إِرحَمْني يا رَبِّ فلا قُوَّةَ لي واْشفِني يا رَبِّ، فإِنَّ عِظامي قد تَزَعزَعَت ( مز 6 /3)
الاحد الرابع بعد الدنح 2005 -2006 - الحوار ملاقاة الحقيقة - المطران بشارة الراعي
الاحد الرابع بعد الدنح
انجيل القديس يوحنا 4/5-25
الحوار وملاقاة الحقيقة
اجرى يسوع هذا الحوار مع المرأة السامرية على مقربة من بئر ماء معروف ببئر يعقوب في مدينة سوكار على سفح جبل جرزيم حيث كان للسامريين هيكل يكتبون على حجارته كلمات الشريعة كتابة واضحة، ومذبح يقدمون عليه ذبائح ومحرقات للرب، ويأكلونها هناك ويفرحون امام الرب الههم، وقد سماه موسى " جبل البركة" (تثنية الاشتراع27/4-12). تحدث معها عن اعمق اسرار الله: عن ماء الحياة الابدية، وعن الله الذي هو روح ويملأ الناس من حياته الالهية، وعن العبادة الحقيقية المتوجبة للاب بالروح والحق. واعلن لها اخيراً انه هو المسيح المنتظر (يو4/25-26). وكانت نتيجة هذا الحوار ان السامرية، بالرغم من انها "خاطئة"، اصبحت " تلميذة " للمسيح ورسولة. فمن بعد ان عرفته، بشرّت به اهل السامرية، فاستقبلوه بايمان (يو4/39-42).
اولاً، الحوار الرائع في نص الانجيل
1. اطار الحوار وابعاده
يصل يسوع الى بئر يعقوب وقد اعياه التعب الحسّي من الطريق (يو4/6)، والتعب النفسي من الفريسيين الذين كانوا يترصدونه، فترك منطقتهم اليهودية قاصداً الجليل (يو4/1-3). وكان لا بدّ من ان يمرّ بالسامرة، فتوقف في سوكار حيث بئر يعقوب.
علّق القديس اغسطينوس على تعب يسوع وضعفه، قال: " خلقنا المسيح بقوته، واتى يبحث عنا ليخلقنا من جديد بضعفه" ( شرح انجيل يوحنا، العظة 15، المقدمة). واضاف: " في الاسرار العظيمة التي عرضها للمرأة تجد كل نفس جائعة ما تغتذي به، وكل نفس تعبة ما يجدد قواها" (المرجع نفسه، عدد1).
لم يكن بئر يعقوب مجرد بئر لتجميع المياه، بل كان فيه ينبوع جارٍ. على حافته جلس يسوع، والتعب قد اعباه، منتظراً من يأتي ليحييه هو من تعبه، " فالذي اوجده من العدم بقوته، يحميه من الهلاك بضعفه" (القديس اغسطينوس، المرجع نفسه، عدد6). وصلت المرأة السامرية لتستقي ماء. وكان اليهود يعتبرون السامريين غرباء. جاء يسوع يكسر بواسطة المرأة هذه المسافة وهذا " البعد"، فآمنت هي به وآمن كثيرون (يو4/41). انها معهم صورة الكنيسة الناشئة من الامم، من " البعيدين والغرباء". ان الحوار هو قوة الكنيسة التي تجتذب الشعوب.
جلس يسوع على حافة البئر عطشاناً، ليروي عطش الآتين اليه من الايمان به، فكانت المرأة تلك العطشى بامتياز الى "روح القدس الذي سيرويها.
2. وقائع الحوار وتدرجه
بادر يسوع المرأة، طالباً ان تعطيه ماء ليشرب. المبادرة الاولى هي دائماً من الله، الذي يضع نفسه على طريقنا. واجهته بالرفض: " كيف تطلب مني انا السامرية ماء لتشرب، وانت يهودي". اما هو، ولو بكلمات غير مفهومة منها، وبشكل محتجب ارشدها، الى عطية الله التي هي الماء الحي، رمز الروح القدس، والى شخصية الطالب منها الذي هو المسيح (يو4/10-11)، كما سيكشف لها (يو4/26). لقد فهمته مادياً، اذ كيف يستطيع ان يعدها بما كان يطلبه منها: " فالبئر عميق، وليس له دلوٌ".
عاد من جديد يحدثها عن الماء الروحي: " من يشرب من ماء بئر يعقوب يعطش، ومن يشرب من الماء الذي اعطيه انا لن يعطش الى الابد، بل يصير عنده معين ماء يجري للحياة الابدية" ( يو4/14). ولكنها لم تفهم إلا مادياً، فقالت له بشيء من السخرية: " اعطني من هذا الماء، حتى لا اعطش بعد، واجيء الى هنا وادلي بدلوي".
هنا دخل يسوع الى عمق نفسها وسرّ خطيئتها ليرويها بماء الروح القدس، فأمرها: " اذهبي وادعي زوجك وعودي الى هنا" ( يو4/16). فاعطت جواباً، تصفه كذب والنصف الآخر حقيقة: " ليس لي زوج". فكشف لها الحقيقة كلها: " كان لك خمسة ازواج، والزوج الذي هو لك الآن، ليس زوجك، بهذا صدقت".
ما اكبر عطش هذه المرأة الى ماء الروح القدس، الماء الحي! ما أحوجها الى الحقيقة التي تخرجها من أسر كذبها، وتحررها من قيود خطيئتها! بالسؤال والجواب، اوقفها يسوع امام حقيقة نفسها الداخلية، وحسّسها بالعطش الحقيقي الذي لا يمكن لبئر يعقوب ان ترويه. لا شيء يوقف الانسان عن الازدواجية سوى حقيقة نفسه المكشوفة امامه، فيما كان يخبئها باكاذيب واهية. ولا شيء يحمل الانسان الى الجديّة وقرار التغيير سوى وقوفه بوضوح لا يقبل الشك امام واقعه المنحرف. فالمتهم بجرم لا يعترف به إلا عندما يضعه القاضي امام الحقيقة الواضحة، فيقرّ بها ويمثّل الجريمة. شاوول- بولس، مضطهد الكنيسة، قرر التغيير عندما اسقطه الرب عن جواده، وهو في طريقه الى دمشق للامعان في الاضطهاد، واعمى عينيه في وضح النهار، وكاشفه بانه يضطهد يسوع الناصري نفسه. امام الواقع والحقيقة قال: " ماذا تريد ان افعل؟" (اعمال 9/3-6). هو سلطان يسوع، سلطان الحق على الضمير البشري، يوقظه ويحرّكه.
الآن تقف المرأة السامرية امام الحقيقة وتعلنها بالقول: " يا سيدي، انا ارى انك نبي" (يو4/19). وهكذا ارتفعت الى مستوى الروح، فسألته عن قضية العبادة لله: أهي على جبل السامرة كما يعتقد السامريون، ام في اورشليم حسب زعم اليهود؟ فاجابها يسوع: " آمني، يا امرأة، بما اقول لك: اتت الساعة لان تسجدوا لله لا في هذا الجبل ولا في اروشليم، بل بالروح والحق تسجدون". فارتفعت بفهمها اكثر فأكثر، حتى بلغت الى مستوى حقيقة المسيح، وقالت: " المسيح عندما يأتي يعلمنا كل شيء". لقد وصلت، من حيث لا تدري، الى " الماء الحي" الذي يعطيه المسيح، راجية التماسه عندما يأتي. اما يسوع، فمن بعد ان كشف لها حقيقتها الشخصية، كشف لها عن حقيقة ذاته قائلاً: " انا هو المسيح، انا الذي يتكلم معك" (يو4/21).
ارتوت المرأة من " الماء الحي" الذي حدّثها عنه في البداية، فاستغنت عن ماء البئر. تركت جرّتها واسرعت الى المدينة تخبرهم انها وجدت المسيح ( انظر يوحنا 4/27-30)، وكأنها تدعوهم للارتواء من معينه بلسان آشعيا: " ايها العطاش جميعاً، هلموا استقوا المياه من ينابيع الخلاص مبتهجين، فان القدوس في وسطكم" (اشعيا12/3و6؛55/1).
"الماء الحي" الذي اروى السامرية اصبح فيها، على ما تنبأ يسوع، " معين ماء يجري للحياة الابدية" (يو4/14)، اي ملأها من الروح القدس، الذي سوف يقبله المؤمنون به ( يو 7/38-39). فصارت رسولة المسيح الشاهدة له. ولكلام شهادتها، خرج الناس من المدينة، واتوا الى يسوع. وآمن به كثير من السامريين (يو4/30 و39).
الدعوة اياها سيوجهها يسوع نفسه: " من هو عطشان، فليأتِ اليَّ ويشرب، من يؤمن بي، كما قالت الكتب، تجري من جوفه انهار ماء الحياة" ( يو7/37-38). وسيرددها بلسان يوحنا الرسول من على عرشه في السماء: " ها انا جاعل كل شيء جديداً... انا الالف والياء، الاول والآخر. انا اعطي العطشان من معين ماء الحياة مجاناً" ( رؤيا 21/5-7).
3. يسوع نموذج كل حوار
يسوع المسيح، الكلمة الالهي، هو " نور الحق الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم" (يو1/9). وهو كلمة حوار الله مع الانسان: " فمن بعد ان كلم الله آباءنا منذ القديم بانواع شتى، كلمنا في هذه الايام الاخيرة، بابنه الذي هو ضياء مجده، وصورة جوهره، وضابط الكل بقوة كلمته (عبرانيين 1/1-3).
في شخصه تمّ حوار الالوهة والانسانية، باقنومه الالهي جمع بين كمال الطبيعتين، على ما علّم مجمع خلقيدونيه (451)، فكان الهاً كامل الالوهة وانساناً كامل الانسانية. وبات يسوع الصورة لكل انسان مدعوٍ منذ مولده ليدخل في حوار عميق مع الله وجميع الناس (الكنيسة في عالم اليوم،19)، وصورة الكنيسة المؤتمنة على الحوار مع العالم بحكم رسالتها، وهي ان يستنير جميع الشعوب بنداء الانجيل، وان يجتمع بروح واحد جميع الناس من كل امة وجنس وحضارة (المرجع نفسه،92).
حوار يسوع مع السامرية يبرز قيمة كل حوار، ويحدد مساره: من يريده حقاً يباشر بالخطوة الاولى، كما بادر يسوع بالطلب من المرأة ليشرب. ويقابل الرفض بطرح الموضوع الذي هو غاية الحوار البعيدة؛ في الحوار مع السامرية كان الموضوع الماء الحي. ربما يلقى الاستهتار او الازدراء من قبل المحاور الآخر او التقليل من قيمة ما يطرح، كما فعلت السامرية. لا بد من الصبر والتواضع لتذهب الى اعمق، من خلال الولوج الى شخصية الآخر، فتطرح عليه امراً يعنيه في الصميم: " اذهبي وادعي زوجك". هي المرحلة التي تصل بالآخر الى قول الحقيقة المجردة، والسير نحو الغاية المنشودة من خلال حوار وجداني، مثل المرأة التي من بعد ان رأت في شخص يسوع نبياً ومسيحاً، ارتوت من " ماء الحياة" آمنت، وتفجر في داخلها ينبوع ماء حملها على الشهادة للمسيح وجلب الكثيرين من البعيدين اليه، فارتووا بدورهم، وشهدوا: "نحن آمنا وعرفنا ان هذا هو المسيح حقاً، مخلص العالم" (يو4/42).
هذا الحوار، وهو من اجمل الحوارات في الانجيل، بلغ الى اعلان كرامة المرأة ودعوتها، فيما التلاميذ " تعجبوا اذ رأوه يحادث امرأة" (يو4/27)، لان هذا التصرف كان يتنافى مع العوائد المرعية لدى معاصريه. لاقاها يسوع على بئر سوكار، وعلى علمه بأنها خاطئة، فاتحها في امر خطيئتها مع الرجال الخمسة، وتحدث معها عن اعمق اسرار الله وعن عطية الحب الالهي غير المتناهية، التي شبّهها " بينبوع ماء يجري للحياة الابدية" (يو4/14)، وعن الله، الذي هو روح، وعن العبادة الحقيقية المتوجبة للآب بالروح والحق (يو4/24). وأعلن لها اخيراً انه هو المسيح الذي وعد الله به شعبه (يو4/26).
لا احد منا يدرك مسبقاً نتائج الحوار الصادق مع الآخر. فالمرأة السامرية، بالرغم من انها خاطئة، اصبحت " تلميذة" المسيح. بل انها، بعد ان عرفته، بشرّت به اهل السامرة، بحيث انهم، هم ايضاً استقبلوه بايمان (يو4/39-42).
كل هذا الذي جرى بين يسوع والمرأة السامرية يبيّن عطية الله التي بدأ يسوع باعلانها في بداية حواره: " لو كنت تعرفين عطية الله" (يو14/10). هذه " العطية" هي تقدير الرب لكرامتها، وكرامة كل امرأة، وللدعوة التي تؤهلها للمشاركة في رسالة المسيح (البابا يوحنا بولس الثاني، كرامة المرأة، 31). و"العطية" هي سرّ فداء الانسان الذي شمل، في هذه اللوحة الانجيلية، كرامة المرأة ودعوتها، وقد نصّب المسيح نفسه امام معاصريه مدافعاً عنها (المرجع نفسه،12).
***
ثانيا، الخطة الراعوية
يبيّن الحوار بين يسوع والمرأة السامرية كم نحن بحاجة الى ان نتحاور: الزوج مع زوجته، الوالدون مع اولادهم، الجيران مع سكان الحي الواحد، السلطة مع شعبها، الثقافات والاديان مع بعضها، افراد الجماعة الواحدة في المنظمة والمؤسسة والدير والرعية، وبين الاجيال الكبيرة مع الصغيرة.
1) في هذا الاسبوع، نحن مدعوون لتعزيز الحوار الحقيقي المرتكز على احترام متبادل لكرامة الاشخاص وحرية الضمير والعمل معاً على حفظ الانصاف والعدالة وقيم الحرية والسلام، وعلى السعي الى توبة القلب واحلال المحبة والاخوّة، وعلى التفاني في سبيل كل عمل صالح ( رجاء جديد للبنان، 89).
2) يوصي المجمع البطريركي الماروني:
أ- الازواج وافراد العائلة بالحوار المحب، القائم على الاحترام والتكامل، الذي هو الطريق الملوكي لسعادتهم الزوجية والعائلية. فالزواج والاسرة يرتكزان على عهد الحب والحياة، قطعه الازواج مع بعضهم ومع الله ومع الاجيال المتحدرة منهم. يحدد النص المجمعي العاشر، بعنوان " العائلة المسيحية"، عناصر هذا العهد: انه مبني على الرضى المتبادل بين الزوجين والانفتاح لقبول هبة الحياة من الله في الاولاد، وعلى كلمة الله والانجيل وبركة الثالوث القدوس، وعلى الامانة والحياة المشتركة (الفقرات 45-58).
ب- ابناء الكنيسة في لبنان، بحكم تجربتهم التاريخية والصيغة اللبنانية المرتكزة على التنوع في الوحدة، يوصيهم المجمع، في النص 15: " تحديد عالم اليوم بالنسبة الى الكنيسة المارونية"، بالتأقلم مع البيئة التي يعيشون فيها، معززين حوار الحضارات. فالكنيسة هي كنيسة الحوار والعيش معاً بين مختلف الاديان والكنائس. خاصة واننا نحن اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، ننتمي الى تراث واحد ومصير واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد؛ مهما كانت الفوارق، وهذا امر طبيعي، ومهما كانت الاختبارات متنوعة بين حلو ومرّ، يبقى ان ما يجمع هو اكثر مما يفرق. ان الحوار يهدف الى تثبيت الحرية والعدالة والديموقراطية واحترام الآخر، والى العيش المشترك في لبنان، والمصير المشترك في العالم العربي، وحوار الحضارالت في الانتشار (الفقرات 24-30).
3) تتشاور الجماعات: ابناء وبنات الرعية، افراد العائلة، الجماعة الديرية، المنظمة الرسولية،اعضاء اللجان، في ضوء النص الانجيليي كيف يجسّدون في حياتهم وعلاقاتهم طبيعة الكنيسة التي اليها ينتمون، وهي " ان الانسان هو طريقها، كما كان طريق المسيح" (البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته فادي الانسان)، وانها " خبيرة في الانسانية" (البابا بولس السادس) و" خبيرة في الحوار" ( النص المجمعي 15، فقرة 23 و25). لا بدّ من ابتكار مبادرات حوار تعزز التلاقي وكرامة الانسان.
صلاة
يا يسوع المسيح، الكلمة التي تجسدت لتحاور كل انسان، لقد اظهرت لنا سرّ الله وسرّ الانسان، ومعنى التاريخ. اهلنا، بمحبة الآب لنا وبانوار روحك القدوس، لان نواصل الحوار بين السماء والارض، بين بعضنا البعض. فيعم السلام العادل، ويسعد الناس بدفء المحبة، وينعم الجميع بفرح التلاقي، ويتأنسن المجتمع، وتنكشف كرامة الاشخاص والاوطان. لك المجد الى الابد. آمين.