أحِبُّوا البِرَّ يا أَيُّها الَّذينَ يَحكُمونَ الأَرض و فَكَروا في الرَّبِّ تَفْكيراً صالِحًا و اْلتَمِسوه بصَفاءِ قلوبِكم لأنّه يَكشِفُ نًفسَه لِلَّذينَ لا يُجَرَبونَه للَّذين لا يَكفُرونَ به (حك 1 /1-2)
قلباً طاهـراً أخلق فيّ يا الله - الشماس نبيل حليم يعقوب
قلباً طاهـراً أخلق فـيّ يا الله
الشماس نبيل حليم يعقوب كنيسة السيدة العذراء للأقباط الكاثوليك بلوس انجلوس |
الحياة مع الله تستلزم الحياة بلا دنس وفـى قداسة وفى نقاوة وبر وصلاح. ولكي يحصل الإنسان على حياة النقاوة يلزمه ان يكون له قلب نقي طاهر.
ان القلب فى الـمفهوم الإنجيلي هو القاعدة التى تصدر عنها كل مفاعيل الحياة الروحية والجسديـة،فصاحب الأمثال يعلن:"فوق كل تحفظ إحفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة"(أمثال23:4)
ولكن لـماذا إختار الله قلب الإنسان ليكون مكانا مخصصاً لـه دون سواه؟
فهو القائل:"يابني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي"(أمثال26:23)، وكانت أول وصية للإنسان "تحب الرب إلهك من كل قلبك"(تثنية5:6)، وأيضا كانت إجابة السيد الـمسيح لأحد علماء الناموس عن أعظم الوصايا فى الناموس" أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك.هذه هى الوصية العظمى والأولى"(متى37:22)،
وأيضاً يقول الوحي الإلهي:"ويل للقلب الـمتوانـي إنه لايؤمن ولذلك لا حمايـة له"(يشوع بن سيراخ5:2)
قلب الإنسان هو الـمُعبّـر عن حالة الإنسان النهائية إن كان صالحاً أو شريراً "فالإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يُخرج الصلاح والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر"(لوقا45:6).
فيستحيل ان يتكلم الإنسان دون أن يكشف عن قلبه شاء أو أبَى لأنـه مكتوب:"انـه من فضلة القلب يتكلم الفم"(لو45:6)، ولأنه من القلب"تخرج الأفكار الرديئة القتل الزنى الفجورالسرقة شهادة الزّور التجديف"(متى19:15)
ان عمل الشر فى الإنسان هو تلويث القلب بالشرور والشهوات فيصبح كنـز القلب شريراً فينضح بالشرور،بل أحيانا يضيف الشر إلى ذلك إمكانية إعطاء قلب غاش للإنسان فيتكلم بالصالحات حتى يخفى ما بـه من الشرور فيتكلم هذا الإنسان بالصالحات ليوهم الناس انه صالح مع انه شرير،
وهذا ما ذكره السيد الـمسيح عن الكتبة والفريسيون"كذلك أنتم يرى الناس ظاهركم مثل الصدّيقين وأنتم من داخل ممتلئون ريآءً وإثماً"(متى28:23)،وايضاً قال لهم:"أنتم تزّكون أنفسكم أمام الناس لكن الله عالم بقلوبكم لأن الرفيع عند الناس هو رِجسُ أمام الله"(لوقا5:16(
وأيضا يذكر الله هذا على لسان اشعيا النبي قائلاً:"ان الشعب يتقّرب إليّ بفيـه ويكرّمني بشفتيه أما قلبه بعيد عني"(اشعيا 13:29)
وفى الـموعظه على الجبل قال السيد الـمسيح فـى إحدى تلك التطويـبات:"طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يُعاينون الله"(متى8:5)،وفى مثل الزارع نجد كلمة الله والقلب (متى18:13-23). لذلك وجب على الإنسان ان يكون قلبه نقي حتى يـمكنه الحيـاة مع اللـه.
يقول القديس مكاريوس الكبير:"القلب هو القاعدة التى تنبثق منها الشخصية بكل مكوناتها وميزاتها ومركز القدرات والطاقات والذكاء والبصيرة والإرادة والحكمة والرؤيـا".
فالقلب الشرير يلوث الإرادة وينجس الـميول والغرائز الطبيعية ويصير كل شيئ غير طاهر فى عين ذلك الإنسان وفى يديـه دون أن يدري.
"ان كل شيئ طاهر للأطهار فأما الأنجاس والكفرة فمالهم شيئ طاهر بل بصائرهم وضمائرهم نجسة"(تيطس15:1)
لذلك كان عمل الله بالنسبة للقلب هو إنتزاع القلب الشرير جملة وخلق قلب جديد يغرسه الله فى الإنسان. قلب جديد فيصبح الإنسان إنساناً آخر،لذلك صرخ داود فى القديم قائلاً:"قلباً نقيّاً أخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدّد فى أحشائي"(مزمور12:50).
وحزقيال النبي يتنبأ على لسان الله واعداً الـمؤمنيـن قائلاً:"أعطيكم قلباً جديداً واجعل فى حشاءكم روحاً جديداً وأنزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلباً من لحم وأجعل روحي فى أحشاءكم وأجعلكم تسلكون فـى رسومي وتحفظون أحكامي وتعملون بـها"(حزقيال26:36-27)
كيف يمكن خلق هذا القلب الجديـد؟
الله هو الذى بدأ كما جاء برسالة القديس بولس"أما اللـه فيدل على محبته لنا
بانه إذ كنا خطأة بعد ففى الآوان مات المسيح عنا فبالأحرى كثيراً إذا قد بررنا بدمه نخلص من الغضب لأنّا إذ كنا قد صولحنا مع اللـه بموت ابنه ونحن أعداء فبالأحرى كثيراً نخلص بحياته ونحن مصالحون"(رومية8:-10)
وأيضا فى رسالته الى أهل كولوسي:"قد صالحكم فى جسد بشريته بالـموت ليجعلكم قديسين بغير عيب ولا مشتكى أمامه"(كولوسي22:1).
وكما جاء برسالة القديس يوحنا"وبهذا تبين محبة اللـه لنا ان اللـه أرسل ابنه الوحيد الى العالم لنحيا به وإنـما الـمحبة فى هذا اننا لم نكن نحن أحببنا الله بل هو أحبنا فأرسل إبـنه كفّارة عن خطايانـا"(1يوحنا9:4-10)
ورسول الأمم يدعونـا أن ننبذ "الإنسان العتيق الفاسد بشهوات الغرور" وأن نتجدد وأن نلبس "الإنسان الجديد الذى خُلق على مثال الله فـى البـِر وقداسة الحـق"(أفسس22:4-24)
الله هو الذى أحب الإنسان حتى ان ايوب يصرخ قائلاً:
"ما الإنسان حتى تستعظمه وتـميل اليه قلبك"(ايوب17:7)
الله لا يهتم بحب العواطف مهما كان عنيفاً لأنه حب ينطفئ فى طريق الحياة حينما تنجرح العواطف أو تـهان.
لذلك أصبحت تنقية القلب بالنسبة للمحبين لله أمراً بالغ الأهمية والخطورة لأن الله لا يطلب ولا يرضى بالحب النصفى او الجزئي،فلابد ان يكون كل القلب للـه لهذا قال يعقوب الرسول:"أما تعلمون أن مـحبة العالم عداوة للـه فمن آثر ان يكون حبيباً للعالم فقد صار عدواً للـه"(يعقوب4:4)
ومعنى كل القلب هو تصفيته تماما من كل شوائب او ميول جسدية وتطهيره من كل الأوثان والـمعبودات السريّة ولهذا قال القديس يوحنا:"لاتحبوا العالم و ما فى العالم إن كان أحد يحب العالم فليست فيه محبة الآب لأن كل ما فى العالم هو شهوة الجسد وشهوة العين وفخر الحياة"(1يوحنا15:2-16)
فقدس الأقداس أي القلب ينبغى ان يُقدس ويزين للـه فقط،أي انه بقدر ما نخلع الإنسان العتيق بكل شروره نستطيع أن نظهر فى قوة الإنسان الجديد الإلهي كقول الرسول:
"إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذى يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه"(كولوسي9:3-10)
ان نقاوة القلب تعنى تنفيذ مشيئة اللـه القدوس وهناك رابطة قوية ما بين نقاوة القلب وطهارة الجسد والإيمان،
ولهذا يقول القديس اغسطينوس:"الـمؤمن يجب ان يؤمن بحقائق الإيـمان لأنه بإيـمانه سيطيع اللـه وبطاعته للـه سيحيا فى الخير وإذا عاش فى الخير سيعمل على تطهير القلب دائماً وبنقاوة القلب يمكنه ان يفهم بماذا يؤمن".
هنا ينبغى أن يبرهن الإنسان عن إيمانه بوجود اللـه وذلك بصلاته وسلوكه مع الناس بمقتضى اوامر الله ووصاياه ولهذا فلقد قيل"من ثمارهم تعرفونهم"(متى16:7)
ان الإيمان باللـه شيئ ومحبة الله شيئ آخر،ولكن اذا إجتمعا ظهر منهما قوة جديدة هى الثقة باللـه "وهذه هى الثقة التى لنا به إن كنا نسأله شيئاً بحسب مشيئته فإنه يستجيـبنا"(1يوحنا14:5)
فهل من منظرى ولغتى وتصرفاتى وهدوئى ومحبتى وطاعتى وخدمتى ورعايتى لأسرتى ينظر الناس الـمسيح فيّ"فيمجدوا الله"(متى16:5)،
فالرسول بولس يقول:"اننا صرنا منظراً للعالم للملائكة والناس"(1كورنثوس9:4)
.ولكن يبقى السؤال كيف يحصل الإنسان على نقاوة القلب والشهادة الحيّة للمسيح يسوع؟
ان الكنيسة بأسرارها الـمقدسة والتى تعتبـر "وسائط للنعـمة" تساعد الإنسان الـمؤمن على تطهير القلب والحياة بدون دنس مع اللـه.
سر المعموديـة:
"ان كان احد لايولد من الماء والروح لايقدر ان يدخل ملكوت الله"(يو5:3)
فالمعمودية أعطت للقلب ولادة جديدة وتطهيراً من الخطايا ومنحت الإنسان نعمة التبني والخلاص من عقوبة الخطية وأخذ ميراث الحياة الأبدية.
سر الـميرون او الـمسحة الـمقدسة:
"وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس.."(1يوحنا20:2)
"لكن الـمسحة التى نلتموها منه تثبت فيكم.."(1يوحنا 27:2)
وفيه يـُمنح الـمؤمن موهبة حلول الروح القدس عندما يضع الكاهن يده على رأس الـمعمّد وينفخ فيه الروح القدس ويُدهن بالزيت الـمقدس.
سر الشكر او الافخارستيا:
"من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبديـة"(يوحنا 51:6-57)
ويحذرنا القديس بولس قائلاً:"لأن من يأكل ويشرب وهو على خلاف الإستحقاق إنـما يأكل ويشرب دينونة لنفسه"(1كورنثوس29:11)
سر التوبة او الإعتراف او سر المصالحه:
نفخ الرب يسوع بعد قيامته فى وجه تلاميذه قائلاً:"خذوا الروح القدس. من غفرتم خطاياهم ُتغفر لهم ومن أمسكتم خطاياهم تُمسك لهم"(يوحنا22:20)
لهذا فضرورى جداً الذهاب الى سر الإعتراف بتوبـة حقيقية وندامة كاملة.
ان إنسحاق القلب ضروري وشرط جوهري لازم للتوبة الحقيقية،لهذا جاء على لسان يوئيل النبي قول الرب القائل:"إرجعوا اليّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم وإرجعوا الى الرب الهكم لأنه رؤوف رحيم بطيـئ الغضب وكثيـر الرأفـة ويندم على الشر"(يوئيل12:2-13)
سر مسحة المرضى:
"أمريض احد بينكم فليدع قسوس الكنيسة فيصلّوا عليه ويدهنوه بزيت باسم
الرب وصلاة الإيمان تشفى الـمريض والرب يقيمه وإن كان قد فعل خطية تغـفر لـه"(يعقوب14:5-15)
سر الزواج:
الزواج ناموس مقدس أسسه اللـه تعالى منذ البدء وقد باركه يسوع بحضوره لعرس قانا الجليل (يوحنا2:2)، ولهذا قال السيد الـمسيح للفريسيون الذين جاءوا ليجـرّبـوه:"أما قرأتـم إن الذى خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الإثنان واحداً إذا ليس بعد اثنين بل جسد واحد فالذى جـمّعه اللـه لا يفرّقـه إنسان"(متى4:19-6)
ونتذكر قصة طوبيا الإبن والـملاك روفائيل الذى نصحه قائلاً:"استمع فأخبرك من هم الذين يستطيع الشيطان ان يقوى عليهم إن الذين يتزوجون فينفون اللـه من قلوبهم ويتفرغون لشهوتهم كالفرس والبغل الذين لا فهم لهما أولئك للشيطان عليهم سلطان"(طوبيا16:6-18)،
"لأنّـا بنو القديسين فلا ينبغى لنا ان نقترن إقتران الأمم الذين لا يعرفون اللـه"(طوبيا5:8)
سر الكهنـوت:
"وهو أعطى البعض ان يكونوا رسلا والبعض انبياء والبعض مبشرين والبعض
رعاة ومعلمين لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد الـمسيح"
(افسس11:4-12). "لا يأخذ احد هذه الوظيفة بنفسه بل الـمدعو من اللـه كما هارون ايضاً"(عبرانيين4:5)
أن الكنيسة تعمل بكل الوسائل لتقديم "وسائط النِعمـة" لـمعاونة الإنسان الجديد فى جهاده الروحـي.
والآن هل لنا هذا القلب الجديـد؟
هـل يرى الناس فينـا قلب يسوع ويـمتلئون من الروح القدس بحلولنا فى منازلهم؟
هـل نحمل قلب سخي يحب ويغفر ويساعد الآخريـن؟
هـل نحمل قلب بتول لا يشتهى سوى الحيـاة الأبـديـة؟
هـل نحن فعلا قد حافظنـا على القلب الجديد الذى غرسه فينا يسوع فى خلقه الإنسان الجديـد؟
هـل نـأتـى الى الكنيسة ونحاول بكل الطرق ان نستفيد بكل وسائط النِعـمة التى تقدمهـا لنـا فنعترف ونسمع الكلمة ونعمل بها ونتوب بصدق ونتقدم لأخذ خبز الشركة بإستحقاق،ونحترم الكهنوت وندعو الكنيسة فى أمراضنا وأتعابنـا وأفراحنا وأحزاننـا،ونعطى الكنيسة بكل سخاء دون تردد او مداراة تحت اي ستار،ونقدم أولادنـا للتعليم الكنسي ليزدادوا معرفة بالقدوس؟
الإنسان الجديد ذو القلب الجديـد هو تتويج لـمجد وعمل الرب يسوع لأنـه مكتوب " إن كان أحد فـى الـمسيح فهو خليقة جدبدة. قد مضى القديم وها إنّ كل شيئ قد تجدد"(2كورنثوس17:5)
الخليقة الجديـدة هـو وجــود دائــم إلــى الأبــد مـع الرب، ولا يـكـون هـذا الوجـود فقط فـى مـحـنـة،أو تـجـربـة، أومـنـاسـبـة أو أي ظـروف مـن ظـروف الـحـيـاة،بــل هـو وجــود دائـــم،لأن الرب دائــم الـوجـود.
أيــوجــد تــأكـيـد أكـثـر مـن ان "عـمانوئيل الذى تفسيره الله معنـا"(متى23:1) هـو خـالق هذا القلب والإنسان الجديد؟
الله هذا الذى أحبـنـا إلـى الـمنتهـى ووضـع قـلـبـه فـى قـلـوبـنـا وجعل مقامـه فيـه(يوحنا23:14)
فلنسـيـر فـى هـذا الإيـمان دائـمـا متذكـرين بأن يسوع قـد فـدانـا، والفـداء شـمـل كـل شيئ، فكان التـطهـيـر الذى يـُبـعـد عـنـا كـل نـجـاسـات الـعـالـم،وكـل مـغـريــاتـه،وكـل كـبـريـائـه وكل ما فـى العالـم من قلق وخوف وإضطراب.
وهـذا الفداء قـادر دائـمـا أن يـصـُد عـنـا كـل تـجارب الـعـدو فنـنتصر دائـماً على عـدو خـلاصـنـا لأن قـوة الرب فـيـنا تـعـضـدنـاوتـسـنـدنـا.
والآن هـَب لـنـا "قلباً طاهـراً أخلق فـيّ يا الله"وروحك القدوس لا تنـزعـه منـا لكى نفهـم ونتأمـل معنى أنـنا خليقـة جديدة وبروحك نعـمل فـى هـذا العالـم فـيتمجد اسـمك الآن وإلى دهر الدهـور. آميـن.