من ضربك على خدك فاعرض له الآخر. و من انتزع منك رداءك فلا تمنعه قميصك (لو 6 /29)
عيد الغطاس والاحد الاول 2005-2006 - خلق حديد وحضور متجسد - المطران بشارة الراعي
عيد الغطاس والاحد الاول
انجيل القديس يوحنا 1/29-74
خلق جديد وحضور متجسد
كان أول ظهور علني ليسوع يوم اعتمد على يد يوحنا المعمدان في نهر الاردن. لقد ملأ الروح القدس بشريته واستقر عليه بشبه حمامة، واعلن الآب من السماء، بالصوت، بنوته الالهية والرضى عن رسالته
( متى3/13-17؛ مر1/9-11؛ لو3/21-22). وشهد له يوحنا: "هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم...ويعمّد بالروح القدس... انه ابن الله".
اولاً، الغطاس ومضامينه
1. الغطاس تدشين لرسالة الفداء ومسيرة شعب تائب
باعتماد يسوع في نهر الاردن على يد يوحنا، بدأت حياته العلنية. يحسب نفسه بين الخطأة، ويسير معهم نحو يوحنا لقبول " معمودية الماء للتوبة" (لو3/11)، لا كشريك للخطأة في معاصيهم، بل كحامل خطاياهم ومتشفع من اجلهم بوصفه عبد الله المتألم، كما تنبأ اشعيا قبل 700 سنة: "هوذا عبدي...كحمل سيق الى الذبح ولم يفتح فاه... أسلم نفسه للموت، واُحصي مع الخطأة، وحمل خطايا الكثيرين، وشفع في معاصيهم" ( اشعيا53/7و12). في غداة اعتماده جاءت شهادة يوحنا تحقق النبؤة: " هذا هو حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم". لقد انتهى معه الفصح القديم الذي كانت تٌقرَّب فيه ذبيحة حمل من البهائم كفارة عن الخطايا وفداءً ( خروج12/1-14)، ليبدأ فصح العهد الجديد، يسوع ابن الله فادي الانسان.
استبق يسوع " معمودية" موته على الصليب ( مر10/38)، خاضعاً كلياً لارادة ابيه، راضيا، عن حب، بمعمودية الموت لمغفرة الخطايا ( انظر متى26/39). لفظة " غطاس" تعني النزول في الماء والخروج منه، استباقا للنزول الى قبر الموت والقيامة، كمقدمة للخلق الجديد. هذا " الغطاس" سيتواصل في معموديتنا، وهو رمز المشاركة في موت المسيح وقيامته، من اجل الولادة الثانية لحياة جديدة، على ما قال يسوع لنيقوديمس: "ما من أحد يمكنه ان يدخل ملكوت الله، إلا اذا وُلد ثانية من الماء والروح"(يو3/5).
ولفظة " دِنْح"، من الاصل السرياني، تعني ظهور سرّ المسيح والثالوث القدوس. فبسبب قبوله رسالة الفداء، كان جواب الآب المعلن براءة يسوع وبنوته الالهية والرضى عن رسالته الخلاصية: " هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت" ( متى3/17)، واعتلن عمل الروح القدس الذي عضد بشرية ابن الله في انجاز رسالة الفداء، " بالاستقرار عليه" (يو1/32-33). فتحققت نبؤة اشعيا: " هوذا فتاي الذي اعضده، مختاري الذي رضيت عنه نفسي، قد جعلت روحي عليه، فهو يبدي الحق للامم" (اشعيا42/1). وانفتحت السماوات، التي كانت قد اغلقتها خطيئة آدم، لتعلن تقديس الجنس البشري بمعمودية الماء والروح (انظر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،536-537).
غطاس ودنح، معمودية وظهور، الاثنان متواصلان فينا. بالمعمودية نولد الولادة الثانية ابناء لله بالابن الوحيد، ونندمج في سرّ الكنيسة اعضاء حية في جسد المسيح، ونستعيد بهاء صورة الله والشبه الالهي (التعليم المسيحي،719-720). اما الظهور ففي الاسم الذي يُعطى للمعمّد، الاسم المسيحي واسمه الخاص، يعطى له اسماً جديداً ابدياً مكتوباً على جبينه مع اسم الحمل وابيه (رؤيا 2/17؛14/1)،وفي اعماقه صوت يقول: " لا تخف، فأني قد افتديتك ودعوتك باسمك، انك لي" (اشعيا43/1). ويُدل على هذا الظهور بالزياح العلني.
معمودية يسوع هي مسيرة شعب تائب يلتقيه الله، كما روى لوقا في انجيله: " كان لما اعتمد الشعب كله اعتمد يسوع ايضا، وكان يصلي، فانفتحت السماء ونزل الروح القدس عليه في صورة جسم كأنه حمامة، واتى صوت من السماء يقول: " انت ابني الحبيب عنك رضيت" (لو3/21-22). هذا يجري في معموديتنا اسرارياً.
يشرح بولس الرسول ابعاد مسيرة يسوع نحو معمودية التوبة متضامناً مع الشعب الخاطىء: " جعله الله خطيئة من اجلنا، هو الذي لم يعرف الخطيئة، لكي نصبح به برَّ الله" ( 2كور5/21). في الواقع، تجسّد ابن الله آخذاً ضعف طبيعتنا الساقطة والسائرة نحو الموت بسبب خطيئة آدم وخطايا جميع الناس ( انظر روم 8/13)، وظهر بصورة عبد، "الخادم المتألم" واطاع ارادة الآب الخلاصية موتاً على الصليب ( انظر فيليبي2/7-8)، فداء عن الجنس البشري وخلاصاً له، على ما يقول بطرس الرسول: " لم تفتدوا بالفاني من الفضة او الذهب من سيرتكم الباطلة، بل بدم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس، دم المسيح" ( 1بطرس1/18-19).
ان استمرارية ذبيحة يسوع على الصليب، في القداس الالهي، هي استمرارية مسيرة الكنيسة نحو التوبة، عبر اسرار الخلاص ولاسيما المعمودية والتوبة ومسحة المرضى، المعروفة باسرار الشفاء. تتجلى هذه المسيرة الجماعية نحو التوبة من خلال افراد يتوبون الى الله ونساك ورهبان وراهبات ومؤمنين في العالم يلتزمون بروح الزهد والاماتة والتقشف والصوم واعمال الرحمة والمحبة، ومن خلال جماعات ومنظمات وحركات تصلي وتخدم المحبة وتقوم بمسيرات توبة وتجدد. وتتجلى مسيرة التوبة في آلام الابرياء من مرضى ومعاقين وفقراء ومستضعفين وسائر ضحايا الظلم والاضطهاد والتسلط والتمييز العنصري.
ان ما يخيّم حالياً على العالم من حروب وكوارث واحقاد وعداوات ونزاعات، لا يمكن ان يحلّ بالعنف والارهاب، بل يقتضي مبادرات توبة وغفران. من الضرورة اليوم ان يتداعى المؤمنون الى مثل هذه المبادرات. " فمثل هذه الارواح الشريرة السائدة لا تُطرد الا بالصوم والصلاة" (مر9/29). ولا بدّ من تنظيم ساعات سجود امام القربان في الرعايا، وتلاوة وردية العذراء لهذه الغاية.
كان نداء يوحنا المعمدان في بريّة اليهودية: " توبوا فقد اقترب ملكوت السماء... اثمروا ثمراً يليق بالتوبة... كل شجرة لا تثمر ثمراً صالحاً تُقطع وترمى في النار" ( متى3/2 و8 و10). وما زال يتواصل النداء عينه في برّية المجتمع، في برّية العقول والضمائر والقلوب. النداء اياه وجّهه الرب يسوع: "لقد تم الزمان، وملكوت الله اقترب. توبوا وآمنوا بالانجيل" ( مر1/15). وعندما " ارسل تلاميذه الاثني عشر، واعطاهم السلطان على الارواح النجسة ليطردوها، وعلى الاوجاع والامراض ليشفوا منها" ( متى10/1)، فانطلقوا يعظون داعين الى التوبة، وكانوا يطردون الكثير من الارواح النجسة، ويمسحون بالزيت الكثير من المرضى ويشفونهم ( مر6/12-13). وهكذا كان يتحقق " الخلق الجديد" في البشرية، بواسطة " التوبة والايمان بالانجيل" (مر1/15)، ويحلّ السلام في القلوب والعائلات والمجتمعات.
تنمو " الخليقة الجديدة" المولودة من المعمودية، متقدسة بالروح القدس والميرون، ومتجددة بالتوبة، وتغتذي من الافخارستيا حيث " الحمل" يعدّ للكنيسة عروسته ولجماعة المؤمنين، وليمة عرسه الخلاصي على الارض وفي ملكوت السماء، وقد افتداها واحبها وأسلم نفسه من اجلها (افسس5-25-26).
2. يسوع ابن الله
هذا اللقب يعني في شهادة يوحنا المعمدان ما كان يعنيه في العهد القديم، اي البنوة بالتبني التي تقيم بين الله وخليقته علاقات مودة وحياة حميمة خاصة. فلا يتعدى اللقب بشرية الانسان. وقد كان يطلق على الملوك مثل سليمان: " يا داود أقيم من يخلفك من نسلك، وانا اثبّت ابناء للرب الهكم...لانك شعب مقدس للرب الهك، وقد اختارك الرب لتكون له شعباً خاصاً من بين جميع الشعوب التي على وجه الارض" (تثنية14/1-2)؛ وعلى الشعب المختار: " اسرائيل هو ابني البكر. قلت لك: اطلق ابني ليعبدني، وان ابيت ان تطلقه فهاءانذا قاتل ابنك البكر" (خروج4/22-23)، وعلى ملائكة الله الذين يشكلون بلاطه الملوكي: " واتفق يوماً ان دخل بنو الله ليمثلوا امام الرب" (ايوب1/6).
بهذا المعنى نحن اصبحنا بالمعمودية "ابناء الله"، حسب لاهوت القديس بولس الرسول. الروح القدس الحال فينا يجعلنا خاصة الله: " من لم يكن فيه روح المسيح فما هو من خاصته" (روم8-9)، وابناء الله: " ان الذين ينقادون لروح الله يكونون ابنا الله" ( روم8/14-16)، وورثة الله شركاء المسيح في الميراث: " اذا شاركناه في الآمه، نشاركه في مجده ايضاً" (روم8/17).
بنوتنا لله تأتينا من ابن الله المتأنس: " ارسل الله ابنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني" ( غلاطية4/4-5). هذا ما تفعله فينا المعمودية.
لكن شهادة يوحنا تضيف على مفهوم العهد القديم وجهاً الهياً يسمو الحدود البشرية: " يأتي بعدي رجل قد تقدمني، لانه كان قبلي". لم يكن قبله من ناحية التاريخ البشري، بل من ناحية الوجود الالهي، وشهادته تستند الى اعلان الصوت من السماء: " انت ابني الحبيب". وعندما يعترف سمعان-بطرس ان يسوع " هو المسيح ابن الله الحي"، فانه بفضل الوحي الالهي يعلن كل الوهيته (متى16/16-17). والسيد المسيح يسمي نفسه "الابن" بمفهوم البنوة الالهية الكاملة: هو الابن الذي يعرف الآب (متى11/27)، ويفوق كل الخدام الذين ارسلهم الله قبله (متى21/33-39). ويميز بين بنوته وبنوة التلاميذ: " اني صاعد الى ابي وابيكم" ( يو20/17)، فلم يستعمل قط صيغة ابانا لتشمله معهم بل اياهم وحدهم: " كونوا انتم كاملين، كما ان اباكم السماوي كامل هو" ( متى5/48)، " لان اباكم يعلم ما تحتاجون اليه قبل أن تسألوه" (متى 6/8)، " صلوا انتم هذه الصلاة: ابانا الذي في السموات..." ( متى6/9). عندما يعنيه الامر يقول " ابي": ليس من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل بمشيئة ابي الذي في السماوات" ( متى7/21).
من الناحية الخلقية تقتضي بنوتنا لله الطاعة له، والاتكال على عنايته الوالدية، والبحث عن ارادته والسماع لنداءاته، والقيام بالرسالة التي أوكلها الينا، والمحافظة على الشبه الالهي فينا. اما قوتنا فنستمدها من لابن الوحيد، الابن بامتياز.
من الناحية النهيوية الاسكاتولوجية نعلم اننا نعود الى الله خالقنا ومخلصنا ومقدسنا.الكنيسة المنظورة ترمز الى البيت الابوي الذي يسير نحوه شعب الله. انها بيت جميع ابناء الله، المفتوح على مصراعيه ليستقبل الجميع. في هذا البيت نعيش بنوتنا لله بكل ابعادها ومقتضياتها، وفي طقوسنا نستبق ليتورجيا السماء، كما يرويها يوحنا الرسول في كتاب الرؤيا (الفصل 19).
**
ثانياً، الخطة الراعوية
بمعموديته في نهر الاردن وباعتلان سرّه، وسرّ الثالوث القدوس، وسرّ والانسان " الخليقة الجديدة"، بدأ يسوع حياته العامة، وهي المرحلة الثانية من حياته بعد تجسده وطفولته. نحن ايضاً، اذ نتذكّر معموديتنا وما جرى فينا، نبدأ حضوراً جديداً مع المجمع البطريركي الماروني فهو يذكرّنا بالماضي هوية، ودعوة ورسالة؛ ويجدّدنا في الحاضر اشخاصاً وهيكليات؛ ويطلقنا لحضور في العالم من اجل مستقبل أقضل.
الخطة الراعوية تبدأ من اعطاء زمن الغطاس مفهومه الروحي في حياتنا الشخصية والجماعية: في الرعية، في العائلة، في الجماعة الرهبانية، في المنظمة الرسولية، في المؤسسة الثقافية والاجتماعية الرياضية.
أ- نتساءل حول كيفية عيش هويتنا المسيحية: " خليقة جديدة بالمسيح" ، في ضوء ثمار الروح التي يتكلم عنها بولس الرسول: المحبة والفرح والسلام وطول الاناة وروح الخدمة والجودة واللطف والثقة بالآخرين والسيطرة على الذات (غلا 5/22-23).
ب- بما ان هويتنا المسيحية تتميز بطابع الهوية المارونية الخلقيدونية القائمة على سر التجسد، وهي ان في المسيح طبيعتين كاملتين، الهية وانسانية، فيوصي المجمع البطريركي الماروني بالعيش بموجب هويتنا المسيحية الانطاكية حسب الصيغة الخلقيدونية (451). ما يعني ان نعمل مع شركائنا في المواطنية والمصير من اجل ترقي الانسان، كل انسان، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ووطنياً، لكي يستعيد، بيسوع المسيح، كرامته وصورة الله فيه. هذه الهوية تترجم "بالحضور المتجسّد" بحيث نطبع شؤوننا الزمنية بقيم الانجيل، ونجعل من كل انسان محوراً لهذه الشؤون (النص المجمعي رقم2: هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها، عدد17 و38).
تتشاور المجالس الراعوية واللجان والجماعات الرعوية والديرية والمنظمات الرسولية والعائلات، بشأن تحديد مجالات الحضور المتجسّد وما تقتضي من مبادرات فردية وجماعية، يلتزم بها الجميع.
ج- نعزز المعنى الروحي لتبريك المياه في عيد الغطاس، رمزاً لينبوع الحياة الجديدة من المعمودية، والاغتسال من ادناس الخطيئة، والحماية الالهية من الارواح الشريرة، والتماس النعمة الالهية التي تقدسنا وتحمينا من كل شر في النفس والجسد.
**
صلاة
نشكرك ايها الآب القدوس، لانك كشفت لنا وجهك بالابن الوحيد يسوع المسيح وبه خلصتنا، فصرنا لك ابناء بالمعمودية، وافضت علينا بواسطته روحك القدوس الذي جعلنا بالميرون هياكل له.
اعطنا ايها النور الحقيقي، يسوع المسيح، ان نسير كابناء النور في الحقيقة والنعمة والمحبة.
نسألك ايها الروح الحي والمحيي، ان تجدد فينا الانسان الجديد المجمّل بثمار الروح، فنلبس المسيح نحن الذين اعتمدنا بالمسيح، لمجد الله وبهاء صورته فينا وفي المجتمع البشري. آمين.