لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي (يو 15 /15)
خُلّصنا في الرجاء - الخوري سيمون جبرايل
خُلّصنا في الرجاء
الخوري سيمون جبرايل
ان الاحداث الأليمة التي تشهدها بعض البلدان ذات الأقليات المسيحيّة كالعراق ومصر ونيجيريا والهند والبكستان وسواها من البلدان التي تعاني من التطهير العرقي والديني، تدعونا الى التعمّق في فهم وعيش ايماننا المسيحيّ، لكي نزيل من قلوبنا وعقولنا كل الهواجس والمخاوف. لابدَّ لهذه الاحداث من ان تدفعنا الى وقفة ضمير وتضامن مع اخواننا المعذبين والمُضطََهَدين. فلا يمكن لمسيحيي الشرق ان يبقوا ساكتين صامتين ولا نريد ان نجابه العنف بالعنف. نريد ان نعيش في بلداننا مع اخواننا مواطنين متساوين بالحقوق والواجبات. فنحن مؤتمنون على هذه الارض ونحن حراسها، نحن بناة حضارة المحبة والحياة.
اذًا هي مناسبة لنا جميعًا لنعيد قراءة حياتنا المسيحيّة، ونكتشف ان هذا الليل المظلم الذي نعيشه سيعبر لا محالة، وانَّ السلام والامان سيعمّان على هذه الارض طالما انّ ايماننا يرتكز على شخص السيد المسيح. ايمانٌ مبنيٌّ على الرجاء، ورجاءٌ يتحقّق فيه الخلاص. فالمسيح هو رجاؤنا. وهذا ما سنحاول ان نظهره من خلال عرضنا لرسالة البابا بنديكتوس السادس عشر: " خُلّصنا في الرجاء" التي اصدرها عام 2008.
1- الإيمان هو رجاء
يحاول قداسة البابا في هذه الرسالة اظهار المسيحية على أنها دين مبنيّ على الرجاء. وقد أعطى أمثلة عديدة من الكتاب المقدس ومن حياة الكنيسة ليؤكد على أنه مهما اشتد الظلم والإضطهاد، ومهما تعاظمت شكوك الإنسان وهمومه يبقَ لنا الرجاء بالخلاص. فالسيد المسيح نال الخلاص من أجلنا، ونحن لا نزال نرجو ثمرات هذا الخلاص في الحياة الأبدية.
ان كلمة "رجاء" توازي في الكتاب المقدس كلمة "إيمان"، ومن لديه الرجاء يعيش بطريقة مميزة، لأن حياة جديدة أُعطيت له. هذا الرجاء متأتٍّ من اللقاء الحقيقي بالله في المسيح يسوع، لقاء يحوّل في الداخل الحياة والعالم. إن المسيح يكشف لنا من هو الإنسان وما يجب أن يعمل ليكون حقاً إنساناً. انه يدلنا على الطريق والحقيقة والحياة التي نبحث عنها جميعًا. إنه الراعي الحقيقي الذي يقودني ويساعدني على اجتياز طريق الوحدة النهائية، لأنه مرّ بهذه الطريق ونزل الى مملكة الموت وانتصر عليه. يسوع المسيح هو رفيق الدرب الذي يعطيني الأمان بحيث " لا أخاف سوءًا" ( مز 22: 4).
وإنّ هذا الإيمان يرتبط بالرجاء الذي هو جوهر الحقائق المرجوّة والبرهان عن الحقائق التي لا ترى. ليس الإيمان إنجذاباً شخصياً نحو الخيور الآتية فحسب بل أنه يعطينا منذ الآن شيئًا من الواقع المنتظر. هكذا عاش المسيحيون إيمانهم المليء بالرجاء منذ عصر الاضطهادات وعلى مرِّ العصور، لأنهم يعرفون أنهم يمتلكون خيرات أفضل من الخيرات الآنية. لذلك كانوا قادرين على ترك كل شيء، لأنهم وجدوا أساسًا لحياتهم، أساسًا باقيًا، لا يستطيع أحد أن ينزعه منهم.
وهكذا أيضاً من رجاء الذين مسّهم المسيح ظهر الرجاء للاخرين الذين كانوا يعيشون في الظلمة واليأس " بدون رجاء وبدون اله في العالم" (اف 2: 12). وعد المسيح لهم لم يكن فقط حقيقة منتظرة بل حقيقة حاضرة في حياتهم. هذا ما جعل إيمانهم بالرجاء إيمانًا حيًّا ومثمرًا. لقد أظهر الله ذاته في المسيح، وأشركنا منذ الآن في جوهر الخيور الآتية. وانتظار الله هو إنتظار خيور مستقبلية إنطلاقًا من حاضر هو هنا. ولكن أن نعرف كيف ننتظر فذلك يتطلب منا الثبات حيث نحن اينما كنّا لنستطيع نوال " تحقيق الوعد" (عب 10: 36).
إذاً التفكير بالإيمان والرجاء يدور بكامله حول حياة الإنسان وموته. ولكن هناك تناقض صريح في حياة الإنسان؛ فمن جهة نحن لا نريد أن نموت، ولا من يحبنا يريد لنا أن نموت. ومن جهة أخرى لا نرغب في البقاء في الوجود بنوع غير محدود. كلنا نريد الحياة الحقيقية التي لا يصل إليها الموت، إنما في الوقت عينه لا نعرف الى أي شيء نحن مدعوون. نحن نريد الحياة السعيدة والأبدية، نريد الخلاص ولكن ليس الخلاص الذي نسعى إليه خلاصًا فرديًّا أنانيًّا، إنما خلاصًا جماعيًّا، لأننا " بالرجاء خلصنا جميعًا" ( رو 8: 24) .
2- الرجاء المسيحي الحقيقي
قبل أن نتكلم عن الرجاء المسيحي وعمّا يمكن أن يقدمه الى العالم لا بد من نلقي نظرة سريعة على الدوافع التي أدّت الى أزمة الإيمان في العصور الحديثة وبالتالي أدّت الى أزمة الرجاء المسيحي. تظهر هذه الأزمة بوضوح تام خاصة عند فرنسيس باكون. يرى باكون أن الإختراعات والإكتشافات التي بدأت منذ زمن قريب ما هي إلاّ بداية لاكتشافات جديدة ينتج عنها عالم جديد هو مملكة الإيمان. للرجاء عند باكون شكلاً جديدًا يسميه الإيمان في التطور. والتطور يُبنى على العقل والحرية، عقل هو قوة خير وللخير، وحرية تقود الإنسان الى كماله. انهما الأساس الجديد للجماعة البشرية الجديدة.
أما عمانوئيل كانط فيؤكد على أن الثورات، وبخاصة الثورة الفرنسية، استطاعت تسريع زمن العبور من إيمان الكنيسة الى إيمان العقل أي الى "مملكة الله". ليس ملكوت الله هذا هو ذاته الملكوت الذي بشّر به يسوع المسيح، إنما الملكوت الذي يصل الى حيث أيمان الكنيسة تخطاه الزمن واستعيض عنه " بالإيمان الديني" أي الإيمان العقلي. وفي هذا الملكوت هناك، مع النهاية الطبيعية لكل شيء، امكانية وجود نهاية مضادة للطبيعة فاسدة من الناحية الأخلاقية.
ومع كارل ماركس وثورته البروليتارية ساد الإعتقاد أنه بمجرد انتزاع أملاك الطبقة السائدة وسقوط السياسة وباشتراكية وسائل الإنتاج تتحقق أورشليم الجديدة. اعتقد ماركس أنه بتنظيم الإقتصاد يترتب كلّ شيء. خطأُه الحقيقي هو المادية، نسي أن الإنسان يبقى إنسانًا. نسي الإنسان ونسي أن الحرية تبقى دائمًا حرية حتى في الشر.
ونتساءل نحن المسيحيين ماذا نستطيع بعد أن نرجو خاصة في ظلِّ الاوضاع التي نعانيها؟ وماذا يمكننا أن نقدم للعالم الذي فقد الرجاء والإيمان؟
قبل كل شيء لا بدّ من أن نؤكد بأن التقدم يعطي إمكانيات جديدة للخير ولكنه يُنتج أيضاً إمكانيات سحيقة ومخيفة للشر لم تكن سابقًا. إذا لم يرافق التقدم التقني تقدمًا في تربية الإنسان الأخلاقية، في نمو الإنسان الداخلي، فهذا ليس تقدمًا إنما تهديد للإنسان والعالم.
في هذا التقدم الصحيح والمعافى يلعب العقل البشري دورًا أساسيًّا في التمييز بين الخير والشر. هكذا فقط يصبح العقل عقلاً بشريًّا حقًا لا عقلاً متسلطًا. يصبح العقل بشريًّا فقط إذا كان بإمكانه أن يدل الإرادة والحرية على الطريق، وإلاّ يصبح تهديدًا له ولكل مخلوق. إن الملكوت العقلي المحقق بدون الله ينتهي مؤكدًا بالمخرج الفاسد لكل شيء على ما يصف كانط. العقل بحاجة إذًا الى الإيمان ليكون هو ذاته كاملاً. والإنسان بحاجة الى الله وإلا بقي بدون رجاء.
يخطىء كل من يعتبر ان الإنسان يُفتدى بالعلم، هذا نوع من الرجاء الكاذب. صحيح انه باستطاعة العلم أن يساهم كثيرًا في أنسنة العالم والبشرية، ولكن باستطاعته أيضًا أن يهدم الإنسان والبشرية، إذا لم يكن الله موجودًا فيه وفي تقدمه. ليس العلم من يفتدي الإنسان بل المحبة التي تجلّت في يسوع المسيح. عندما يختبر الإنسان في حياته حبًّا كبيرًا، عندئذٍ تكون ساعة الفداء، فيعطي إذاك معنى جديدًا لحياته. "لا الموت ولا الحياة لا الأرواح ولا القوات، لا الحاضر ولا المستقبل، ولا الكواكب ولا السماوات، ولا الأعماق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلني عن محبة الله التي في المسيح يسوع " (رو 8: 38 ? 39).
لذلك نقول، من لا يعرف الله من خلال يسوع المسيح، وإن استطاع أن ينعم بأنواع عديدة من الرجاء، هو في الواقع وفي العمق بدون رجاء، فالرجاء الحقيقي الرجاء الكبير للإنسان هو الله فقط. ومن مسّه الحب يفهم حقيقة ما هي الحياة في عمقها. فالحياة بكاملها علاقة بمن هو نبع الحياة، بمن هو ذاته الحياة والحب. وبقدر ما نكون متحدين به يصبح بمقدورنا أن نصير حقًّا للآخرين، للجميع. يقول القديس مكسيموس المعترف بأن من أحب الله أحب أيضاً قريبه بدون تحفظ، عندها يصبح غير قادر على الإحتفاظ بغناه، فيوزعه مثل الله معطيًا كل واحد ما هو بحاجة إليه.
إذاً الله هو أساس الرجاء لا أي اله، بل الإله الذي يحمل وجهًا بشريًّا والذي احبنا غاية الحب. ليست مملكته شيئًا نتخيله ما وراء الطبيعة، حاضر في مستقبل لا يتحقق أبدًا، بل مملكته حاضرة حيث هو محبوب وحيث حبه يضمنا إليه. وحده حبه يعطينا أمكانية الثبات والرجاء في عالم هو بطبيعته غير كامل.
3- التنشئة على الرجاء
المكان الأول والأساسي للتنشئة على الرجاء هو الصلاة. إن لم يعد هناك أحد يسمعني، فالله يسمع. وإن لم يعد بوسعي الكلام مع أحد، أستطيع الكلام مع الله من خلال الصلاة. فالصلاة هي لقاء مع الله. الإصغاء اليه والكلام معه هما ثمرة الصلاة. لا تعني الصلاة خروج الإنسان من التاريخ والإنعزال عن العالم، بل هي عملية تطهير داخلي تجعلنا نتحد بالله وبالتالي بالناس أيضًا. ولكي تنمّي الصلاة هذه القدرة المُطِّهرة يجب أن تكون شخصية علائقية وفي الوقت ذاته في شراكة مع صلاة الكنيسة في وحدة رجاء. فالرجاء المسيحي الحقيقي هو دائمًا رجاء شخصي وللآخرين.
إن العمل الإنساني الجدي هو أيضًا رجاء، لأننا بالتزامنا به نساهم في جعل العالم أكثر إنسانية. حتى وإن لم يعد لي شيئًا أرجوه، إما بسبب الأوضاع السياسية والإقتصادية وإما بسبب الفشل الذي يمكن أن أتعرض له في حياتي، فأنا اؤمن بأني قادر على تحرير حياتي والعالم من كل الأوبئة التي تستطيع أن تهدم الحاضر والمستقبل. إن عملي المرتكز على وعود الله والرجاء المسيحاني يعطيني الشجاعة على المساهمة البنّاءة لملكوت الله.
والألم هو رجاء لأنه جزء من الحياة الإنسانية. طبعًا يجب النضال ضدّ الألم البشري وفعل كل ما في الامكان للتحفيف منه. وإذا كانت إزالة الألم من العالم ليست من إمكانيتنا، فالله استطاع ذلك بصيرورته إنسانًا وبتألمه معنا. نحن نؤمن بأن هذا الله موجود لذلك رجاؤنا كبير بالإنتصار على الشر والشفاء من الألم. ما يشفي الإنسان ليس تلافي الألم بل إمكانية قبوله وإيجاد معنى للحياة بالإتحاد بالمسيح الذي تألم بحب لا متناه. إذا لم يستطع كل شخص أن يجد معنى للألم كطريق تطهير ونضج وكطريق رجاء فلا يقدر أن يقبل ألم الآخر. والمجتمع الذي ليس قادرًا أن يجعل الألم موضوع مشاركة هو مجتمع قاس وغير إنساني. إن قبول الألم حبًّا بالخير والحقيقة والعدالة هو الذي يبني مقياس الإنسانية.
يبقى أن نشير الى أن الإيمان بالدينونة هو رجاء بعدالة الله. إن الدينونة تدعو الى المسؤولية أمام عدالة الله ونعمته. النعمة لا تنفي العدالة ولا تحوّل الخطأ الى حق. اللقاء بالمسيح هو العمل الحاسم للدينونة، في هذا اللقاء يذوب كل كذب ويظهر الإنسان على ما هو عليه حقيقة. اللقاء به يحولنا ويحررنا ليجعلنا حقًّا ما يجب أن نكون. دينونة الله هي رجاء، إن من حيث هي عدالة أو من حيث هي نعمة. العدالة تجعلنا ننتظر خلاصنا "في خوف الله والرعدة" (في 2: 12) والنعمة تسمح لنا أن نرجو الخلاص في لقائنا بالديان البارقليط. وإذا كان الرجاء والحب المتجسد في شخص المسيح، يصل الى ما وراء الطبيعة، فإنه بالصلاة يُبقي الاحياء والأموات متحدين فيما بينهم ما بعد حدود الموت. لذلك بصفتنا كمسحيين لا نتساءل كيف نُخلّص ذواتنا، بل ماذا علينا أن نفعل ليَخلُص الآخرون.
خاتمة
ايها المسيحيون اذا كان ايماننا يرتكز على هذا الاله-الانسان فلا تخافوا من تعيشوا حياتكم كما يريدنا هو ان نعيش. إنّ ايّام "الدهاليز" قد ولّت الى غير رجعة، فاثبتوا على ايمانكم وعلى ما يعلّمكم انجيل ربنا يسوع المسيح. فإن يوم الخلاص آتٍ. وسيمسح، الرب، كلّ دمعة من عيونكم. وللموت لن يبقى وجودٌ بعد اليوم، ولا للحزن وللبكاء، ولا للصراخ ولا للألم، لان العالم القديم سيزول وسيملك الرب للابد في الارض الجديدة والسماء الجديدة (راجع رؤ 21: 4). هذه هي كلمة الرجاء لنا اليوم ولا رجاء إلاّ في المسيح يسوع. وهذه هي دعوتنا في هذا الشرق ان نكون خدّام الكلمة وآداة خلاص للآخرين ودعاة سلام حيث البغض والحرب والإرهاب والقتل.
علينا ان نساعد الآخرين على اكتشاف هذه الحقيقة الخلاصيّة وان نشهد لها حتى النهاية. وعلينا ان نتسلّح بهذا الايمان وهذا الرجاء وليس بأيّ امرٍ آخر. ان يمس الإيمان بالرجاء قلب الإنسان، فهذا يدل على تدخل الله الخلاصي في حياته، مسيحياً كان أم غير مسيحي. وهو بالتالي إعتراف صريح بقدرة الله الخلاصية في المسيح يسوع. إن كل من يختبر شخصياً في حياته هذا الإيمان، لا يمكنه إلا أن يضع رجاءه في المسيح. فيتخلى عن كل شيء ليتتلمذ له ويشهد له في حياته وفي مماته. ليس الإيمان والرجاء حكراً على المسيحيين فقط بل هما دعوة لكل إنسان يبحث عن خلاصه وعن الحياة الأبدية . فهذا فعل الايمان الذي يحول حياة من يكتشف رجاء جديداً لم يعرفه ولم يلمسه قبلاً. فالمسيح هو رجاؤنا وبه خُلّصنا جميعاً.