إني عليم بأعمالك. ها قد جعلت أمامك بابا مفتوحا ما من أحد يستطيع إغلاقه، لأنك على قلة قوتك حفظت كلمتي ولم تنكر اسمي (رؤ 3 /8)
زمن الصوم - التنشئة المسيحية 2006 - 2007 - البطريرك بشارة الراعي
2006 - 2007
البطريرك بشارة الراعي
تقديم
هذا العدد العاشر من سلسلة التنشئة المسيحية لزمن الصوم الكبير يدعو الى " سلوك لائق بانجيل المسيح" ( فيليبي1/27). فالصوم زمن التغيير في القلب، والتجدد في المسلك، بفضل الصيام والتوبة واعمال المحبة والرحمة.
يعتمد العدد نهجاً من ثلاثة اقسام: شرح النص الانجيلي، وتأملات في سرّ آلام المسيح ومراحل درب الصليب، وعرض مضمون النص الثالث من نصوص المجمع البطريركي الماروني، وعنوانه:حضور الكنيسة المارونية في النطاق الانطاكي. هذا القسم الثالث يشكّل الخطة الراعوية التي تدعو الهيكليات الرعوية: المجالس واللجان والمنظمات الرسولية والجوقات وسائر التجمعات الرعائية، وتدعو ايضاً الجماعات التربوية والديرية والاندية، لتقبّل النص المجمعي، اسبوعاً بعد اسبوع، ولاتخاذ مبادرات تطبيقية.
نأمل ان يقدّم لنا هذا العدد من التنشئة المسيحية الوسيلة الهادية " للوصول الى الميناء". في احد الشعانين، بعد مسيرة اربعين يوماً من الصيام والتوبة والتصدق، على هدي نور الكلمة الانجيلية. وهكذا نلبي دعوة بولس الرسول: " اسلكوا كما يليق بانجيل المسيح" (فيل 1/27).
+ بشاره الراعي
مطران جبيل
***
الاحد 18 شباط 2007
احد مدخل الصوم
آية عرس قانا الجليل
المسيح يبدّل وجه العالم عبر خدمة الكنيسة
من انجيل القديس يوحنا 2/1-12.
قال يوحنا الرسول: في اليوم الثالث، كان عرس في قانا الجليل، وكانت ام يسوع هناك. ودُعي ايضاً يسوع وتلاميذه الى العرس. ونِفذ الخمر، فقالت ليسوع أمهُ: " ليس لديهم خمرْ". فقال لها يسوع: " ما لي ولك، يا امرأة؟ لم تأتِ ساعتي بعد!". فقالت أمه للخدم: "مهما يقل لكم فافعلوه!؟. وكان هناك ستة أجران من حجر، معدّة لتطهير اليهود، يتسع كل منها من ثمانين الى مئة وعشرين ليتراً، فقال يسوع للخدم" " إملأوا الأجران ماءً ". فملأوها الى فوق. قال لهم: " إستقوا الآن، وقدموا لرئيس الوليمة". فقدموا. وذاق الرئيس الماء، الذي صار خمراً- وكان لا يعلمُ من اين هو، والخدمُ الذين استقوا يَعلمون- فدعا اليه العريس وقال لهُ: "كل إنسان يُقدم الخمر الجيد اولاً، حتى إذا سكر المدعوون، يقدم الاقل جودة، أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيد الى الآن!". تلك كانت أولى آيات يسوع، صنعها في قانا الجليل، فأظهر مجده، وآمن به تلاميذه.
***
تفتتح الكنيسة زمن الصوم بآية تحويل الماء الى خمر كليّ الجودة، للدلالة انه زمن التحوّل والتغيير بنعمة المسيح الشافية وبكلامه المحيي والمنير، وبهبة الروح القدس التي تسكب المحبة في القلوب. اما الصوم، بالامتناع عن الطعام من منتصف الليل الى الظهر، وما يرافقه من اماتات وصلوات وسماع لكلام الله واعمال محبة ورحمة، فهو السبيل والوسيلة لاعداد الذات للتحوّل والتغيير. ان تتم آية تحويل الماء الى خمر في بداية حياة يسوع العلنية، وفي مناسبة عرس، ذلك يدلّ على ان المسيح آت لفعل خلق جديد، لترميم صورة الله في الانسان، وانسنة المجتمع، واعادة بهاء الخالق الى خليقته، وبهذا يرسي اسس السلام. ان المسيح في هذا العمل يعيد حياة الشركة بين الناس والله المعروفة بملكوت المسيح الذي بدأ مع الكنيسة ليكتمل في نهية الازمنة. في عرس قانا ترتسم ملامح سرّ الكنيسة ورسالتها، وسرّ الزواج وكرامته.
***
اولاً، مضمون اللوحة الانجيلية.
1. في آية قانا تجلّى سرّ ملكوت المسيح
" كان عرس في قانا الجليل وكان يسوع وامه وتلاميذه هناك".
ملكوت المسيح هو سرّ الله الذي دخل، بواسطة الابن المتجسّد يسوع المسيح، الى العالم المخلوق، الى التاريخ الزمني، ليصير معه حقيقة واحدة. هذا الملكوت بدأ مع الكنيسة كنواة له وتلألأ في عيون الناس في كلمات يسوع واعماله وحضوره. الكنيسة هي "ملكوت المسيح" الحاضر سرياً في هذا العالم (الدستور العقائدي في الكنيسة 4 و5).
العرس في قانا هو المجال الاول حيث بدأ يسوع الرسالة الموكولة اليه من الآب وقد حانت ساعتها عند طلب امه: " ليس عندهم خمر". فأجرى الاية وأعلن البشرى الجديدة اي حلول ملكوت الله الموعود في الكتب منذ اجيال، " فأظهر مجده وآمن به تلاميذه". بالحقيقة من يقبل كلام المسيح، يقبل الملكوت نفسه.
عرس قانا صورة مصغرة عن الكنيسة: يسوع رأسها والتلاميذ نواتها، ومريم امها، والجماعة الحاضرة شعبها. الماء المحوّل خمراً استباق للافخارستيا ولتحويل الخمر الى دمه المراق لفداء البشر. العروسان اول كنيسة مصغرة بيتية، العرس في قانا هو اول زواج كسرّ بعد زواج يوسف ومريم، الخمرة الجيدة هي الشريعة الجديدة، شريعة النعمة والمحبة التي هي هبة المسيح للكنيسة بالروح القدس.
أ- يسوع رأس الكنيسة وفاديها حاضر فيها بشخصه وعطيته، وهي متمثلة بالتلاميذ في عرس قانا مع العروسين والمدعوين. يواصل حضوره فيها جيلاً بعد جيل، عبر سرّ الافخارستيا بقوة كلمته: " خذوا كلوا هذا هو جسدي، خذوا اشربوا هذا هو دمي"، وبقوة الروح القدس الذي حلّ على الخبز والخمر، متزامنا مع كلام الرب على لسان الكاهن، فيحولهما الى جسد المسيح ودمه، ويحوّل الجماعة الى جسده السرّي: " وليأتِ روحك الحي القدوس ويحلّ علينا وعلى هذا القربان، فيجعل بحلوله هذا الخبز جسداً محيياً وهذا الخمر دماً محيياً، لمغفرة الخطايا والحياة الابدية لمن يتناولونه، ويثمر ثمر الاعمال الصالحة، ويثبّت الكنيسة المقدسة على صخرة الايمان" ( نافور مار بطرس في القداس الماروني). من الافخارستيا ينتشر حضوره في الكنيسة والعالم باشكال شتى: في كلام الانجيل وتعليم الكنيسة، في صلاة الجماعة ( متى 18/20)، في المحتاجين، الفقراء والمرضى والاسرى (متى25/31-46)، في الاسرار السبعة، في شخص الكاهن، خادم المسيح القيّم على نعمة اسراره (1كور4/1) وسفيره المؤتمن على المصالحة مع الله (2كور5/20) (الدستور المجمعي في الليتورجيا7).
ب- مريم ام يسوع وام الكنيسة حاضرة فيها تشفع من اجل اعضاء جسد ابنها، البشر المفتدين بدمه: " ليس عندهم خمر". تلتمس تدخل ابنها، الوسيط الوحيد بين الله والناس، هي التي جعلت نفسها " آمة الرب"، المستعدة لخدمة عطاءاته المجانية، النابعة من استحقاقات المسيح ابنها. في وساطتها وتشفّعها تدعم اتحاد المؤمنين المباشر بالمسيح: " افعلوا ما يقول لكم". ان وساطتها مرتبطة بامومتها الحاضرة بدون انقطاع في الكنيسة، حضور الوسيط الذي يتشفع. ولهذا تدعوها الكنيسة: " المحامية والمعينة والمغيثة والوسيطة" (الدستور العقائدي في الكنيسة62). مريم الحاضرة في الكنيسة هي مثال الايمان والمحبة في اتحادها الكامل بارادة الاب، وعمل الفداء الذي يتمه ابنها، والهامات الروح القدس، بل هي التحقيق النموذجي لسرّ الكنيسة (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 967). وهي علامة رجاء اكيد وتعزية امام شعب الله المسافر في هذا العالم وسط المحن والضيقات، وفي الوقت عينه تمثل الكنيسة وتدشن اكتمالها في مجد السماء (المرجع نفسه 972).
"ما لي ولك يا امرأة" كلمة أظهرت شفاعة مريم التي لا تُرد، تدخل في صميم تدبير الله الخلاصي، بفضل ما كانت تتميز به من ايمان ورجاء ومحبة: " افعلوا ما يقوله لكم". ألم يمتدح السيد المسيح ايمان المرأة الكنعانية، والمرأة النازفة، وقائد المئة، واجرى المعجزات المطلوبة؟ سمّاها " امرأة" لا " أمي"، ليعيدها الى اساسها البيبلي في سفر التكوين، الى "المرأة" التي تعادي الشيطان –الحية والخطيئة والشر والتي ستعطي الحياة الجديدة بشخص الفادي ابنها ( تك 3/15)،كما يعيدها في انجيل يوحنا الى "المرأة" التي تصبح ام جميع البشر المفتدين بذبيحة الصليب، الحاضرين بشخص التلميذ الطاهر يوحنا (يو19/26)، وفي سفر الرؤيا الى " المرأة" التي تحارب تنين الشيطان والاشرار، لحماية ابنائها المسافرين في بحر هذا العالم، حافظين وصايا الله، ومؤدّين الشهادة ليسوع المسيح (رؤيا 12/17-18).
ج-التلاميذ وايمانهم بالمسيح هم نواة الكنيسة: " اظهر لهم مجده فآمنوا به". الكنيسة هي مكان قبول الايمان والتربية عليه. فهي تحفظ ذكرى كلمات المسيح، وتنقل من جيل الى جيل ايمان الرسل. وكأم تعلمنا نحن ابناءها لغة الايمان، وتقودنا الى فهمه والى العيش بمقتضاه. ولهذا يدعوها بولس الرسول "عامود الحق واساسه" (1تيمو3/15). هذا يعني ان الكنيسة هي باب الخلاص ومكانه واداته، ذلك ان المسيح هو وسيط الخلاص وطريقه وهو حاضر في الكنيسة جسده. ولهذا ردد آباء الكنيسة " لا خلاص خارج الكنيسة". غير ان الذين يجهلون انجيل المسيح والكنيسة عن غير خطأ من قبلهم، لكنهم يبحثون عن الله بقلب صادق، ويسعون، بتأثير من نعمته، الى العمل بشكل يرضي ارادته، كما يكشفها لهم ويمليها عليهم ضميرهم المستنير، هؤلاء يستطعون الدخول الى الخلاص الابدي (الدستور العقائدي في الكنيسة 16، التعليم المسيحي للكنيسة الكماثوليكية 846-848). اما الكنيسة فمن واجبها ان تعلن الانجيل الى جميع الناس: " انطلقوا الى العالم كله، ونادوا بانجيلي في الخليقة كلها... وهم خرجوا وبشروا في كل مكان" (مر16/15 و20).
2. سرّ الزواج وكرامته
" انت استبقيت الخمرة الجيدة الى الآن".
الزواج في الاساس مؤسسة الهية مرتبطة بعمل الخلق: " خلق الله الانسان على صورته ومثاله: ذكراً وانثى خلقهم وباركهم وقال: " انموا واكثروا واملأوا الارض" (تك1/27-28). للزواج الطبيعي قدسية تأتيه من اصله الالهي، لان الله اسسه ونظّمه بشرائعه، ومن غايته المزدوجة: ارتقاء الزوجين الى الله بالحب المتبادل والخدمة، وانجاب اولاد على صورة الله معدين لان يعرفوه ويحبوه ويمجدوه، ويشاركوا في حياة الله بالنعمة وفي السعادة العظمى بالمشاهدة. كان الزواج الطبيعي ينعم بحضور الله الذي يعضد كل الازواج، كيفما تزوجوا، بالنعم الحالية التي تسند حبهم وواجباتهم الزوجية والعائلية. ولكن بسقطة ابوينا الاولين فقد الزواج هذه القدسية المتأتية من غايته، فكانت الشهوة والخيانة والدعارة والاتهام والحقد والقتل.
بتجسد ابن الله وموته وقيامته، اعطيت الشريعة الجديدة "الخمرة الجديدة" التي رممت الصورة الالهية في الانسان، بدءاً بالزواج. فاصبح الزواج المسيحي سراً بمعناه الحقيقي اي علامة حسية ترمز الى هبة الذات والى القدسية والنعمة بالمعنى الواسع، وعلامة ايضاً تُنتج النعمة التي تدل اليها بالمعنى الحصري. اصبح السرّ علامة ووسيلة لحضور الله الثالوث القدوس الذي يقدس الزوجين بالنعمة المبررة معيداً اليهما صورته وقداسته، جاعلاً اياهما على صورة الثالوث القدوس في شركة الحياة والحب، وعلى صورة اتحاد المسيح بالكنيسة، ( افسس5/22-23)، والذي يعضد الزوجين بالنعم الحالية جاعلاً اياهما ثابتين في الحب النقي والعفيف وفي الامانة له وفي ديمومة شركة الحياة معاً، وفي انجاب البنين وتربيتهم، وفي تقديس الذات عبر الحياة اليومية الزوجية والعائلية، بما فيها من افراح واحزان، نجاح وفشل، سهولة وصعوبات، صحة ومرض، حياة وموت.
اول زواج مسيحي وبالتالي اول زواج كسرّ مقدس كان زواج يوسف ومريم، عندما اخذها يوسف الى بيته والرب يسوع في حشاها (متى 1-24-25). في عرس قانا الجليل تقدس العروسان بحضور الرب يسوع وبالايمان الذي نتج عن الآية وبالفرح الذي عمّ القلوب، هذا كله رمزت اليه " الخمرة الجيدة التي استبقيت".
ان سرّ الكنيسة ورسالتها يتواصلان في " الكنيسة البيتية المصغرة" التي هي العائلة (الدستور العقائدي في الكنيسة،11). هذا هو سرّها العظيم: انها على صورة اتحاد المسيح وتتصف بالديمومة وعدم الانفصام واللاطلاق (متى19/3-9؛ مر10/2-12)، وبالوحدة العضوية بين الزوجين وتكاملهما في جسد واحد ( متى19/4-6).
***
ثانياً، زمن الصوم ومراحل درب الصليب
طيلة زمن الصوم، فيما نحيي كل يوم جمعة ذكرى آلام الرب يسوع لفدائنا، نتأمل تباعاً في مراحل درب الصليب، هذه الممارسة التقوية الغنية بالمعاني اللاهوتية والروحية، استعداداً لفصح الرب بموته وقيامته.
درب الصليب استذكار الحب الكبير المتألم الذي عبر به السيد المسيح الطريق الى تقدمة ذاته ذبيحة فداء عن البشرية جمعاء، فلا يستطيع احد بعد الآن ان يقول " ما من احد يحبني". لان واحداً، بالرغم من كل شيء، احبّه حتى الدم والموت على الصليب. ولا احد يستطيع ان يقول: " لا احد يغفر لي بسبب شروري"، لان ما من خطيئة، مهما كانت جسيمة، إلا ويغسلها دم المسيح. ان الخطيئة التي لا تغفر، ليست بيع المسيح بثلاثين من الفضة، بل اليأس العنيد حتى النهاية من رحمة المسيح التي لا تعرف الحدود او التحفظات (الكردينال جوفاني كولومبو: " طريق المسيح وطريق الانسان" ص،8). درب الصليب هي مدرسة الحب والغفران.
في المرحلة الاولى، يسوع يحكم عليه بالموت صلباً
" قال لهم بيلاطس: " فما أصنع،إذاً ، بيسوع الذي يدعى المسيح؟ فقالوا جميعهم: ليصلب فقال لهم الوالي: وأي شرّ فعل؟ أما هم فازدادوا صياحاً وقالوا: ليصلب. ولما رأى بيلاطس أن ليس من جدوى، بل ازداد الهياج، أخذ ماءً وغسل يديه أمام الجميع وقال: أنا بريء من دم هذا الصديق، انظروا انتم" فأجاب الشعب كله وقال: دمه علينا وعلى اولادنا. حينئذ أطلق لهم برأبا، وجلد يسوع بالسياط، وسلّمه ليصلب ( متى 27/22-26).
خطأ يحكمون بالموت على القدوس والبار والصادق. وفيما كانوا يحكمون عليه، كانوا في الوقت عينه برّئونه. فيهوذا الذي اسلمه قال: " خطئت بتسليمي دماً زكياً" (متى27/4). بلاطس الذي اصدر الحكم باعدامه صرخ: " انا بريء من دم هذا الصدّيق". قائد المئة الذي رآه معلقاً على الصليب اعترف: " بالحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (متى27/54).
في المرحلة الثانية، يسوع يحمل صليبه
" سألهم بيلاطس: أأصلب ملككم.. فقال له عظماء الكهنة: ليس لنا ملك سوى القيصر. حينئذ سلّمه اليهم ليصلبوه. فاخذوا يسوع، واخرجوه حاملاً صليبه الى المكان المسمّى جلجلة" ( يو19/15-17).
يسوع هو حمل الله حامل خطايا العالم. الصليب يمثّل خطايا جميع البشر، يحملها ليزيلها ويغسلها بنعمة الغفران المتفجّرة من دم المصلوب. ان ثقلها يفوق ثقل العالم الذي يسنده بقدرته الالهية. الاله القدير يرتضي الذل ليرفع الانسان من انحطاطه الخلقي والروحي والانساني. بحمل الصليب يتضامن مع كل حاملي صلبان الحياة ليخفف عنه عبء الالم الروحي والمعنوي والحسّي، وليعطي لآلامهم قيمة خلاصية، مشركاً اياهم برسالة الفداء.
***
ثالثا، الخطة الراعوية
في زمن الصوم الكبير نتقبّل معاً نص المجمع البطريركي الماروني الثالث، وهو بعنوان: حضور الكنيسة المارونية في النطاق البطريركي، في ضوء دعوتها ورسالتها التي تشكلّ هويتها؛ كما يكشفها الملف المجمعي الاول بنصوصه الاربعة.
الخطة الراعوية تعني الهيكليات القائمة في الرعية: المجالس واللجان والمنظمات الرسولية والجماعات العائلية والديرية والجماعة الرعوية. تجمعهم حول النص المجمعي لتقبّله اولاً، ثم للتفكير في ما يجب اتخاذه من مبادرات عملية لتطبيقه.
تنحصر الخطة الراعوية لهذا الاسبوع في مقدمة النص ( الفقرات 1-4).
1. شاءت العناية الالهية لكنيستنا حضوراً اصيلاً ومصيراً يندرجان في العالم العربي، لتبني حضارة المحبة بالتلاقي والحوار مع المسلمين وابناء هذه البقعة من العالم (فقرة 1). هذا الحضور يقتضي تفاعلاً بين المسيحيين والمسلمين انطلاقاً من هويتهم الحضارية المشتركة التي كوّنوها معاً. فانهم مسؤولون بعضهم عن بعض امام الله والتاريخ، كما اكّد بطاركة الشرق الكاثوليك في رسالتهم الراعوية لسنة 1991 (فقرة 2).
2. تقتضي الخطة الراعوية اتخاذ مبادرات عملية لتعزيز حوار الحياة القائم على اربعة اسس تشدّنا الى مواطنينا المسلمين: الانتماء الوطني الواحد، والارض الواحدة، والهمّ الواحد، والمصير الواحد (فقرة 2).
3. الحضور المسيحي في هذا الشرق عريق في القدم على الصعيدين الديني والثقافي ويعني ان يكون المسيحيون وسط مجتمعهم علامة لحضور الله في عالمنا. علينا كمسيحيين ان نتجنب نقيضين: الانعزال لانه يلغي رسالتنا، والذوبان لانه يقضي على هويتنا. الحضور الاصيل يضمن معاً الهوية والرسالة ( فقرة 3).
4. حضورنا المسيحي في الشرق يقتضي منا ان نتطلع الى حوار روحي وثقافي واجتماعي مع يهود هذه المنطقة ومع كل ذوي الارادة الصالحة.
فندعو اليهود الى مسؤوليتهم في اعادة السلام والعدل والاستقرار في مجتمعاتنا، والى الانفتاح على الشرق وتغيير نظرتهم اليه، بحيث يجدون مكانهم فيه على اسس جديدة.
ونمدّ ايدينا الى ذوي الارادة الصالحة لتعاون انساني صادق ومسؤول، بروح الاخوّة، وبالحوار وتبادل الخبرات في سبيل الخير لعام ( فقرة 4).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، الهنا الكلي القدرة، انت الذي تحمل ثقل الكون، تحمل ايضاً ثقل خطايانا. فكما تعضد اجسادنا بعنايتك، كن ايضاً مخلص نفوسنا بدمك الثمين المراق على صليب الفداء. لك المجد مع ابيك المبارك وروحك الحي القدوس الى الابد، آمين ( صلاة المكرّم الكردينال جون- هنري نيومن 1801-1890).
****
الاحد 25 شباط 2007
الاحد الثاني من الصوم
آية شفاء الابرص
الصوم زمن قبول محبة الله ونشرها بالاعمال
من انجيل القديس مرقس 1/40-45
قال مرقس البشير: قام يسوع قبل طلوع الفجر، فخرج وذهب الى مكان قفر، وأخذ يُصلي هناك. ولحق به سمعان والذين معه، ووجدوه فقالوا له: " الجميع يطلبونك". فقال لهم: " لنذهب الى مكان آخر، الى القرى المجاورة، لأبشر هناك أيضاً، فإني لهذا خرجت". وسار في كل الجليل، وهو يكرز في مجامعهم ويطرد الشياطين. وأتاه أبرص يتوسل إليه، فجثا وقال له: " إن شئت فأنت قادر أن تطهرني!". فتحنن يسوع ومدّ يده ولمسه وقال له: " قد شئت، فاطهر!". وفي الحال زال عنه البرص، فطهر. فانتهره يسوع وصرفه حالاً، وقال له: " أنظر، لا تخبر أحداً بشيء، بل اذهب وأرِ نفسك للكاهن، وقدّمٍ عن طهرك ما أمر به موسى، شهادة لهم". أما هو فخرج وبدأ يُنادي بأعلى صوته ويذيع الخبر، حتى إن يسوع لم يعد قادراً أن يدخل الى مدينة علانية، بل كان يقيم في الخارج، في أماكن مقفرة، وكان الناس يأتون من كل مكان".
***
آية شفاء الابرص علامة مسيحانية: ابن الله المتجسد، الطبيب الالهي، يبحث عن الانسان، كل انسان، في عزلته ليخرجه منها بشفائه والعودة به الى حياة الجماعة. هذه هي الغاية من زمن الصوم الكبير، وهو رحلة صوم وصلاة وتصدق نحو القيامة لحياة جديدة، بنعمة محبة المسيح التي نقبلها وننشرها حولنا بشهادة حياتنا كما جرى للابرص.
اولاً، معاني آية شفاء الابرص
1. يسوع يبحث عن الابرص
كانت الشريعة، في زمن يسوع، تقضي بان يٌقصى المصاب بالبرص عن الجماعة لسببين: لان قروحه معدية، ولان البرص عقاب الهي على الخطيئة. انه بحسب الشريعة نجاسة معدية حسياً وخلقياً. يٌنبذ الابرص من الجماعة لحين شفائه وتطهيره الطقسي الذي يستلزم تقدمة عن الخطيئة، كما نقرأ في سفر الاحبار( الفصلان 13 و14). شفى يسوع الابرص بكلمة، وامره بالمثول امام الكاهن ليعلن بسلطانه شفاءه، ويعيده الى الجماعة سالماً من نجاسته، وبتقديم القربان لله عن طهره للشهادة (مر1/42-44).
لم يكن الابرص عائشاً بين الناس بل في مكان قفر. قضت الشريعة بان " تكون ثيابه ممزقة، وشعره مهدولاً، ويتلّثم على شفتيه وينادي:نجاسة نجاسة. وما دامت فيه الاصابة، يكون نجساً. وعليه ان يقيم منفرداً، في خارج المحلة" (احبار13/45-46). قَصَدَه يسوع الى حيث يقيم. فلما رآه الابرص، اتى اليه بثقة وشجاعة، ووقع على قدميه معلناً ايمانه وملتمساً الشفاء: " اذا شئت فانت قادر ان تطهرني" (مر1/40).
الابرص المنبوذ يشعر بانه متروك من الله والناس.فكم ناجى الله، بما ناجى يسوع اباه عندما نٌبذ من الجميع، في بستان الزيتون، مردداً صلاة المزمور: " الهي الهي لماذا تركتني؟" (مر15/34؛ متى27/46؛ مر22/1).
في رسالته بمناسبة الصوم لعام 2007، وهي بعنوان " سينظرون الى الذي طعنوا" (يو19/37)، تكلم قداسة البابا بندكتوس السادس عشر عن " محبة الله" المعطاءة التي تبحث استئثارياً عن خير الآخر ( agape)، والتي تتوق الى الاتحاد بالذي تحب، وترغب في امتلاكه ( eros). هذا الابرص المنبوذ احبّه يسوع واعاد اليه بهاء صورة الانسان، بعد ان كان " يُستر الوجه عنه، ومزدري فلا يُعبًأ به " ( اشعيا 53/2). احبّه واعاد له الثقة بالنفس والسلام الداخلي، وكرامة الشخص البشري ومكانه وسط الجماعة، من بعد ان " كان متروكاً ومزدرى من الناس" ( اشعيا 53/3).
هذه هي محبة الله الخلاصية المتجلية بشخص يسوع المسيح، ابن الله الذي تجسد لكي يحمل الينا، الى جميع الناس، هذه المحبة. اذا قبلها الانسان وتجاوب معها يشفى من كل انواع البرص، الحسّي والروحي والخلقي. وحدها المحبة تشفي، وعندما يشفى الانسان يصبح ملتزماً بنقلها الى الآخرين. الابرص الذي شفي، خرج ينادي ويذيع خبر محبة يسوع (مر1/45).
2. الصوم الكبير زمن المحبة والرحمة
اختبر بولس الرسول بدوره واقع الابرص المنبوذ: " متروكاً في اخطار من اللصوص، واخطار من بني قومي، واخطار من الوثنيين... واخطار من الاخوة الكذبة" (2كور11/26).
كم من الناس المنبوذين، المتروكين، المهملين : مرضى مزمنين يعيشون الوحشة، واسرى مجهولين في السجون بدون محاكمة، او بدون سؤال عنهم، او بدون معرفة مصيرهم او مكان احتجازهم، وفقراء وجياع محرومين من لقمة العيش، واناس يعانون اشد انواع العذاب في مناقع التعذيب، واشخاص منتهكي الكرامة والحقوق بممارسة الظلم عليهم والغطرسة والاستضعاف. هؤلاء وامثالهم اطلقوا بدورهم ويطلقون الصرخة عينها: " الهي، الهي، لماذا تركتني"؟
شعبنا في لبنان يختبر واقع النبذ: انه منبوذ سياسياً بحيث تمنع عليه المشاركة في الحياة العامة بارادة حرة ومسؤولة، ومحكوم عليه اقتصادياً ان يعيش في حالة فقر وعوز وافلاس لمصلحة غيره، ومقصي اجتماعياً عن حقوقه الاساسية، ومحروم ادارياً من حقه في الوظيفة والمنصب والتدرج، على الرغم من كفاءته ونجاحه، لدواعي المحسوبية والموالاة ومصالح اخرى خسيسة، وممنوع ثقافياً من المحافظة على هويته اللبنانية وثقافته المتميزة بالحريات العامة والديموقراطية التوافقية والتنوع في الوحدة والمشاركة المنصفة في الحكم والادارة.
بالحقيقة لم يترك الله ذلك الابرص. بل كان معه، بمحبته. ولهذا السبب عرفه الابرص عندما رأى يسوع. عرفه بقلبه وبنور الايمان: " من رآني رأى الآب" (يو14/9). عرفه، لان يسوع ذهب اليه، فتضامن معه، مستبقاً صيرورته مثله عندما سيحمل صليب الفداء وكل عاره وتتم فيه نبؤة اشعيا: " مزدرى ومتروك من الناس، رجل اوجاع، ومثل من يٌستر الوجه عنه ، مزدرى فلا نعبأ به. لقد حمل آلامنا واحتمل اوجاعنا، فحسبناه مصاباً ومضروباً من الله ومذللاً. طٌعن بسبب معاصينا وسٌحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من اجل سلامنا، وبجرحه شُفينا" (اشعيا53/2-5).انه متضامن مع كل متألم، ومن خلاله يواصل آلام الفداء، وهو للجميع ينبوع الرجاء.
نقرأ في رسالة البابا بندكتوس بمناسبة الصوم: "مسيرة الصوم دعوة الى كل انسان ليخرج من ذاته ويدخل، بتسليم واثق، في قبضة محبة الآب الرحومة، مثل الابرص الذي خرّ ساجداً على قدمي يسوع ( مر1/40). " الصوم زمن قرباني نقبل فيه محبة يسوع ونتعلم كيف ننشرها حولنا في كل حركة وكلمة: نفتح قلبنا على جراح الذين يتألمون في كرامتهم البشرية، ونندفع بمحبة المسيح الى محاربة كل اشكال الازدراء بالحياة واستغلال الاشخاص، والى التخفيف من مآسي العزلة والاهمال والحاجة للعديد من الاشخاص". ويختم قداسة البابا: " الصوم هو لكل مسيحي اختبار متجدد لمحبة الله التي تعطى لنا في المسيح، وهي محبة توجب علينا ان نعطيها بدورنا لكل من يتألم ".
انها المحبة التي تصالح الانسان مع اخيه الانسان.
شفى يسوع الابرص حسياً وروحياً واجتماعياً، " فصالحه" مع ذاته ومع الله ومع المجتمع. عندما تحنن عليه مدّ يده ولمسه وقال له: " لقد شئت فاطهر"، وللوقت زال برصه وشفي (مر1/41-42). صالحه مصالحة حسيّة بتطهيره من برصه، ومصالحة روحية بازالة خطيئته، وامره ان يتم بدوره المصالحة الاجتماعية بتقديم القربان لله شهادة لشفائه، وبالحصول على حقه في هذه المصالحة من الكاهن الذي سبق واعلن نجاسته. هذا ما يجري عندما نتصالح مع الله بالتوبة والاعتراف.
الصوم هو زمن المصالحة الشاملة، زمن الشفاء، فالرب هنا بنعمة الفداء لهذه الغاية. في كل يوم جمعة من زمن الصوم نحيي تذكار آلام الفادي، للدلالة ان شفاءنا ينبع من جرحه الخلاصي: " وبجرحه شُفينا " (اشعيا53/5). كل واحد منا يعاني من برص ما، روحي او حسي، معنوي او مادي، خلقي او اجتماعي. وحده يسوع يأتي الينا، متضامناً معنا، شافياً ومصالحاً، فنحمل هذه البشارة الجديدة للذين ما زالوا في برصهم، كما فعل الابرص. هذا جرى لبولس الرسول: " في دفاعي الاول تركوني كلهم. ولكن الرب كان معي وقواني، لتٌعلن البشارة عن يدي على أحسن وجه ويسمعها جميع الوثنيين، فنجوت من شِدق الأسد، وسينجيني الرب من كل مسعى خبيث، ويخلصني فيجعلني لملكوته" (2طيم4/16-18). نأمل ان يأخذ الشعب اللبناني في محنته هذا الموقف، ويصمد بقوة الاقتناع.
3. الحياة الوافرة بالمسيح اساس السلام
لم يكن المسيح، ابن الله المتجسد، بعيداً عن الابرص، بل جاء من اجله، من اجل كل مجروح في نفسه وجسده وروحه، " ليصالحه " مع الله والناس والمجتمع. لقد تمم المصالحة بتضامنه معنا في كل شيء، وتقديسه لكل حالة نحن فيها، وباراقة دمه على الصليب فداءً عنا: " اتيت لتكون لهم الحياة، وتكون وافرة" ( يو10/10).
السيدة Chiara Lubich، مؤسسة الفوكولاري، تعمقت في سرّ الحياة الوافرة المعطاة لنا من آلام المسيح الخلاصية، فكتبت مخاطبة حب المسيح:
" لكي نكون في النور ، جعلتَ نفسك اعمى،
لكي نكون في الوحدة ، أختبرت الانفصال عن الآب،
لكي نمتلك الحكمة، جعلت نفسك " جهلا "،
لكي نلبس البراءة، صرت " خاطئاً "،
لكي نعيش في الرجاء ، بلغت الى حدّ اليأس،
لكي يكون الله فينا، اختبرته بعيداً عنك،
لكي تكون لنا السماء، شعرت بالجحيم،
لكي تعطينا اخوة كثيرين على الارض، اخليت السماء وعشت غريباً ومزدرى على الارض،
انك حقاً الله، الهنا، اله الحب اللامتناهي"!
كل هذا يدعى " مصالحة " اي " حضارة المحبة ". نحن المؤمنين بالمسيح سفراء الله لها، على ما يقول بولس الرسول: " كل شيء صار جديداً من الله الذي صالحنا مع نفسه بالمسيح، ووهبنا خدمة المصالحة، فنحن الآن سفراء المسيح، نسألكم ان تصالحوا الله لاجل المسيح" ( 2كور5/18و20).
زمن الصوم يصالحنا مع الله بالتوبة اليه والاعتراف بخطايانا؛ ويدعونا لنكمّلها بالمصالحة مع الناس بمغفرة الاساءة ومعاملتهم بالرحمة والعدل، ومحبتهم من كل القلب، وتجنب الغضب والانتقام، والتحلي بالقدرة على الصفح، والعمل على احلال العدالة والسلام، ورفع الظلم والتعديات، واحترام حقوق الغير، وحفظ كرامتهم.
***
ثانياً، زمن الصوم ومراحل درب الصليب
درب الصليب هو طريق التضامن الالهي بالمسيح مع البشرية، بل مع كل انسان، في مسيرة هذه الدنيا وسقطاتها الروحية والمعنوية والحسيّة. يسوع المسيح، ابن الله، المولود من امرأة، متضامن مع اخوته البشر، مع الانسان المتألم والتائه. يقطع معه الطريق الوعر حيث يسقط خاطئاً، مريضاً، فقيراً، مظلوماً، مهجراً، معذباً، منفياً، مهمّشاً، اسيراً، مستعبداً، جريحاً. سقطات يسوع تحت ثقل الصليب ثلاث مرات علامة لتضامنه مع كل انسان يسقط في هذه الحالة او تلك.
نبؤة اشعيا عن عبد الله المتألم، كشفت هذا التضامن الالهي مع الانسان:
" مزدرى ومتروك، رجل اوجاع. حمل آلامنا واحتمل اوجاعنا.ُطُعن بسبب معاصينا وسُحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من اجل سلامنا، وبجرحه شفينا" ( اشعيا 53/2-5).
في المرحلة الثالثة، سقط يسوع للمرة الاولى
تحت وطأة الظلم والتعب سقط. اسقطته خطايا البشرية وشرورها. هو انتقام الشيطان، يقول المكَّرم الكردينل جون نيومان في تأملاته بدرب الصليب. فالشيطان الذي سقط في البدء من السماء بحكم الخالق حكماً عادلاً انتقم من الله باسقاط آدم وحواء في الفردوس، في خطيئة هي اساس كل سقطة يسقطها انسان. وعندما صار ابن الله انساناً، وفي قبضة الشيطان، راح يحاول اسقاطه، فسقط يسوع من التعب، سقوط المتضامن مع الانسان، لا سقوط الخاطىء الذي يخالف ارادة الله.
وفي المرحلة السابعة، سقط يسوع للمرة الثانية
الشيطان الذي سقط مرة ثانية عندما تجسّد ابن الله، حاول اسقاط يسوع فجرّبه ثلاثاً في البريّة ( متى4/1-11). لم يسقط يسوع بل الشيطان سقط بقوة كلمة الله: " اليك عني يا شيطان، فانه مكتوب: للرب الهك تسجد، واياه وحده تعبد" ( متى4/10). هذا ما فعل الرسل عندما كانوا يخرجون الشياطين وقال لهم يسوع: " رأيت الشيطان ساقطاً من السماء كالبرق" (لو10/17-18). فأنتقم ابليس واسقط يسوع حسياً على الارض مرة ثانية.
وفي المرحلة التاسعة، سقط يسوع للمرة الثالثة
ويسقط يسوع تحت ثقل الصليب مرة ثالثة، من دون ان يسقط روحياً او معنوياً. فكان آخر انتقام للشيطان، بعدما أدرك انه هو يسقط الى الابد بموت المسيح وقيامته، كما أنبأ الرب يسوع: " الآن يلقى اركون هذا العالم خارجاً. وانا متى ارتفعت عن الارض اجتذبت اليّ كل احد" ( يو12/31-32). بسقوط المسيح الثالث قبل ان يسلّم ذاته لصليب الفداء، كان تحرير البشر النهائي من سلطة الشيطان والخطيئة والشر: " فمن يؤمن به ( وينظر اليه) لا يهلك، بل تكون له الحياة الابدية". مثلما كان اليهود ينظرون الى الحيّة النحاسية ويشفون من لدغة الحية البرّية ( يو3/14-15؛ سفر العدد 21/9).
ان قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، في رسالته الى المؤمنين الكاثوليك في الشرق الاوسط ( 21 كانون الاول 2006) أبرز قيمة آلام الجماعات المسيحة في ضوء آلام المسيح، قال: " أليس نعمة ان نتمكن من المشاركة في آلام المسيح، بانضمامنا الىيه وهو يحمل على كتفه خطايانا ليكفّر عنا؟ ينبغي على الجماعات المسيحة الكاثوليكية التي تعيش غالباً حالات صعبة، ان تدرك القوة القديرة التي تأتي من آلالام التي تقبلها بمحبة. بامكان هذه الآلام ان تغيّر قلب الآخر وقلب العالم. انّا نشجع كلاً منكم ان يواصل بثبات طريقه الخاص، بالاعتماد على وعيه " الثمن" الذي افتداه به المسيح".
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
نواصل التفكير معاً في النص الثالث من المجمع البطريركي الماروني، وعنوانه: حضور الكنيسة المارونية في النطاق البطريركي، ونتناول تحديداً دعوتها في علاقتها بالاسلام في العالم العربي (الفقرات 5- 11 ).
1. تزامنت نشأت الكنيسة البطريركية المارونية مع نشؤ الاسلام، فعاشت معه محافظة على ذاتيتها المارونية المتحركة بين قطبين: الامانة لمارون، والامانة للسدّة البطرسية الرومانية (البطريرك اسطفان الدويهي: تاريخ الازمنة) ( فقرة 5). كان لها معه ايام عزّ وايام بؤس.
يدعو المجمع البطريركي الى قراءة متأنّية وصريحة لخبرة الماضي الماروني- الاسلامي، من اجل تطهير الذاكرة والضمير، واقصاء كل حقد مترسّب من موروث الماضي. هذا العمل يضع الاساس المتين لانطلاقة جديدة نحو بناء السلام الحقيقي، بطاعة متجددة لبهاء الحقيقة، وباحنرام كرامة الآخرين وحقوقهم ( فقرة 6 و7).
2. تقرأ الجماعات الرعوية فترات الصدام والانفراج التي مرّت بها العلاقة المارونية-الاسلامية في العهود التالية: الاموي، والصليبي، والمملوكي، والعثماني، وصولاً الى الحرب اللبنانية الاخيرة ما بين سنة 1975 و1990 (الفقرات 8-11).
في كل هذه الحقبات حافظ الموارنة على الاغليين ايمانهم الكاثوليكي مع الامانة لمار مارون وممارسة الحرية، وهما متأصلتان في ارض لبنان.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، بسقوطك ثلاثاً تحت الصليب حررّتنا جميعاً من الخطيئة، نحن الذين سقطنا ببؤس تحت سلطانها. علمنا ان نتألم معك، وألاّ نخاف هجمات الشيطان والاشرار عندما تأتي نتيجة لمقاومتنا لها. اننا نكرّم آلامك، ايها المسيح، بتهيّب وخشوع، انت الذي ارتضيت ان تكون ضحية الشرير لتنقذنا من شرّه الابدي. لك المجد والشكر ولابيك الذي ارسلك وروحك القدوس الذي نفحتنا به للحياة الجديدة، آمين ( صلاة الكردينل Newman)).
****
الاحد 4 اذار 2007
الاحد الثالث بعد الصوم
شفاء النازفة
شفاء الانسان الروحي اساس السلام
من انجيل القديس لوقا 8/40-56
قال لوقا البشير: لما عاد يسوع، استقبله الجمع، لانهم جميعهم كانوا ينتظرونه. وإذا برجل اسمه يائيرس، وكان رئيس المجمع، جاء فارتمى على قدمي يسوع، وأخذ يتوسل اليه أن يدخل بيته، لأن له ابنة وحيدة، عمرها نحو اثنتي عشر سنة، قد أشرفت على الموت. وفيما هو ذاهب، كان الجموع يزحمونه. وكانت امرأة مصابة بنزف دم منذ اثنتي عشرة سنة، ولم يقدر أحد أن يشفيها. دنت من وراء يسوع، ولمست طرف ردائه، وفجأة وقف نزف دمها. فقال يسوع: " من لمسني؟". وأنكر الجميع. فقال بطرس ومن معه: " يا معلم، إن الجموع يزحمونك ويضايقونك!". فقال يسوع: " إن واحداً قد لمسني! فإني عرفت إن قوة قد خرجت مني!". ورأت المرأة أن أمرها لم يخفَ عليه، فدنت مرتعدة وارتمت على قدميه، وأعلنت أمام الشعب كله لماذا لمسته، وكيف شفيت للحال. فقال لها يسوع: " يا ابنتي إيمانك خلصك إذهبي بسلام!".
وفيما هو يتكلم، وصل واحد من دار رئيس المجمع يقول: " ماتت ابنتك! فلا تزعج المعلم!". وسمع يسوع فأجابه: " لا تخف! يكفي أن تؤمن فتحيا ابنتك!". ولما وصل الى البيت، لم يدع أحداً يدخل معه سوى بطرس ويوحنا ويعقوب وأبي الصبية وأمها. وكان الجميع يبكون عليها ويقرعون صدروهم. فقال: " لا تبكوا! إنها لم تمت. لكنها نائمة!". فأخذوا يضحكون منه لعلمهم بأنها ماتت. أما هو فأمسك بيدها ونادى قائلاً: " ايتها الصبية، قومي!". فعادت روحها إليها، وفجأة نهضت. ثم أمر بأن يطعموها. فدهش أبواها، وأوصاهما يسوع ألاّ يخبرا أحداً بما حدث.
اللقاء بيسوع يشفي ، وهو لقاء ايمان الانسان بقدرة الله الشافية، ولقاء الرجاء الذي يتوق اليه كل انسان. عندما فقدت المرأة، التي تعاني من نزف دمها منذ اثنتي عشرة سنة، املها بالشفاء، وقد انفقت كل مالها على الاطباء بدون جدوى، بحثت عن يسوع بايمان فشفاها. انها تمثل حالة كل انسان يعاني من نزف روحي او خلقي او مادي، وحالة شعب ووطن يعانيان من نزف في القيم والمقومات والامكانيات. تكشف اللوحة الانجيلية ملامح اسرار الخلاص.
اولاً، مضمون النص الانجيلي
1. اللوحة الانجيلية وملامح اسرار الخلاص
كان الجمع الغفير ينتظر يسوع لدى رجوعه لانه قبلة انتظار كل انسان وشعب يؤمن به:" تعال، ايها الرب يسوع!"(رؤيا22/20). المسيح، فادي الانسان، حي وآتٍ ابداً في حياتنا اليومية، كما وعد: " ها انا آتٍ أجعل كل شيء جديداً. انا الالف والياء، الاول والآخر. انا اعطي العطشان من معين ماء الحياة مجاناً" ( رؤيا 21/5-6). الايمان عطش الى المسيح.
يائيرس، رئيس المجمع، " عطش"، آمن بيسوع فانتظر ووقع ساجداً على قدميه متوسلاً ان يأتي بيته ليشفي ابنته الصبية المشرفة على الموت. و " عطشت" الى يسوع المرأة النازفة وانتظرته، وآمنت انها اذا استطاعت لمس طرف ثوبه تشفى. العطش الى يسوع المسيح هو عطش الى الله الواحد والثالوث: الآب الذي يخلق ويحفظ بعنايته، الابن الذي يخلص ويشفي، والروح القدس الذي يشرك بالحياة الالهية. بقوة هذا الايمان اقام يسوع ابنة يائيرس من الموت بندائه: " يا صبية قومي". فعادت روحها اليها وللوقت قامت ( لو8/54-55). وشفى المرأة النازفة بلمس طرف ثوبه: " وحالاً وقف نزف دمها " (لو8/44).
هذا الايمان والخلاص متواصلان في اسرار الكنيسة السبعة.
تؤمن الكنيسة ان الرب يسوع اسس الاسرار السبعة لتكون " اداة " لحضوره معنا ولعمل الله الثالوث فينا، وعلامة لنعمة الخلاص ومنحاً لها. الاسرار هي: المعمودية، التثبيت، القربان، التوبة، مسحة المرضى، الزواج، الكهنوت.
في انجيل اليوم كانت "الاداة" لمس النازفة طرف ثوب يسوع، وذهاب الرب الى بيت يائيرس ومناداته الفتاة الميتة: يا صبية قومي". وكانت "النعمة" الشفاء من النزيف والقيامة من الموت. لا يستطيع احد ان يقبل نعمة الخلاص والحياة الجديدة من دون اداة الاسرار.
يسوع المسيح هو سرّ الخلاص بامتياز، فمنه تتفجر اسرار الخلاص السبعة. ببشريته "كأداة" انجز فعل الخلاص في النفوس ويواصله بواسطة هذه الاسرار. والكنيسة هي، في المسيح، نوعاً ما سرّ اي العلامة والاداة في آن للاتحاد العميق بالله ولوحدة الجنس البشري باسره ( الدستور العقائدي في الكنيسة،1). انها "اداة" المسيح لفداء جميع الناس، وبهذا المعنى هي " سر الخلاص الشامل" ( المرجع نفسه، 48)، من خلالها وبواسطتها تظهر محبة الله للبشر ( التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،774-776).
الاسرار هي " اسرار الايمان"، لانها تفترضه، وتغذيه بكلماتها ورموزها وافعالها وتقوّيه وتعبّر عنه ( القرار المجمعي في الليتورجيا، 59). ايمان الكنيسة يسبق ايمان المؤمنين. عندما تحتفل بالاسرار، تعلن الايمان الذي قبلته من الرسل، وتقول: " قاعدة الصلاة قاعدة الايمان" بمعنى ان الكنيسة تؤمن كما تصلي ( التعليم المسيحي،1124).
اعلن يسوع للمرأة النازفة التي شفيت بمجرد لمس ثوبه: " تشجعي يا ابنتي! ايمانك احياكِ، اذهبي بسلام" ( لو8/48). من اجل هذا الاعلان سأل بالحاح: من لمسني؟ واحد لمسني لان قوة خرجت مني. من " يلمس بايمان" الاسرار ينال النعمة الالهية التي تحملها، وهي قوة تخرج من جسد المسيح الحي والمحيي. هكذا جرى مع الكثيرين من المرضى والمعذبين حسب شهادة لوقا الانجيلي: " كان الجميع يطلبون ان يلمسوه، لان قوة كانت تخرج منه وتشفيهم جميعاً" ( لو6/19). عندما جاء مرسلون من بيت يائيرس يقولون له: " ان ابنتك ماتت، فلا تتعب المعلم"، فقال له يسوع الكلام عينه: " لا تخف! آمن فقط، وهي تحيا" (لو8/49-50).
والاسرار هي "اسرار الخلاص" لانها ضرورية لخلاص المؤمنين، اذ تمنحهم نعمة الحياة الالهية بالروح القدس الذي يشفي ويبدّل قابليها بجعلهم شبيهين بابن الله في بشريته (المرجع نفسه،1129).
شفاء النازفة وقيامة ابنة يائيرس من الموت هما تعبير عن نعمة الاسرار. عندما نحتفل بالاسرار بايمان، تعطينا النعمة التي تدل عليها وتعنيها. فللاسرار فاعلية لان المسيح يعمل فيها: هو الذي يعمّد، هو الذي يعمل في كل سرّ لكي ينقل بواسطتة النعمة التي يعنيها.
بهذا المعنى علّمت الكنيسة انالاسرار تعمل " بفعل المفعول" اي بذات الفعل المتمم، اعني بقوة فعل المسيح الخلاصي الذي تمَّ مرة واحدة وتحقق بقوة الروح القدس في كل مرة نحتفل بسرّ. ليس برّ الانسان الذي يمنح السّر او يقبله هو الذي يحقق مفاعيل السّر، بل قدرة الله، غير ان ثماره مرتبطة باستعدادات الشخص الذي يقبله ( التعليم المسيحي، 1127-1128).
2. نزيف القيم الانسانية والامكانات الوطنية والحقوق الاساسية وقضية السلام
كل انسان يعاني من نزيف ما، في جسده من جراء مرض او اعاقة او ثقل السنين، أو في نفسه بسبب خطاياه المتراكمة التي تفقده القيم والفضائل الروحية والخلقية،أو في روحه بسبب الهموم والحزن والقلق والهواجس فيفقد الرجاء وينطوي على ذاته. بل شعبنا ومجتمعنا والوطن يعانون من نزف اجتماعي واقتصادي وسياسي، الى جانب نزف القيم التي لا مجال لقيامة بدونها.
مالياً، الدين العام يتعاظم، والعجز يتفاقم، ومعظم واردات البلاد تذهب لتسديد جزء من فوائده، والضرائب حوّلت لبنان الى جهنم ضريبي وحياتي ومعيشي. اقتصادياً، الدورة الاقتصادية في جمود، والشلل يعمّ الصناعة والزراعة والتجارة. اجتماعياً، الفقر يتزايد، والدواء والاقساط المدرسية والجامعية ترتفع، وموجة الهجرة الى الخارج تتكاثر. ادارياً، الفساد يستشري على كل صعيد بفعل طوفان المال السياسي، والرشوة تشترط كل عمل اداري. سياسياً، ممارسة الديموقراطية تتلاشى، وآليات المحاسبة والمساءلة تتعطلّ: فلا المواطن يحاسب ويسائل نوابه، ولا النواب الحكومة، ولا الحكومة الادارة؛ والقضاء يتعرّض للضغوط السياسية، والحالة المذهبية والطائفية تتجذر، والمؤسسات الدستورية تتعطل؛ والاحزاب والقوى السياسية تتفكك وتتشرزم.
بنتيجة هذا النزيف في الامكانات الوطنية، تنزف حقوق الانسان الاساسية المرتبطة بطبيعته البشرية وبكرامة الشخص البشري، ويقوّض السلام. من بين هذه الحقوق على المستوى الشخصي، الحق في الحياة والحق في الحرية الدينية.
أثار قداسة البابا بندكتوس السادس عشر هذين الحقين في رسالته بمناسبة يوم السلام العالمي، في اول كانون الثاني 2007، وهي بعنوان: الشخص البشري قلب السلام. وقال: "على احترام حقوق الانسان يبنى السلام. فلا يحق لمن ينعم بالسلطة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية ان ينتفع منها لينتهك حقوق الاشخاص الاقل حظاً. ان واجب احترام كرامة الشخص البشري لا يسمح لأحد ان يتعاطى معه على هواه، لان طبيعته تعكس صورة الخالق.
فلا بدّ من احترام حقه في الحياة عبر كل مراحلها، ومن التنديد بكل انواع الانتهاكات لها ولاسيما: النزاعات المسلّحة والارهاب والعنف والتجويع والتعذيب والاجهاض والاختبارات الطبيّة على الاجنّة والموت الرحيم. هذه كلها عمليات اغتيال للسلام، لانها ترفض الآخر واقامة علاقات سلامية دائمة معه. ومن الواجب ان يُحترم حقه في الحرية الدينية والتعبير الحرّ عن ايمانه الشخصي. لكن هذا الحق منتهك باشكال شتى مثل : منع التعبير العلني والحر واضطهاد المسيحيين في بعض البلدان وممارسة العنف بحقهم، وفرض دين واحد للدولة في بعض الانظمة، والسخرية الثقافية المنظمة للمعتقدات الدينية في الانظمة اللامبالية بالدين. هذه كلها تعزز ذهنية وثقافة منافية للسلام" ( الفقرات 4-6).
واضاف قداسة البابا: " السلام الحقيقي والدائم يفترض احترام حقوق الانسان المتجذرة في مقتضيات طبيعته. انها حقوق مطلقة لكنها تضعف اذا كان اساسها، الذي هو الشخص البشري، ذا مفهوم نسبي. هذا يعني ان الشخص هنا ينعم بجميع الحقوق، والشخص هناك لا ينعم بها كلها او يحرم منها، وفقاً للزمان والمكان ( فقرة 12).
ومن بين الحقوق الاساسية على المستوى الوطني، تذكر الرسالة العامة " السلام على الارض" الحق المرتبط بكرامة الشخص البشري، وهو الحق في المشاركة النشطة في الشؤون العامة والمساهمة في الخير المدني العام. فالانسان أبعد من ان يكون اداة في الحياة الاجتماعية وعنصراً هامداً فيها. انما هو، ويجب ان يكون مفعّلاً لها واساسها وغايتها ( فقرة 26).
ويذّكر قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، في " رسالته الى الاساقفة والكهنة والمؤمنين الكاثوليك في الشرق الاوسط" ( 21 كانون الاول 2006) آفة الهجرة التي تصيب المسيحيين بنوع خاص. ويحذّر من الوقوع في تجربتها، ومن الاستسلام والتشاؤم والاحباط والخوف. بل يدعو الى الاعتماد على الرجاء المسيحي الذي لا يخيّب، لانه يقوم على حضور الرب القائم من الموت، ومنه يأتي الالتزام في الايمان وفاعلية المحبة (1 تسا1/3). ويشدد على ضرورة حوار الحياة الذي يتحوّل شيئاً فشيئاً الى حوار ثقافي واجتماعي وسياسي.
***
ثانياً، زمن الصوم ومراحل درب الصليب
درب الصليب هو درب كل انسان، وبخاصة درب كل تلميذ في مدرسة المسيح. هذا المعلم قال من اراد ان يتبعني فليكفر بنفسه، ويحمل صليبه ويتبعني" ( متى10/4). فليتبعني دائماً حتى الجلجلة. قرب الصليب كانت مريم امه، اولى التلاميذ، وكان التلميذ الذي كان يسوع يحبه. هناك اعطى امثولته السميا: "ما من حب اعظم من هذا، وهو ان يبذل الانسان نفسه عن احبائه" ( يو15/13).
في المرحلة الرابعة، يسوع يلتقي امه.
هي مريم شريكة الفداء. لقد رافقت يسوع وشاركته في كل مراحل حياته: حملته الى الهيكل وقدمته لابيه السماوي وهو بعمر ثمانية ايام؛ حملته على ذراعيها عندما سجد له المجوس؛ هربت به الى مصر من وجه هيرودس؛ رافقته الى هيكل اورشليم عندما بلغ اثنتي عشر سنة وتألمت شديد الألم لضياعه؛ عاشت معه ثلاثين سنة في الناصرة؛ شاركت معه في عرس قانا الجليل وتشفّعت لديه فكانت معجزته الاولى بتحويل الماء الى خمر؛ عندما انفصل عنها للكرازة بملكوت الله، لم تغب عنه، بل كثيراً ما كانت تصغي الى تعليمه مع الجماهير. وها هي على طريقه فيما كان يحمل صليبه ويعبر درب الألم الخلاصي نحو الجلجلة. عندما جعلها يسوع اماً للبشرية المتألمة بشخص يوحنا، اصبحت رفيقة درب كل انسان يتألم: تقدس آلامه وتعزّيه وتخفف اوجاعه.
في المرحلة الخامسة، سمعان القيرواني يساعد يسوع في حمل الصليب
" وفيما كانوا منطلقين به، أمسكوا سمعان القيرواني، وكان راجعاً من الحقل، وجعلوا عليه الصليب ليحمله وراء يسوع" (لو23/26).
كان باستطاعة يسوع ان يحمل وحده الصليب، لو اراد. لكنه سمح لسمعان ان يساعده، ليذكّرنا بواجب المشاركة في آلامه والمساهمة في عمل خلاصنا الشخصي وفداء العالم. ان استحقاقات يسوع غير متناهية، ومع ذلك يرتضي منا، نحن شعبه، ان نضمّ اليها استحقاقاتنا. ان قداسة مريم وآلامها ودماء الشهداء وصلوات القديسين وتقشفاتهم، واعمال كل المؤمنين الصالحة تشارك في عمله الذي، في كل حال وحتى من دون هذه المساهمات البشرية، يبقى كاملاً. انه يخلصنا بدمه، ويخلصنا ايضاً بواسطتنا ومعنا (المكرم الكردينال نيومان).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
تواصل الخطة الراعوية تقبل النص الثالث من المجمع البطريركي الماروني، وهو بعنوان: حضور الكنيسة المارونية في النطاق البطريركي. ومن خلال التفكير معاً، نلتزم بمبادرات تطبيقية.
في اطار خبرة الماضي الماروني-الاسلامي وثوابت التاريخ، يقدم لنا النص المجمعي وجهاً مشرقاً في مسار كنيستنا خلال الحقبتين العثمانية والحديثة، هو النهضة المارونية الثقافية العربية والاجتماعية والسياسية (الفقرات 14-22).
1. بدأت طلائع النهضة المارونية الثقافية مع تلامذة المدرسة المارونية في روما سنة 1584. فعززوا علم الاستشراق في اوروبا، ترجمة" وطباعة وتدريساً وضبط محفوظات، حتى قيل في الغرب " عالم كماروني" ( فقرة 14).
2. قام الموارنة بنهضة عربية مماثلة في جبل لبنان عندما استقدموا سنة 1610 اول مطبعة في الشرق بالحرف السرياني الى دير مار انطونيوس قزحيا، ثم تلتها اول مطبعة بالحرف العربي سنة 1734 في دير مار يوحنا الصابغ في الخنشاره على يد الشماس عبدالله الزاخر والاب اليسوعي بطرس فروماج. وعمم المجمع اللبناني الماروني المنعقد سنة 1736 التعليم الشعبي المجاني وتعليم البنات. وتأسست المدارس المارونية على النمط العربي، وكان اول معهد للتعليم العالي في مدرسة عين ورقة سنة 1789، حيث دُرّست خمس لغات: العربية والسريانية واللاتينية والايطالية والفرنسية (فقرة 15).
3. وواصل الموارنة النهضة الثقافية في جبل لبنان بترجمة المصنفات اللاهوتية والفلسفية والدينية المهمة من اللاتينية الى العربية خلال القرن الثامن عشر. وادخلوا اللغة العربية الى الوجدان الشعبي الماروني مع الرائد الاهم في النهضة العربية المطران جرمانوس فرحات ( 1670-1732)، واضع اول كتاب قواعد في اللغة العربية " بحث المطالب"، فكان هذا الاسقف الماروني الحلبي، من خلال مؤلفاته ودواوينه الشعرية، الساعي الاكبر الى موألفة الايمان المسيحي بالثقافة العربية ( فقرة 16). وهكذا مهّد الموارنة الطريق امام عصر النهضة في العالم العربي الذي بدأ في مصر مع حملة بونابرت سنة 1789. وكان للموارنة مساهمة واسعة في هذه النهضة ( فقرة17)، وفي ربط العالم العربي بالحداثة، فتوثقت العرى بين الكنيسة المارونية والحضارة العربية ( فقرة 18).
4. في عهد الامارتين المعنية والشهابية، قام الموارنة بنهضة سياسية واجتماعية، فتكّون لهم في لبنان كيان سياسي شراكي جيّد مع الدروز بالتوازي مع كيانهم الكنسي الذي نظمه المجمع اللبناني ( 1736). وفي عهد المتصرفية ولاسيما مع قيام دولة لبنان الكبير، كان انجاز تاريخي في العالم العربي هو قيام مجتمع مدني مؤسس على الحريات العامة، متعدد الفئات الدينية، ضمن استقلالية سلطة الدولة عن الشرعين الاسلامي والمسيحي. وكان للبطريرك الياس الحويّك دور تاريخي في قيام النموذج اللبناني الشراكي التوافقي الحرّ بين المسيحيين والمسلمين ( فقرة 18).
5. تُوجت سلسلة النهضات الثقافية والسياسية والاجتماعية بقيام دولة لبنان المستقل على ميثاق عيش مشترك بين المسيحيين والمسلمين ببعديه: الحرية الكاملة للمواطنين الافراد، والشراكة التعددية التضامنية بين عائلات لبنان الدينية ( فقرة 19). وبذلك دخل الموارنة في عهد جديد من تاريخ المسيحيين والمسلمين هو " تجاوز العلاقة التصادمية بين الاسلام والمسيحية عمرها فوق الالف سنة. وبنوا نموذجاً لوطن دعوته الحرية في الحقيقة ( فقرة 20). وقام هذا النموذج على شراكتين بين المسيحيين والمسلمين:
شراكة الثقافة وعمادها الالتزام بمركزية اللغة العربية، وبتحديثها الدائم استناداً الى جذورها الحضارية السريانية واليونانية، وبتفاعلها مع اللغات الثقافية الحيّة المولّدة للحداثة.
وشراكة المصير وقوامها الالتزام بنهائية الوطن اللبناني وتأسيسه على مفاهيم الكرامة الانسانية، وحقوق الانسان الاساسية، وعلى الرفض النهائي لمقولة الاقلية وللاحكام التسامحية في الذمّة ( فقرة 22).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، يا الهنا المحبوب، علّمنا في هذا الصيام ان نتألّم معك، حباً بك ومن اجل فداء العالم. قدّس آلامنا باستحقاقاتك، وضمّ اليها دماء الشهداء ودموع الابرياء واوجاع المتألمين في الجسد والنفس والروح. اليك يا مريم امنا نوجّه انظارنا في الضيقات، فارشدينا الى الثبات في الرجاء حتى يتجلّى مجد ابنك القائم من الموت فينا وفي العالم. لك الاكرام والشكر وللابن الوحيد السجود مع الآب والروح القدس، الى الابد، آمين ( مقتبسة من صلاة المكرم الكردينال نيومان).
****
الاحد 11 اذار 2007
الاحد الرابع من الصوم
مثل الابن الشاطر
الخطيئة والتوبة والمصالحة
من انجيل القديس لوقا 15/11-32
" كان لرجل ابنان. فقال أصغرهما لابيه: يا ابي، اعطيني حصتي من الميراث. فقسم لهما ثروته. وبعد أيام قليلة، جمع الابن الأصغر كل حصته، وسافر الى بلدٍ بعيد. وهناك بدد ماله في حياة الطيش. ولما أنفق كل شيء، حدثت في ذلك البلد مجاعة شديدة، فبدأ يُحس بالعوز. فذهب ولجأ الى واحد من أهل ذلك البلد، فأرسله الى حقوله ليرعى الخنازير. وكان يشتهي أن يملأ جوفه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، ولا يعطيه منه أحد. فرجع الى نفسه وقال: كم من الأجراء عند أبي، يفضل الخبز عنهم، وأنا ههنا أهلك جوعاً! أقوم وأمضي الى أبي وأقول له: يا ابي، خطئت الى السماء وامامك. ولا استحق بعد ان ادعى لك ابناً. فاجعلني كأحد أجرئك! فقام وجاء الى أبيه. وفيما كان لا يزال بعيداً، رآه أبوه، فتحنن عليه، وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله طويلاً. فقال له ابنه: يا أبي، خطئت الى السماء وأمامك. ولا استحق بعد أن أدعى لك ابناً... فقال الأب لعبيده: أسرعوا، اخرجوا الحلة وألبسوه، واجعلوا في يده خاتماً، وفي رجليه حذاء، وأتوا بالعجل المُسمن واذبحوه، ولنأكل ونتنعم! لأن ابني كان ميتاً فعاش، وضائعاً فوجد. وبدأوا يتنعمون. وكان ابنه الاكبر في الحقل. فلما جاء واقترب من البيت، سمع غناءً ورقصاً. فدعا واحداً من الغلمان وسأله: ما عسى أن يكون هذا؟ فقال له: جاء أخوك، فذبح أبوك العجل المسمن، لانه لقيه سالماً. فغضب ولم يرد ان يدخل. فخرج أبوه يتوسل اليه. فأجاب وقال لابيه: ها انا اخدمك كل هذه السنين، ولم أخالف لك يوماً أمراً، ولم تعطيني مرة جدياً، لاتنعم مع أصدقائي. ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل ثروتك مع الزواني، ذبحت له العجل المسمن! فقال له أبوه: يا ولدي، أنت معي في كل حين، وكل ما هو لي هو لك. ولكن كان ينبغي أن نتنعم ونفرح، لان أخاك هذا كان ميتاً فعاش، وضائعاً فوجد".
***
يسوع المسيح المعلم الالهي يكشف كرامة الشخص البشري، التي يفقدها الانسان بخطيئته مبتعداً عن الله مصدرها، ويستعيدها بعودته اليه بالتوبة، فيصالحه الله ويلبسه من جديد حلة البنين. انه انجيل الرحمة الالهية والمصالحة في اتجاهاتها الاربعة: مع الله، مع الذات، مع الاخوة، ومع الخليقة كلها (البابا يوحنا بولس الثاني: المصالحة والتوبة، 8).
اولاً، شرح المثل الانجيلي
1. مثل الابن الشاطر محور آحاد الصوم
هذا المثل هو انجيل الخطيئة والتوبة والمصالحة يأتي في الاحد الرابع من الصوم. يتمحور حوله ثلاثة آحاد سابقة، وثلاثة لاحقة. الاحد الاول، في مدخل الصوم، هو بمثابة مقدمة، وفيه تذكار تحويل الماء الى خمر في عرس قانا الجليل، للدلالة ان الصوم الكبير هو زمن التغيير. فالذي حوّل الماء الى خمر، وحوّل فيما بعد الخمر الى دم المسيح، انما يريد ان يحوّل باطن الانسان باعطائه الحياة الجديدة بالروح القدس. والاحد السابع، الشعانين، هو بمثابة هدف، وفيه الوصول الى الميناء بلقاء يسوع المسيح الخلاصي وبدء مسلك جديد، من خلال تذكار دخوله ملكاً فادياً الى مدينة اورشليم.
الاحدان الثاني والثالث قدّما آيتي التغيير: شفاء الابرص والمرأة النازفة. البرص رمز الخطيئة التي تشوّه صورة الله في الانسان، ونزيف الدم رمز انهيار القيم الروحية والخلقية والانسانية والاجتماعية من جراء الخطيئة.
والاحدان الخامس والسادس سيقدّمان آيتي المسلك الجديد: شفاء المخلع والاعمى. مَشْي المخلع يرمز الى التصرف الجديد، وبصر الاعمى يرمز الى الرؤية الجديدة. فالمخلع هو رمز الخاطىء الذي تنشل فيه قوى الخير، والاعمى رمز الخاطىء الذي يتخبط في ظلمة الشر.
هذه السلسلة المتكاملة من التغيير والانطلاق بفضل نعمة المسيح هي مسيرة طريق على مدى اربعين يوماً تهيئنا للفصح، هذا العبور من قديم الخطيئة الى جديد النعمة. هو طريق صوم وصلاة واعمال محبة، يتخلله جهاد ضد تجارب الشيطان على مثال الرب يسوع في البريّة، حيث صام اربعين يوماً وانتصر على تجارب ابليس ( متى 4/1-11). "الوصول الى الميناء" يعني " بلوغ الشخص البشري الى المعنى الحقيقي لوجوده: اي السلام والحب والفرح، عندما يتحرر من عبودية الكذب والخطيئة، بفعل طاعة الايمان التي تقوده الى الحقيقة" ( البابا بندكتوس السادس عشر، صلاة التبشير الملائكي في 5 اذار 2006). لوحة الابن الشاطر تعني اكتساب قلب جديد وروح جديدة، من خلال الاهتداء الى الله والتماس رحمته. لا تقف قيمة الصوم عند حدود ممارسات خارجية وطقوسية، بل تلج الى عمق القلب الذي يقترب من الله وبالتالي من الحق والبر والصلاح ( يوئيل 2/12-18).
الوصول الى الميناء يقتضي نضالاً روحياً بسلاح الصوم والصلاة والتوبة ضد الشر، وضد كل انانية وبغض بتواضع وصبر وثبات وسخاء. فيصبح المسيحيون شهوداً ورسلاً للسلام، وقادرين على اعطاء جواب مسيحي بوجه العنف الذي يهدد السلام في العالم. وهو جواب من يتبع المسيح على طريق الصليب والحب المتفاني، بحيث يلتزم بالمعركة ضد الشر بالخير، وضد الكذب بالحقيقة، وضد البغض بالحب" ( البابا بندكتوس السادس عشر، عظة بدء الصوم، اول اذار 2006).
2. فقدان الكرامة البشرية بالخطيئة
يصف السيد المسيح الحالة التي بلغ اليها الابن الاصغر عندما ابتعد عن ابيه وبيته الوالدي، وبذّر ما كان معه من مال، وافتقر، وجاع، وراح يشتهي ان " يملاء جوفه" مما تقع عليه يده، ولو " خرنوباً تأكله الخنازير" التي كان يرعاها لحساب احد ابناء ذلك البلد، ولم يتمكن منه. انه وصف للكرامة المهدورة، ولميراث النعمة والبرارة الاصلية الضائع (الرحمة الالهية،5).
"جمع ابنه الاصغر كل ما اصابه، وسافر الى بلد بعيد".
الخطيئة هي قطع الانسان علاقته البنوية بالله ليعيش خارج نطاق الطاعة له. هذا نوع من انكار الله، وبالتأكيد عيش وكأن الله غير موجود، بل ازالته من الحياة اليومية. وهكذا يتضاءل مفهوم ابوّة الله وسلطانه على حياة الانسان والمجتمع، فيرفض الانسان كل علاقة بما يفوق الطبيعة البشرية، بحجة التوق الى الاستقلال الشخصي، وينحرف وراء امثلة مسلكية يفرضها التصرف العام وتعرضها وسائل الاعلام، ولو رذلها الضمير الشخصي، ويبرّر ذاته من اية مسؤولية عن خطيئته وسؤ مسلكه وشروره اذ يردّها الى الاحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية المأساوية الضاغطة، والى ما في المحيط الاجتماعي من اخطاء وذنوب. فيتلاشى تدريجياً الحسّ بالخطيئة ومعناها. والسبب الاساسي فقدان حسّ الله (المصالحة والتوبة، 18).
" هناك بدّد ماله، عائشاً مبذّراً.
تبدأ الخطيئة في حركة مسلكية وفكرية تتجاهل الله كلياً، وتحصر همها في العمل والانتاج، منجرفة في تياّر الاستهلاك والملذات، غير آبهة بخطر " هلاك النفس". هذه "الذهنية العلمانية" تضعف حسّ الخطيئة، وحسّ اهانة الله. فيصل الانسان الى فقر روحي وانساني وخلقي، يحطّ من كرامته امام الله وفي ميزان القيم الثابت، مهما علا شأنه المالي والاجتماعي، ومهما انتفخت جيوبه، او مهما سمح لنفسه من حرية يتخطى معها حدود الحقيقة والصلاح والخلقية: " افتقر... وراح يرعى الخنازير... ويشتهي مأكلهم".
من المؤسف ان " الذهنية العلمانية" تنتشر وتنمو، بسبب ثقافة اجتماعية تُخرج الحرية من حدود الحقيقة والصلاح، وترفض الاعتراف بأي نقص، وتنفي المسؤولية الشخصية عن اي شر وخطيئة، وترمي التبعية على المجتمع، معلنة البراءة الشخصية. من اسباب هذه "الذهنية" ما يسمّى بالنسبية التاريخية، وهي مسلكية تقول بأن القاعدة الادبية هي نسبية، ولا قيمة مطلقة لها، وبأنه لا يوجد افعال غير جائزة بحدّ ذاتها، بمعزل عن الظروف والحالات الشخصية التي تتم فيها. فتهتز القيم الخلقية وتنهار، وتكون الخطيئة موجودة لكن مرتكبها مجهول. اضف الى كل ذلك التربية الخاطئة المعطاة عبر وسائل الاعلام وفي العائلة بما فيها من عنف واباحية ولا انسانية (المرجع نفسه).
3.استيقاظ الضمير وطريق التوبة
رجع الى نفسه وقال: "كم الآن من الاجراء في بيت ابي، يفضل الخبز عنهم، وانا اهلك لجوعي". هو صوت الضمير، هذا المخدع الداخلي اي قرارة النفس العميقة. الضمير هو هذا الحس الادبي الذي يرشدنا الى تمييز ما هو خير وما هو شر. انه كعين باطنية واداة للنفس بصيرة تقود خطانا الى طريق الخير.
الضمير شريعة كتبها الله في قلب الانسان، اذا خضع لها وجد كرامته فيها. وهو الهيكل الذي ينفرد فيه الانسان الى الله، ويسمع صوته الذي يدعوه ابداً الى حب الخير وعمله والى تجنّب الشر، ويدوّي في اذن قلبه: " اعمل هذا وتجنّب ذلك". الانسان ملزم بطاعة هذا الصوت( الكنيسة في عالم اليوم،16).
الابن الشاطر اطاع صوت ضميره. فكانت بداية التوبة، التي تعني حرفياً، حسب اللفظة اليونانية متانويا، انقلاب النفس بالندامة واتجاهها الى الله: رجع الى نفسه، وقال: " كم أجير في بيت ابي... اقوم وامضي الى ابي". عودة الى الذات وندامة على ما فعل، وقرار الرجوع الى ابيه. هذه هي شروط التوبة الحقيقية والمصالحة.
زمن الصوم يدعونا الى يقظة الضمير من خلال الاصوام والاماتات والصلوات وسماع المواعظ واعمال المحبة والرحمة. يدعونا الى " فحص الضمير"، الى مقارنة حياتي ومسلكي، مقارنة مخلصة صافية مع القيم الانجيلية والشريعة الادبية، مع المسيح عينه معلمنا ومثالنا في الحياة، ومع الآب السماوي الذي يدعونا الى الخير والكمال. صوت الضمير يحملني الى الاقرار بالخطيئة: " اني خطئت". بعد هذا الادراك اندم على ما فعلت وعلى الحالة التي بلغت اليها. الندامة تعني رفض الخطيئة المرتكبة والحالة التي اعيش فيها، رفضاً قاطعاً، جازماً، وتعني القصد الثابت بعدم الرجوع اليها، وبتغيير الاتجاه، مسلكاً وحياة.
4. المصالحة واستعادة الكرامة
" فنهض ومضى الى ابيه..."
هذا هو جوهر المصالحة: تنفيذ القرار بالعودة الى الله وتغيير الاتجاه. " عندما رأه ابوه، وكان بعيداً، رحمه، واسرع... وقبّله". في عمق الحب اللامتناهي " الذي يستر جماً من الخطايا" ( 1 بطرس4/8)، تعاظمت ثقة الابن، فاعترف بخطيئته: " يا ابتِ، خطئت في السماء وامامك". الاعتراف بالخطايا هو عمل امانة وشجاعة، وعمل تسليم الذات الى الرحمة الغافرة. اللقاء الحسي مع الله يتم في شخص الكاهن عبر وساطة الكنيسة، في سرّ التوبة، الذي هو الى جانب الافخارستيا تحفة الحب الالهي للانسان، كل انسان. هذا الاعتراف المدرك لشر الخطيئة ونتائجها جعل الابن التائب يفرض على نفسه التكفير عنها: " لست اهلاً لأن ادعى لك ابناً. فاجعلني كأحد اجرائك" ( لو15/19).
لكن اباه لم يدعه يتلفّظ بكامل هذا التكفير. بل قاطعه مغدقاً عليه بفرح كبير كرامة الابن، التي فقدها بخطيئته: " اخرجوا الحلّة الفاخرة وألبسوه، وضعوا خاتماً في يده، والبسوه الحذاء". كلام الاب هذا هو كلام الله من خلال الكاهن الذي يعطي بشخص المسيح الحلّة السرية. في سرّ المصالحة يعاد الينا ميراث النعمة والبرارة الذي كان قد اُعطي لنا بالمعمودية. فالتوبة معمودية ثانية وولادة جديدة في البنوة الالهية. ويعود الانسان المصالح فيصبح من جديد هيكل الروح القدس، ومستودع الحياة الالهية، التي يشهد لها في المجتمع وينعش بها النظام الزمني.
المصالحة مع الله هي في الوقت عينه مصالحة مع الذات باستعادة الكرامة المفقودة؛ ومصالحة مع الاخوة، الممثلين في الابن الاكبر، لان خطيئة أخيه اصابته هو ايضاً في الصميم كما اشار لابيه: اصابته في امانته على مدى السنين، وفي تضحياته، وفي كرامة البيت: " كم من السنين وأنا عابد لك، لا أخالف لك امراً، فلم تعطني جدياً أنعم به مع أصحابي. وابنك هذا، بعد ان بدّد مالك مع الزواني، وعاد، ذبحت له العجل المسمّن"؛ ومصالحة مع الخليقة كلها، المدعوة الى وليمة العجل المسمّن " لتنعم وتفرح". انها مصالحة مع الكنيسة التي تؤهل للمشاركة في وليمة القربان: جسد الرب ودمه الذي فيه كل الكنوز الروحية، وهو رباط الوحدة والمحبة بين اعضاء الجماعة.
***
ثانياً، زمن الصوم ومراحل درب الصليب
آلام المسيح هي سرّ الحب الاعظم والألم الاكبر. مراحل درب الصليب تقدّم جواباً على معضلاتنا وتساؤلاتنا العميقة، وتشجعنا على الثبات في حياتنا اليومية وظروفها الصعبة، وتشعل في القلب شعلة الفرح في الحب والعمل. فالتأمل امام كل مرحلة يكشف جانباً من تاريخ كل واحد منا، وكأن المسيح طبع فيه جزءاً من تاريخه (الكردينال جوفانّي كولومبو: درب المسيح طريق الانسان، ص 9 و11).
في المرحلة السادسة، فيرونيكا تمسح وجه يسوع بمنديل
بادل يسوع عمل محبة فيرونيكا بطبع وجهه على منديلها. فتعزّت عزاءً كبيراً. بهذه المبادرة بيّن يسوع ان آلامه متواصلة في آلام اي انسان يرفع نظره اليه. فاصبح لآلام الابرياء قيمة خلاصية شخصية تندرج في عملية الفداء العام: " اني اتمّ في جسدي ما نقص من آلام المسيح من اجل الكنيسة " (كول 1/24).
لذا، يريد ان تظل آلامه مطبوعة في قلوبنا، اينما كنا، لكي نشارك بوعي وايمان في سرّ موته وقيامته، ونقتدي بسخاء حبه الذي يتفانى ويثمر مثل حبة الحنطة.
في المرحلة الثامنة، نساء اورشليم يبكين على يسوع
" وكان يتبعه كثيرون من الشعب، ونساءً كنَّ يندبنه، وينحن عليه. فالتفت يسوع إليهن وقال: يا بنات اورشليم لا تبكين عليّ، بل آبكين على انفسكنّ، وعلى بنيكنّ لانه سيأتي أيام يقال فيها: طوبى للعواقر وللبطون التي لم تلد، وللثدي التي لم ترضع. وحينئذ تبدأون تقولون للجبال: "اسقطي علينا". وللتلال: " غطينا." فإن كان هذا فعلُهم بالغصن الرطيب، فما يكون باليابس".
بهذه الكلمات يؤكد الرب يسوع انه يسلم نفسه للموت طوعاً، من اجل اتمام ارادة الآب لخلاص جميع البشر، وان آلامه البريئة وموته على الصليب مسؤولية في اعناقنا: انها من اجل خلاص كل واحد منا بثمن دم كريم. وان كان لا بدّ من بكاء، فليكن على الذين لا يهتدون الى الخلاص بصليب المسيح: "لا تبكين عليّ، بل على انفسكن واولادكن". آلام المسيح دعوة الى بكاء التوبة عن الخطايا والشرور، لانها تتسبب بمظالم واعتداءات على الابرياء كما على الاشرار، فلا بدّ من توبة وغفران: " فان كان هذا فعلهم بالغصن الرطب، فما كان باليابس؟".
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
نواصل التفكير معاً في النص الثالث من المجمع البطريركي الماروني بعنوان: "حضور الكنيسة المارونية في النطاق البطريركي"، وتحديداً في موقف الكنيسة من العلاقات المسيحية-الاسلامية وحاضرها (الفقرات 28-39).
1. المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وضع الاسس للعلاقة الايجابية بين المسيحيين والمسلمين. فأبرز الاعلان المجمعي عن " علاقة الكنيسة بالاديان غير المسيحية" العناصر المشتركة على المستوى العقائدي بين الاسلام والمسيحية. ودعا الى نسيان ماضي المنازعات والعداوات، والانصراف باخلاص الى التفاهم المتبادل، والى تعزيز العدالة الاجتماعية والقيم الخلقية والسلام والحريات العامة لفائدة جميع الناس ( عدد3).
وفي الدستور العقائدي " في الكنيسة"، أحلّت الكنيسة الدين الاسلامي في مكانة متقدمة بين الاديان التوحيدية غير البيبلية، وأقرّت بخلاص الانسان المسلم بيسوع المسيح، اذا عاش بوحي ضميره المستنير واخلص العبادة لله الخالق ( عدد 16) ( الفقرات 28-30).
2. المجلس الحبري للحوار مع الاديان يعمل، مع لجنة خاصة بتعزيز العلاقة مع المسلمين، على ترسيخ الحوار والتفاهم بين الديانتين في المسائل المشتركة، كالسلام والعدالة والحرية وحقوق الانسان الاساسية. تجدر الاشارة الى الوثيقة التي وضعها هذا المجلس بالتعاون مع مجمع تبشير الشعوب، وهي بعنوان " حوار وبشارة"، تأملات وتوجيهات في سبيل الحوار بين الاديان والتبشير بالانجيل سنة 1991 (الفقرتان 31-32).
3. خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني دفع الى الامام بالعلاقات الطيبة بين المسيحيين والمسلمين بكثير من المبادرات: الزيارة الى المغرب ولقاؤه مع الشبان والشابات المسلمين ( 1985)، الزيارة الى مقام الازهر في القاهرة (2000)، الزيارة الى المسجد الاموي الكبير في دمشق (2001)، الجمعية الخاصة بسينودس الاساقفة من اجل لبنان ودعوة ممثلين عن الطوائف الاسلامية للمشاركة فيه ( 1995) واصدار الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان" (1997)، تشجيع على الحوار المسيحي- الاسلامي في لبنان والشرق العربي (عدد93). عظته للشعب اللبناني في بيروت (11 ايار 1997)، وكشف فيها اهمية لبنان ورسالته التاريخية: على ارضه يعيش معاً مؤمنون من مختلف الطوائف في سلام وإخاء وتعاون، ما يبيّن انه من الممكن احترام حق كل انسان في الحرية الدينية، وما يمكّن الجميع من الاتحاد في محبتهم لهذا الوطن (الفقرتان 33-34).
4. تورد الفقرات 35 و36 و38 من النص المجمعي الثالث مواقف كل من البطريرك بولس المعوشي والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير بشأن العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في لبنان من ناحية حوار الحياة وميثاق العيش المشترك والحرية الدينية والحقوق المدنية الاساسية، مع المحافظة على أغلى الاغليين: الايمان بالله، والحرية المسؤولة.
وتستشهد الفقرة 37 بكلام للمرحوم الامام محمد مهدي شمس الدين وللرئيس الايراني السابق محمد خاتمي، يقرّ بنموذجية لبنان في علاقة الشركة بين المسيحيين والمسلمين، وبمركزية لبنان للحوار المسيحي-الاسلامي الذي ينطلق منه الى هذه المنطقة من العالم.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، اجعل وجهي مقبولاً دائماً لديك، ومرضياً لك. إن شوّهته الخطيئة، اغسلْه انت بدمك الثمينن واجعله منيراً. أملْ نظرنا اليك بشكل دائم، وارفقنا انت بنظرة منك كما نظرت الى بطرس، يوم خانك، فندم وبكى. اعطنا نعمة صليبك وآلامك المرّة، وعزّنا بالطريقة التي تعرفها وفي الساعة التي تريدها. آمين (الكردينال نيومان).
****
الاحد 18 اذار 2007
الاحد الخامس من الصوم
شفاء المخلع
المسلك الجديد
من انجيل القديس مرقس 2/1-12
عاد يسوع الى كفرناحوم. وسمع الناس أنه في البيت. فتجمع عددٌ كبيرٌ منهم حتى غصّ بهم المكان، ولم يبقَ موضعٌ لأحدٍ ولا عند الباب. وكان يخاطبهم بكلمة الله. فأتوه بمخلع يحمله اربعة رجال. وبسبب الجمع لم يستطيعوا الوصول به الى يسوع، فكشفوا السقف فوق يسوع، ونبشوه، ودلّوا الفراش الذي كان المخلع مطروحاً عليه. ورأى يسوع إيمانهم، فقال للمخلع: " يا ابني، مغفورة لك خطاياك". وكان بعض الكتبة جالسين هناك يفكرون في قلوبهم: ": لماذا يتكلم هذا الرجل هكذا؟ إنه يُجدف! من يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده؟". وفي الحال عرف يسوع بروحه أنهم يفكرون هكذا في أنفسهم فقال لهم: " لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم؟ ما هو الأسهل؟ أن يقال للمخلع: مغفورة لك خطاياك؟ أم أن يقال: قمْ احمل فراشك وامشِِ؟ ولكي تعلموا أن لابن الانسان سلطاناً أن يغفر الخطايا على الارض"، قال للمخلع: " لك أقول: قمْ إحمل فراشك، واذهب الى بيتك!". فقام في الحال وحمل فراشه، وخرج أمام الجميع، حتى دهشوا كلهم ومجدوا الله قائلين: " ما رأينا مثل هذا البتة!".
***
سماع كلام الله ولّد الايمان بقدرة المسيح الالهية والمحبة تجاه المحتاج لدى الرجال الاربعة الذين حملوا المخلّع الى يسوع. وبرجاء وطيد ثقبوا السقف ودلّوا السرير الذي كان المخلع عليه. الايمان والمحبة والرجاء، هذه ثمار سماع كلام الله، تقدمها اللوحة الانجيلية التي تنطبق على الافراد والجماعة، مخلعين كانوا ام حاملين المخلع، فيما المسيح هو هو امس واليوم والى الابد ( عبرانيين 13/8)، يغفر الخطايا ويشفي الامراض ويقدس الاوجاع.
***
اولاً، المفهوم اللاهوتي لنص الانجيل
1. الايمان من السماع
يؤكد بولس الرسول ان الايمان يولد من سماع كلام الله، وان من يدعو باسم الله بايمان يخلص ( روم10/13 و17). ان الذين سمعوا كلام الله من فم يسوع في كفرناحوم ابتهلوا بالاعمال والمواقف من اجل المخلع، فشفاه يسوع نفساً وجسداً: " لما رأى يسوع ايمانهم، قال للمخلع: مغفورة لك خطاياك...قم احمل سريرك واذهب الى بيتك" ( مر 2/5 و11).
بل الكنيسة تولد من سماع كلام الله: " اجتمع الكثيرون وكان يلقي عليهم الكلمة" ( مر 2/2). هكذا نشأت الكنيسة الاولى: "كانت كلمة الله تعلن وتنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر في اورشليم، وكان كثير من شعب اليهود ينصاع للايمان" ( اعمال 6/7). لكن ما يميّز كلام الله عن كلام البشر هو ان بكلام الله، على ما يقول بطرس الرسول، " تصير نفوسكم مقدسة بالخضوع للحق، وتمتلىء بالمحبة بدون محاباة، فتحبون بعضكم بعضاً بقلب طاهر كامل، كاناس ولدتم ثانية بكلمة الله الحية الباقية الى الابد" ( 1 بطر 1/21). وسيقول القديس اغسطينوس: " كرز الرسل بكلام الحق وولّدوا الكنيسة".
الايمان يولّد الخلاص، كما اكّد الرب يسوع للمرأة النازفة: " تشجعي يا ابنتي، ايمانك احياك" (لو 8/48)، وللرسل الذين ارسلهم لينادوا بالانجيل في الخليقة كلها: " فمن يؤمن ويعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يهلك" ( مر 16/16).
يقول آباء المجمع الفاتيكاني الثاني: " بقوة الكلمة الخلاصية، يضىء الايمان في قلب غير المؤمنين، ويغتذي في قلب المؤمنين، وتبدأ جماعة المؤمنين وتنمو." في اعلان سرّ المسيح بالكرازة الصريحة، او بتعليم عقيدة الكنيسة، او بمواجهة معضلات الزمن في ضوء المسيح، او بشهادة ومثل حياتهم الذي يحمل على تمجيد الله، لا يعلّم رعاة الكنيسة حكمتهم الخاصة، بل كلام الله؛ ويدعون الجميع بالحاح الى الارتداد والقداسة" ( القرار في خدمة الكهنة وحياتهم الكهنوتية، 4).
الصوم الكبير هو زمن سماع كلام الله والتوبة والتغيير الجذري في المسلك والاعمال. من واجب كل مؤمن ان يشارك في الرياضة الروحية التي تقام في رعيته. انها وقفة مع الذات نصغي فيها الى كلام الله، فنفحص الضمير ونكسر الرتابة وننقي الذاكرة بالمصالحة مع الله والاخوة والكنيسة، نستغفر ونغفر، ونقوم بتعبئة روحية للفكر والقلب والعلاقات. الرياضة خلوة مع الله نناجيه في الصلاة، ونستلهم ارادته على هدي الروح القدس، ونلتزم بطاعتها والعمل على تتميمها في حياتنا وعملنا، متبعين خطى الرب يسوع بالامانة لدعوتنا ورسالتنا.
2. المخلع يمثل الافراد والاسر والاوطان
عندما بادر يسوع المخلع بغفران خطاياه، اراد ان يبيّن انه "مخلع" في نفسه وروحه بالخطيئة التي تخلّع العقل والارادة والقلب: فالعقل المفطور على الحقيقة ينحرف الى الكذب، والارادة الموجّهة الى الخير تنزع الى الشر، والقلب موطن الحب والحنان يتسع للحقد والبغض. هذا النوع من الخلل الروحي في داخل الانسان، على صورة المخلع في جسده، عبّر عنه بولس الرسول بالقول: " الشريعة روحية اما جسدي فمبيع للخطيئة. ولست ادري ماذا افعل. فالشيء الذي اريده لا افعله، والشيء الذي لا اريد فاياه افعل. اذا فعلت ما لا اريده، اكون شاهداً للشريعة انها حسنة. اذاً، لست انا من يفعل الآن هذا، بل هي الخطيئة الساكنة فيّ... فما أتعسني انساناً، من ينقذني من جسد الموت هذا؟ اشكر الله بربنا يسوع المسيح، فانا الآن بضميري عبد لشريعة الله، واما بجسدي فعبد لشريعة الخطيئة" ( روم 7/14-17، و24-25).
هذا الشلل العميق في داخل الانسان يؤدي الى شلل في الاسرة والمجتمع والوطن، يصفه الدستور المجمعي " الكنيسة في عالم اليوم" (عدد8). وترسم صورة مقلقة عنه الرسالة البابوية " في الرحمة الالهية": خطر وقوع نزاع مسلح يؤدي بقسم من الجنس البشري الى ابادة ذاته لما تكدّس فيه اليوم من اسلحة نووية؛ خطر المدنيّة المطبوعة بطابع المادة والفارغة من المشاعر الانسانية، بالرغم من التصريحات بشأن حقوق الانسان، اذ يخشى ان تستعمل الادوات الحربية من اجل مصالحها المادية؛ الخوف من اخضاع الافراد والبيئات وسلبها الحرية الداخلية والقدرة على المجاهرة بالحقيقة والايمان الداخلي والقوة على تلبية صوت الضمير الذي يرشد الانسان الى الطريق القويم؛ القلق مما يمارس من تعذيب تلجأ اليه السلطة عن قصد وتصميم، وتستخدمه وسيلة للسيطرة والضغط السياسي، ويقوم به، دونما عقاب، الزبائن والاتباع؛ الاحساس بما يتهدد الحياة بالقضاء قضاءً مبرماً على ما هو من صميم كيان الانسان، اي كرامته وحقه في الحقيقة والحرية؛ الفوارق الكبيرة بين الناس: جماعات يسعدون ويتمتعون بفيض من الخيور ويشكون التخمة، ومئات الملايين يعيشون في فقر مدقع وشقاء وغالباً ما يموتون جوعاً؛ انظمة فاسدة سياسياً واقتصادياً تحول دون خروج العائلة البشرية من الحالة المخزية الظالمة ( البابا يوحنا بولس الثاني في الرحمة الالهية،11).
كذلك المجتمع والوطن اللبناني يعاني من شلل بسبب انتقاص السيادة والتدخلات الخارجية الرامية الى ازكاء التفرقة، وتعطيل الحياة السياسية والديموقراطية، وتعاظم الديون، وتكاثر اعداد الفقراء، وتزايد قطاع البطالة، وركود الانتاج الزراعي والصناعي وتغريقه في سوق السلع الخارجية.
وفيما يسعى الشعب اللبناني وشبابه وذوو الارادة الحسنة المحليون والاقليميون والدوليون الى التوسط لشفائه من هذا الشلل، مثل الرجال الاربعة الذين حملوا مخلع كفرناحوم الى يسوع، نرى سيئّي النوايا وذوي المصالح الرخيصة والمأجورين والمستعبدين يحرّضون على التفرقة والانقسامات والتخوين بالكل. لكن " الوطن لا يقوم ولا ينهض ولا يزدهر إلا بتضافر جهود جميع ابنائه. لكل دينه ومذهبه وطريقته ودعوته وعمله، ولكن الوطن مثل الله هو للجميع. فحذار الفتنة ومن يراهن عليها ليحول دون استعادة لبنان جميع مقوماته من سيادة واستقلال. ولنتقِ الله في هذا الوطن الفريد بين الاوطان" (البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير).
3. المسيح طبيب النفوس والاجساد
شفى يسوع الرجل المخلع اولاً من شلل نفسه غافراً خطاياه، ثم شفاه من شلل جسده، فكان الشفاء الثاني البرهان المنظور للاول. وهكذا اجاب على تساؤل الكتبة والفريسيين: " من يستطيع ان يغفر الخطايا غير الله وحده؟"، مبّيناً ان لابن الانسان، وهو ابن الله، " سلطاناً على الارض ليغفر الخطايا" (مر2/7-10). يسوع هو طبيب النفوس والاجساد، ويحمل سلطاناً مزدوجاً على شفاء الاجساد من عللها والنفوس من خطاياها، وقد اعطاه لكهنة العهد الجديد، ليمارسوه باسمه في الكنيسة. فاسس لهذه الغاية سرّي الشفاء: التوبة ومسحة المرضى (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1421 و1441).
في سرّ التوبة، ينال التائبون من رحمة الله مغفرة الاساءة التي ارتكبوها بخطاياهم تجاه الله والناس، وارتدوا عنها نادمين. وهم يتصالحون مع الكنيسة التي جرحوها بخطيئتهم، هي التي تعمل بالمحبة والصلاة والشهادة على توبتهم (الدستور العقائدي في الكنيسة،11).
مغفرة الخطايا تنبع من الله الثالوث: من الآب الغني بالرحمة الذي يحققها بموت الابن وقيامته وبعطية الروح القدس للحياة الجديدة، كما يقول الكاهن، في احدى صيغ الحلّ من الخطايا، عندما يمارس السلطان الالهي المعطى له:
" ليشملك الله الآب برحمته: فبموت ابنه وقيامته تصالح مع العالم، وارسل روحه القدوس لمغفرة الخطايا؛ وليعطك بواسطة خدمة الكنيسة الغفران والسلام. وانا بالسلطان المعطى لي، اغفر جميع خطاياك، باسم الآب والابن والروح القدس".
في سرّ مسحة المرضى، عندما يصلي الكاهن ويمسح المريض بالميرون المقدس، تحمل الكنيسة كلها المرضى الى الرب المتألم والممجّد، كما فعل الرجال الاربعة الذين حملوا مخلع كفرناحوم الى يسوع، لكي يخفف من آلامهم ويشركها بآلام الفداء لخير شعب الله ويخلصهم من امراضهم (الدستور العقائدي في الكنيسة، 11).
في المرض يختبر الانسان محدوديته ونهايته. قد يقوده المرض الى الحسرة والانطواء على الذات، وغالباً الى اليأس والتمرد على الله. لكنه يستطيع ايضاً ان يحمل الشخص الى النضوج، ويساعده على تمييز ما ليس بجوهري في حياته، وعلى الالتفات الى الجوهر. وغالباً ما ينتج المرض البحث عن الله والعودة اليه، مثل فرنسيس الاسيزي واغناطيوس دى لويولا وسواهما.
لكل هذه الاسباب " افتقد الله شعبه" ( لو 7/16) بالمسيح الابن المتجسد، بعد ان اعلن نفسه قديماُ لشعبه: " انا الرب طبيبك" (خروج 13/20)، وعلى لسان اشعيا: " سيأتي وقت يغفر الله لشعبه كل خطيئة ويشفي كل مرض" ( اشعيا 33/24).
اشرك الرب يسوع رسله، كهنة العهد الجديد، بخدمة الرحمة والشفاء، " فارسلهم يكرزون بالتوبة، ويطردون الشياطين ويمسحون المرضى بالزيت ويشفوهم" (مر6/12-13). وجدد ارسالهم بعد قيامته: " باسمه يضعون ايديهم على المرضى فيشفون ( مر 16/17-18). وقد اعطى الروح القدس بعضاً موهبة الشفاء لتظهر قدرة نعمة المسيح القائم من الموت (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 1506-1508).
مارست الكنيسة الرسولية الاولى هذا السّر وفقاً لرتبة اعلنها يعقوب الرسول: " هل بينكم مريض؟ فليدعُ كهنة الكنيسة، ليصلوا عليه، بعد ان يمسحوه بالزيت باسم الرب. فصلاة الايمان تشفي المريض، والرب يقيمه. واذا ارتكب خطايا، تُغفر له ( يعقوب 5/14- 15 ). لقد رأى التقليد في هذا الطقس واحداً من اسرار الكنيسة السبعة (تعليم الكنيسة الكاثوليكية،1510).
4. الشخص البشري قلب السلام
هذا عنوان رسالة البابا بندكتوس السادس عشر ليوم السلام العالمي ( اول كانون الثاني 2007). فقدان السلام يعني هذا الشلل الداخلي في عمق الانسان الذي ينتج عنه الشلل الاجتماعي والوطني.
بالصوم والاماتات نحرر النفس والقلب من الانحرافات الشريرة ونجد السلام الداخلي، وباعمال الرحمة والمحبة نرمّم روابط الاخوة مع الناس، ونشدد اواصر التضامن والتعاون، فنبني السلام الاجتماعي، القائم على العدالة وانماء الشخص البشري والمجتمع انماءً اصيلاً وشاملاً.
تكلّم قداسة البابا في الرسالة المذكورة عن " إكولوجيا السلام" التي تشمل الانسان وسائر الخلق. وقد رتّب الله كليهما، ووضع لهما هيكلية تُسمى النظام الطبيعي المميّز بالانسجام والتفاهم. هذه الاكولوجيا المزدوجة هي هبة من الله الخالق. ولذلك قيل: "سلام مع الله سلام مع الخليقة كلها". ولما انتهك الانسان هذا النظام الطبيعي بخطيئته وشره وظلمه، عاد الله فافتداه من هذه الفوضى.
الخلق والفداء هما اساس السلام، ويدخلاننا في "قراءة عميقة لمعنى وجودنا على الارض. نحن لا نعيش في عالم من دون معنى، لا عقلاني irrationnel))، بل في عالم مبني اساساً على منطق خلقي، له قواعد للعمل البشري الفردي وللعلاقات المتبادلة بين الاشخاص، هي قواعد العدالة والتضامن والترابط، التي كتبتها الحكمة الالهية في عمق ضمير الانسان" (الرسالة البابوية ليوم السلام العالمي). السلام هو مجموعة الخيرات التي يوفّرها عمل الله للبشرية جمعاء، ولكل انسان بالخلق والفداء. انه في آن هبة ومهمة: هبة نلتمسها بالصلاة ونقبلها بشخص المسيح، " امير السلام"؛ ومهمة نقوم بها بشجاعة ومن دون ملل، وهي تصنع من كل شخص ذي ارادة حسنة "طريق سلام" ( عظة البابا في قداس يوم السلام العالمي).
السلام هو ذروة الخيرات الالهية التي يغدقها الله ببركته: " ليباركك الرب، ويحفظك، ويكشف لك وجهه ويمنحك السلام" ( سفر العدد 6/24-26).
***
ثانيا، زمن الصوم ومراحل درب الصليب
في آية شفاء المخلع تظهر انطلاقة للانسان في مسيرة جديدة حسية وروحية، اذ شفاه يسوع نفساً وجسداً. لكن هو الرب نفسه يسير مع الانسان على دروب الحياة، كاهناً وملكاً.
" درب الصليب" طريق كهنوتي وملوكي. من يسير في هذا الدرب لفداء البشر هو يسوع الذي مسحه روح الرب كاهناً وملكاً. لكنه لا يحمل على درب الجلجلة عصاً ولا ثياباً كهنوتية. غير انه يعرف ان ملكوته يبدأ بالشكل الوحيد الممكن: انه يملك بقوة الحب. الآن يبدأ كهنوته، حملأ وديعاً بريئاً، يقدّم ذاته ذبيحة تكفير عن خطيئة العالم (المكرم الكاردينال Newman).
في المرحلة العاشرة، يسوع يُعرى من ثيابه
"وجاؤوا الى المكان الذي يسمى جلجلة، وتفسيره: جمجمة، وأعطوه ليشرب خمراً ممزوجة مراً، فذاق ولم يرد أن يشرب. ولما صلبوه اقتسموا بالقرعة ثيابه، ليتم ما قيل بالنبي: " ثيابي اقتسموا بينهم، وعلى لباسي اقترعوا". وجلسوا هناك يحرسونه" (متى27/33-36).
يسوع، الملك الابدي للازمنة الجديدة، ينزع عنه الثوب الذي اقتضته شريعة الطبيعة، بعد الخطيئة الاصلية، لتستر عري الانسان وتخرجه من خجله. نزعه عنه ليلبس ثوب الكهنوت: " المحبة حتى النهاية" ( يو13/1)، " الحب الذي يستر الخطايا" ( 1بطرس4/8).
ينزع عنه الثوب المادي ليُلبس الانسان ثوب النعمة والبرارة، بثمرة موته على الصليب وقيامته المجيدة. يفتقر حتى من الثوب المادي الضروري ليغني الانسان بالنعم الالهية، عندما انطلق من بيته في الناصرة، لم يكن يملك شيئاً، فاعلن بداية ملكوت الله، والدخول اليه بالتوبة والايمان بالانجيل ( مر1/15).
هذا هو نهج الكهنوت والملوكية: تواضع وتفانٍ، فقر من الدنيا واغتناء بالله، حبٌ يبذل بدون حساب.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
تلتقي الهيكليات الرعوية: مجالس رعائية، منظمات رسولية، لجان، جماعات عيلية، اندية، جماعات تربوية وديرية، لمواصلة تقبّل النص الثالث من المجمع البطريركي الماروني وعنوانه:حضور الكنيسة المارونية في النطاق البطريركي، وتحديداً في القسم المختص بالعلاقات المسيحية-الاسلامية في العالم العربي بنواحيها السلبية من جهة والمقتضيات الضرورية لتوطيدها (الفقرات 40-46).
1. يعاني الشرق العربي اليوم مخاضاً حضارياً عميقاً، كما يبدو في الظاهرات البارزة:
أ- اليقظة الدينية: تطغى على وجهها الايجابي مظاهرُ التشدد والتعصب والعدوانية المقلقة. الاصولية البغيضة تشوّه الاصالة المطلوبة. التديّن فضيلة، لكن التعصّب يشوّه الدين والانسان معاً (الفقرة 41).
ب- رفض التنوّع الديني والثقافي والاتني واللغوي، وتراجع في الانفتاح والتأخي بين المختلفين ديناً واتنية وثقافة، وتقوقع وتحجر واعتدائية، وخلط بين الايمان والتعصّب الديني، وهما نقيضان: الاول ايجابي ومطلوب، والثاني سلبي وبغيض (الفقرة 42).
ج- يرافق المدَّ الاصولي على المستوى السياسي والاجتماعي، غياب الحريات السياسية، وانتهاك حقوق الانسان المدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقضايا سياسية مزمنة ومترابطة تؤثر على المنطقة العربية كلها وهي: القضية الفلسطينية والمأساة العراقية والمسألة اللبنانية. فلا بدّ من التذكير ان الانسان هو المقياس والقيمة الاساسية للنظم السياسية والاجتماعية (الفقرة 43).
2. اما المقتضيات لتصحيح العلاقات وتوطيدها فهي:
أ- الحوار الدائم مع اهل الدين الاسلامي تعتبره الكنيسة المارونية والكنائس الانطاكية واجباً للدفاع عن حقوق الافراد والجماعات التي هي الطرف الآخر لحقوق الله، والتي تشكل الاساس للسلام.
ب- حوار الاعمال المعروف بمجال التعاون بين الاديان من اجل انماء الانسان وتحريره. وهو حوار الى جانب اشكال ثلاثة اخرى هي: حوار الحياة، وحوار المبادلات اللاهوتية، وحوار الاختبار الروحي. لقد توسع في هذه الاشكال من الحوار المجلس الحبري للحوار بين الاديان ومجمع تبشير الشعوب في وثيقتهما المشتركة: حوار وبشارة (1991)، عدد 42 (الفقرة 45).
ج- حضارة الوجه، وهو تعبير لبطاركة الشرق الكاثوليك، يعني حضارة التلاقي الودّي والتحاور الحقيقي والتخاطب المباشر. تقتضي هذه الحضارة استجلاء مفاهيم الكرامة الانسانية والحرية والمساواة، ووضعها موضع التطبيق بما يتفق مع الشرعة الدولية المعروفة بالاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في 10 كانون الاول 1948 عن منظمة الامم المتحدة (الفقرة 46).
***
صلاة
حرّرنا ايها الرب يسوع من مغريات الارض، لنسعى الى اكتساب القيم الروحية والثقافية والاجتماعية، تعزيزاً لها. حقق فينا حضارة الوجه التي تعكس جمال وجهك، وجه الحرية والعدالة، المحبة والسلام. اهّلنا لاحتمال كل شيء ينال من كرامتنا، لكي تسلم القيم ويتعزز الخير العام. اعطنا ان نرتضي العار في هذه الدنيا، راجين ألاّ يسود وجهنا الخجلُ في اليوم الاخير. لك المجد الى الابد آمين.
****
الاحد 25 اذار 2007
الاحد السادس من الصوم
شفاء الاعمى
بصيرة الروح وخلقية المسلك
من انجيل القديس مرقس 10/46-52
قال مرقس البشير: بينما يسوع خارج من أريحا، هو وتلاميذه وجمع غفير، كان برطيما، أي أبن طيما، وهو شحاذ أعمى، جالساً على جانب الطريق. فلما سمع أنه يسوع الناصري، بدأ يصرخ ويقول: " "يا يسوع ابن داود ارحمني!". فانتهره أناس كثيرون ليسكت، إلاّ أنه كان يزداد صراخاً: " يا أبن داود ارحمني!". فوقف يسوع وقال: " أدعوه!". فدعوا الأعمى قائلين له: " ثق وانهض إنه يدعوك". فطرح الأعمى رداءه ووثب وجاء الى يسوع. فقال له يسوع: " إذهب! ايمانك خلّصك". ولساعته أبصر وانطلق في الطريق.
***
ايمان الاعمى نور كشف له ان يسوع الناصري هو " ابن داود حامل الرحمة الالهية"، فطلب ان يبصر، وكان له مبتغاه. كان الاعمى مبصراً حقاً ببصيرة العقل والقلب واكتمل بصره بنور العينين، فتبع يسوع. اما المبصرون الذين انتهروه ليسكت عندما نادى "يا ابن داود ارحمني"، فكانوا "العميان" حقاً، لانهم لم يعرفوا عن " ابن داود" سوى انه "يسوع الناصري". كل فرد أو شعب أو مسؤول لا يرى الحقيقة، وتعميه مصالحه او يضلله مشيروه هو الاعمى بكل معنى الكلمة.
اولاً، معاني اللوحة الانجيلية
1. بصيرة الروح والعمى الحقيقي
البصر الحقيقي هو البصر الداخلي، بصر العقل والقلب المستنيرين بالايمان، اما عمى العقل والقلب فهو عمى الروح. هذا يسببه الشك الذي يهمل او يرفض قبول الوحي الالهي وتعليم الكنيسة، اوالذي يتردد في الايمان او لا يتجاوز الصعوبات الايمانية أو يستمر في حالة التشكيك. هذا هو العمى الحقيقي الذي يتسبب بالشرور والانحرافات الخلقية. فالايمان بالله هو النور الحق الذي يحرر من الشر والانحراف. ان الوصية الاولى من وصايا الله العشر تأمر بالسهر على الايمان بالله وحمايته من الشك والاهمال واللامبالاة والجحود والالحاد والرفض العنيد والتعلق باصنام الحياة: " انا هو الرب الهك، لا يكن لك اله غيري" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2087-2089).
طيما الاعمى كان مبصراً حقاً، لانه عرف يسوع على حقيقته ببصيرته الداخلية. فعندما سأل المارّة عما يجري، قالوا: " يسوع الناصري يمرّ من هنا". اما هو فرأى أبعد، وراح يصرخ "يا ابن داود ارحمني! "، هم انتهروه ليسكت. فازداد صراخاً: " يا ابن داود ارحمني!"، فتوقف يسوع، لان اللقب والطلب أصاباه في الصميم. واستدعاه اليه، وكشف للجميع حقيقة ايمانه وبصيرته": ماذا تريد ان اصنع لك؟ - يا معلم ان ابصر!- اذهب ايمانك احياك. فابصر لساعته ومشى معه في الطريق.
الايمان هو البصر الحقيقي الذي ينير الانسان في بحثه عن معنى الحياة (التعليم المسيحي، 26). حقائق الايمان تنير العقل والقلب (المرجع نفسه، 89). فالايمان ثقة بالنور الذي هو كلمة الله المتجلية في شخص يسوع المسيح (يوحنا 1/1 و9). آية شفاء الاعمى علامة ودليل ان يسوع هو النور حقاً. انها استعادة لعمل الخلق الاول: " في البدء كانت الارض خاوية خالية وعلى وجه الغمر ظلام، فقال الله: ليكن نور، فكان النور" (تكوين1/1-3). لا يعطي النور سوى من هو النور، يسوع المسيح الذي هو ضياء مجد الرب (عبرانيين 1/3).
الرب يأتي وسط الظلمة الروحية والمعنوية، الاقتصادية والسياسية، لكي يبددها بنوره. ولهذا يدعو في الانجيل الى السهر واليقظة. فهو أتٍ اليوم وكل يوم وفي اليوم الاخير. هذه الدعوة الى السهر تعني المحافظة على نور الايمان لئلا ينطفىء، فتبقى رغبة القلب مشتعلة: "وجهك يا رب التمس" ( مز27/8).
مصدر استنارة بصيرة الروح المعمودية، لما فيها من تعليم يتصل بسرّ الولادة الجديدة من الماء والروح، والبنوة الالهية بالابن الوحيد، الذي يمحو الخطيئة الاصلية والخطايا الفعلية. كما يتصل بالعضوية الحية في الكنيسة، جسد المسيح السرّي، والانخراط في مسيرة شعب الله. فالمعمد الذي قبل الكلمة، وهي " النور الحقيقي الذي ينير كل انسان" (يو 1/9)، قد استنار، واصبح ابن النور، بل نوراً: " قد كنتم من قبل ظلمة، اما الآن، فانتم نور بربنا، فسيروا الآن، هكذا كابناء النور. ان ثمار النور في كل صلاح وبرّ وحق" (افسس 5/8-9).
المعمودية عطية تُمنح للذين لا يأتون بشيء؛ ونعمة تعطى حتى للمذنبين؛ وتغطيس لأن الخطيئة تدفن في الماء؛ ومسحة لانها مقدسة وملوكية؛ واستنارة لانها ضياء سنيّ؛ وثوب لانها تستر خزينا؛ وغسل لانها تطهّر؛ وختم دائم لانها علامة لسيادة الله ووضع يده علينا (القديس غريغوريوس النزينزي، في التعليم المسيحي، 1216).
2. السير على خطى المسيح في حفظ الوصايا
عندما انفتحت عينا الاعمى بقوة المسيح- النور، " مشى معه في الطريق" ( مر 10/52). كل رؤية جديدة تؤدي الى سبيل جديد، على مستوى المسلك والعمل. عندما رأى موسى حضور الله على الجبل واستنار، سلّمه الله الوصايا العشر التي تسميها الكنيسة " نوراً مقدَّماً لضمير كل انسان ليكشف له نداء الله وسبله، ويحميه من الشر (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1962). قال القديس اغسطينوس: " كتب الله على لوح الوصايا ما لم يكن الناس يقرأون في قلوبهم". لما سأل ذلك الشاب يسوع عما يجب ان يصنع من الصلاح لينال الحياة الابدية، اجابه يسوع: " احفظ الوصايا" (متى 19/16). فالوصايا نور يهديه الى كل صلاح. ولما استجاب طلب الاعمى ووضع نوراً في عينيه قاده الى طريق الصلاح.
من هاتين اللوحتين يتبين ان "المسيح هو الجواب الوحيد الذي يملاء رغبة قلب الانسان" ( البابا يوحنا بولس الثاني، تألق الحقيقة،7). و" كونه الانسان الجديد، ففيه يجد سرّ الانسان النور الحقيقي. انه يكشف الانسان للانسان، ويعيد اليه الشبه الالهي الذي تشوه بالخطيئة" (الكنيسة في عالم اليوم، 22). اقترب الشاب من يسوع ليأخذ جواباً حول ما هو خير وما هو شر. وصرخ اليه الاعمى طالباً البصر ليستطيع ان يرى ويمشي بدون عثار. ونحن في زمن الصوم نقترب منه بسماع كلامه وبالصوم والاماتة والتأمل والاصغاء الى الهامات الروح والوقوف مع الذات بعيداً عن الضجيج؛ ونصرخ اليه بالتوبة والصلاة والتماس القوة من صليبه لحمل مصاعب الحياة ومواجهتها، ومن قيامته للنهوض من سقطات الحياة الى حياة جديدة. يبقى سؤال الشاب سؤال كل واحد منا، وطلبُ الاعمى طلبنا.
نظر يسوع الى الشاب واحبه ( مر 10/21)، وسمع صراخ الاعمى وتوقف واستدعاه، فأحبّه. الوصايا العشر هي خلاصة محبة الله والقريب وطريقها، وهي تعبير عن الكرامة الخاصة بالشخص البشري" الذي هو الخليقة الوحيدة التي ارادها الله لذاتها" ( الكنيسة في عالم اليوم، 24).
الوصية الاولى هي ان " تقرّ بأن الله هو الاله الوحيد، وان تحبه من كل قلبك وكل نفسك، وكل قدرتك" ( تثنية 6/5؛ متى 22/37) بالعبادة له دون سواه، وبتقديس اسمه، وبحفظ يوم الرب. ومنها تتحدر الوصية الثانية: " ان تحب قريبك كنفسك" (متى 22/39)، ومقتضياتها: أكرام الوالدين، وعدم التعدي على الانسان في حياته " لا تقتل"، وفي كرامته وقدسيته " لا تزن"، وفي صيته وحقوقه " لا تشهد شهادة زور"، وفي وحدة حياته الزوجية وشركتها " لا تشتهِ امرأة قريبك"، وفي ملكيته الخاصة " لا تسرق ولا تشتهِ مقتنى غيرك" (خروج 20/12-17 ؛ متى 19/18- 19).
حُفظت الوصية الاولى في سؤال الشاب وصرخة الاعمى، والثانية في " حفظ الوصايا منذ الصغر" من قبل الشاب، وفي " السير مع يسوع في طريقه" من قبل الاعمى المبصر. هاتان الوصيتان تشكلان وحدة لا تنفصم، شهد لها المسيح بطاعته للآب ومحبته للبشر حتى الموت على صليب الفداء (يو13/1 ؛ تألق الحقيقة،14). وهما الخطوة الاولى والضرورية على طريق الحرية التي لا تكتمل في هذه الدنيا بسبب عبودياتنا" (القديس اغسطينوس، في تألق الحقيقة، 13و16).
بالمسيح ومعه على طريق الوصايا نسير نحو الحرية من عبوديات العالم وشهواته التي اختصرها يوحنا الرسول بثلاث: شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الحياة (1 يو 2/16).
3. الكنيسة رائدة السلام وكرامة الشخص البشري
" امرهم يسوع ان يدعوا الاعمى، فدعوه قائلين: " تشجع، قم! هو يدعوك" (مر10/49).
لكي يتمكن الناس من تحقيق اللقاء بالمسيح، اراد الله الكنيسة. " إنها ترغب في خدمة هذا الهدف الوحيد، وهو ان يهتدي كل انسان الى المسيح، ليقطع المسيح معه اشواط الحياة، بقوة الحق التي تحرك الانسان والعالم، و بقوة المحبة التي تشع من سرّ التجسد والفداء. فالمسيح، كما يظهر من لوحة شفاء الاعمى، حاضر بقوة الحق والمحبة، بالرغم مما يواجه الكنيسة من مضايقات مختلفة تمنعها من ان تنعم بالحضور والعمل الخاصين بها. وبما ان المسيح هو الطريق الى اي انسان، وفي هذا الطريق ينضم الى كل من الناس، فما من احد يمكنه ان يوقف الكنيسة عن كل ما يعود على الانسان بالخير، ولا هي يمكنها ان تتغاضى عمّا يصيبه من ضرر. وعندما نتكلم عن الانسان، لا نعني الانسان " المجرد"، بل الانسان "الحقيقي"، " الواقعي"، " التاريخي"، بكامل واقعه المحسوس الذي لا يتكرر والذي تبقى فيه كاملة صورة الله ومثاله ( تك 1/271)، ويبقى تصميم الله عليه في إعداده للنعمة والمجد (فادي الانسان، 13).
بهذا المعنى نفهم كلمة آباء الكنيسة: " لا خلاص خارج الكنيسة" اي ان كل خلاص يأتي من المسيح الرأس بواسطة الكنيسة التي هي جسده، والتي تعلن انجيل الخلاص لجميع الناس ( التعليم المسيحي، 846 –848). بل كم نسمع الناس يقولون عندنا بعفوية: خلاصنا انما يأتي بواسطة الكنيسة. انها ضمانة الخلاص من خلال مبادئها ومبادراتها، من دون ان تتلّون باي نظام سياسي او اقتصادي. انها تردد لكل فرد وجماعة وشعب يرغب في الخلاص: " تشجع، قم! انه يدعوك".
الكنيسة في العالم هي العلامة والحماية لسمّو الشخص البشري ( الكنيسة في عالم اليوم، 76)، ولذا تدعو كل مسيحي ليكون فاعل سلام لا يتعب. يلتمسه من الله كخير اساسي، ويخدم قضيته بفخر واندفاع ( رسالة البابا بندكتوس السادس عشر بمناسبة يوم السلام العالمي، اول كانون الثاني 2007، عدد16).
عندما توقّف يسوع استدعى الاعمى وحاوره وشفاه، اراد ان يبين اساس السلام في داخل الانسان وفي المجتمع، اعني المعاملة بالمثل في الحقوق والواجبات بين الاشخاص: "ان واجب الاقرار بالحق الطبيعي لدى الانسان واحترامه كحق اساسي من حقوقه، يستمد قوته الملزمة من الشرع الطبيعي الذي يمنحه ويقضي بالواجب الملازم له" (السلام على الارض،30).
وبيّن الرب يسوع من ناحية اخرى ان التعاون المتبادل يقتضيه السلام الاجتماعي والتعايش السلمي بين الناس. " فالبشر اجتماعيون بطبعهم، وبالتالي يجب عليهم ان يعيشوا معاً، وان يسعى بعضهم الى خير بعضهم الآخر. ان الاصول السليمة، التي يُبنى عليهم عيشهم المشترك، تقتضي اعتراف الناس المتبادل بالحقوق والواجبات وتحقيقها (المرجع نفسه،36).
وعزّز الرب ايضاً لدى مرافقيه " الحسّ بالمسؤولية". تقتضي كرامة الشخص البشري ان يكون مدفوعاً من تلقاء ذاته، وبوحي من قراره، الى ممارسة حقوقه واداء واجبه والعمل على خدمة الآخرين في المجتمع من خلال المشاركة في النشاطات المتنوّعة. " ان مجتمعاً بشرياً قائماً على منطق القوة ليس انسانياً بشيء. فالناس فيه مقلّصو الحرية، في حين ينبغي تعزيزها فيهم" ( السلام على الارض، 34).
***
ثانياً، زمن الصوم ومراحل درب الصليب
درب الصليب طريق مظلم نحو وطن مضيء وحرّ، حيث ينتظرنا "ما لم تره عين، ولا سمعت به اذن، ما هيّاه الله للذين يحبونه" ( 1كور2/9). انه طريق الرجاء ضد كل رجاء، فعند هبوط الليل يطلع اليقين بأن الفجر آتٍ. آلام المسيح التي تقوده الى الموت تحيي فيه رجاء القيامة. والرجاء يصبح حقيقة ويأتي العالم الجديد.
في المرحلة الحادية عشر، يسوع يسمّر على الصليب
" وكانت الساعة الثالثة حين صلبوه. وكتبت لوحة في علّة موته: " هذا هو ملك اليهود". وصلبوا معه لصيّن: أحدهما عن اليمين، والآخر عن الشمال". ( مر15/25-27).
يسوع يُصلب بمسامير حادة في يديه ورجليه، والدماء تسيل من رأسه المكلّل بالشوك، وفمه ملآن خلاً ومرارة، وصدره مطعون بحربة، وكل حواسه مصلوبة. انه ذبيحة التكفير عن كل انواع خطايا البشر. في مساء حياته المظلم والظالم، يسوع على يقين من محبة ابيه السماوي، وفيه رجاء، بالرغم من الانكسار، انه سيقوم من ظلمة الارض مثل " كوكب الصباح المنير" ( رؤيا 22/16). كلما اقترب يسوع من الموت، عرف انه يقترب من القيامة. يسوع رجاء المتألمين: " مصلوبون اذن قياميون".
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص الثالث من المجمع البطريركي الماروني، بعنوان: حضور الكنيسة المارونية في النظاق البطريركي. نتوقف هذا الاسبوع عند المعوقات االراهنة في العلاقات المسيحية الاسلامية (الفقرات 47-59).
يشير النص المجمعي الى الاختلافات العقائدية بين الدينين في امور الثالوث الاقدس، والوهية المسيح، وموته وقيامته لافتداء الانسان وعلاقة الله بالبشر. هذه لا تُعدّ معوقات للحوار، بل مادة للتبادل اللاهوتي الصادق ( فقرة 48). لكن النص يعدد المعوقات الاخرى التي تعرقل نمو العلاقات المسيحية-الاسلامية، وهي التالية.
1. الاوهام والاحكام المسبقة في حق الدين الآخر، والتصانيف الاختزالية للمسيحية والاسلام. انها اشكال من التمييز الاتني والديني. ينبغي تناولها بالدرس العلمي الصادق. هذه انظرة بدأت بالانحسار بفضل الحوار المثمر، والدراسات المعمقة عن الاسلام التي قام بها مفكرون موارنة قديماً وحديثاً ( الفقرات 49-51).
2. التعميمات المتسرعة على الاسلام المعاصر، على اثر عملية 11 ايلول 2001 الارهابية، ومفادها ان الاسلام يساوي الاصولية، والتطرف والعنف ( فقرة 52).
3. حرمان المسيحيين من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية في اماكن عبادة خاصة بهم، او من توفير التربية الدينية المناسبة لناشئتهم في مراكز تربوية تابعة لهم، او من فقدانهم المساواة في المواطنية داخل اوطانهم بسبب اوضاعهم كأقلية. بالرغم من كل ذلك تبقى الكنيسة مستعدة للحوار والتعاون (فقرة 53).
4. اختلاف النظرة الى الحق في الحرية الدينية بين المسيحية والاسلام. في المسيحية، الحرية الدينية حق طبيعي واساسي لجميع الناس. في امور الدين، لا يجوز اكراه احد على العمل بما يخالف معتقداته. يحق للافراد تغيير دينهم اذا دعاهم ضميرهم الى ذلك. اما على صعيد الاسلام، فيُحلّ زواج المرتد من امرأته المسلمة بطريقة قسرية، ويُحرم من حقوق الوراثة بسبب اختلاف الدين، وتُعرّض حياته لخطر الموت. فلا بدّ من التقيد بالاعلان العالمي لحقوق الانسان (الفقرات 54-56).
5. الزيجات المختلطة والنظرة المختلفة الى حقوق طرفي الزواج عند قيامه واثناءه وعند انحلاله: الاسلام لا يسمح لمسلمة الزواج من مسيحي، والمسيحية التي تتزوج من مسلم لا ترثه، وعند انحلال الزواج تحرم من حضانة اولادها ( فقرة 57).
6. تنامي الاصولية في الخطاب الديني الاسلامي من حين الى آخر، يقابله ردود فعل مسيحية مماثلة. الكنيسة تدعو الى تطوير هذا الخطاب عند الجانبين، والى المعرفة الحقيقية والموضوعية المتبادلة، بحيث يتاح للمسيحيين ان يسمعوا ما يقول المسلمون عن انفسهم، وللمسلمين ان يسمعوا ما يقول المسيحيون عن انفسهم. من شان هذه المعرفة ان تهدم الجدران وتخلق الاجواء الملائمة للتواصل والتعاون ( فقرة 85).
7. العنف باسم الدين. انها ظاهرة قد تقوّض اركان السلام العالمي. تلافياً لهذه الظاهرة وتداعياتها، كان " يوم الصلاة من اجل السلام" في اسيزي ( 24 كانون الثاني 2002) الذي دعا اليه البابا يوحنا بولس الثاني، وشارك فيه ممثلون عن مختلف اديان الارض. وصدر عنه "مبادىء اسيزي العشرة حول السلام". وهي شرعة عظمى للاديان للسير نحو بناء السلام الحقيقي. وقد ارسلها البابا مع رسالة الى رؤساء الدول والحكومات في العالم، في 24 شباط 2002 ( فقرة 59).
بعد تقبل هذا النص تتخذ الهيكليات الرعوية مبادرات عملية تطبيقية.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، أصلُب معك كل اميالنا الى الخطيئة والشر، روحاً وجسداً، ولتكن حواسّنا ذبيحة لك. ولتنشد لك جميع اعضائنا نشيد المجد. نسألك ان يغمرنا بالنعمة المبرّرة دمك القدوس الجاري من جراحاتك الخمس، لنتمكن من ان نموت عن العالم ونحيا من اجلك. لك المجد وللآب الذي ارسلك وللروح الذي قوّاك حتى الصليب، الى الآبد. آمين ( صلاة المكرّم الكردينال Newman).
****
الاحد 1 نيسان 2007
احد الشعانين
ملوكية يسوع خلاص وفداء
من انجيل القديس يوحنا الرسول 12/12-22
لما سمع الجمع الكثير، الذي أتى الى العيد، أن يسوع آتٍ الى أورشليم، حملوا سعف النخل، وخرجوا الى ملاقاته وهم يصرخون: " هوشعنا! مبارك الآتي باسم الرب، ملك إسرائيل". ووجد يسوع جحشاً فركب عليه، كما هو مكتوب: " لا تخافي، يا ابنة صهيون، هوذا ملكك يأتي راكباً على جحشٍ ابن أتان". وما فهم تلاميذه ذلك، اول الامر، ولكنهم تذكروا، حين دعا لعازر من القبر وأقامه من بين الاموات، كان يشهد له. من أجل هذا أيضاً لاقاه الجمع، لانهم سمعوا أنه صنع تلك الآية. فقال الفريسيون بعضهم لبعض: " انظروا: انكم لا تنفعون شيئاً! ها هو العالم قد ذهب وراءه!". وكان بين الصاعدين ليسجدوا في العيد، بعض اليونانيين. فدنا هؤلاء من فيليبس الذي من بيت صيدا الجليل، وسألوه قائلين: " يا سيد، نريد أن نرى يسوع". فجاء فيليبس وقال لاندراوس، وجاء اندراوس وفيليبس وقالا ليسوع.
***
بدخوله الى اورشليم يختتم الرب يسوع حياته العامة التي اعلن خلالها رسالته الخلاصية، تعليماً وافعالاً. ونحن نختتم مسيرة الصوم التي ادخلتنا في عمق العمل الخلاصي، فكانت عودة الى الذات بافعال التقشف والاماتة، تكفيراً عن خطايانا وتدريباً للارادة والسيطرة على الذات؛ وعودة الى الله بالاصغاء الى كلامه الحي، والتوبة عن الحياة السابقة، والمصالحة معه بالمسيح وبدء حياة جديدة؛ وعودة الى الاخوة بترميم روابط الاخوّة من خلال افعال المحبة والرحمة، وبالمصالحة بين المتنازعين. وبذلك " نصل الى الميناء" الروحي لندخل مع الرب يسوع اسبوع آلام الفداء لنموت معه ونقوم قيامة القلوب، فنحقق فصحنا بالعبور الى الحياة الجديدة، ونباشر بناء مدينة الله في مدينة الارض.
***
اولاً، مفهوم حدث الشعانين
1. ملوكية يسوع للخلاص والفداء
يسوع يدخل اورشليم لآخر مرة ليشارك في عيد الفصح اليهودي، وكان مدركاً اقتراب ساعة آلامه وموته. وخلافاً لكل المرات، لم يمنع الشعب من اعلانه ملكاً، وارتضى دخول المدينة بهتافهم: " هوشعنا لابن داود مبارك الآتي باسم الرب، ملك اسرائيل". دخل اورشليم ليموت فيها ملكاً فادياً البشر اجمعين، وليقوم من بين الاموات ملكاً الى الابد من اجل بعث الحياة فيهم. هذا يعني انه اسلم نفسه للموت بارادته الحرّة.
علامتان سبقتا هذا الحدث الخلاصي وكلمات بيّنته. اقام لعازر من الموت فاعطى البرهان على ما سبق وانبأ عنه غير مرة: " انه يتألم ويصلب ويموت وفي اليوم الثالث يقوم". واثناء الوليمة التي اقيمت له قبل اسبوع في بيت لعازر، دهنت اخته مريم رجلي يسوع بالطيب الغالي الثمن، فتنبأ يسوع ان ذلك كان استباقاً لدفنه ( يو12/3-7) أما الكلمات فكانت: ويوم دخوله اورشليم اعلن لبعض اليونانيين الذين جاؤوا الى العيد ان ساعة موته اتت، وهي ساعة انكسار الشيطان وتحقيق خلاص الجنس البشري؛ وشبّه سرّ موته وقيامته وولادة الحياة الجديدة في المؤمنين بحبة الحنطة التي، اذا ماتت في الارض، أعطت ثمراً كثيراً؛ وأكّد انه، بارتفاعه على الصليب وبقيامته وصعوده، يرفع البشرية الى مجد قيامة القلوب استباقاً لمجد السماء (يو12/24-32).
قرر الدخول الى اورشليم لكي يموت فيها، وقد اعلن: " ينبغي الاّ يهلك نبي خارج اورشليم" ( لو13/33)، لانها العاصمة الدينية والسياسية للشعب اليهودي، ولان فيها قُتل جميع الانبياء، بسبب تسييس الدين المترجم بالنظام السياسي التيوقراطي. وقد انذرها بقوله: "اورشليم، اورشليم، با قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين اليها. كم مرة اردت ان اجمع بنيكِ، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خراباً. فاني اقول لكم: لا ترونني بعد اليوم حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب" ( متى23/37-39).
نادى الشعب به ملكاً يعطي الخلاص: هوشعنا، يا رب خلّص."هوشعنا لابن داود". هذا ما اغضب الفريسيين اذ قال بعضهم لبعض: " ترون انكم لا تستفيدون شيئاً. هوذا العالم قد تبعه" ( يو12/19). لقد جاء قولهم تأكيداً لقرار قتله الذي اتخذه عظماء الكهنة والفريسيون للسبب عينه بعد قيامة لعازر من القبر ( انظر يوحنا 12/46-52).
لكن ملوكية يسوع ليست سياسية زمنية بل روحية ابدية. والمدينة، اورشليم، ليست مدينة الارض بل مدينة الله اي الكنيسة، ابنة صهيون، اورشليم الجديدة. في ضوء موت يسوع وقيامته، اللذين يسميهما يوحنا الرسول " ساعة تمجيد يسوع"، قرأ هذا الرسول نبوءة زكريا وطبّقها على الحدث: " افرحي، لا تخافي با ابنة صهيون، هوذا ملككِ آتياً اليكِ باراً مخلصاً وضيعاً، يستأصل قوس القتال، ويكلم الامم بالسلام، ويكون سلطانه من البحر الى البحر، ومن النهر الى اقاصي الارض" (زكريا 9/10). ملوكيته هي شمولية الخلاص للبشرية جمعاء.
2. ملوكيته شهادة للحقيقة
سيقول يسوع امام بيلاطس " ان مملكتي ليست من هذا العالم". وعندما سأله اذا كان ملكاً، اجاب: " هو ما تقول، فأني ملك". وشرح ان ملوكيته في الكنيسة قائمة على اعلان الحقيقة التي تخلص: "انا ما ولدت واتيت الى العالم إلاّ لأشهد للحق. فكل من كان من الحق يصغي الى صوتي" ( يو18/36-37).
ابناء الكنيسة وبناتها هم الشهود للحقيقة التي اعلنها يسوع المسيح حقيقة الله والانسان والتاريخ. يشهدون لها بثقافة حياة. عندما يتكلم الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان" عن الالتزام السياسي، يدعو المسيحيين لهذه الشهادة، للعيش بموجب هويتهم الجديدة، التي نالوها بالمعمودية، فاصبحوا بفضلها مشاركين في ملوكية يسوع المسيح، ليشهدوا باعمالهم ومواقفهم الصالحة للحقيقة والمحبة. عليهم ان يبثوا روح الانجيل في الشؤون الزمنية، بحيث يلتزمون بخدمة الشخص البشري والمجتمع، من خلال نشاطاتهم السياسية والاقتصادية والادارية والقضائية والثقافية. على هذا الاساس يتم انتخاب من يجب انتخابهم في المجالس البلدية والاختيارية والبرلمانية وفي النقابات والسلطات العليا. ولكي يشاركوا في ملوكية المسيح، ينبغي ان يتصفوا بالزهد الروحي والتجرد، وبتقدمة الذات والتفاني في خدمة المحبة والحرية والعدالة، وفي ارساء اسس السلام والاخوّة الاجتماعية (الفقرة 113).
هذا المفهوم لملوكية يسوع، ادركه الاطفال عفوياً وبوحي من الروح، اذ هتفوا في الهيكل: " هوشعنا لابن داود ( متى21/15)، كما تنبأ داود في المزمور: " على ألسنة الاطفال والرضّع اعددت لنفسك تسبيحاً" (مز8/3). و “الصغار" في الكتاب رمز الشعب المؤمن الوضيع، المعروف "بفقراء الله"، الذين " بسطوا ارديتهم على الطريق، وقطعوا اغصان الشجر، وفرشوا بها الطريق امام يسوع، وهتفوا: "هوشعنا لابن داود، تبارك الآتي باسم الرب: هوشعنا في الاعالي" ( متى21/8-9). هذه الهتافات هي صدى لهتافات الملائكة ورعاة بيت لحم ليلة ميلاد يسوع. لهذا السبب جُعل الميلاد والشعانين عيد الاطفال، ومن تمثّل بايمانهم وعفويتهم وبساطتهم من الكبار، وهذا شرط لقبول سر المسيح: " ان لم ترجعوا فتصيروا مثل الاطفال، لن تدخلوا ملكوت السموات" ( متى18/3). ولهذا السبب ايضاً اختير عيد الشعانين اليوم العالمي للشبيبة.
3. صليب الفداء اساس الكنيسة
الكنيسة هي اورشليم الجديدة، مملكة المسيح، مدينة الله في العالم. انها " الشركة مع الله، والشركة بين الناس" المعبّر عنها بصلاة الابانا" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،2790). صليب المسيح، الذي تمّ به فداء العالم ووحدته، هو اساس الكنيسة. لهذا السبب تزامن اعلان مملكة يسوع وملوكيته يوم دخول اورشليم مع قرار قتله واعلانه الشخصي لسرّ موته، كما رأينا. هتاف " هوشعنا" اصبح " إصلبه"Ị ولا عجب، فاذا ضممنا الكلمتين نقول: " يا رب خلّص بصلبك Ị ".
عندما اشتدّ اضطهاد نيرون للكنيسة الناشئة في روما، تراجع بطرس واخذ طريق العودة الى فلسطين، عبر طريق Appia المؤدية الى الشرق. ظهر له يسوع في الطريق. فسأله بطرس: ؟ Quo vadis " الى اين تذهب يا رب؟" فاجابه يسوع: " ذاهب الى روما لاصُلب فيها من جديد!" فارتعد بطرس والتصقت قدماه على حجر الطريق الذي ما زال يحمل علامتهما، حسب التقليد المحفوظ الى اليوم، وأدرك ان عليه هو ان يُصلب، فرجع الى روما. واستشهد صلباً، طالباً ان يكون رأسه مكان قدمي يسوع.
أحد الشعانين، وهو اليوم الاول من اسبوع الآلام والفصح، قائم على ركيزتين: اغصان النخل والزيتون علامتي الانتصار وصليب الألم من جهة، وعلى " هوشعنا" و " اصلبه"من جهة اخرى. تبسّط اغسطينوس بهذا المفهوم فقال: " الكنيسة تسير نحو نهية الازمنة بين اضطهادات العالم وتعزيات الله". ولان المسيح واجه بحرية تامة الموت على الصليب، وبموته انتصر، تردد الكنيسة: " العالم يُطوى والصليب باقٍ"، مستلهمة ما كتب بولس الرسول في رسالته الى العبرانيين: "وأما في الابن فقال: " كرسيك يا الله الى أبد الدهور. صولجان استقامة صولجان ملكك. أحببت البّر، وأبغضت الإثم، لذلك مسحك الله إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك". وقال أيضاً " أنت من البدء وضعت أساسات الارض، والسماوات هي صنع يديك. هي تزول وأنت باقٍ، وكلها كالثوب تبلى، وتطويها كالرداء هي تتغيّر وانت كما انت، وسنوك لا تنتهي". (عبر1/8-12).
بصليبه وطّد السيد المسيح السلام وحقق الخلاص في العالم وتحرير الشعوب، لا بالحرب والاقتتال والعنف والارهاب، بل بموته، فمحا خطايانا فادياً، وبقيامته، فكسب لنا الخلاص مبرراً. نستقبله في الشعانين بالعرفان والحب نحو الذي بذل نفسه من اجلنا. فلم يقاوم ولم يتراجع، بل قدّم ظهره للجلد، ولم يمل وجهه عن الاساءة والقتل ( اشعيا50/4-7).
4. الشعانين ترسم طريق السلام
ذهب يسوع الى اورشليم ليموت فيها ملكاً وفادياً، ويخلصها. قصة Quo vadis تتكرر اليوم. انه يذهب الى كل بلد ومدينة ومكان فيه قتل واضطهاد، وعنف وحرب وارهاب. لكنه يذهب من خلال ذوي الارادة الطيبة والملتزمين الذين يصمدون في مكانهم، ويتألمون في سبيل خلاص شعبهم ووطنهم.
طريق السلام يبدأ " بالثقة": " لا تخافي يا ابنة صهيون: ، ثقة بالرحمة الالهية، فيمتلىء القلب سلاماً، ومنه ينتشر في كل مكان. الثقة تنفي اليأس.
بطرس انكر يسوع خوفاً، لكنه تاب وبثقته بكى بكاء مراً. يهوذا الاسخريوطي خان يسوع بيعاً بثلاثين من الفضة، لكنه تاب وردّ المال لاصحابه على غير ثقة فيئس وشنق نفسه. الفرق بينهما ان بطرس وضع ثقته في رحمة الله اما يهوذا فلا.
قايين قتل اخاه هابيل، وداود قتل اوريا ليتزوج امرأته. لكن قايين يئس من رحمة الله معتبراً ان خطيئته اكبر من ان تُغتفر" ( تك4/13)؛ اما داود فتاب واضعاً ثقته في رحمة الله، وصرخ: " ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وبحسب كثرة رأفتك امحُ مآثمي" ( مز50/3).
اللصان اللذان صلبا مع يسوع ارتكبا الخطايا والجرائم فاستحقا عقوبة الصلب. واحد لعن واساء ويئس، والثاني حافظ على الثقة وتاب فصرخ:: " يا يسوع اذكرني متى اتيتَ في ملكوتك". فأجابه" الحق اقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس" ( لو23/43).
في عيد الشعانين نجدد الثقة بالفادي الالهي "يسوع المسيح سلامنا" ( افسس 2/14)، ونلتمس منه السلام الآتي من العلى. اننا نلتزم بان نكون فاعلي السلام، ومدافعين عن كرامة الشخص البشري وحقوقه الاساسية، ومساهمين في تعزيز انسنة حقيقية شاملة للانسان والمجتمع. وهكذا ندرك ان " الشخص البشري هو قلب السلام" ( البابا بندكتوس السادس عشر).
***
ثانياً، اسبوع الآلام ودرب الصليب
مع اسبوع الآلام وفصح المسيح الذي هو عبوره من هذا العالم الى الآب بالموت والقيامة، يدخلنا درب الصليب في طريق الملء " لقد تمّ كل شيء" ( يو19/30). انه ملء الالم والحب اللامتناهي، ملء الحقد والشر وكمال الغفران والرحمة، ملء الاتضاع واخلاء الذات وسمو الارتفاع، ملء الصرخة العظيمة وافاضة الروح للحياة الجديدة ( مر 15/37). ساعة الظلمة وصمت المسكونة التي تبكي موت خالقها، وانبلاج فجر القيامة من بطن الارض. انه ملء الرجاء نحو " سماء جديدة وارض جديدة" ( رؤيا 21/1)، الرجاء الذي يعضد المسيحي في سيرة وراء المسيح، الشمس الحقيقي المنير كلَّ انسان، حاملاً صليبه كل يوم من مرحلة الى مرحلة، مؤمناً بالقيامة الى حياة جديدة، وبقيامة مجتمع أفضل.
في المرحلة الثانية عشرة، يسوع يموت فوق الصليب
" من الساعة السادسة الى التاسعة، وقع ظلام على الارض كلها. ونحو الساعة التاسعة، صرخ يسوع صرخة عظيمة وقال: إيل، إيل، لماذا تركتني. وسمع بعض الحاضرين هناك فقالوا: " هو ينادي إيليا. وللوقت أسرع واحد منهم وأخذ إسفنجة وملأها خلاً، ووضعها على قصبة وسقاه. فقال الباقون: " دعوا للنظر، هل يأتي إيليا يخلصه". وصرخ يسوع ايضاً صرخة عظيمة ولفظ الروح".
"لقد تمّ كل شيء". تحقق تماماً سرُّ حب الله لنا. دُفع الثمن وافتُدينا. لقد اراد الآب بالثمن الغالي، ان نكون غالين في عينيه، فقيمة الشيء من ثمنه. والثمن هو موت ابن الله في طبيعتنا.
في المرحلة الثالثة عشرة، مريم تحتضن ابنها ميتاً منزلاً عن الصليب
مريم في البشارة "احتضنت" الكلمة واصبحت امّ يسوع التاريخي، ام الاله الذي صار انساناً. وعلى اقدام الصليب احتضنت جثمان يسوع واصبحت ام المسيح السرّي، ام جسده الذي هو الكنيسة. وهي امومة تسلمتها من ابنها المعلّق على الصليب: " يا امرأة هذا ابنك! يا يوحنا هذه امك" ( يو19/26-27).
في المرحلة الرابعة عشر، يسوع يُدفن في قبر
" ولما كان المساء، جاء رجل غني من الرامة، اسمه يوسف، وكان هو ايضاً قد تتلمذ ليسوع. فهذا قََدِمَ الى بيلاطس، وطلب جسد يسوع، فأمر بيلاطس أن يعطى له الجسد. فأخذ يوسف الجسد، ولّفه بكفن من كتان نظيب، ووضعه في قبر له جديد، منقور في صخرة، ثم دحرج حجراً كبيراً على باب القبر ومضى. وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الاخرى، جالستين تجاه القبر".
يسوع في بطن الارض، مثل حبة الحنطة التي تموت في الارض وتعطي ثمراً كثيراً. يلج مثوى الاموات ويقيمهم في صمت سبت النور. ومن القبر بدأ عالم جديد من الحرية والحب والفرح من دون حدود.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
نختم اليوم تقبل القسم الاخير من النص الثالث، من نصوص المجمع االبطريركي الماروني، بعنوان: حضور الكنيسة المارونية في النطاق الانطاكي. وتحديداً افاق المستقبل في العلاقات المسيحية- الاسلامية (الفقرات 60-69).
تلتزم الكنيسة المارونية في لبنان والعالم العربي بالمبادرات التالية:
1. تعزيز الحوار المسيحي الاسلامي القائم على الصدق والصراحة المقرونين بالمحبة والتفهّم والاحترام المتبادل وافتراض حسن النيّة عند الآخر. والحوار موقف روحي قبل كل شيء، بحيث يكون عيشنا المشترك منطلقاً من صميم وقوفنا امام الله، الذي يضعنا على طريق بعضنا البعض. من اجل الحوار ينبغي قبول الله اولاً في حياتنا. عند ذلك يصبح الحوار التزاماً بخدمة الانسان (الفقرة60).
2. المحافظة على تلاقي المسيحية والاسلام في لبنان والعمل برجاء وطيد على مدّ هذا الاختبار الى كامل الشرق الانطاكي المعروف اليوم بالعالم العربي. هذا التلاقي ظهر في الثقافة والحياة اليومية والتعاون المشترك في الشأن الوطني (فقرة 62).
4. توفير ثقافة خاصة بالاسلام للاكليريكيين والكهنة والطلاب المسيحيين، وثقافة للمسلمين خاصة بالمسيحية، بالتعاون مع نخبة من اهل العلم والفضيلة في الديانتين (فقرة62).
5. الشهادة للمسيح واعلان بشارته الخلاصية لجميع البشر، بالتزامن مع الحوار المتواصل مع الاديان الاخرى. الغاية من هذا الاعلان ايصال حقيقة الانجيل من اجل التوبة الى الله التي تعني التغيير في القلب وتحوّل حركته نحو الله، من دون اقتناص احد الى الحظيرة المسيحية (فقرة 67).
6. صيانة النموذج اللبناني في العيش المشترك، المنظم دستورياً، وتعميم ايجابياته على كامل المنطقة العربية. ثم العمل الدؤوب على صيانة هذا النموذج من التعثّر او الضياع. الكل من اجل الوحدة في التنوع، وتعزيز الحريات العامة، وحفظ مقتضيات العدالة والسلام وحقوق الانسان، بما فيها حقوق المرأة، والتعامل الكريم مع الاقليات على اختلاف انواعها (فقرة 68).
***
صلاة
ايها الرب يسوع، أعطنا اليقين اننا:
عندما نكون في الضيق، نشعر بأننا أقرب اليك؛
عندما يسخر منا الناس، انت تشرّفنا؛
عندما يحتقرنا الناس، انت ستمجدنا؛
عندما ينسوننا، نشعر بانك تتذكرنا؛
عندما يهملوننا، نشعر بانك تقرّبنا اليك.
وانتِ يا مريم، اياكِ نعظّم، لانك قدّمتِ بين يديك للعالم الكلمة النور والهداية للعقول، واليوم تقدمينه للعالم قربان فداء وخبزاً للحياة الجديدة. للثالوث المجيد الذي اختارك كل مجد وشكر الى الابد آمين.