من جنبه المطعون بالحربة وقد " جرى منه دم وماء" ( يو19/34) يمثلان سرَّي العماد والقربان، اللذين منهما يولد الانسان، وتتكون جماعة المؤمنين التي هي الكنيسة.
" جنب يسوع المفتوح" جعل وجود يسوع منفتحاً كلياً على كل انسان ليجتذبه اليه انساناً جديداً، انسان المستقبل، انسان التضحية والانفتاح والعطاء. ان مستقبل الانسان متعلّق بالصليب، وخلاصه هو الصليب. ولن يجد الانسان نفسه ما لم " ينظر الى ذاك الذي طُعن" ( يو 19/37)[5].
هذه هي عملية التحرير بالمسيح، لاستعادة بهاء صورة الله في الانسان.
2. آية شفاء الابرص عملية تحرير ( مرقس1/25-45).
يسوع المنفتح على الآخر اجتذب الابرص اليه. وهذا التمس منه ان يحرره من برصه. فكان له ما طلب. شفاه يسوع من برص جسده، ليبيّن لنا انه وحده قادر على شفائنا من برص النفس والعقل والارادة والقلب الذي هو الخطيئة، وانه وحده قادر ان يعيد الينا بهاء صورة الله.
ظلله بالرحمة الالهية " فاشفق عليه ومدّ يده ولمسه وقال: قد شئت فاطهر" (مر1/41).
الصوم هو زمن الانفتاح على المسيح: يجتذبنا الى التوبة والتماس الغفران. نقف امامه، مثل الابرص، بكل حالة برص النفس. يده التي تلمسنا هي كلمة الحياة ونعمة سرّ التوبة والقربان، بواسطة يد الكاهن.
نقف امامه بعقل شوهته الخطيئة فانحرف عن انوار الحقيقة المطلقة وجنح الى الكذب والاحتيال والازدواجية؛ وبارادة انحرفت عن حب الله والناس، ومالت الى الشر والظلم والاستبداد؛ وبحرية مالت الى الاستعباد للذات وللنزوات، ولاشخاص بشريين، ولايديولوجيات.
والمسيح، بواسطة خدمة الكاهن، يغفر خطيئتنا ويطهرنا ويعيد الينا جمال صورة الله، ويعود بنا الى الشركة مع الله والناس. وهذا ما عناه يسوع عندما قال للابرص: " اذهب الى الكاهن، وأرِه نفسك للشهادة". الغفران يأتي من الله بواسطة خدمة الكاهن الذي يعمل باسم الله الثالوث. قال الطوباوي اسحق: " ان الكنيسة لا يمكنها ان تغفر شيئاً من دون المسيح. والمسيح لا يريد ان يغفر شيئاً من دون الكنيسة. لا يمكن الكنيسة ان تغفر شيئاً إلا لمن يتوب اي لمن مسّه المسيح اولاً. والمسيح لا يريد ان يمنح مغفرته لمن يحتقر الكنيسة[6].
بفعل تواضع يقرّ الخاطي بخطاياه امام الكاهن ملتمساً الغفران، كما فعل الابرص امام المسيح.
***
ثانياً، الوثيقة التعليمية: كرامة الشخص البشري[7]
كرامة الكائن البشري
لكل كائن بشري كرامته وقيمته، وهما تتحدران من الزواج كثمرة حب نابع من الله ومسكوب في قلب الوالدين، وتُحاط وتُحترم في اطار العائلة. لقد اسس الله الزواج بحكمته وعنايته، ليحقق في البشرية تصميم حبه. فيما يتبادل الزوجان هبة الذات الشخصية والخاصة والاستئثارية، في شركة الاشخاص التي بها يتكاملان، انما يعاونان الله في خلق حياة جديدة في تربيتها. فاذا بكلمة "نعم" لشركة الحياة الزوجية، تتواصل لتكون " نعم" لحياة جديدة تولد منهما بكل مسؤولية وحب. كرامة الكائن البشري تأتي من كون نقل الحياة مكتوباً في الطبيعة، أما شرائعه فتبقى بمثابة قاعدة غير مكتوبة بالاحرف ينبغي التقيد بها (الفقرة 6).
كرامة الكائن البشري تأتي ايضاً من كونه مخلوقاً على صورة الله ومثاله (تك1/26)، ومن كون ابن الله صار بشراً ( انظر يوحنا 1/14)، وضمّ الطبيعة البشرية الى الوهيته في وحدة شخصه. وهكذا بتجسده اكّد من جديد كرامة الجسد والنفس اللذين يكوّنان الكائن البشري. فلم يحتقر المسيح الجسد البشري بل كشف معناه وقيمته. "فقط في سرّ الكلمة المتجسد ينجلي سرُّ الانسان"[8].
واذ صار الابن واحداً منا، فقد اعطانا ان نكون نحن " ابناء الله" (يو1/2) و"مشاركين في الطبيعة الالهية" (2بطرس 1/4). رفع هكذا كرامة الحياة البشرية الى شرف القُدسية. فانكشف تدبير حبه وحكمته في انه اراد ان يكون الناس " على شبه صورة ابنه الوحيد" ( روم8/29) (الفقرة 7).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تعرض الخطة الراعوية من النص المجمعي الثالث عشر: " الرعية والعمل الراعوي"، دور كاهن الرعية (الفقرات 30-40).
كاهن الرعية عطية الله لشعبه، حسب وعده على لسان ارميا: "واعطيكم رعاة على وفق قلبي" ( ارميا3/5). فكان الراعي الصالح بامتياز يسوع المسيح (يو10/11؛ عبرانيين13/20).
1. يقوم الكاهن بعمل الرعاية باسم المسيح وبقوة الروح القدس، فهو الذي وكّل اليه رعاية شعب الله، رعاية الراعي لخرافه ( انظر يو21/15-17؛ 1بطرس5/2). هو الروح القدس، الذي وُسم به الكاهن، يصورّه على صورة يسوع المسيح الكاهن والراعي الصالح. حضوره في الرعية امتداد للمسيح الراعي الاوحد والاعظم، متشّبهاً بنمط حياته، عاكساً صورته بشفافية. اما الثمار الروحية فهي من عمل الروح القدس الذي يحقق بقوة الخلاص الذي تممه الرب يسوع بموته وقيامته.
2. الكاهن هو خادم الجماعة في الكنيسة السّر والشركة والرسالة. في الكنيسة-السّر، يحقق حضور المسيح ويساعد المؤمنين على الاتحاد به وبواسطته بالآب والروح القدس. في الكنيسة- الشركة، يبني وحدة الجماعة بالحقيقة والمحبة، ومن خلال تناغم المواهب والخِدم. في الكنيسة – الرسالة، يقود الجماعة الى الشهادة للمسيح بالانتصار على العداوة والظلم والتفرقة، وباحلال العدالة والمحبة والسلام.
يعمل الكاهن في تحقيق السّر والشركة والرسالة من خلال وظيفته المثلثة كمعلم ومقدّس ومدبّر للجماعة، التي يستمدها من المسيح النبي والكاهن والملك. فالكاهن مكرّس بسرّ الكهنوت على صورة المسيح الكاهن الاعظم والابدي. انه، في الوقت عينه، على مثال المسيح، اخ بين اخوته المؤمنين يعكس محبة المسيح والله الآب، وهو لهم أب يلدهم بالايمان، ويفتقدهم في بيوتهم، ويقف على حاجاتهم الروحية والزمنية.
3. من اجل ان يقوم كاهن الرعية بكامل دوره، يوصي المجمع بما يلي:
أ- تنشئة الكهنة روحياً وثقافياً وراعوياً، فمسكونياً ورسالياً، بدءاً من المدرسة الاكليريكية، وتواصلاً بالتنشئة المستدامة.
ب-تفرّغهم ما امكن لخدمة الرعية، بحيث يكون لخدمة الرعية الدور الاساس، ويتمكن الكاهن من زيارة ابناء الرعية في بيوتهم، ولاسيما تفقّد المرضى والمتألمين.
ج- تأمين معيشة الكاهن بالتعاون مع ابناء الرعية، بحيث تكون لائقة وعادلة مع ضمانات حياتية.
د- توزيع الكهنة على الرعايا والمناطق وفقاً لحاجاتها، على ان يتم ذلك بالتحاور والتفاهم والطاعة البنوية. وحيث يكثر عدد الكهنة يجب توزيعهم ايضاً على جماعات الانتشار.
ه- الاهتمام بالدعوات بالتعاون الوثيق مع لجنة الدعوات في الابرشية. يرافق الكاهن الدعوة في رعيته، ويميّز علاماتها ويدرجها في حياة الرعية.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، مثل الابرص نلجأ اليك، ملتمسين الشفاء من البرص الروحي والاخلاقي الذي يشوّه انسانيتنا المخلوقة على صورة الله. اسمعنا صوتك ينقينا بلسان الكاهن في سرّ التوبة التي تحررنا من عبوديات الارض وتدخلنا في حالة حرية ابناء الله. فليكن الصوم الكبير، بما يزخر من صوم واماتات، وصلاة وتوبة، واعمال خير ورحمة، زمن التغيير حقاً، مثل الطبيعة التي تتهيأ في الربيع لمواسم العطاء. ألهم العائلات والعاملين في حقل الطب على احترام قدسية الحياة البشرية النابعة من كرامة الزواج الذي اسسه الله الآب بفيض من حبه وحكمته، وقدسته انت، يا رب، بنعمة السّر. ونصلي لكي يحافظ الجميع على كل كائن بشري يتكوّن في حشى الام، لانه اصبح بك ابناً لله وحاملاً صورته، ولان كل تعدّ عليه جرم ضد الله. بارك يا رب خدمة الكهنة لكي تؤدي بالمؤمنين الى سرّ الاتحاد بالله الثالوث، والى حياة الشركة في الوحدة والتضامن، والى الالتزام برسالة الكنيسة في خدمة العدالة والمحبة والسلام. فنرفع التسبيح والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
****
الاحد الثالث من الصوم
شفاء النازفة
2 كورنتس 7/4-11
لوقا 8/40-48
الايمان بالمسيح قوة الشفاء والتغيير
تتواصل في زمن الصوم عملية تغيير الانسان من الداخل بنعمة المسيح. في رسالة القديس بولس لهذا الاحد دعوة الى الاسف عن الحالة الشاذة التي يصل اليها الانسان بخطيئته وانحرافه عن الحق والخير والجمال، لان الاسف يقود الى التوبة والفرح الحقيقي. آية شفاء المرأة النازفة، في انجيل هذا الاحد علامة ان عدم الاسف على الخطايا وعدم التوبة عنها يتسببان بنزيف القيم الروحية والخلقية والانسانية، مثل نزيف الدّم الذي يؤدي الى الموت. المسيح وحده يشفي من هذا النزيف بقوة الايمان به. والايمان اياه يحمل على الندامة والمصالحة.
اولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والانجيل
1. رسالة القديس بولس الثانية الى اهل كورنتس: 2كور7/4-11
إِنَّ لي عَلَيْكُم دَالَّةً كَبِيرَة، ولي بِكُم فَخْرًا عَظِيمًا. وَلَقَدِ امْتَلأَتُ تَعْزِيَة، وأَنَا أَفِيضُ فَرَحًا في ضِيقِنَا كُلِّهِ. فإِنَّنَا لَمَّا وَصَلْنَا إِلى مَقْدَونِيَة، لَمْ يَكُنْ لِجَسَدِنَا شَيءٌ مِنَ الرَّاحَة، بَلْ كُنَّا مُتَضَايِقِينَ في كُلِّ شَيء، صِرَاعٌ مِنَ الـخَارِج، وخَوفٌ مِنَ الدَّاخِل! لـكِنَّ اللهَ الَّذي يُعَزِّي الـمُتَوَاضِعِينَ عَزَّانا بِمَجِيءِ طِيْطُس، لا بِمَجِيئِهِ فَحَسْب، بَلْ أَيْضًا بِالتَّعْزِيَةِ الَّتي تَعَزَّاهَا بِكُم. وقَدْ أَخْبَرَنَا بِاشْتِيَاقِكُم إِلَيْنَا، وحُزْنِكُم، وغَيْرَتِكُم عَلَيَّ، حَتَّى إِنِّي ازْدَدْتُ فَرَحًا. وإِذَا كُنْتُ قَدْ أَحْزَنْتُكُم بِرِسَالتِي فَلَسْتُ نَادِمًا عَلى ذـلِكَ، معَ أَنَّنِي كُنْتُ قَدْ نَدِمْتُ، لأَنِّي أَرَى أَنَّ تِلْكَ الرِّسَالَة، ولَوْ أَحْزَنَتْكُم إِلى حِين، قَدْ سَبَّبَتْ لي فَرَحًا كَثِيرًا، لا لأَنَّكُم حَزِنْتُم، بَلْ لأَنَّ حُزْنَكُم أَدَّى بِكُم إِلى التَّوبَة. فَقَدْ حَزِنْتُم حُزْنًا مُرْضِيًا لله، كَيْ لا تَخْسَرُوا بِسَبَبِنَا في أَيِّ شَيء؛ لأَنَّ الـحُزْنَ الـمُرْضِيَ للهِ يَصْنَعُ تَوْبَةً لِلخَلاصِ لا نَدَمَ عَلَيْهَا، أَمَّا حُزْنُ العَالَمِ فَيَصْنَعُ مَوْتًا. فَانْظُرُوا حُزْنَكُم هـذَا الـمُرْضِيَ للهِ كَم أَنْشَأَ فِيكُم مِنَ الاِجْتِهَاد، بَلْ مِنَ الاِعْتِذَار، بَلْ مِنَ الاِسْتِنْكَار، بَلْ مِنَ الـخَوْف، بَلْ مِنَ الشَّوْق، بَلْ مِنَ الغَيْرَة، بَلْ مِنَ الإِصْرَارِ عَلى العِقَاب! وقَدْ أَظْهَرْتُم أَنْفُسَكُم في كُلِّ ذـلِكَ أَنَّكُم أَبْرِيَاءُ مِنَ هـذَا الأَمْر.
يدعو بولس الرسول الى الحزن على الخطيئة والشر، وهو حزن يُرضي الله، ويقود الى التوبة والخلاص. ان هذا الحزن المرضي لله، ونسمّيه الاسف والندامة، يولّد الاجتهاد في اصلاح الحياة، والاعتذار عن الخطأ، والاستنكار للشر الذي صُنع، والخوف من الاساءة لله، والشوق الى التعويض بفعل الخير، والغيرة على شؤون الله والكنيسة، وقبول عقاب الألم والفشل ومحن الحياة (الآية 11).
تحتل الندامة المكان الاول بين افعال التائب. فهي الاسف من كل القلب، واحتقار الخطيئة المرتكبة، مع العزم على عدم الرجوع اليها[9]. لكن الندامة تفترض الايمان بالمسيح والمحبة لله.
عندما التقى بولس الرسول الرب يسوع القائم من الموت على طريق دمشق، اعتبر كل ماضي حياته في ايجابياته وسلبياته كالنفاية امام معرفة المسيح يسوع والتغيير الذي في اعماق قلبه وفكره ورؤيته (انظر فيليبي3/8). ورأى ان ما كان يعتبره ربحاً هو في الواقع خسران تجاه الله، فوجّه وجوده كله شطر المسيح (انظر فيليبي3/7) الذي هو " الكنز المخفي في الحقل" و"الجوهرة" التي من اجل شرائها يُباع كل شيء آخر ( انظر متى13/44-46).
ايمان بولس بالمسيح واتحاده العميق به جعلاه " يفيض فرحاً في الضيق" وفي ما كان يواجه من " صراع من الخارج، وخوف من الداخل" (الآية 4). هذا هو التبرير بالمسيح النابع من الايمان، حسب تعليم القديس بولس الذي يحمل المؤمن على تسليم الذات للمسيح، وعلى الاتحاد والتشبّه به، وعلى الدخول في محبته. فالشركة مع المسيح والايمان به يولّدان المحبة. والمحبة تُدخل المؤمن في شركة مع الله ومع الناس[10].
2. نزيف القيم والشفاء منه بالايمان بالمسيح: لوقا8/40-48
الخطيئة التي لا نتوب عنها تولّد سلسلة من الخطايا الاخرى ونزيف القيم الروحية والانسانية، الخلقية والاجتماعية. فيصبح المجتمع عائشاً في " هيكلية خطيئة"[11]: اميال منحرفة تعتّم الضمير، عدم التمييز بين الخير والشر، الكبرياء، الشراهة، الطمع، الغضب، الكسل، القتل، الظلم، الاستبداد، اهمال الضعيف والمحتاج.
ايمان المرأة الذي قادها الى المسيح هو الذي شفاها من نزيف دمها: "تشجعي يا ابنتي، ايمانك أحياك، اذهبي بسلام" (لو8/48). سمعت المرأة بيسوع، فقصدته، والتمست منه الشفاء، بدون كلام، بل بحركة ايمانية، بالقلب والنية، وهذا هو الاساس في حياتنا مع المسيح، فوقف حالاً نزف دمها. كشف يسوع سرّها، لتكون نموذجاً لجميع الناس ومدى التاريخ، ان ايمانها هو الذي شفاها.
اين وكيف نستطيع ان نلمس طرف رداء المسيح لنشفى من نزيفنا الروحي والمعنوي، المادي والخلقي؟ نلمسه في كلام الانجيل الذي يشفي من نزيف الحقيقة الظاهر في الكذب والازدواجية والضلال. ونلمسه في اسرار الخلاص، ولاسيما في سرّي التوبة والقربان، حيث نعطى الشفاء من الخطايا والاسقام، ونعمة الاغتذاء من جسد الرب ودمه للحياة الجديدة.
من الانجيل والاسرار تخرج قوة الهية شافية، مثل تلك التي "خرجت من يسوع" ( انظر لوقا 8/ 46). انها فعل الروح القدس الذي يتمم فينا ثمار الفداء والخلاص، بقدر ما عندنا من ايمان غني بالرجاء والمحبة.
على هذا الاساس من الايمان والرجاء والمحبة ومن اجل شفاء الانسان، اسس الطوباوي الاب يعقوب حداد الكبوشي مؤسسة دير الصليب وما تفرّع عنها من مؤسسات نستطيع تسميتها " بجمهورية الألم وواحة الشفاء".
****
ثانياً، الوثيقة التعليمية " كرامة الشخص البشري"[12]
قيمة الانسان، دعوته للمشاركة في محبة الله الثالوث
لكل كائن بشري، بمجرد وجوده، يقتضي الاحترام الكامل، مع اقصاء كل تمييز عنصري، على اي من المستويات: البيولوجي والنفسي والثقافي والصحي. ففي الانسان المخلوق على صورة الله، ينعكس، في كل مرحلة من وجوده، وجه ابن الله الوحيد، الذي كشف، بتجسده وبتضامنه مع كل الناس، كم ان الشخص البشري جدير بأن يُحب بحدّ ذاته، بمعزل عن اي اعتبار آخر، فهماً او جمالاً او صحة او شباباً او سلامة او سواها. خلاصة القول ان الحياة البشرية خير دائم "لانها في العالم اعتلان لله، وعلامة لحضوره، وأثر لمجده" (الفقرة 8)[13].
ان الافعال التي يتم بها مجيء الكائن البشري الى الوجود، والتي من خلالها يتم تبادل الذات بين الرجل والمرأة هو انعكاس للحب الالهي الثالوثي: الله، الذي هو محبة وحياة، كتب في الرجل وفي المرأة الدعوة الى المشاركة الخاصة في سرّ شركته الشخصية، وفي عمله كخالق واب. ان الزوجين، بحكم تكاملهما على مستوى الرجولة والانوثة، يتشاركان في مشروع الحياة بكامله، في ما عندهم وفي ما هم عليه. هذه هي الشركة الزوجية النابعة من الطبيعة. انها شركة تعاش في العائلة البشرية، اخذها المسيح الرب، ونقّاها ورفعها وكمّلها بنعمة سرّ الزواج. اما الروح القدس فيعطي الزوجين، عبر نعمة السّر، شركة الحب، على صورة تلك الوحدة التي تصنع من الكنيسة جسد المسيح الواحد (الفقرة 9).
ان الكنيسة، فيما تقدّر قيمة نتائج الابحاث الطبية بشأن الانسان واصول حياته، لا تتدخل في القطاع الخاص بالعلوم الطبية بحدّ ذاتها. لكنها تدعو جميع المعنيين الى المسؤولية الاخلاقية والاجتماعية العائدة الى عملهم. ان القيمة الاخلاقية للعلوم الطبّية المتعلقة باخلاقيات الحياة تُعاش بمقدار ارتباطها باحترام كل كائن بشري غير المشروط، في كل مرحلة من حياته، وبحماية خصوصية الافعال الشخصية التي تنقل الحياة. من صلاحيات السلطة التعليمية في الكنيسة تنشئة الضمائر، من خلال التعليم الاصيل للحقيقة التي هي المسيح، والتأكيد على سلطان المبادىء الاخلاقية المتحدرة من الطبيعة البشرية نفسها (الفقرة 10).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تختتم الخطة الراعوية عرض النص المجمعي الثالث عشر: الرعية والعمل الراعوي، في قسم المؤسسات الرعوية والمنظمات (الفقرات41-48).
ليست رسالة الكنيسة محصورة بالاكليروس، بل هي واجب على كل معمَّد وحق له، ويشارك فيها في رعيته، من خلال المجلس الرعائي والمجالس الاخرى والمنظمات الرسولية وسائر النشاطات، بشرط احترام الرابط الذي يربطهم بالسلطة الكنسية. يوصي المجمع البطريركي بما يلي:
1. انشاء المجالس الرعائية في الرعايا بهدف انعاش حياة الرعية وافساح المجال امام مختلف ابناء الرعية للقيام برسالتهم بروح من التعاون لتفعيل العمل الراعوي.
2. تفعيل عمل لجان الوقف في ما يختص بحاجات الكنيسة المبنى، ووسائل العبادة العمومية، والمعيشة اللائقة للكهنة وسائر الخدام الكنسيين، وخدمة المحبة للفقراء، الى جانب المساهمة في العمل الراعوي.
3. تعزيز المنظمات والحركات الرسولية التي هي من ثمار الروح القدس، وخلايا حيّة لبناء الجماعة الرعوية، لكي تكون مكاناً لنمو الايمان وشدّ اواصر الشركة الكنسية. يُعنى الكاهن بتأمين التنشئة الدينية والانسانية لاعضائها لكي تنمو محبتهم للمسيح والكنيسة. كما يعنى بمرافقتهم روحياً لكي تكون هذه الجماعات مدرسة ايمان حقيقية، وتعمّق انتماءها الرعائي والابرشي والكنسي.
4. الاهتمام براعوية العائلة بحيث تشكّل كنيسة بيتية، يكون الوالدان فيها ناقلي الايمان ومعلمي الصلاة للاولاد، والمربيين لهم على محبة الفقراء واحترام الغير.
5. انشاء مراكز رعوية في الابرشية وفي الرعايا لاستيعاب العمل الرسولي ولاسيما تأمين التنشئة لمختلف فئات الرعية.
يتولى كاهن الرعية مسؤولية الارشاد للجميع، مستعيناً بكهنة آخرين او برهبان وراهبات او بعلمانيين من داخل الرعية او من خارجها. وعليه ان يرعى التوافق والتنسيق بين المجموعات المختلفة، فهو المسؤول الاول عن الوحدة وشركة المحبة في الرعية.
ويسهر كاهن الرعية على مسيرة الايمان في المجموعات المنظمة، بحيث يساعد اعضاءها، بالتعاون مع المسؤولين العلمانيين عنها، على تتميم عمل المسيح في الكنيسة، جسده، وعلى وعي المواهب وتثميرها لخير الجسد كله.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، لقد اتيت تحمل الينا غفران الله يشفينا من ضعفنا وينعشنا بالحياة الالهية، ابعث في قلوبنا الاسف والندامة مع العزم على طلب الشفاء بايمان المرأة النازفة. ان نزيف القيم الروحية والاخلاقية والانسانية يتهددنا بالموت الروحي. اسمعنا صوتك باعث الرجاء: " تشجعوا ايمانكم احياكم، اذهبوا بسلام". فلتلمسنا كلمة الانجيل فتشفى منا العقول من الكذب والازدواجية، ونعمة سرّي التوبة والقربان فتشفى منا الارادات والقلوب من كل ميل الى الشر ومن الحقد والبغض. ألهم الجميع، بانوار الروح القدس، ليدرك كل انسان كرامته ودعوته الى المشاركة في محبة الله الثالوث. هدّىء كل يد تمتد لتنتهك حق اي كائن بشري في الحياة والوجود، في كل مراحل حياته، بدءاً من تكوينه في حشى امه. ساعد رعاة الكنيسة، اساقفة وكهنة، على انشاء الهيكليات الراعوية، لكي تُتاح للمؤمنين المشاركة الواعية والمسؤولة في حياة الكنيسة ورسالتها، انطلاقاً من الرعية. لك المجد والشكر والتسبيح، ايها الآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***
الابن الشاطر
2 كورنتس 13/5-13
لوقا 15/11-32
تغيير الانسان قائم على الحقيقة والحرية
مع هذا الاحد نبلغ الى منتصف زمن الصوم الكبير، وفيه نتوقف عند مفهوم الخطيئة وعناصر التوبة وثمار المصالحة، بمثل الابن الشاطر او الضال، الذي يعطيه المعلم الالهي. انها دعوة الى المصالحة مع الله والعائلة والمجتمع، الى تغيير الذات بالتوبة والمصالحة، والى العيش في نور الحقيقة التي تحرّر.
حقيقة المسيح والايمان به كانت في اساس الآيات الثلاث السابقة التي اجراها يسوع: تحويل الماء الى خمر، وشفاء الابرص، وشفاء المرأة المنزوفة.
الحرية وليدة الحقيقة تدعونا الى التوبة عن الخطيئة التي تشوههما، ما يجعلنا نسير في هذه الدنيا مسلكاً مستقيماً، كما تعني آية شفاء المخلع، وننظر الى الحياة برؤية جديدة، وفقاً لآية شفاء الاعمى. وهكذا بنور الحقيقة وشجاعة الحرية نعلن ملوكية المسيح المطلقة، مثلما جرى يوم دخول الرب يسوع اورشليم، المعروف بعيد الشعانين.
اولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والانجيل
3. رسالة القديس بولس الثانية الى اهل كورنتس: 13/5-13
إِخْتَبِرُوا أَنْفُسَكُم، هَلْ أَنْتُم رَاسِخُونَ في الإِيْمَان. إِمْتَحِنُوا أَنْفُسَكُم. أَلا تَعْرِفُونَ أَنَّ الـمَسِيحَ يَسُوعَ فِيكُم؟ إِلاَّ إِذَا كُنْتُم مَرْفُوضِين! فأَرْجُو أَنْ تَعْرِفُوا أَنَّنا نَحْنُ لَسْنا مَرْفُوضِين! ونُصَلِّي إِلى اللهِ كَيْ لا تَفْعَلُوا أَيَّ شَرّ، لا لِنَظْهَرَ نَحْنُ مَقْبُولِين، بَلْ لِكَي تَفْعَلُوا أَنْتُمُ الـخَيْر، ونَكُونَ نَحْنُ كَأَنَّنا مَرْفُوضُون! فَإِنَّنا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْعَلَ شَيْئًا ضِدَّ الـحَقّ، بَلْ لأَجْلِ الـحَقّ! أَجَلْ، إِنَّنا نَفْرَحُ عِنْدَما نَكُونُ نَحْنُ ضُعَفَاء، وتَكُونُونَ أَنْتُم أَقْوِيَاء. مِنْ أَجْلِ هـذَا أَيْضًا نُصَلِّي لِكَي تَكُونُوا كَامِلِين. أَكْتُبُ هـذَا وأَنا غَائِب، لِئَلاَّ أُعَامِلَكُم بِقَسَاوَةٍ وأَنا حَاضِر، بِالسُّلْطَانِ الَّذي أَعْطَانِي إِيَّاهُ الرَّبّ، لِبُنْيَانِكُم لا لِهَدْمِكُم. وبَعْدُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، إِفْرَحُوا، وَاسْعَوا إِلى الكَمَال، وتَشَجَّعُوا، وكُونُوا عَلى رَأْيٍ وَاحِد، وعِيشُوا في سَلام، وإِلـهُ الـمَحَبَّةِ والسَّلامِ يَكُونُ مَعَكُم! سَلِّمُوا بَعْضُكُم عَلى بَعْضٍ بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَة. جَمِيعُ القِدِّيسِينَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْكُم. نِعْمَةُ الرَّبِّ يَسُوعَ الـمَسِيح، ومَحَبَّةُ الله، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ مَعَكُم أَجْمَعِين!
يدعو بولس كل المؤمنين بالمسيح الى الحياة بنور الحقيقة، فيفعلوا كل شيء لاجل الحقيقة، لا ضدها. ويعطي مضمون العيش بنور الحقيقة وهو: الفرح، السعي الى الكمال، الشجاعة، توحيد الرأي، مسالمة الجميع. فيكون اله المحبة والسلام مع الذين يسلكون بنور الحقيقة، وتستقر فيهم نعمة الرب يسوع، ومحبة الآب وشركة الروح القدس (الآيتان 11 و12).
يؤكد بولس الرسول في مستهل الرسالة ان الحقيقة تنبع من الايمان بالمسيح، وانها المسيح المستقر فينا (الآية الاولى)، وتظهر في مسلكنا وقولنا وفعلنا.
في كتب العهد القديم، يوحي الله عن نفسه انه ينبوع الحقيقة: كلامه حق، وشريعته حق. وبما ان الله هو الحقيقة، فشعبه مدعو ليعيش في الحق (مزمور 119/9). ولقد ظهرت حقيقة الله كاملة في يسوع المسيح المملوء نعمة وحقيقة، وقد أتى نوراً للعالم، ليهديه الى الحق ( انظر يوحنا 1/14). فأعلن امام بيلاطس انه "جاء ليشهد للحقيقة" (يو18/37).
دعا بولس الرسول تلميذه تيموتاوس، ومن خلاله كل مسيحي " لئلا يستحي من الشهادة للحق" (2تيم1/8). وهو امام الجميع قدوة في الشهادة للحقيقة من دون التباس، ومن دون خوف. ما جعله يقول: " ولهذا حفظت ضميري سليماً من كل خطأ امام الله والناس" (اعمل24/16).
الشهادة للحقيقة هي واجب المسيحيين الذين جعلهم الرب يسوع شهوداً للانجيل، فينقلوا، بالقول والفعل حقيقته التي تولّد الايمان، ويلتزموا بموجبات تعليمه، كاشفين الانسان الجديد الذي لبسوه بالمعمودية، وقوة الروح القدس الفاعلة فيهم والمقوّية لهم[14].
2. معرفة الحقيقة تحرّر الانسان: لوقا15/11-32
قال الرب يسوع ذات يوم: " تعرفون الحقيقة والحقيقة تحرركم" (يو8/32). واليوم يشرح لنا هذا القول في مثل الابن الشاطر الذي ضلّ عن الحقيقة بحريته، وعاد فاكتشف الحقيقة وتحرر.
انجيل اليوم دعوة الى معرفة الحقيقة حول الخطيئة ومضمونها، والتوبة وعناصرها، والمصالحة وثمارها. والانسان، بحريته المزيّفة يرتكب الخطيئة وبحريته الواعية يتوب عن الخطيئة، فيتحرر منها بالمصالحة مع الله، ويعيش في كرامة حرية ابناء الله.
لما خلق الله الانسان كائناً عاقلاً، مزيناً بالعقل لمعرفة الحقيقة والخير، وبالارادة للقيام بافعال واعية وحرّة، " تركه لمشورة نفسه" (بن سيراخ 15/14). فصار مسؤولاً عن كل اعماله التي يقررها بحريته، وهي القدرة المعطاة له من الله ليقرر ان يفعل هذا او ذاك من الخير الذي يكشفه له عقله الواعي، او ان يلتزم هذه الحقيقة وهذا الخير، او ان يختار بين الخير والشر. ما يقتضي ان يكون عقله مستنيراً بالحقيقة الموضوعية، وارادته حرّة من اي ضغط او اكراه حسّي او معنوي، ليأتي خياره الحر صالحاً بحدّ ذاته. فالحرية تتحرك ضمن اطار الحقيقة والخير الموضوعيين.
مفهوم الخطيئة (الآيات 12-16)
الخطيئة فعل حرية خاطىء، قوامه، حسب المثل، ابتعاد عن الله بتفضيل خيراته وعطاياه عليه، والعيش بعيداً عنه. فتكون نتيجة هذا العمل الخاطىء افتقاراً من القيم، بحيث ان خيرات الدنيا التي علّق قلبه بها تبيّنت سراباً، هذه كانت حالة الفقر التي أصابت الابن الاصغر. والنتيجة الثانية انحطاط في الكرامة مرموز اليه بعيش هذا الابن مع الخنازير وشهوة الأكل من أكلهم.
عناصر التوبة (الآيات 17-20)
التوبة فعل حرية، قوامه وعي الخطأ في القرار الاول على ضوء صوت الضمير، الذي هو صوت الله في داخل الانسان يدعوه الى فعل الخير وتجنب الشر. هذا هو مفهوم " عودة الابن الاصغر الى نفسه". العودة الى الذات هي فحص الضمير اي الوقوف امام الله، في هذا البيت الداخلي الذي هو الضمير، ومقارنة حالته الحاضرة مع وصايا الله ورسومه، ومع تعليم الكنيسة الام والمعلمة وتوجيهاتها، وهي المكلفة من المسيح لتهدي الى الحقيقة وفقاً لتعليم الانجيل.
هذه الحرية الواعية تدعو صاحبها الى قرار العودة الى الحالة التي اضاعها وكانت سبب شقائه. قرر الابن الاصغر ان يعود الى بيت ابيه. قرر ترك حالته الحاضرة، اي تغيير المسلك والابتعاد عن الاسباب التي كانت في اساس خطأه، وفي نفسه ندامة عما فعل وأسف كبير. هذه الحرية المميّزة بين الخير والشر الموضوعيين، والظاهرة في ندامته، حملته الى تنفيذ قرار العودة، قاصداً البيت الوالدي، حيث الخير الحقيقي والكرامة الانسانية. عاد واعترف بخطيئته، فارضاً على نفسه القصاص التعويضي بألا يُعطى كرامة البنين.
المصالحة وثمارها (الآيات 18-24).
المصالحة هي جواب الله على توبة الخاطىء النادم والمقرر تغيير مسلكه. انها فيض من محبة الآب السماوي ورحمته، هو الذي يريد خلاص ابنائه بحسن استعمال ارادتهم. ان هذا الأب الرحوم هو في انتظار دائم لابنه الضائع. المصالحة هي غفران الخطايا المرموز اليه بحنان الاب ومبادرته لملاقاة ابنه العائد وتقبيله. اما ثمارها فأربع: استعادة حالة النعمة والبرارة، المرموز اليها بالحلة الفاخرة؛ استعادة كرامة الابناء، المرموز اليها بالخاتم؛ بدء حياة جديدة ومسلك مستقيم، المرموز اليهما بالحذاء؛ وبالتالي امكانية الجلوس الى مائدة القربان، هذه الشركة مع الله والكنيسة، المرموز اليهما بوليمة العجل المسّمن وفرح العائلة. هذه المصالحة بكل ثمارها تعيد الخاطىء عن ضلاله، وتقيمه من موته الروحي.
موقف الابن الاكبر
تميّز باثنين: بحرية واعية جعلته اميناً لابيه السنوات الطويلة، وهذه افعال يُمدح عليها؛ وبحرية خاطئة اعماها حقده وحسده وانانيته، فرفض المغفرة لاخيه والمشاركة في حفلة المصالحة. وكان موضوع ملامة.
اما موقف الأب الذي توجَّه الى ابنه الاكبر فهو اياه دعوة الى التوبة عن الخطيئة، والى المشاركة في المصالحة.
هذا هو زمن الصوم الكبير، توبة ومصالحة، عودة عن الضلال ونهوض من الموت الروحي، فمشاركة في النعمة والفرح مع الله والاسرة البشرية. هذه كلها تتم في بيت الله، الذي هو الكنيسة المؤتمنة، في خدمة الكهنوت، على سماع التوبة ومنح الغفران واجراء المصالحة.
***
ثانياً، الوثيقة التعليمية " كرامة الشخص البشري"[15]
تعرض الوثيقة في القسم الثاني المعضلات الجديدة المتعلقة بالانجاب، نذكرها على التوالي.
تقنيات المساعدة على الخصوبة (الفقرات 12 و13).
التقنيات الطبية التي تساعد على الانجاب تشهد لامكانيات الفن الطبي. لكنها تحتاج الى تقويم خُلقي من جهة ارتباطها بكرامة الشخص البشري، المدعو من الله الى عطية الحب وعطية الحياة. ثمة ثلاث قيم اساسية تختص بمعالجة عدم الخصوبة:
1. الحق في الحياة وفي السلامة الجسدية لكل كائن بشري منذ الحبل به حتى موته الطبيعي.
2. وحدة الزواج التي تستدعي الاحترام المتبادل لحق الزوجين في ان يصبحا اباً واماً فقط الواحد من خلال الآخر.
3. قيم الجنس بخصوصيته الانسانية، التي تقتضي انجاب الشخص البشري كثمرة للفعل الزوجي الموصوف بحب الزوجين.
لذا، تُقصى كل تقنيات الاخصاب الاصطناعي غير المتجانس المتآتي من خلايا يعطيها على الاقل شخص غير الزوجين، والاخصاب المتجانس بخلايا من الزوجين، التي تحلّ محلّ الفعل الزوجي.
بالمقابل، يُسمح بالتقنيات التي تساعد على الفعل الزوجي وعلى خصوبته. ان التدخل الطبي يحترم كرامة الاشخاص عندما يأتي ليساعد الفعل الزوجي، سواء ليسهّل اتمامه او ليبلغ غايته بعد ان يكون قد تمّ بشكل طبيعي, ان الزرع الاصطناعي المتجانس، في اطار الزواج، لا يمكن قبوله الا في الحالة التي لا تحل فيها الوسيلة التقنية محل الفعل الزوجي، بل تأتي للتسهيل والمساعدة، بهدف ان يبلغ الفعل الزوجي غايته الطبيعية.
الطبيب هو في خدمة الناس والانجاب البشري، ولا يحق له ان يتصرف بهم او ان يقرر بشأنهم (فقرة 12).
تجوز التقنيات الهادفة الى الغاء عراقيل الخصوبة الطبيعية مثل المعالجة بالهرمونات، والمعالجة الجراحية المتنوعة. انها معالجات حقيقية بمقدار ما تمكّن الزوجين من اجراء الافعال الزوجية بهدف الانجاب، من بعد حلّ المشكلة التي هي اساس العقم، ومن غير ان يتدخل الطبيب مباشرة في الفعل الزوجي بحدّ ذاته.
ان الكنيسة تشجّع كل الابحاث والتثميرات المكرسّة للوقاية من العقم. كما تدعو الى تعزيز وتسهيل التشريعات ليتمكن الازواج من تبني اولاد يتامى هم بحاجة الى بيت يوفر لهم نموهم الانساني المناسب (الفقرة 13).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تبدأ الخطة اليوم بعرض النص المجمعي 14: التعليم المسيحي وتنشئة الراشدين المسيحية المستمرة. فتتناول مراحله التاريخية (3-10).
1.خدمة التعليم المسيحي هي من خدمات الكنيسة الاساسية، اذ بدونها لا يستطيع الولد ان ينمو بالايمان، ولا الراشد ان يطلب المعمودية، ولا المؤمن ان يعيش مسيحيته. التعليم هو زرع كلمة الله التي تحمل ثمار الخلاص في النفوس المهيأة كالارض الطيبة، وسعيٌ الى جعل التلميذ يتخلق بخلق المسيح، ويحمل فكره، ويعمل اعماله، ويقف مواقفه (الفقرة1).
ان امكنة التعليم المسيحي هي العائلة والرعية والمدرسة والاحتفالات الليتورجية والايقونات والاموال الثقافية. يوصي المجمع بالمحافظة على هذا الارث والتقليد في كنيستنا (الفقرة 2).
2. درجت الكنيسة المارونية على خدمة التعليم المسيحي مع القديس مارون وتلاميذه، حيث كانت الجماعة المسيحية تتحلق حول الدير وتتنشّأ في ايمانها وروحانيتها، وتتخذ المناعة والثبات وسط المحن والاضطهادات.
ومن بعد المجمع التريدنتيني (1545-1565) الذي اوجب هذا التعليم وألزم الاساقفة والكهنة القيام به ووضع " كتاب التعليم المسيحي"، عقدت الكنيسة المارونية مجمع قنوبين (1580) وفرضت على الاساقفة والكهنة واجب التعليم المسيحي للاولاد في كل قرية ومدينة ايام الآحاد. ووضع المجمع اللبناني (1736) قوانين تلزم الكهنة بتعليم المؤمنين في الآحاد والاعياد وفقاً للتعليم المعروف " بالتعليم المسيحي الروماني". ألزم الوالدين تعليم اولادهم الايمان الصحيح، إما بانفسهم، وإما بواسطة الكاهن. كما ألزم معلمي المدارس بالخدمة نفسها. واوصى المجمع بفتح المدارس في المدن والقرى والاديرة حيث يتأمن التعليم وممارسة الصلاة واقامة ذبيحة القداس (الفقرة 5).
3. ولعبت المدرسة المارونية دوراً كبيراً في التنشئة المسيحية، بدءاً من مدرسة روميه (1584)، فمدرسة زغرتا ( 1690) للآباء اليسوعيين، ومدرسة عين ورقه (1789)، ومدارس الرهبانيات الغربية التي تكاثرت في القرنين 19 و20.
4. يبقى المهمّ في التعليم المسيحي المحافظة على بعدين: التثقيف العقائدي على مستوى الفكر، والنهج الحياتي على مستوى المسلك والموقف (الفقرة 9).
صلاة
ايها الرب يسوع، لقد اتيت الينا من عند الآب حاملاً النعمة والحقيقة، لكي تعيدنا من حالة الضياع والضلال، وتحيينا من الموت الروحي، وتدخلنا في شركة السعادة والفرح مع الله والعائلة البشرية. في زمن الصوم المقبول، بما فيه من تعليم للحقيقة وتوزيع للنعمة، وبما فيه من اصوام واماتات تكفيرية، ورياضات روحية وصلوات ترفع العقل والقلب الى الله، وبما فيه من افعال محبة ورحمة ومصالحة، ساعدنا على الاهتداء بالنعمة والحقيقة، وعلى التوبة والمصالحة. قدّس عمل الاطباء بنعمتك ووجّه عقولهم بحقيقتك لكي يحترموا الحياة البشرية الناشئة في احشاء الام ويحافظوا عليها، لانها خاصة الله وعطية منه، ولها دورها الخاص في تاريخ البشر والخلاص. بارك خدمة الكنيسة في نقل سرّك المسيحي بالكرازة والتعليم، ليبلغ جميع الناس الى الحقيقة وينالوا الخلاص. فنرفع المجد والحمد والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***
شفاء مخلع كفرناحوم
1 تيموتاوس 5/24-6/1-5
مرقس2/1-12
المسيح شافي النفوس والاجساد
آية شفاء مخلع كفرناحوم، نفساً وجسداً، بمغفرة خطاياه وشفائه من شلله رمز لكل انسان يعاني من الشلل الروحي او الجسدي، او الاثنين معاً. وترمز الآية ايضاً الى ان النصف الثاني من الصوم الكبير هو زمن الشفاء من الشلل الروحي والسير في الطريق المستقيم.
رسالة القديس بولس لهذا الاحد تصف حالة الشلل الروحي، والانجيل يعرض طريقة الشفاء منه بقوة المسيح، طبيب الارواح والاجساد.
اولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والانجيل
4. رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى تلميذه تيموتاوس: 5/24-6/1-5
مِنَ الـنَّاسِ مَنْ تَكُونُ خَطَايَاهُم وَاضِحَةً قَبْلَ الـحُكمِ فِيهَا، ومِنهُم مَنْ لا تَكُونُ واضِحَةً إِلاَّ بَعْدَهُ. كذـلِكَ فَإِنَّ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ هِيَ أَيضًا وَاضِحَة، والَّتي هيَ غَيرُ واضِحَةٍ فَلا يُمْكِنُ أَنْ تَبْقَى خَفِيَّة. على جَمِيعِ الَّذِينَ تَحْتَ نِيرِ العُبُودِيَّةِ أَنْ يَحْسَبُوا أَسْيَادَهُم أَهْلاً لِكُلِّ كَرَامَة، لِئَلاَّ يُجَدَّفَ عَلى اسْمِ اللهِ وتَعْلِيمِهِ. أَمَّا الَّذِينَ لَهُم أَسْيَادٌ مُؤْمِنُونَ فلا يَسْتَهِينُوا بِهِم، لأَنَّهُم إِخْوَة، بَلْ بِالأَحْرَى فَلْيَخْدُمُوهُم، لأَنَّ الـمُسْتَفِيدِينَ مِن خَدْمَتِهِم الطَّيِّبَةِ هُم مُؤْمِنُونَ وأَحِبَّاء، ذـلِكَ مَا يَجِبُ أَنْ تُعَلِّمَهُ وتَعِظَ بِهِ. فَإِنْ كَانَ أَحدٌ يُعَلِّمُ تَعْلِيمًا مُخَالِفًا، ولا يَتَمَسَّكُ بالكَلامِ الصَّحِيح، كَلامِ ربِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيح، وبِالتَّعْلِيمِ الـمُوَافِقِ للتَّقْوى، فهُوَ إِنسَانٌ أَعْمَتْهُ الكِبْرِيَاء، لا يَفْهَمُ شَيْئًا، بَلْ مُصَابٌ بَمَرَضِ الـمُجادلاتِ والـمُمَاحَكَات، الَّتي يَنْشَأُ عَنْهَا الـحَسَدُ والـخِصَامُ والتَّجْدِيفُ وسُوءُ الظَّنّ، والـمُشَاجَرَاتُ بينَ أُنَاسٍ فَاسِدِي العَقْل، زَائِفِينَ عَنِ الـحَقّ، يَظُنُّونَ أَنَّ التَّقْوى وَسيلَةٌ لِلرِّبْح.
يصف بولس الرسول في هذه الرسالة الشلل الروحي الذي هو من نتائج الخطيئة في الانسان. فيبدأ بالتأكيد ان الخطيئة باعمالها السيئة واضحة، مثلما الاستقامة بالاعمال الصالحة واضحة ايضاً.
من كان في حالة الخطيئة فانه يقول ويعلم ما يتنافى وتعليم المسيح، فتتبين حالته في مسلكه وتصرفاته على هذا المستوى: هو انسان تعميه الكبرياء والجهل، مصاب بمرض المجادلات والمماحكات. مواقفه وتعاطيه مع الغير تدل على شلل اخلاقي يعدده بولس الرسول في انواعه: الحسد والخصام والتجديف وسوء الظن والمشاجرة وفساد العقل والانحراف عن الحق.
يحثّ بولس تلميذه تيموتاوس على الكرازة والتعليم لكي يستنير المؤمنون ويشفوا من شلل العقل الذي يحول دون معرفة الحق، وشلل الارادة الذي يفسد اخلاقية التعاطي مع الناس: " ذلك ما يجب ان نعلّمه ونعظ به" (1تيم6/2). هذا التعليم والوعظ هو واجب رعاة الكنيسة، اساقفة وكهنة، لكي يواصل المسيح شفاء النفوس من جهل الحقيقة التي أوحاها عن الله والانسان والتاريخ، ومن سوء الاخلاق الاجتماعية.
السّر المسيحي هو الايمان الذي نعلنه، والذي نحتفل به في الليتورجيا والاسرار، نعمةًً تقدس النفوس بالحياة الالهية. ان حقيقة الايمان ونعمة الاسرار تنيران اعمال المؤمنين وتعضدانها بمواهب الروح القدس والفضائل الالهية والاخلاقية. هذا السّر المسيحي، بما فيه من ايمان ونعمة واعمال مزدانة بالفضائل، هو اساس الصلاة[16].
2. شفاء المخلّع وما ينطوي عليه من معانٍ: مرقس2/1-12
بالشلل الروحي والاخلاقي الذي تتسبب به حالة الخطيئة يفقد الانسان قواه التي هي الايمان والرجاء والمحبة والفضائل الاخرى والقيم الاخلاقية، مثلما الشلل الجسدي يُفقد المشلول قواه الحسية والعصبية. فينحرف عقله عن الحقيقة، وتضعف ارادته في فعل الخير وتجنّب الشر، ويتعطل ضميره عن سماع صوت الله، ويميل قلبه عن المحبة لله والناس، وتتلاشى القاعدة الاخلاقية، وتنهار القيم الروحية والانسانية والاجتماعية.
نال مخلّع كفرناحوم الشفاء الشامل من المسيح بقوة ايمانه وايمان الرجال الاربعة الذي حملوه وثقبوا السقف ودلّوه مع سريره امام يسوع. هي الكنيسة تلتف حول الرب يسوع في الكنيسة، مثلما التفّ حوله جمع كفرناحوم. وبايمان تحمل اليه الكنيسة ابناءها بصلاتها وكرازتها وخدمة الاسرار، ليشفيهم. في كفرناحوم انتظر الجمع من يسوع ان يشفي المخلع، فبادر بشفاء نفسه من خطاياه، للدلالة انه اتى ليشفي الخطأة. ثم شفاه جسدياً ليعطي البرهان على انه صاحب سلطان الهي ليغفر الخطايا.
آية شفاء المخلّع تبيّن ان الخطيئة، المتأصلة في نفس الانسان، تبقى تحت سيطرة قوة الفداء الخلاصية. فالمسيح، ابن الله ووسيطه، غفر لخاطي كفرناحوم، وبذبيحته على الصليب استحق الغفران لجميع افراد الجنس البشري، مصالحاً اياهم مع الآب، وسلّم الكنيسة خدمة هذه المصالحة بواسطة الكهنوت.
الكاهن، خادم التوبة، يعمل " بشخص المسيح". ما يعني ان المسيح يمنح، بواسطة خدمة الكاهن، مغفرة الخطايا، ويبدو اخاً للانسان، حبراً رحيماً، راعياً يسعى دائماً في البحث عن النعجة الضالة، طبيباً يشفي ويقوي، معلماً أوحد يعلم الحقيقة ويرشد الى سبل الله، قاضياً للاحياء والاموات، يحكم بالحق والواقع وليس بحسب الظواهر. هذا ما يمثلّه الكاهن، وهو في كرسي الاعتراف، ما يقتضي منه ان يتحلّى بصفات انسانية كالفطنة وقوة التمييز، والحزم واللطف؛ وان يكون ذا ثقافة كاملة ومتناسقة في اللاهوت والتربية وعلم النفس ومنهجية الحوار؛ وان يسلك امام التائبين طريق التوبة والمصالحة؛ وان يشهد لخبرة حقيقية في الصلاة والفضائل الانجيلية؛ وان يكون حاضراً في كرسي الاعتراف ليوزع كنوز الكنيسة على المؤمنين اي النعمة والحياة الحق والاشعاع الروحي[17].
" مغفورة لك خطاياك". قالها يسوع لمخلع كفرناحوم، ويقولها بفم الكاهن لكل خاطىء تحت كل سماء. فالكاهن يرفع يمينه ويرسم اشارة الصليب على التائب ويقول: " انا بالسلطان المعطى لي أحلّك من جميع خطاياك باسم الاب والابن والروح القدس". في هذه اللحظة، لحظة الحلّة السرّية، يلتقي الخاطىء النادم قوة الله ورحمته، وينال من الآم يسوع وموته وقيامته قوة خلاصية، ورحمة اقوى من الاثم والاهانة[18].
ثانياً، الوثيقة التعليمية " كرامة الشخص البشري"[19]
الاخصاب في الانبوب واتلاف الاجنة المتعمد (الفقرات 14-16).
هو المعضلة الثانية المتعلقة بالانجاب.
الانجاب في الانبوب ينطوي على اتلاف مقصود ومتعّمد لعدد من الاجنة الناتجة من هذا الاخصاب. هذه التقنيات تتعاطى مع الجنين البشري وكأنه مجرد كتلة خلايا قيد الاستعمال والتصنيف او الالغاء.
معروف من احصاءات مراكز الاخصاب الاصطناعي، ان ثلث النساء اللواتي يلجأن الى الاخصاب الاصطناعي يحصلن على ولد، فيما عدد الاجنة التي يُضحى بها يبلغ نسبة 80٪. من المؤسف ان يقبل الاخصائيون في تقنيات الاخصاب في الانبوب هذه الخسارات كثمن يُدفع للحصول على نتائج مرضية. ومن المقلق حقاً ان الابحاث في هذا المجال لا تعير اهتماماً حقيقياً لحق كل جنين في الحياة، بل ترمي بنوع خاص الى الحصول على نتائج افضل في نسبة الاطفال الذين يولدون نظراً لعدد النساء اللواتي يبدأن علاجاً (فقرة14).
من ناحية اخرى، تُتلف فوراً الاجنة المتكوّنة في الانبوب عندما تحمل نقصاً ما. وثمة ازواج غير عقيمين يلجأون الى الاخصاب في الانبوب فقط بهدف اختيار نوعية الاولاد. في بلدان عديدة، يصار الى تفعيل المبيض للحصول على عدد كبير من البويضات للاخصاب. فينقل عدد الاجنة الحاصلة الى الرحم، فيما الاجنة الاخرى تجمّد لاستعمالها في اخصابات مستقبلية. الغاية من نقل عدد من الاجنة هو للحصول، بقدر ما يمكن، على تعشيش جنين واحد على الاقل، وبالتالي اتلاف اخرين وتجنّب الحمْل باكثر من واحد. وهكذا يكون التعاطي مع الاجنة البشرية كادوات في تقنية النقل. في تقنيات الاخصاب في الانبوب، لا يحظى الجنين بأي احترام امام تلبية رغبة الحصول على ولد.
في كل ذلك، ويا للاسف، نشهد في الواقع تعدّيات جديدة على الحياة (فقرة15).
ان الكنيسة لا تقبل اخلاقياً بالفصل بين الانجاب والفعل الزوجي الشخصي. فالانجاب البشري فعل شخصي يقوم به الثنائي رجل وامرأة، ولا يقبل اي نوع من التعويض الى آخر. والقبول الهادىء لنسبة الاجهاض المرتفعة جداً، الناتجة من الاخصاب في الانبوب، يبين بشكل ناطق ان استبدال الفعل الزوجي يساهم في اضعاف الاحترام الضميري الواجب لكل كائن بشري، وللانجاب الذي لا يمكن حصره في البعد الانتاجي فقط. ان هذا الاحترام المزدوج تعززه حميمية الزوجين، وينعشه حبهما الزوجي المتبادل.
تعترف الكنيسة بشرعية الرغبة في الحصول على ولد، وتتفهم وجع الازواج من مشاكل العقم. لكن هذه الرغبة لا تمرّ قبل كرامة الحياة البشرية، بدرجة تجاوزها. لا تستطيع الرغبة في الحصول على ولد تبرير " انتاجه"، وكذلك الرغبة في عدم الحصول على حَبَل لا تستطيع اهمال الجنين او اتلافه.
ان بعض الباحثين، الخالين من اي قاعدة اخلاقية، والمأخوذين بالتقدم التكنولوجي، ينقادون الى منطق الرغبات الشخصية فقط، والى الضغوط المالية الشديدة خاصة في هذا المجال.
لقد اعلنت السلطة التعليمية في الكنيسة باستمرار الصفة المقدسة وغير قابلة الانتهاك العائدة لكل حياة بشربة، من الحَبَل حتى نهايتها الطبيعية. فمحبة الله لا تميّز بين الجنين في بطن امه والولد او الشاب او الرجل الناضج والمسنّ (فقرة16).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تنقل الخطة الراعوية من النص المجمعي 14: التعليم المسيحي، تعليم المجمع حول واقع التعليم المسيحي اليوم والمرتجى (الفقرات 11-18).
1. يتأمن التعليم المسيحي اليوم في المدرسة ضمن برنامج محدد ومنظم وفقاً للصفوف. والمدرسة تشكل الاطار الأوفر والاضمن. ويتأمن نوعاً ما في المنظمات والحركات الرسولية، وعبر وسائل الاعلام الكاثوليكية مثل المجلات التعليمية واذاعة صوت المحبة وتلفزيون تليلوميار ونورسات، وفي الوعظ والاحتفالات الليتورجية، وفي مراكز التثقيف الديني.
2. لكنه ضعف جداً في العائلة بسبب قلة ثقافة الاهل، وهمومهم المعيشية، وقلة الممارسة الدينية، والروح الاستهلاكية، والبرامج الاعلامية الهدّامة (الفقرات 11-13).
3. والرعية مدعوة لتحافظ على واجبها التعليمي عبر الوعظ والارشاد والتعليم المسيحي لمختلف الفئات والاعمار. هذا الواقع يختلف بين رعية واخرى. لكنه خفّ بوجه العموم في معظم الرعايا، حيث يقتصر العمل الراعوي على قداس الاحد وبعض الممارسات الليتورجية (الفقرة 14).
4. تبقى الحاجة الى تأمين تنشئة مستمرة للراشدين وفقاً لعاداتنا وتقاليدنا. ما يقتضي وجود منشّئين ذوي ثقافة متنوعة وكافية لتخاطب مختلف فئات شعبنا. ان لوسائل الاعلام دوراً كبيراً على هذا المستوى، ينبغي الاستفادة منها باكثر ما يمكن. ولا بدّ من نشر الوثائق لهذه الغاية.
في عالم اليوم ينبغي ان تتسع تنشئة الراشدين الى القطاع المسكوني والى الحوار مع الاديان، فالى الحوار الفاعل في سبيل بناء انسانية تقبل بالتعددية واحترام هوية كل شعب (الفقرات 14-18).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، يا طبيب النفوس والاجساد، اليك نرفع عيوننا بايمان، طالبين الشفاء الروحي للخطأة بيننا، والشفاء الحسّي للمرضى. يحملهم ويحملنا اليك ايمان الكنيسة وصلاة ابنائها في هذا الزمن المقبول، زمن الصوم الكبير. نشكرك على انك سلمت كهنة العهد الجديد سلطان النفوس الروحي، يمارسونه باسمك، وانت من خلال خدمتهم تشفي النفوس من خطاياها، بفيض من محبة الآب، وبحلول الروح القدس، مانح الحياة الجديدة. ألهم الوالدين والاطباء على احترام النظام الطبيعي الذي رتّبه الخالق لنقل الحياة البشرية عبر اتحاد الزوجين روحاً وجسداً في هبة حب من شأنها ان تعطي الحياة لكائن بشري جديد، فلا يكون هذا الكائن وليد آلات تقنية بل وليد مشاعر عميقة تطبع حياته كلها. ساعد الجميع، كلاً من موقعه على نقل تعليمك الالهي، وتعليم الكنيسة، من خلال العائلة والرعية والمدرسة ووسائل الاعلام، لكي يبلغ كل انسان الى معرفة الحقيقة وينال الخلاص، فنرفع المجد والتسبيح والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى ابد الآبدين، آمين.
***
شفاء الاعمى
2 كورنتس 10/1-7
مرقس 10/46-52
الرؤية الجديدة
نبدأ الاسبوع السادس من الصوم الكبير، وهو الاخير قبل عيد الشعانين، وفيه تذكار آية شفاء الاعمى، رمز التغيير في الرؤية. انه يوم الرؤية الجديدة. الاعمى يعلن ان يسوع هو ابن داود الذي يرحم ويخلص. والشعب في اورشليم يهتف: " هوشعنا، يا رب خلّص. مبارك الآتي باسم الرب".
رسالة القديس بولس الرسول لهذا الاحد تدعونا الى تصحيح الافكار الخاطئة بنور المسيح، وبالتالي الى رؤية جديدة. وانجيل شفاء الاعمى يعلن ان يسوع وحده يُعطينا هذه الرؤية الجديدة، لكونه نور العالم.
اولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والانجيل
1. رسالة القديس بولس الثانية الى اهل كورنتس/10/1-7
أَنَا بُولُسُ نَفْسي أُنَاشِدُكُم بِوَدَاعَةِ الـمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا الـمُتَواضِعُ بَيْنَكُم عِنْدَمَا أَكُونُ حَاضِرًا، والـجَريءُ عَلَيْكُم عِنْدَما أَكُونُ غَائِبًا. وأَرْجُو أَلاَّ أُجْبَرَ عِنْدَ حُضُورِي أَنْ أَكُونَ جَريئًا، بِالثِّقَةِ الَّتي لي بِكُم، والَّتي أَنْوِي أَنْ أَجْرُؤَ بِهَا عَلى الَّذينَ يَحْسَبُونَ أَنَّنا نَسْلُكُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين. أَجَل، إِنَّنا نَحْيَا في الـجَسَد، ولـكِنَّنا لا نُحَارِبُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين؛ لأَنَّ أَسْلِحَةَ جِهَادِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّة، بَلْ هيَ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلى هَدْمِ الـحُصُونِ الـمَنِيعَة؛ فإِنَّنا نَهْدِمُ الأَفْكَارَ الـخَاطِئَة، وكُلَّ شُمُوخٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ الله، ونَأْسُرُ كُلَّ فِكْرٍ لِطَاعَةِ الـمَسِيح. ونَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ نُعَاقِبَ كُلَّ عُصْيَان، مَتى كَمُلَتْ طَاعَتُكُم. أِنَّكُم تَحْكُمُونَ عَلى الـمَظَاهِر! إِنْ كَانَ أَحَدٌ وَاثِقًا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيح، فَلْيُفَكِّرْ في نَفْسِهِ أَنَّهُ كَمَا هوَ لِلمَسيحِ كَذـلِكَ نَحْنُ أَيْضًا.
يشدد القديس بولس الرسول على فكرة اساسية هي: " هدم الافكار الخاطئة باخضاع العقل الى طاعة المسيح" (الآيتان 5 و6). هذه هي الغاية من مسيرة الصوم التي قامت على تحرير الذات مما هو عتيق في القول والمسلك والموقف. كانت الاصوام والاماتات تهدف الى السمو على الغرائز والشهوات، "فلا نكون جسديين"، كما يقول بولس الرسول. انه يميّز بين " العيش في الجسد" والتصرف " كأناس جسديين". اننا نعيش في الجسد كبشر ولدنا فيه، وله قيمته ودوره في مسيرتنا التاريخية، لكننا لا نتصرف حسب رغبات الجسد التي تتنافى ومقتضيات الروح المعطاة لنا من الله، وبها خلقنا على صورته ومثاله.
ان النفس البشرية مزيّنة بالعقل والارادة الحرّة، ما يجعل الشخص البشري مشدوداً الى الله منذ الحبل به، ومعَّداً للسعادة الابدية. من اجل هذه الغاية، عليه ان يتبع الشريعة الاخلاقية التي تحثّه على " فعل ما هو خير، وتجنّب ما هو شرّ". وهي شريعة يسمعها في عمق ضميره، ويعيشها بمحبته لله ولكل انسان[20]. وهكذا " يعيش في الجسد" لكنه "يسلك ويتصرف وفق مقتضيات الروح". وبكلمة " نحيا بالجسد، ولسنا جسديين" ( 2كور 9/3).
وكانت في مسيرة الصوم اعمال محبة ومصالحات ورحمة. هذه جعلتنا محررين من العيش بحسب الجسد، اذ اخرجتنا من الانانية والانطواء على الذات، وفتحت لنا القلب واليد على حاجات الاخوة الضعفاء، الفقير والمحتاج، الحزين والمهمّش والمجروح في كرامته والاسير في حقده وبغضه.
وكانت ايام صلاة وتوبة، استغفار وغفران، حملتنا على تصحيح العلاقة مع الله والناس، بالتحرر من حالات الخطيئة والشر.
من اجل ذلك انتصرنا على الشرير الذي حملنا على الافراط في الحرية، والسقوط في تجاريبه، وعمل الشر امام الله، بقوة نعمة المسيح الذي حررنا بموته وقيامته من الشيطان والخطيئة، واستحق لنا الحياة الجديدة بالروح القدس. فنعمته ترمم فينا ما شوّهته الخطيئة[21]. هذا ما عناه بولس الرسول بقوله: " نهدم الافكار الخاطئة، وكل شموخ يرتفع ضد معرفة الله، ونأسر كل فكر لطاعة المسيح" (2كور9/5-6).
هذه هي " الرؤية الجديدة" التي نسعى اليها في مسيرة الصوم الكبير.
2. أعمى اريحا والرؤية الجديدة ( مرقس10/46-52).
بين الجمع الكثير الذي كان يتبع يسوع، وهو خارج من اريحا، متجهاً الى اورشليم، واحد رآه على حقيقته هو الاعمى طيما بن طيما. كلهم عرفوه بعيونهم انه يسوع الناصري، اما هو فعرفه بقلبه انه ابن داود. ولما سأله يسوع: " ماذا تريد ان اصنع لك "، اجابه بما أملى عليه ايمانه من فهم: " رابوني، أي يا معلم، ان أبصر".
الرؤية الجديدة هي رؤية القلب أي رؤية الايمان المقرونة برؤية العقل. هذه هي هبة الفهم، احدى مواهب الروح القدس. ليست الرؤية الحقيقية رؤية العين بل البصيرة الداخلية، بصيرة القلب والعقل: " اؤمن لأفهم "، حسب مقولة القديس انسلموس. وجّه السيد المسيح ملامة اشعيا الى الذين "ينظرون ولا يبصرون، يسمعون ولا يفهمون" (متى13/13): "سمعاً تسمعون ولا تفهمون. ونظراً تنظرون ولا تدركون. لأن قلب هذا الشعب بات غليظاً . فثقّلوا آذانهم، واغمضوا عيونهم ، لئلا يبصروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرتدوا فأشفيهم" (اشعيا6/9).
هذا ما حصل مع الجمع الذي سمع صرخة الاعمى: " يا ابن داود ارحمني" لكنهم لم يفهموا، بل " انتهروه ليسكت". كانت صرخته بمثابة نداء لهم من فوق، فلم يدركوه. كانت مجرد صرخة سمعتها اذانهم، لا قلوبهم وعقولهم. هؤلاء لم يرتدوا الى يسوع ليشفيهم من عمى قلوبهم وعقولهم، كما فعل الاعمى ليشفى من عمى عيونه، بعد ان شفي بالايمان بيسوع من عمى البصيرة الداخلية. آية شفائه علمتهم انهم هم العميان حقاً وان الاعمى هو المبصر حقاً. والتفت يسوع الى تلاميذه، أي المؤمنين به، وقال: "اما انتم، فطوبى لعيونكم التي ترى ولآذانكم التي تسمع" (متى13/16).
العمى الحقيقي هو عمى الروح، منه يريد السيد المسيح ان يشفينا، والبرهان انه قادر على ذلك هو آية شفاء الاعمى: بما انه يستطيع ان يعطي نوراً للعيون المنطفئة، يستطيع ايضاً ان ينير القلوب والعقول والضمائر المظلمة. كلنا عرضة لهذا العمى. الصوم والسنة اليوبيلية البولسية هما زمن الشفاء من عمى الروح. الى المسيح "النور الحق الذي ينير كل انسان" (يو1/9)، نرفع صلاتنا: " أضىء علينا بنور وجهك، يا رب " ( مز4/7)، "فبنورك نرى النور يا يسوع النور"، وهكذا نصير، كما يقول بولس الرسول، "نوراً في الرب" و " ابناء النور" (افسس5/8)، وبالتالي ، يقول بطرس الرسول: " تصير نفوسكم مقدسة بالطاعة للحق، وتحبون بعضكم بعضاً حباً اخوياً بلا رياء" 1( بطرس1/22). هذا ما تضمّنه قول يسوع للاعمى: "اذهب، ايمانك خلّصك ".
الرب معنا في سرّ القربان، لينير طريقنا بشخصه وكلامه ونعمته ومحبته، فنشهد له الشهادة الصحيحة في اقوالنا وافعالنا ومواقفنا. الرؤية الجديدة هي ان نرتفع بالايمان من المنظور والمسموع والمحسوس الى الحقيقة الموحاة، الى سرّ المسيح. هذا ما فعله اعمى اريحا، وما غفل عنه الجمع المرافق ليسوع. في الواقع، الايمان لا يستند الى الحواس، فمن يؤمن هو يؤمن بما لا يرى، كما يقول بولس الرسول: " الايمان هو الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه" (عبرانيين 11/1).
" وللوقت أبصر" ( مز10/52)
أبصر الاعمى بعينيه بعد ان كان مبصراً بايمانه وعقله: آمن ففهم. كانت لديه المعرفة بالايمان والمعرفة بالعقل. " يسوع الناصري" ليس عنده يسوع ابن يوسف النجار فقط بل هو " ابن داود" أي المسيح المنتظر الذي كتب عنه الانبياء. كتب البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة " الايمان والعقل"[22] في سياق شرحه لكلمة القديس انسلموس "اؤمن لأفهم": " لا يمكن الفصل بين العقل والايمان، بدون ان يفقد الانسان قدرته على ان يعرف ذاته، ويعرف الله والعالم معرفة وافية. ان معرفة احوال العالم واحداث التاريخ معرفة راسخة لا تتم الاّ اذا رافقها اعلان ايماننا بالله الذي يعمل فيها. فالايمان يرهف النظر الباطن ويتيح للعقل ان يكتشف، في سياق هذه الاحداث، ملامح العناية الالهية وحضورها الفاعل" ( عدد16).
وانطلق معه في الطريق ( مر10/52)
بسبب معرفته ليسوع بالايمان، بدأ الاعمى مسلكاً خلقياً جديداً. وجد عند يسوع الجواب على الخير والشر، ولا شك في انه طرح ذاك السؤال الاساسي في حياة كل انسان، الذي وجهه الشاب الغني الى المسيح: " ايها المعلم الصالح ماذا اصنع من الصلاح لتكون لي الحياة الابدية " (متى19/16).
كل لقاء مع الرب يسوع يعطي الجواب الوحيد على هذا السؤال الذي يملأ رغبات قلب الانسان. ولذلك " اقام الله كنيسته لكي يتمكن البشر من تحقيق مثل هذا اللقاء بالمسيح، لانها هي تسعى الى هذا فقط: ان يجد كلُ انسان المسيحَ، لكي يكمل المسيح مسيرة الحياة معه"[23].
***
ثانياً، الوثيقة التعليمية: كرامة الشخص[24]
ضخ مني الرجل في البويضة (الفقرة 17).
هو معضلة ثالثة من تقنيات الاخصاب الاصطناعي، قوامها ضخ مني الرجل المصنّف سابقاً في البويضة. وقد اصبحت التقنية الاكثر استعمالاً وأهمية بسبب فعاليتها الاكبر، ولانها تساعد على تخطّي انواع مختلفة من عقم الرجال. معلوم ان هذه التقنية تتسبب بمخاطر على صحة الولد الذي حُبل به، وهي قيد الدرس حالياً لدى الاخصّائيين.
هذه التقنية غير جائزة من طبعها، مثل الاخصاب في الانبوب، وهي وجهه الآخر، لانها تفصل بالكلية الانجاب عن الفعل الزوجي. في الواقع انها تجري خارج جسم الزوجين بافعال اشخاص آخرين، يقرّر نشاطهم التقني بنجاح العملة: فهي تضع حياة الجنين وهويته تحت سلطان الاطباء وعلماء الحياة، وتستعيد تسلّط التقنيات على اصل الشخص البشري ومصيره. وهذا منافٍ للكرامة والمساواة اللتين ينبغي ان تكونا مشتركتين بين الاهل والاولاد.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريكي الماروني
تعرض الخطة الراعوية من النص المجمعي 14: التعليم المسيحي، ما يختص باماكن التعليم المسيحي للاولاد وتنشئة الراشدين (الفقرات 19-27)، على مستويين: نقل الارشاد الايماني والمحافظة على اصالته السليمة. هذه الاماكن هي ثمانية.
1. العائلة
هي المكان الاول والاساسي الذي يهيّء الارض الخصبة للتعليم المسيحي ولتثقيف الايمان، بجوّ من الصلاة في البيت والسلوك المستقيم وشهادة الحياة. والدور يعود الى كل من الوالدين والاجداد والاخوة والعرّابين (فقرة 20).
2. الرعية
هي الخلية الثانية الاساسية لنقل مضمون الايمان. يتاح فيها التعليم والتنشئة وفقاً للفئات المتواجدة فيها ولخصوصياتها: الاطفال، الفتيان، الشبيبة، المعاقين، المسنين، الخاطبين، الاخويات وسائر المنظمات الرسولية، المجالس الرعائية ولجان الاوقاف وسواها. فضلاً عن الدور الكبير في التعليم والتنشئة الذي تقدمه الاحتفالات والرتب الليتورجية (فقرة 21).
3. المدرسة وسائر المؤسسات التربوية
انها تشكل مكاناً مميّزاً حيث تُعطى الاجيال الطالعة مع العلم والمعرفة، التراث الروحي والاجتماعي، وتتربى على الصلاح والحق، وتنمو بالحكمة والنعمة، وتبني مدينة الارض على قيم الملكوت الروحية والمسيحية.
ولا بدّ من ذكر الدور الكبير الذي تقوم به معاهد التثقيف الديني للكبار في مختلف الابرشيات والرهبانيات ( فقرة 23).
4. الاديار وامكنة الحج والمزارات الوطنية
تشكل واحات روحية لتثقيف الايمان وممارسته وللخلوات الروحية، التي يستفيد منها كل فئات شعب الله.
5. وسائل الاعلام
نذكر بنوع خاص تليلوميار ونور سات واذاعة صوت المحبة التي تشكل مدرسة ايمان وصلاة، وتنقل غنى تراثنا الروحي والكنسي والليتورجي. ولا بدّ من الاشارة الى البرامج الدينية في الاذاعات والتلفزيونات المدنية ( فقرة 25).
6. المستشفيات
هي المكان المهمّ لتثقيف المرضى واهلهم عن مفهوم الألم واهمية الايمان بالله، طبيب الارواح والاجساد، ولتعليم اخلاقيات الطب والحياة للاطباء والجسم التمريضي، ولحماية الحياة البشرية، والدخول في عمق سرّ الوجود النابع من الله (الفقرة 26).
7. السجون
هي المكان الامثل للحضور المسيحي والانساني، وللوقوف امام الذات بحضور الله وعدله وعنايته. ان العمل الروحي والتثقيفي الايماني للمساجين كفيل بتغيير مجرى حياتهم ( فقرة 26).
8. المؤسسات المدنية على تنوعها
تشكل فسحات مهمة للغاية حيث يستطيع المسيحيون ان يشهدوا للمسيح في كيفية تعاطيهم الوظيفية بروح الخدمة المتجردة والسخية، وان يكونوا في هذه المؤسسات بمثابة الملح في الطعام والخميرة في العجين ( الفقرة 27).
***
الصلاة
ايها الرب يسوع، انت النور الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم، انرنا بنور شخصك وكلامك وآياتك، لنحظى بالرؤية الجديدة. اقبل صومنا وصلاتنا واعمال محبتنا، وأهلنا بها لنهدم كل الافكار الخاطئة ونعيش في طاعة الانجيل، بعقل واعٍ وارادة حرّة. ألهم رجال العلم واهل الطب على احترام الجنين البشري المولود من هبة الزوجين المتبادلة في سرّ اتحادهما العميق روحاً وجسداً. ولتكن تقنيات الطب في خدمة الحياة البشرية وحمايتها والمحافظة عليها ونموها. وليبق تعليم الانجيل والكنيسة مزدهراً في العائلة والمدرسة والرعية ووسائل الاعلام، لكي يصل النور الالهي الى جميع الناس ويهتدوا به نحو كل حق وخير وجمال. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***
احد الشعانين
فيليبي 1/1-13
يوحنا 12/12-22
انجيل ملكوت الله وبناء مدينة الارض
بعد اربعين يوماً من الصوم والتصدق، رمّمنا بها العلاقات مع الذات والله والاخوة، نبلغ مع عيد الشعانين الى يوم ملاقاة الرب يسوع الذي يدخل مدينة الارض، اورشليم، ليبني فيها مدينة الله، المعروفة بملكوت الله الذي هو الكنيسة. هذا ما تمّ اعلانه في هذا الدخول الملوكي، والذي سيتم بسرّ المسيح الفصحي، الموت والقيامة.
رسالة القديس بولس لأحد الشعانين تدعونا الى الالتزام باعلان انجيل المسيح، انجيل ملكوت الله في مدينة الارض. والانجيل يدعونا الى المشاركة في ملوكية المسيح القائمة على الحقيقة والعدالة، على المحبة والحرية، والى اعلان انجيل السلام.
اولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح نصيّ الرسالة والانجيل
1. رسالة القديس بولس الرسول الى اهل فيليبي:1/1-13
مِنْ بُولُسَ وطِيمُوتَاوُس، عَبْدَي الـمَسيحِ يَسُوع، إِلى جَميعِ القِدِّيسِينَ في الـمَسِيحِ يَسُوع، الَّذِينَ في فِيلِبِّي، مع الأَساقِفَةِ والشَّمامِسَة: أَلنِّعْمَةُ لَكُم، والسَّلامُ منَ اللهِ أَبينَا والرَّبِّ يَسُوعَ الـمَسِيح! أَشْكُرُ إِلـهِي، كُلَّمَا ذَكَرْتُكُم، ضَارِعًا بِفَرَحٍ على الدَّوَامِ في كُلِّ صَلَواتِي مِنْ أَجْلِكُم جَمِيعًا، لِمُشَارَكَتِكُم في الإِنْجِيلِ مُنْذُ أَوَّلِ يَومٍ إِلى الآن. وإِنِّي لَوَاثِقٌ أَنَّ الَّذي بَدأَ فِيكُم هـذَا العَمَلَ الصَّالِحَ سَيُكَمِّلُهُ حتَّى يَومِ الـمَسِيحِ يَسُوع. فَإِنَّهُ مِنَ العَدْلِ أَنْ يَكُونَ لي هـذَا الشُّعُورُ نَحْوَكُم جَمِيعًا، لأَنِّي أَحْمِلُكُم في قَلبي، أَنْتُم جَميعًا شُرَكائِي في نِعْمَتِي، سَواءً في قُيُودِي أَو في دِفَاعِي عَنِ الإِنْجِيلِ وتَثْبِيتِهِ، فَإِنَّ اللهَ شَاهِدٌ لي كَمْ أَتَشَوَّقُ إِلَيكُم جـَمِيعًا في أَحْشَاءِ الـمَسِيحِ يَسُوع. وهـذِهِ صَلاتي أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُم أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ في كُلِّ فَهْمٍ ومَعْرِفَة، لِتُمَيِّزُوا مَا هُوَ الأَفْضَل، فتَكُونوا أَنْقِيَاءَ وبِغَيْرِ عِثَارٍ إِلى يَوْمِ الـمَسِيح، مُمْتَلِئِينَ مِن ثَمَر البِرِّ بِيَسُوعَ الـمَسِيحِ لِمَجْدِ اللهِ ومَدْحِهِ. أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا، أَيُّهَا الإِخْوَة، أَنَّ مَا حَدَثَ لي قَد أَدَّى بِالـحَرِيِّ إِلى نَجَاحِ الإِنْجِيل، حتَّى إِنَّ قُيُودِي مِن أَجْلِ الـمَسِيحِ صَارَتْ مَشْهُورَةً في دَارِ الوِلايَةِ كُلِّهَا، وفي كُلِّ مَكَانٍ آخَر.
محور هذه الرسالة هو انجيل المسيح، انجيل النعمة والسلام.
فالانجيل هو سرّ المسيح، هذا الخبر السار الخلاصي لجميع الشعوب. وقد أعلنه الشعب والاطفال بعفوية يوم دخول يسوع الملوكي الى اورشليم، بهتافات: "هوشعنا! يا رب خلص! مبارك الآتي باسم الرب". وتممه المسيح بسرّ فصحه. هذا الانجيل التزم باعلانه الرسل والكنيسة من بعدهم الى العالم كله. واخذه بولس على عاتقه بامتياز، واطلق على نفسه وعلى تيموتاوس تلميذه ومعاونه لقب " عبد يسوع المسيح" ( الآية الاولى)، للتعبير عن جهوزيته المطلقة لخدمة الانجيل، عملاً بالارسال الالهي: " اذهبوا في العالم كله، واعلنوا بشارة الانجيل الى الخلق اجمعين. فمن آمن واعتمد يخلص. ومن لم يؤمن يدان" (مر16/15-16).
انه انجيل النعمة التي اتت للعالم كله من سرّ المسيح الفصحي. فبموته حررنا جميعاً من الخطيئة، وبقيامته فتح لنا الطريق الى الحياة الجديدة. وبذلك بررنا عابراً بنا من حالة الخطيئة والموت الى حالة النعمة والحياة. وجعلنا ابناء لله بالتبني، فاصبح جميع الناس، على اختلاف الوانهم، اخوة المسيح المشاركين في الحياة الابدية. هذا اعلنه الرب يوم قيامته: " اذهبوا وقولوا لاخوتي" (متى28/10؛ يو20/17). واصبح فينا ينبوع القيامة العتيدة، ساكناً في قلوب المؤمنين، ليحقق فيهم حالة القيامة: " فلا يعيشوا بعد الآن لنفوسهم، بل للذي من اجلهم مات وقام" (2كور 5/15)[25].
وهو انجيل السلام النابع من السّر الفصحي. علّم بولس الرسول ان "المسيح بدم صليبه قتل العداوة بشخصه (افسس 2/16)، وصالح البشر مع الله، وجعل كنيسته سرّ وحدة الجنس البشري واتحاده مع الله". " فالمسيح سلامنا" (افسس 2/14). لفظة سلام تعني كل الخيور السماوية التي اغدقها المسيح ويغدقها على العالم بأسره. اعلن الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرون ان انجيل السلام قائم على اربعة:
احترام الحقيقة التي تقرّ بكرامة كل شخص بشري وتحميها وتعززها؛ ضمانة العدالة التي توفّر الحقوق الاساسية للافراد والامم؛ عيش المحبة التي تخلق مجتمعاً اكثر تضامناً في توزيع خيرات الدنيا والمشاركة في بناء مدينة الارض؛ تأمين الحرية التي تمكّن الشخص البشري من اجراء خياراته الواعية، وتحمّل المسؤولية من دون اي ضغط في مختلف حالات حياته واوضاعه[26].
2. بناء مدينة الارض على قيم الملكوت: يوحنا 12/12-22.
دخل الرب يسوع اورشليم، دخولاً ملوكياً، ليجعلها مدينة الله الجديدة (مز87/3)، ملكوت الله السماوي الذي اراد ان يبنيه في مدينة الارض، فكانت الكنيسة السّر والشركة والرسالة. هذه الكنيسة، اورشليم الجديدة، تتداخل مع مدينة الارض وتتخالط معها في البداية والنمو والآخرة.
كتب القديس اغسطينوس عن " مدينة الله"[27]، التي هي الكنيسة وملكوت الله. انها " تتابع حجّها على وجه الارض، وتعيش ايمانها بين الامم، بين اضطهادات العالم وتعزيات الله، وتتوق بصبر الى الاستقرار في الابدية، من بعد ان تصبح واحدة مع مدينة الارض".
ساكن مدينة الله هو " الانسان الجديد" المؤمن بالمسيح، والذي صار ابن الله بالولادة من الماء والروح ( انظر يوحنا 1/12؛ 3/5) التي هي المعمودية، أكانت معمودية الماء والروح أم معمودية الشوق ام معمودية الدم من اجل الايمان. يسكن مدينة الله كل من يبحث عن الحقيقة، ويتمم ارادة الله بالتواضع والطاعة، ويوطّد السلام بين الناس. فالروح القدس يشركه في السّر الفصحي، ويخلُص بالمسيح، ولو لم يعرف انجيله وكنيسته[28].
كشف الرب يسوع، بطريقة دخوله اورشليم، ان الانتماء الى مدينة الله او كنيسة ملكوت الله يقتضي فضائل التواضع والسلام والبساطة والعفوية ومحبة الحقيقة. وشجب رذائل "مدينة الارض": الكبرياء والكذب والتسلّط والاعتداء بالقوة. كتب القديس اغسطينوس في مقدمة مؤلفه :" مدينة الله" تعهّدت الدفاع عن مدينة الله المجيدة بوجه اناس يفضّلون آلهتهم على مؤسسها الالهي، مستمداً القوة من الله لاقناع اولئك المتكبرين بما للتواضع من سلطان. فالله يقاوم المتكبرين، ويهب المتواضعين نعمته، ويغفر للمنسحقين، ويحطّم المتكبرين".
3. حدث الشعانين ومعناه التاريخي والكتابي.
صعد يسوع الى اورشليم للمشاركة في عيد الفصح اليهودي، والنفوس مضطربة، قلقة ومشحونة: الشعب يتشوق بقلق لرؤية يسوع وقد اقام لعازر من القبر راجين تحريرهم الكامل على يده، ورؤساء اليهود مضطربون من ظاهرة يسوع الناصري، وقلوبهم مشحونة حقداً عليه، ونفوسهم خائفة على مصير مقاومتهم الاحتلال الروماني لارضهم.
استقبال شعبي عفوي يتنظم له من الجمع الكثير: بعضهم حملوا سعف النخل، وآخرون فرشوا ارديتهم على الطريق، وآخرون قطعوا اغصان الشجر وبسطوها على الطريق، والجميع، رجالاً ونساءً وتلاميذ واطفالاً، كانوا يهتفون: "هوشعنا! مبارك الآتي باسم الرب، ملك اسرائيل! ومباركة المملكة الآتية من ابينا داود، هوشعنا في الاعاليّ! هوشعنا لابن داود! تبارك الملك!" (انظر يو12/13؛ متى21/9؛ مر11/9-10؛ لو19/38).
رأى الشعب في يسوع الملك المنتظر الذي يخلص الشعب والمدينة بانتصاره، فعبّروا عن رؤياهم بسعف النخل التي هي علامة الانتصار سائرين في موكب انتصاري، كما صنع آباؤهم واجدادهم في زمن سمعان عظيم الكهنة وقائد اليهود، عندما دخل اورشليم وقد استؤصل العدو اللدود من اسرائيل (1مكابيين 13/51). ورددوا الهتاف الملوكي من المزمور 118: " هوشعنا ! يا رب ! خلّص، امنح النصر! مبارك الآتي باسم الرب! " (مز118/25). انه المكلَّف بالرسالة والمقلَّد قدرة الله. وقد سبق للشعب بعد معجزة تكثير الخمسة أرغفة والسمكتين واطعام خمسة آلاف رجل، ان هتفوا: " حقاً، هذا هو النبي الآتي الى العالم" (يو6/14)، مدركين ان يسوع هو النبي الذي يرسله الله الى العالم ليحرر شعبه. ولهذا " همّوا باختطافه ليقيموه ملكاً، فانصرف من بينهم راجعاً الى الجبل" ( يو6/15).
رأوا فيه تحقيق انتظارهم الطويل: فظنوه المسيح الآتي الذي يحرّر ارضهم من المحتل الروماني الوثني ويعيد بناء مملكة اسرائيل. فالرومان كانوا قد احتلوا فلسطين سنة 66 قبل المسيح. وقام صراع شديد بين التيوقراطية اليهودية والتيوقراطية الوثنية سنة 27 قبل المسيح بسبب تعليق شعائر الامبراطورية الوثنية على جدران اورشليم والتطواف بصور آلهة روما في شوارع المدينة المقدسة، لانها تشكل اساءة للاله الوحيد، يهوه ولارض الميعاد التي وعدهم بها، وكانوا قد رجعوا اليها بعد سبعين سنة من النفي في بابل. وكانوا في هاجس التساؤل حول كيفية هذا التحرير ومداه. وعندما اعلن يوحنا المعمدان ان "الازمنة قد اكتملت" ظنوه هو المسيح، ولما نفى ذلك انصبت انظارهم على يسوع. حتى الرسل الاحد عشر، بعد القيامة وقبيل صعود الرب الى السماء، وجّهوا اليه السؤال الاخير: " يا رب، أفي هذا الزمان تُعيد الملك الى اسرائيل؟ " (اعمال1/6). هذا الرجاء اليهودي عبَّر عنه الانبياء: ": اجمع يا رب كل اسباط يعقوب، وارد لها ميراثها كما في البدء. ايها الرب ارحم الشعب الذي دُعي باسمك واسرائيل الذي انزلته منزلة بكرك. اعطِ الذين ينتظرونك الثواب، وليتبيّن صدق انبيائك" (سيراخ36/10 و11 و15).
ارتضى يسوع هذا الاستقبال والهتاف " بملوكيته". لكنه صحح انتظاراتهم الخاطئة بالمسلك : فدخل المدينة راكباً جحشاً، لا حصاناً مثل الفاتحين المقاتلين، ليبيّن انه امير السلام الذي يضع حداً لكل حرب، ويرسي اساسات مملكته السلمية، محققاً نبؤة زكريا النبي: " ابتهجي جداً يا بنت صهيون، واهتفي يا بنت اورشليم، هوذا ملكك آتياً اليك، باراً مخلصاً وضيعاً راكباً على حمار وعلى جحش ابن اتان. فيُستأصل الخيل من اورشليم وقوس القتال، ويُكلم الامم بالسلام. ويكون سلطانه من البحر الى البحر، ومن النهر الى اقاصي الارض" (زكريا9/9-10).
وفيما بعد، لدى محاكمته، صحح يسوع الانتظارات اليهودية امام بيلاطس الذي سأله: " أأنت ملك اليهود ؟ ان امّتك وعظماء الكهنة أسلموك اليّ". فاجاب: "ليست مملكتي من هذا العالم. لو كانت من هذا العالم لدافع عني حرسي. ولكن مملكتي ليست من هنا. اني ملك. انا ما ولدت واتيت الى العالم الاّ لاشهد للحق. فكل من كان من الحق يصغي الى صوتي" ( يو18/33-37).
ينتهي الاستقبال الملوكي بقرار الفريسيين العمل على قتل يسوع، "لان العالم كله قد تبعه" بدون جدوى لجهة التحرير من الوثني الروماني المحتل. هم فهموا انه ليس المسيح الملك القومي المحرر لشعب اسرائيل ومعيد الملك له. فكان لا بد من استعادة الشعب منه، وقد سبق وعقدوا مع عظماء الكهنة مجلساً وقالوا: " ماذا نعمل؟ فان هذا الرجل يأتي بآيات كثيرة. فاذا تركناه وشأنه، آمنوا به جميعاً، فيأتي الرومانيون فيدمرون اورشليم وهيكلنا وامّتنا". فقال قيافا عظيم الكهنة: " خير لكم ان يموت رجل واحد عن الشعب، ولا تهلك الامّة باسرها" (يو11/46-50). فوشوا بيسوع الى الملك الروماني الوثني المحتل انه يعلن نفسه "ملك اليهود"، وبالتالي عدواً مناوئاً للقيصر. في الواقع، عندما كتب بيلاطس علة صلبه: " يسوع الناصري ملك اليهود"، اعترضوا خلاقاً لقناعاتهم وسعيهم الى الاطاحة بالقيصر، وعلى سؤاله" أأصلب ملككم ؟" اجابوا :"لا ملك علينا الاّ قيصر" (يو19/15).
الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تتناول الخطة الراعوية من النص 14: التعليم المسيحي وتنشئة الراشدين المسيحية المستمرة، الفصل الثالث والاخير حول: توصيات المجمع ( 29-37).
1. على المستوى الفكري (الفقرات29-33)
يوصي المجمع بما يلي:
أ- المحافظة على نقاوة الايمان والتعليم وحمايته من تأثير الاديان الاخرى والبدع والايديولوجيات المتعددة، بالعودة الى ينبوع الكتاب المقدس، وتعاليم الكنيسة والآباء.
ب- حماية الهوية المارونية من الانعزال والتقوقع والاصولية، بالتعمق في خصائص الموارنة الثقافية والاجتماعية والدينية.
ج- توفير ثقافة مسيحية وانسانية اوسع وايمان اعمق، بالافادة من مراكز التثقيف الديني ومعاهده وكليات اللاهوت والليتورجية، مع التركيز على تقليدنا وتراثنا الماروني ولاسيما في مجالات الفنون المقدسة والليتورجيا.
د- ممارسة حقائق الايمان في العبادة والمسلك والموقف.
2. على المستوى الراعوي (الفقرات 34-37)
يوصي المجمع بالتالي:
أ- القيام " بتبشير جديد" يعيد شعبنا الى ايمانه المسيحي الصافي وممارسته الدينية وروحانيته واخلاقيته.
ب- اهتمام الكهنة بالتعليم المسيحي لجميع فئات ابناء رعاياهم، وبعظات الآحاد والاعياد التي هي المصدر الوحيد للتعليم بالنسبة الى الاكثرية من المؤمنين، وباعداد الاسرار وشرح مضامينها ورموزها. واهتمام الاساقفة بتعزيز نشاط لجنة التعليم المسيحي في ابرشياتهم، وتأمين التعليم في المدارس على يد معلمين كفوئين، وارسال مرشدين الى المستشفيات والسجون، وتأسيس مراكز تثقيف ديني في كل ابرشية.
ج- تخصيص مرشدين للمنظمات والحركات الرسولية، والسهر على اتصالها العضوي بالرعية والكنيسة، ومساعدة اعضائها على تعميق ايمانهم المسيحي، والالتزام بالحياة الاسرارية.
د- تأمين نشر الانجيل وتعليم الكنيسة العقائدي والاخلاقي والاجتماعي من خلال برامج منظمة ومتقنة تقدمها اذاعة صوت المحبة وتلفزيون تليلوميار ونورسات وسواها من وسائل الاعلام التقنية على اختلاف انواعها.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، الملك السماوي، لقد جئت تبني مدينة الله في مدن الارض، فسمّيتها ملكوت الله. وبدأته بالكنيسة، التي هي زرع هذا الملكوت. انه ملكوت القداسة والحقيقة، ملكوت الحرية والعدالة، ملكوت الخير والمحبة. دعوتنا الى الانخراط في هذا الملكوت بالمعمودية، واوكلت الينا بناءه في المجتمعات البشرية. أنرنا، يا رب، بنور الانجيل وتعليم الكنيسة، وقدّسنا بنعمة الحياة الجديدة، وافض في قلوبنا روحك القدوس ليسكب فيها محبة الله، فنتمكن من بناء ملكوت الشركة مع الثالوث القدوس، والوحدة بين جميع الناس. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن والى الابد، آمين.
***
خميس الاسرار
1 كورنتس 11/23-32
لوقا22/1-23
يوحنا 13/1-15
يُسمى " خميس الاسرار"، لان فيه اسس الرب يسوع سرّ القربان وسرّ الكهنوت للعهد الجديد، وهما نبع اسرار الخلاص الخمسة الاخرى: المعمودية والميرون والتوبة ومسحة المرضى والزواج؛ ولأن في هذا الخميس، ترك الرب للكنيسة وللعالم الوصية الجديدة، وصية المحبة الاخوية والخدمة، بمبادرة مؤثرة اذ غسل ارجل الرسل مثلما يفعل العبيد، ولأن فيه أسلم نفسه للألم والموت محققاً سرّ الفداء. تسهر الجماعة المؤمنة ساجدة للرب الحاضر في سرّ القربان، لتحيي تذكار آلام النزاع في بستان الزيتون، كما اوصى يسوع: " امكثوا هنا، واسهروا معي" (متى26/38).
القراءات التي تتلوها الكنيسة في هذا اليوم ثلاثة: من رسالة القديس بولس الرسول الى اهل كورنتس، وفيها التقليد الرسولي بشأن سرّ القربان وشروط المشاركة فيه (1 كورنتس 11/23-32)؛ ومن انجيل القديس لوقا الذي يروي كيفية تأسيس سرّي القربان والكهنوت (لوقا 22/1-15)؛ ومن انجيل القديس يوحنا وفيه مبادرة يسوع بغسل ارجل الرسل، كهنة العهد الجديد، اثناء العشاء الاخير الفصحي والقرباني.
1. نقل التقليد الرسولي بشأن تأسيس سرّ القربان
رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى اهل كورنتس: 11/23-32
فَأَنَا تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُهُ إِلَيْكُم، وهُوَ أَنَّ الرَّبَّ يَسُوع، في اللَّيلَةِ الَّتي أُسْلِمَ فيهَا، أَخَذَ خُبْزًا، وشَكَرَ وَكَسَرَ وقَال: "هـذَا هُوَ جَسَدِي الَّذي يُكْسَرُ مِنْ أَجْلِكُم. إِصْنَعُوا هـذَا لِذِكْري". كَذلِكَ بَعْدَ العَشَاء، أَخَذَ الكَأْسَ أَيْضًا وَقَال: "هـذِهِ الكَأْسُ هِيَ العَهْدُ الـجَديدُ بِدَمِي. فَكُلَّما شَرِبْتُم مِنهَا، إِصْنَعُوا هـذَا لِذِكْري". فكُلَّمَا أَكَلْتُم هـذَا الـخُبْز، وشَرِبْتُم هـذِهِ الكَأْس، تُبَشِّرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ حَتَّى مَجِيئِهِ. إِذًا فَمَنْ يَأْكُلُ خُبْزَ الرَّبِّ ويَشْرَبُ كَأْسَهُ، بِدُونِ اسْتِحْقَاق، يَكُونُ مُذْنِبًا إِلى جَسَدِ الرَّبِّ ودَمِهِ. فَلْيَمْتَحِنْ كُلُّ إِنْسَانٍ نَفْسَهُ، ثُمَّ فَلْيَأْكُلْ مِنْ هـذَا الـخُبْزِ ويَشْرَبْ مِنْ هـذِهِ الكَأْس. فَمَنْ يَأْكُلُ ويَشْرَب، وهُوَ لا يُمَيِّزُ جَسَدَ الرَّبّ، يَأْكُلُ ويَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ. ولِهـذَا السَّبَبِ كَثُرَ بَيْنَكُمُ الـمَرْضَى والضُّعَفَاء، ورَقَدَ الكَثِيرُون. فَلَو كُنَّا نُحَاسِبُ أَنْفُسَنَا لَمَا كُنَّا نُدَان. ولـكِنَّ الرَّبَّ يَدِينُنَا لِيُؤَدِّبَنَا، حَتَّى لا نُدَانَ مَعَ العَالَم.
ليس بولس الرسول من الاثني عشر، ولم يعرف المسيح شخصياً، لان ارتداده حصل بعد قيامة الرب. ولذلك قال: " انا سلّمتكم ما قبلته من ربنا"، بشأن سرّ القربان. انه التقليد الذي تناقله الرسل ويرويه بولس في رسالته (الآيات 23-26).
لقد اسسه الرب يسوع ليلة آلامه وصلبه في عشائه الفصحي الاخير، الذي أقامه مع تلاميذه حسب العادة اليهودية. فحوّل هذا العشاء الاخير الى تذكار تقدمة ذاته الطوعية للآب من اجل خلاص البشر، بقبول الموت على الصليب لفداء الجنس البشري، وبهبة جسده ودمه غذاء الحياة الجديدة للمؤمنين به: " خذوا كلوا، هذا هو جسدي الذي يبذل من اجلكم! خذوا اشربوا، هذا هو دمي للعهد الجديد، الذي يراق من اجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا" (لو22/19؛ متى26/28؛ 1كور11/24-25).
هذا هو القداس الالهي، الذبيحة والمائدة: انه تذكار وتأوين. فما جرى في ذاك العشاء الاخير الذي عقبه موت الرب على الصليب، وقيامته من بين الاموات، ونتذكره بخشوع، هو اياه يجري " الان وهنا"، حيث يقام القداس، كتأوين للذبيحة والقيامة ولهبة الذات طعاماً روحياً للمؤمنين في المناولة، بقوة الروح القدس.
القربان، في القداس، هو "سرّ الحب، وعلامة الوحدة، ورباط المحبة". هو العشاء الفصحي الجديد حيث " نتناول المسيح، فتمتلىء النفس من النعمة، ونُعطى عربون المجد الآتي" ( القرار المجمعي في الليتورجيا، 47؛ كتاب التعليم المسيحي، 1323).
2. كيفية تأسيس سرُي القربان والكهنوت
انجيل القديس لوقا: 22/7-23
وحَلَّ يَوْمُ الفَطِير، الَّذي يَجِبُ أَنْ يُذبَحَ حَمَلُ الفِصْحِ فِيه، فَأَرْسَلَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: "إِذْهَبَا فَأَعِدَّا لَنَا عَشَاءَ الفِصْحِ لِنَأْكُلَهُ". فقَالا لَهُ: "أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّهُ؟". فقَالَ لَهُمَا: "مَا إِنْ تَدْخُلا الـمَدِينَةَ حَتَّى يَلْقَاكُمَا رَجُلٌ يَحْمِلُ جَرَّةَ مَاء، فاتْبَعَاهُ إِلى البَيْتِ الَّذي يَدْخُلُهُ. وَقُولا لِرَبِّ البَيْت: أَلْمُعَلِّمُ يَقُولُ لَكَ: أَيْنَ القَاعَةُ الَّتي آكُلُ فِيهَا عَشَاءَ الفِصْحِ مَعَ تَلامِيذِي؟ وَهُوَ يُريكُمَا عِلِّيَةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَة، فَأَعِدَّاهُ هُنَاك". فذَهَبَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا، وأَعَدَّا عَشَاءَ الفِصْح. ولَمَّا حَانَتِ السَّاعَة، اتَّكَأَ يَسُوعُ وَمَعَهُ الرُّسُل، فقَالَ لَهُم: "شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هـذَا الفِصْحَ مَعَكُم قَبْلَ آلامي! فَإِنِّي أَقُولُ لَكُم: لَنْ آكُلَهُ بَعْدَ اليَومِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ في مَلَكُوتِ الله". ثُمَّ أَخَذَ كَأْسًا، وَشَكَرَ، وَقَال: "خُذُوا هـذِهِ الكَأْسَ واقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُم. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُم: لَنْ أَشْرَبَ عَصِيرَ الكَرْمَة، مُنْذُ الآن، إِلى أَنْ يَأْتِيَ مَلَكُوتُ الله". ثُمَّ أَخَذَ خُبْزًا، وَشَكَرَ، وَكَسَرَ، وَنَاوَلَهُم قَائلاً: "هـذَا هُوَ جَسَدِي الَّذي يُبْذَلُ مِنْ أَجْلِكُم. إِصْنَعُوا هـذَا لِذِكْرِي". وكَذـلِكَ أَخَذَ الكَأْسَ بَعْدَ العَشَاءِ وَقَال: "هـذِهِ الكَأْسُ هِيَ العَهْدُ الـجَدِيدُ بِدَمِي، الَّذي يُهْرَقُ مِنْ أَجْلِكُم. ولـكِنْ، هَا هِيَ يَدُ الَّذي يُسْلِمُنِي مَعِي عَلى الـمَائِدَة. فابْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّر؛ إِنَّمَا الوَيْلُ لِذـلِكَ الإِنْسَانِ الَّذي يُسْلِمُهُ!".
في القسم الاول من نص الانجيل (لو22/7-14)، يروي لوقا تفاصيل اعداد العشاء الفصحي مع تلاميذه الاثني عشر في عليّة اورشليم.
وفي القسم الثاني (لو22/15-20) اسّس سرّي القربان والكهنوت.
ماذا تعني مقدّمة التأسيس: " شهوة اشتهيت ان آكل هذا الفصح معكم قبل آلامي. واني اقول لكم: لا آكله بعد، حتى يتم في ملكوت الله".
لفظة " فصح" تعني " العبور"، وهي عبور المسيح بالموت والقيامة الى الآب، على ما قال يوحنا الانجيلي: " قبل عيد الفصح، وكان يسوع يعلم ان الساعة اتت ليعبر من هذا العالم الى ابيه" ( يو13/1). فاستبق هذا العبور بتأسيس سرّ القربان، قبل آلامه، واستبق عبور الكنيسة، جماعة المؤمنين، النهائي الى مجد ملكوت السماء، حيث " وليمة عرس الحمل" التي رآها يوحنا (رؤيا 19/9)، ليكون رفيق دربنا عبر العالم الى بيت الآب.
بالقداس الالهي، الذي هو سرّ القربان، اعرب الرب يسوع عن كمال حبّه للكنيسة التي تمثل البشرية جمعاء، حسب قول يوحنا: " أحب خاصته الذين في العالم، واحبّهم الى الغاية" (يو13/1). وفي القداس ترك لهم عربون حبه، وضمانة حضوره معهم وبينهم، وأشركهم في سرّ فصحه بالموت عن الخطيئة وعن المسلك القديم والقيامة لحالة النعمة والحياة الجديدة (انظر كتاب التعليم المسيحي، 1337-1340).
وقد عبّر الرب يسوع عن كل هذا في كلام آخر نقله يوحنا الرسول: " انا الخبز الحي النازل من السماء، فمن يأكل منه يحيا الى الابد، والخبز الذي انا اعطيه، هو جسدي لاجل حياة العالم... فمن يأكل جسدي ويشرب دمي، له الحياة الابدية، وانا اقيمه في اليوم الاخير" (يو6/51 و54).
وبقوله: " اصنعوا هذا لذكري" ( لو22/19)، اسس الرب يسوع سرّ الكهنوت، جاعلاً الرسل كهنة العهد الجديد. فاعطاهم واجباً كهنوتياً هو الاحتفال، في الخبز والخمر، بسرّ جسده ودمه حتى مجيئه. فبدلاً من حَمَل الفصح وسائر ذبائح العهد القديم، اعطى هبة ذاته، هبة جسده ودمه. كل كائن يشعر اليوم ان المسيح وضع يديه عليه، وأشركه شخصياً في سرّه. ولهذا يجتمع الكهنة حول اسقفهم في عيد كهنوتهم ليجددوا مواعيد الكهنوت، والامانة للمسيح الكاهن الازلي، وللكنيسة، وللرسالة الكهنوتية.
مُسحت يدا الكاهن بالميرون، علامة الروح القدس وقوته، لتصبحا يدي المسيح في العالم، اللذين تنقلان عمله الالهي، وتوضعان في خدمة محبته وفي تصرفه لكل خدمة. نصلي من اجل الكهنة لكي يضعوا ايديهم دائماً في تصرف مسيح الرب، ليأخذهم بيدهم ويقودهم الى تلبية حاجات الكنيسة.
وضع الرب يديه على رأس الكاهن عبر يدي الاسقف، يوم رسامته، قائلاً له ما قال للرسل: " اتبعني". ان يد الرب ترافقه في كل مراحل حياته وتنشله وتقويه. عندما يختبر الكاهن ضعف ايمانه ومحدوديته وخوفه من عظمة واجبه وضعف امكانياته وفقر شخصه، يأخذه المسيح بيده ويقول له: " لا تخف! أنا معك"، مثلما قال لبطرس في آية الصيد العجيب (لو5/4-11). وعندما يخاف الكاهن من هول الرياح وامواج بحر العالم، ويشرف على الغرق في هموم الدنيا وتجارب الحياة، وصعوبات الرسالة، " يمدّ ربنا يده ويمسكه ويقول له: تشجع يا قليل الايمان، لماذا تشكك؟" ( متى14/31)، كما فعل مع بطرس.
بوضع اليد على رأسه، قال الرب للكاهن: " انت صديقي، لاني اطلعك على كل شيء"، كما قال للرسل: " لست ادعوكم بعد عبيداً، لان العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لقد دعوتكم احبائي، لاني اطلعتكم على كل ما سمعته من ابي" ( يو15/15). أوكل اليه الرب كل شيء سلّمه شخصه ليتكلم باسمه، وليعمل بشخص المسيح الرأس. ان العلامات والحركات في الرسامة الكهنوتية تشرح هذه الامانة: الانجيل الذي يطوف به الكاهن وسط الجماعة، وكأس القربان الذي يحمله على رأسه، وسلطان الحل والربط المعطى له بمسحة الميرون. ان القيام الامين والسخي والملتزم بالواجبات الكهنوتية، يجعل الكاهن صديقاً للمسيح، ويحفظه في صداقته. وهو بدوره يجعل المسيح حاضراً في العالم ليشفيه من ضعفه وعاهاته ( انظر عظة البابا بندكتوس السادس عشر، في صباح خميس الاسرار، 13 نيسان2006).
3. غسل ارجل التلاميذ
انجيل القديس يوحنا:13/1-15
اثناء العشاء الاخير، الذي كان يسوع مزمعاً فيه على تأسيس سرّي القربان والكهنوت، قام بمبادرة نبوية: فغسل ارجل التلاميذ، كعلامة لتنقية نفوسهم وقلوبهم بنعمة محبته، ولجعلهم اهلاً للجلوس الى مائدة جسده ودمه، ولقبول خدمة الكهنوت. وحسم هذا الامر بقوله لكل كاهن بشخص بطرس: "اذا لم اغسلك، فليس لك نصيب معي" ( يو13/8). وحدها نعمة المسيح، المتفجّرة من موته وقيامته ينابيع خلاص، والمعطاة لنا في الاسرار السبعة، تنقّي الانسان في الداخل، وتهبه الحياة الجديدة.
بهذه المبادرة النبوية اعطانا القدوة، بحيث ان المشاركة في سرّي القربان والكهنوت دعوة للخدمة الوضيعة من دون حساب، المرموز اليها بغسل الارجل. مثل هذه الخدمة ترفعنا في عيني الرب. هذا ما اكدّه يسوع بقوله: " فان كنت، وانا ربكم ومعلمكم، قد غسلت لكم ارجلكم، فكم عليكم انتم ، ان يغسل بعضكم ارجل بعض. لقد اعطيتكم بهذا مثالاً، فكما صنعت لكم، تصنعون انتم ايضاً" (يو13/14-15).
المسيح الكاهن ينقينا بحبه الذي بلغ به الى الموت فدى عنا. وهو حبّ يتواصل وينقّينا في سرّي المعمودية والتوبة، ولا حدود له. لكن الانسان، برفعه هذا الحب والمشاركة في هذين السرّين، يضع حداً لحبّ الله، كما فعل يهوذا الاسخريوطي. وقد تنبأ عنه يسوع: " انتم انقياء، ولكن لا كلكم" (يو13/10).
ما الذي يجعل الانسان غير نقي وغير طاهر، هو رفضه للحب، وعندما لا يريد ان يحب، وان يكون محبوباً. هو الكبرياء الذي يعتقد ان المنافع الشخصية هي عنده اثمن من المسيح. ألم يفضّل يهوذا الثلاثين من الدراهم على يسوع، فأسلّمه للحاقدين الرافضين مثله محبة الله؟
لقد أصبح كذاباً، وهذا شأن المتكبرين، فاستعمل القبلة للخيانة فيما هي علامة للحب، وانفصل عن الحقيقة، وفقد معناها. تحجّر قلبه وارتكب الخيانة، واصبح غير قادر على التوبة، ففقد معنى وجوده، ولجأ الى الانتحار معلقاً على شجرة.
ان المسيح يحذرنا بهذا الكلام من الاكتفاء بالذات الذي يضع حداً لمحبة الله اللامحدودة. ويدعونا للتشبّه بتواضعه، ولفتح القلب والنفس لجودة التنقية بنعمته، وللدخول في شركة وليمة المحبة (انظر عظة البابا بندكتوس السادس عشر، في قداس الغسل، 13 نيسان 2006).
صلاة
نسجد لك ايها المسيح في هذا اليوم المملوء اسراراً. انه يوم محبتك التي تبلغ ذروتها. لقد تركت لنا الارث والوصية: ارث سرّي القربان والكهنوت، ووصية المحبة والتواضع والخدمة. للاب الذي احبّنا بالابن فافتدانا، وبالروح القدس فاحيانا، كل تسبيح وشكر، الآن والى الابد، آمين.
***
الجمعة العظيمة وسبت النور
سرّ الصليب والنزول الى الجحيم
الجمعة العظيمة
يوحنا 19/31-37
سرّ الصليب مصالحة الله مع العالم
بتأسيس سرّي القربان والكهنوت بلغت محبة الله بالمسيح قمة الحب، وبسرّ الصليب بلغت رحمة الله ذروتها، فصالحت الله مع العالم بالمسيح.
نتأمل في سرّ الصليب، في آلام الرب يسوع وموته مصلوباً، بفعل حقد البشر، رافضي محبة الله وخلاصه، وقد أدّى بهم هذا الحقد وهذا الرفض، الناتجان من خطاياهم المتراكمة، الى الحكم على يسوع بالموت مصلوباً. لكن يسوع بادل حقد العالم وخطيئته ورفضه بالرحمة والمصالحة. ولهذا تقوم الكنيسة اليوم برتبة السجدة للصليب، مرددة: " قدوس الله، قدوس القدير، قدوس الذي لا يموت! ايها المسيح، الذي صلبت من اجلنا، ارحمنا!" وتحتفل بالقداس السابق تقديسه بقسميه: ابتهال الكنيسة الى المسيح المصلوب من اجل ابنائها وبناتها، ومناولة جسد الرب الذي سجد له المؤمنون والمؤمنات ساهرين طيلة الليل في الكنائس، امانة لحبه ورحمته، وندامةً عن الخطايا وتعويضاً عنها.
1. الرحمة والمصالحة
تجلت رحمة الله ومصالحته للعالم بعلامات واقوال من أعلى الصليب، نجدها مختصرة في انجيل القديس يوحنا: 19/31-37
وإِذْ كَانَ يَوْمُ التَّهْيِئَة، سَأَلَ اليَهُودُ بِيلاطُسَ أَنْ تُكْسَرَ سِيقَانُ الـمَصْلُوبِينَ وتُنْزَلَ أَجْسَادُهُم، لِئَلاَّ تَبْقَى عَلى الصَّليبِ يَوْمَ السَّبْت، لأَنَّ يَوْمَ ذـلِكَ السَّبْتِ كَانَ عَظِيمًا. فَأَتَى الـجُنُودُ وكَسَرُوا سَاقَي الأَوَّلِ والآخَرِ الـمَصْلُوبَينِ مَعَ يَسُوع. أَمَّا يَسُوع، فَلَمَّا جَاؤُوا إِلَيْهِ ورَأَوا أَنَّهُ قَدْ مَات، لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْه. لـكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الـجُنُودِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَة. فَخَرَجَ في الـحَالِ دَمٌ ومَاء. والَّذي رَأَى شَهِدَ، وشَهَادَتُهُ حَقّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الـحَقَّ لِكَي تُؤْمِنُوا أَنْتُم أَيْضًا. وحَدَثَ هـذَا لِتَتِمَّ آيَةُ الكِتَاب: "لَنْ يُكْسَرَ لَهُ عَظْم". وجَاءَ في آيَةٍ أُخْرَى: "سَيَنْظُرُونَ إِلى الَّذي طَعَنُوه".
كان من الضرورة انزال المصلوبين ودفنهم قبل طلوع ذاك " السبت العظيم"، لانه كان عيد الفصح اليهودي، ويمنع فيه العمل، ويتم الاحتفال بأكل الحَمَل الفصحي.
فيما كان يُصلب يسوع، كان كهنة العهد القديم يذبحون حملان الفصح في الهيكل، من دون ان يُكسر لهم عظم بحسب الرتبة اليهودية ( خروج12/46،عدد9/12). هكذا يسوع حَمَلُ الفصح الجديد، الذي ذُبح صلباً من اجل خطايا جميع الناس، لم يُكسر له عظم. من المسيح، حمل فصحنا، جرت ينابيع الخلاص المتمثلة بالماء والدم اللذين سالا من جنبه المطعون بحربة الخطيئة والرفض والحقد. فالماء رمز المعمودية التي تغسل خطيئة الانسان، وتتجدد في سرّ التوبة ومسحة المرضى، والدم رمز قربان جسد الرب ودمه الذي يحيي العالم، ومنه تأخذ اسرار الخلاص قوتها وفاعليتها. فكانت نبوءة زكريا: "سينظرون الى الذي طعنوا" (زكريا12/10)، طلباً للغفران والمصالحة.
اما الاقوال التي قالها يسوع من أعلى الصليب فقد تجلّت فيها بالعمل الرحمة والمصالحة.
كان الغفران الرحوم لكل الذين قرروا صلبه ونفّذوه. انه غفران محب بدون حدود لخطايا جسيمة وفظيعة، بررها بالجهل وسترها بالحب: " يا ابتِ، اغفر لهم، لانهم لا يدرون ما يفعلون" ( لو23/34). وكانت المصالحة مع لص اليمين الذي اعرب عن توبته: " اذكرني، يا رب، عندما تأتي في ملكوتك". فكان الجواب: " اليوم، تكون معي في الفردوس" ( لو23/42-43). وكانت ضمانة الغفران والمصالحة ان اعطى البشرية امه، لتكون اماً تسهر على كل انسان، وتقوده الى ابنها فادي الانسان: " يا امرأة هذا ابنك! ويا يوحنا هذه امك!" ( يو19/26-27).
2. سرّ الصليب
صليب المسيح تعبير عن حبه الاصيل الذي يعطي ذاته، وعن حياته المكرسة للآخرين. وهو حضارة المسيحيين. فبدلاً من أن يكفّر الانسان عن خطيئته، بحركة تصاعدية من الانسان الى الله، يرمم بها علاقته معه باعمال تكفيرية واستغفارية، كما هي الحال في جميع الاديان، يأتي الله الى الانسان، بمبادرة من عظمة حبه، يشفيه ويبرره برحمته، ويحيي ما كان ميتاً. فعدالة الله رحمة فاعلة تقوّم اعوجاج الانسان وتعيده مستقيماً. هذه هي الثورة التي أدخلتها المسيحية في تاريخ الاديان[29].
ليس الناس هم الذين صالحوا الله، ما داموا هم ارتكبوا الخطأ، بل الله نفسه صالح العالم بالمسيح (2كور 5/9). ان الله لا ينتظر ان يأتيه المذنبون من تلقاء انفسهم ليصالحوه، بل هو يذهب اليهم بنفسه ليصالحهم. هكذا يظهر الصليب كحركة انحدارية من أعلى الى أسفل، تعبّر عن حب لا يطوله الادراك. ان حركة التجسد الانحدارية تتواصل في حركة الصليب[30].
هنا يتضح لنا جوهر العبادة المسيحية، والوجود المسيحي وفضيلة التعبد، وهو ان نستقبل بعرفان كلي عمل الله الخلاصي. ولذا قمة العبادة المسيحية هي سرّ القربان – الافخارستيا اي فعل الشكر، الذي يجعلنا نقول " نعم" لارادة الله، من دون شرط.
ان مسيرة " درب الصليب" التي نقوم بها في ختام هذا اليوم المقدس دعوة الى التأمل في قدرة الخطيئة على الهدم، وقوة محبة المسيح على الشفاء، والى جعل درب الصليب دربنا للمصالحة مع الله والناس.
صلاة
نسجد لصليبك ايها المسيح. لقد تممت به مصالحة الله مع العالم برحمة الهية ومحبة لامتناهية، تنحدر علينا بالصليب من أعلى الى أسفل. اعطنا ان نفتح قلوبنا لهذه المحبة والرحمة، وارفعنا اليك، بحركة تصاعدية تكفيرية استغفارية، عبر عبادة سرّ القربان، وارسلنا لخدمة المصالحة على المستوى الافقي مع جميع الناس. للآب والابن والروح القدس كل مجد واكرام، الآن والى الابد، آمين.
سبت النور[31]
متى 27/62-66
نزول الرب الى الجحيم
هو يوم التأمل بسرّ مكوث يسوع في القبر، قبل قيامته. وقد اخذ الجنود كل الاحتياطات لئلا يسرقه تلاميذه، كما روى متى الانجيلي:
وفي الغَد - أَيْ بَعْدَ التَّهْيِئَةِ لِلسَّبْت - اجْتَمَعَ الأَحْبَارُ والفَرِّيسِيُّونَ لَدَى بِيلاطُس، وقَالُوا لَهُ: "يَا سَيِّد، لَقَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذـلِكَ الـمُضَلِّلَ قَال، وهُوَ حَيّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَقُوم. َمُرْ أَنْ يُضْبَطَ القَبْرُ إِلى اليَوْمِ الثَّالِث، لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلامِيذُهُ ويَسْرِقُوه، ويَقُولُوا لِلشَّعْب: إِنَّهُ قَامَ مِنْ بَينِ الأَمْوَات، فَتَكُونَ الضَّلالَةُ الأَخِيرَةُ أَكْثَرَ شَرًّا مِنَ الأُولى!". فقَالَ لَهُم بِيلاطُس: "عِنْدَكُم حُرَّاس، إِذْهَبُوا واضْبُطُوا القَبْرَ كَمَا تَعْرِفُون". َذَهَبُوا وضَبَطُوا القَبْر، فَخَتَمُوا الـحَجَرَ وأَقَامُوا الـحُرَّاس.
يقول التقليد ان يسوع " نزل الى الجحيم"، كما ورد في رسائل القديس بطرس والقديس بولس: " المسيح مات، وبشّر الانفس التي كانت في حوزة سجن الجحيم" (1بطرس 3/19). ويتساءل بولس الرسول: " من ذا الذي نزل الى قعر الجحيم وأصعد المسيح من بين الاموات؟" (روم10/7).
"النزول الى الجحيم" يعني ان الله يكلمنا بصمته وليس فقط بكلامه. ليس الله الكلمة المفهومة التي تاتي الينا فحسب، انما هو ايضاً المبدأ السري الصامت الذي يخفى علينا. فلا بد من اختبار صمت الله الذي يكلمنا لكي نرى ابعد مما نحن نتصور وابعد من الصورة التي نكوّنهاعن حياتنا وعن الله.
لقد اختبر تلميذا عماوس صمت الله هذا، عندما غادرا اورشليم، اذ مات فيهما الرجاء والصورة التي كوّناها عن " يسوع الذي من الناصرة، وكان الكل يرجون انه يكون هو المزمع ان يخلّص اسرائيل" (لو24/10-21). كان لا بد من ان تموت الصورة التي كوّنها التلميذان عن المسيح لكي يريا الحقيقة الاكبر، حقيقة الخلاص الابدي به النابع من سر محبته العظمى، ولهذا عرفاه عند كسر الخبز، اي عندما احتفل بقداسه الاول بعد قيامته، فاشتعل في قلبيهما الرجاء، وانكشفت الحقيقة، وتبدلت الصورة الخاطئة التي سبق وكوّناها عن يسوع، تماماً كما كان على المسيح ان يموت ليحيا بعظمة اكبر، مثلما قال للتلميذين:"أما كان على المسيح ان يحتمل تلك الامور ليدخل مجده؟"(لو 24-26) من الضرورة ان نختبر صمت الله، ان نمرّ في ساعة الصمت. ان سر المسيح يمتد الى أبعد من الصليب، الى أبعد من تلك الهنيهة حين يضحي حبُّ الله ملموساً حتى في الموت، ثم يصمت ويختفي في الظلمة.
اختبر يسوع صمت ابيه، عندما اطلق صرخة النزاع: " الهي، الهي، لماذا تركتني" (مر15/34)، وهي بداية صلاة كان يطلقها شعب الله قديماًُ في المزمور 22/21، في حالة الضيق والرجاء، عندما كان يبدو له ان الله تخلّّى عنه. هذه الصلاة المتفجّرة من الضائقة العميقة لغياب الله تنتهي يتسبحة العظمة الالهية. بهذه الصرخة أقام يسوع قرب ابيه وسط تخلّيه عنه وغيابه. هذا ما تعني عبارة " نزل الى الجحيم".
ومن ناحية اخرى " النزول الى الجحيم" يعني " الدخول في عمق الموت. فلفظة " جحيم" بالعبرية " شِيُول" تعني حالة الموت. فما هو الموت حقاً؟ وماذا يحدث للانسان عندما يموت؟ صرخة يسوع الاخيرة تكشف لنا ان فظاعة الآلام ليست في ألم جسدي معيّن، بل في اساس عزلته وفي التخلّي الكلي عنه. مشكلة الموت هي الهوّة الكائنة في عزلة الانسان التي تكمن في اعماق ذاته، هو الذي لا يمكنه ان يكون وحيداً، لانه بحاجة الى الآخرين. خوف الانسان الحقيقي الداخلي لا يمكن التغلب عليه بالعقل والادراك، انما فقط بحضور شخص محب.
لنفكر مثلاً بخوف ولد عليه ان يجتاز الغابة وحده في الليل. فهو لا يتغلب على خوفه الا اذا أمسكته يد مُحبة او رافقه صوت يطمئن اليه. اما الاقناع العقلي فلا ينتزع منه الخوف من العزلة والوحدة. ولنفكّر ايضاً بخوف شخص يسهر على ميت، فانه يستشعر خوفاً لا من شيء، بل من كونه وحيداً مع الموت. يشعر بعدم الاطمئنان بحدّ ذاته. ان خوفه يتلاشى، لا من اقناع نفسه بالعقل، بل اذا كان احدٌ بمعيته، واذا شعر بقرب الانت.
الخوف الداخلي الحقيقي هو خوف من الوحدة، خوف شخص لا يقوى على العيش إلاّ مع الآخرين. ولا يستطيع التغلب عليه بالعقل والادراك، بل فقط بحضور شخص محب. هذا الخوف الكلي يُسمى " جحيماً"، اي الوحدة التي لا تستطيع كلمة الحب ان تنفذ اليها، والتي تشكّل الكيان المهدد. الموت باب لا نستطيع ان نعبره إلاّ وحيدين، وليل لا يصل الى فراغه صوت. خوف العالم كله هو في الاساس الخوف من هذه الوحدة. هذا يفسّر لماذا العهد القديم لا يستعمل سوى كلمة واحدة للجحيم والموت. في ضوء هذا التحليل الموت هو هذه الوحدة، والجحيم هو الوحدة حيث لم تعد المحبة تستطيع الدخول.
" نزول المسيح الى الحجيم"، في ضوء ما توضح، هو انه اجتاز باب وحدتنا القصوى، ودخل من خلال آلامه في هوّة التخلي عنا، حيث لا كلمة سواه يمكن ان تطولنا. وهكذا فان الجحيم غلب على امره، بل الموت، الذي كان قبلاً الجحيم، لم يعد كذلك، كما لم يعد الاثنان، الموت والجحيم مترادفين متساويين، لان في وسط الموت حياة، ولان المحبة تسكن وسط الموت. الانغلاق على الذات الذي لا تدخله المحبة هو الجحيم بالذات. وبينما الموت لم يعد طريق الوحدة المتجمّد، فابواب الجحيم قد فُتحت. هكذا نفهم النص الذي اورده متى في انجيله (27/52): " ان القبور تفتحت بموت يسوع واجساد الموتى قامت". ان باب الموت قد فُتح مذ سكنته الحياة، اي المحبة[32].
لذا نسميه " سبت النور" حيث الحي مات. الاله الابن يموت، لا كشخص الهي، بل بانفصال نفسه عن جسده، لكنه لم ينفصل الى شخصين، بل ظل جسده ونفسه المنفصلان الواحد عن الآخر متحدين في شخص الكلمة الواحد، كما اتحدا فيه عندما اتخذ طبيعتنا في حشا مريم، على ما يقول القديس يوحنا الدمشقي. وبسبب هذا الاتحاد، لم يصبح يسوع الميت جثة ككل الاموات، بل حفطته القدرة الالهية من الفساد، حسب قول القديس توما الاكويني. وكما استراح الله من عمل الخلق في اليوم السابع، هكذا استراح المسيح من عمل الخلاص ومن وضع الكون كله في سلام.
***
صلاة
نسجد لك ايها المسيح، كلمة الله الصامتة في موتك، والناطقة في صمتنا. انت الحياة في وحدتنا، والمحبة في عزلتنا. نشكرك ربي لانك رفيق الدرب الذي يبدد ظلمة الخوف فينا، وتفتح عيوننا دائماً الى فجر جديد ينبعث منه نور وجهك. لك وللآب وللروح القدس كل سجود وشكر، الآن والى الابد، آمين.
***
[1] . ترجمة الدكتور نبيل الخوري منشورات المكتبة البولسية (1994)،صفحة 183-185.
[2] . اصدرها مجمع عقيدة الايمان في 22 شباط 1987.
[3] . صدرت بتاريخ 8 ايلول 2008.
[4] . انظر جوزف راتسنغر (البابا بندكتوس السادس عشر): " مدخل الى الايمان المسيحي" (الترجمة العربية)، صفحة 171.
[5] . المرجع نفسه، ص 175 و176.
[6] . الارشاد الرسولي: المصالحة والتوبة، 29، حاشية 162.
[7] . اصدرها مجمع عقيدة الايمان في 8 ايلول 2008.
[8] . الكنيسة في عالم اليوم، 22.
[9] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،1451.
[10] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلة الاربعاء 19 تشرين الثاني 2008.
[11] . الارشاد الرسولي: التوبة والمصالحة،16.
[12] . اصدرها مجمع عقيدة الايمان في 8 ايلول 2008.
[13] . البابا يوحنا بولس الثاني: انجيل الحياة، 34.
[14] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2427.
[15] . اصدرها مجمع عقيدة الايمان في 8 ايلول 2008.
[16] . الاقسام الاربعة التي ينطوي عليها كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.
[17] . البابايوحنا بولس الثاني: التوبة والمصالحة،29.
[18] . المرجع نفسه، 30
[19] . اصدرها مجمع عقيدة الايمان في 8 ايلول 2008.
[20] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،170301706.
[21] . المرجع نفسه،1707-1708.
[22] . اصدرها في 24 ايلول 1998.
[23] . انجيل الحياة،7.
[24] . اصدرها مجمع عقيدة الايمان في 8 ايلول 2008.
[25] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 754-655.
[26] . السلام على الارض
[27] .نقله الى العربية الخوراسقف يوحنا الحلو في ثلاثة مجلدات ( 1500 صفحة)
[28] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1258-1260.
[29] جوزف راتسنغر (البابا بندكتوس السادس عشر): مدخل الى الايمان المسيحي، ترجمه الدكتور نبيل خوري، ص 206.
[30] . المرجع نفسه، ص 207.
[31] .مقتبس من كتاب جوزف راتسغر (البابا بندكتوس السادس عشر): مدخل الى الايمان المسيحي، ترجمة الدكتور نبيل الخوري،ص 214-220.
[32] . مدخل الى الايمان المسيحي، ص 218-220.