يا ابنتي، إيمانك خلصك، فاذهبي بسلام، و تعافي من علتك (مر 5 /35)
إنجيل الحياة - 1995 - البابا يوحنا بولس الثاني
إنجيل الحياة - Evangelium vitae
إرشاد رسولي للبابا يوحنا بولس الثاني
إلى جميع أساقفة الكنيسة الكاثوليكة، الكهنة، الشمامسة،
الأشخاص المكرسين وكل المؤمنين العلمانيين
في قيمة الحياة البشرية
مقدمة
1- إنجيل الحياة هو في صميم الدعوة التي نادى بها يسوع، وتتلقاه الكنيسة كل يوم بحب لتذيعه بجرأة وأمانةٍ بشرى جديدة لجميع الناس من كل عصر وكل ثقافة.
في فجر الخلاص تمّ ميلاد طفل أُعلِنَ للناس نبأً سعيداً: "إني أبشركم بفرح عظيم يعمّ الشعب بأجمعه: ولد لكم اليوم مخلّص في مدينة داود، وهو المسيح الرب" (لو2/ 10- 11). لا شك أن ولادة المخلّص قد أتاحت "فرحاً عظيماً" ولكن، في الميلاد، انكشف أيضاً كلُّ مولدٍ بشري في كنهه التام، فظهر الفرح الماسيحاني ركيزةً وإكليلاً للفرح الذي يرافق مولد كل طفل (يو 16/ 21).
وقد عبّر يسوع عن فحوى رسالته الفادية بقوله: "لقد جئتُ لتحيا الخراف وتفيض فيها الحياة" (يو 10/10). والواقع أنه كان يتحدَّث عن الحياة "الجديدة" و"الأبدية"، وهي حياة الشركة مع الآب يُدعى إليها كل إنسان بالنعمة في الابن وفعل الروح الذي يقدّسنا. ففي هذه "الحياة الأبدية" تكتسب حياة الإنسان في كل وجوهها وظروفها ملء معناها.
الشخص البشري وقيمته الخارقة
2- الإنسان مدعوّ إلى حياة زاخرة تتخطّى حدود وجوده على الأرض لكونها اشتراكاً في حياة الله ذاتها.
هذه الدعوة التي تفوق الطبيعة تكشف، بعمقها، عظمة الحياة البشرية وقيمتها حتى في طورها الزمني. ولا شك أن الحياة، في تضاعيف هذا الزمن، هي شرط أساسي ومرحلة ابتدائية وجزء لا يتجزأ من الوجود البشري في تطوّره الكامل والمترابط. هذا التطوّر في مسيرة الحياة يستنير، على غير انتظار وغير استحقاق، بوعد الحياة الأبدية، ويتجدّد بموهبة هذه الحياة الإلهية، إلى أن يبلغ إلى ملء تمامه في الأبدية (1يو3/ 21). هذه الدعوة الفائقة الطبيعة تُظهر، في الوقت نفسه، ما يميّز حياة الرجل والمرأة على هذه الأرض من طابع نسبي. والحقيقة أن هذه الحياة ليست هي "الأخيرة" بل ما قبل الأخيرة. وهي، على كل حال، حقيقة مقدسة وُكِلَت إلينا لنصونها بطريقة مسؤولة، ونفضي بها إلى كمالها في الحب وبذل الذات لله وللآخرين.
وتعلّم الكنيسة أن إنجيل الحياة هذا الذي تسلَّمَتْه من الرب (1)، يلقى صدىً عميقاً ومقنعاً في قلب كل إنسان، أمؤمناً كان أم غير مؤمن، لأنه يتخطى ترقباته تخطياً لا حدود له، ويلبّيها تلبية مذهلة. وبالرغم من المصاعب والريب، بإمكان كل إنسان منفتح على الحقيقة والخير انفتاحاً مخلصاً، وبنور العقل وعمل النعمة الباطن، أن يتوصل إلى أن يكتشف في الشريعة الطبيعيّة المكتوبة في القلوب (روم2/ 14- 15) ما تتضمنه الحياة البشرية من قيمة مقدسة، من بدايتها حتى نهايتها، وبإمكانه أيضاً أن يؤكّد ما يتمتّع به كل كائن بشريّ من حقٍّ في أن يظل هذا الخير الأساسي في نظره موضوع احترام كامل. وحتى التعايش الإنساني والمجتمع السياسي يرتكزان على الاعتراف بهذا الحق.
الدفاع عن هذا الحق وإعلاء قيمته يجب أن يتحققا، بوجهٍ خاص، على يد المؤمنين بالمسيح الذين يدركون روعة الحقيقة التي ذكّر بها المجمع الفاتيكاني الثاني بقوله: "إن ابن الله بتأنسه قد اتحد، نوعاً ما، بكل إنسان (2). فالبشرية، من خلال هذا الحدث الخلاصي، لا تتلقى فقط الكشف عن حبّ الله اللامتناهي الذي "بلغ من حبّه للعالم أنه جاد بابنه الواحد" (يو 3/ 16)، بل أيضاً عما يتمتع به كل إنسان من قيمة لا تضاهى.
ولأنَّ الكنيسة لا تني تُنعِم النظر في سرّ التأنس فهي تتلقّى هذه القيمة بإعجابٍ متجدّد أبداً(3) وتشعر أنها مدعوّة إلى أن تعلن للناس، في كل الأزمان، هذا "الإنجيل"، ينبوع رجاءٍ غلاّب وفرح حقيقي لكل حقبة من حقب التاريخ. إنجيل حبّ الله للإنسان وإنجيل الكرامة البشرية وإنجيل الحياة: كلُّها إنجيل واحد لا يتجزأ. ولذا فالإنسان، الإنسان الحيّ، هو للكنيسة دربها الوحيد وطريقها الأساسي (4).
الأخطار الجديدة المتربّصة بالحياة البشريّة
3- بقوّة سرّ كلمة الله التجسّد (يو1/ 14) كل إنسان أصبح موكولاً إلى الكنيسة ومحبتها الوالديّة. ومن ثم، فكل ما يهدّد كرامة الإنسان وحياته لا يمكن إلاّ أن يمسَّ الكنيسة في صميم فؤادها ويصيبها في عُقر إيمانها بابن الله المتجسّد والفادي ورسالتها القاضية بنشر إنجيل الحياة في العالم كلِّه ولكل خلق (مر16/ 15).
هذه البشرى أصبحت اليوم على جانبٍ ملحوظ من الإلزام بسبب ما أمسى يهدّد الأفراد والشعوب من أخطار لا تزال تتكاثر وتتفاقم بصورة موجلة، ولا سيما إذا كانت هذه الحياة هشَّة عزلاء. وينضاف إلى الكوارث القديمة والمؤلمة، الناجمة من البؤس والجوع والأوبئة المستوطنة والعنف والحروب، كوارث أخرى بوجوهها الحديثة وأبعادها المقلقة.
في صفحة تتصف بالواقعيّة المأساويّة، ندّد المجمع الفاتيكاني الثاني تنديداً صارماً بالجرائم المتنوّعة والانتهاكات التي تستهدف الحياة البشريّة. بعد ثلاثين سنة، أودّ أن أتبنى هذه الكلمات المجمعيّة، وأندّد بهذه المساوئ مرّة أخرى وبنفس القوة، باسم الكنيسة جمعاء، واثقاً من أنني أترجم ما يشعر به بصدق كل ضمير مستقيم: "كل ما يتصدَّى للحياة ذاتها ككل ضرب من ضروب القتل والقتل الجماعي والإجهاض والقتل الرحيم وحتى الانتحار المتعمَّد، وكل ما هو انتهاك لحصانة الإنسان كالبتر والتعذيب الجسدي أو الأدبي ومحاولات الضغوط النفسانيّة، وكل ما يهين كرامة الإنسان كظروف الحياة المنحطَّة والاعتقالات الاعتباطية والنفي والرق والدعارة والمتاجرة بالنساء والأحداث، وظروف العمل المشينة التي تُحدِر العمّال إلى مستوى مجرّد أدوات للكسب، بلا حرمة لما يتمتعون به من شخصيّة حرّة ومسؤولة هذه الممارسات جميعها وما يشبهها إنما هي، في الحقيقة، ممارسات مخزية. فهي تفسد الحضارة علاوة على أنها تشين الذين يمارسونها أكثر مما تشين الذين يكابدونها وهي إهانة ثقيلة لكرامة الخالق" (5).
4- ومن دواعي الأسف أن هذه اللوحة المقلقة لا نراها تنحسر، بل نراها آخذة في الاتساع: فمع ما نلحظه من آفاق جديدة، ناجمة من التقدم العلمي والتقني، نرى أشكالاً جديدة من التعرّض لكرامة الإنسان. وفي الوقت نفسه ترتسم وتتكوّن حالة حضاريّة جديدة تضفي على الجرائم التي تستهدف الحياة وجهاً مستحدثاً وأكثر إغراقاً في الظلم – إن أمكن – وفي ذلك ما يبعث في النفس هموماً أخرى خطيرة: فثمة طبقات واسعة في الرأي العام تبرّر بعض الجرائم ضدّ الحياة باسم حقوق الحريّة الفرديّة، وتنطلق من هذه الأرضيّة لتطالب لا بالتبرئة وحسب بل بموافقة الدولة لتمارسها في حريّة مطلقة وبدعم مجاني من قِبَل الخدمات الصحيّة.
هذا كلّه يحد انقلاباً عميقاً في النظرة إلى الحياة والعلاقات بين الناس. فالتشريعات، في عدد كبير من البلدان، تنأى أحياناً عن المبادئ التي ترتكز عليها دساتيرها. فلا تكتفي بحجب العقوبة عن مستحقيها بل تقدم على الاعتراف بقانونية الممارسات ضد الحياة وشرعيتها الكاملة. هذا كلّه يشكل ظاهرة مُمِضَّة وسبباً لا يستهان به يؤدي إلى انهيار أدبي جسيم: ثمة خيارات كانت تُحسَب، في الأمس، جرائم يأباها الحسّ الأدبي العام، تصبح اليوم، في نظر المجتمع، جديرة بالاحترام شيئاً فشيئاً. وحتى الطب نفسه، المدعوّ إلى حماية الحياة البشريّة والعناية بها، ينساق أكثر فأكثر، في بعض القطاعات، إلى ارتكاب هذه الأفعال التي تستهدف الإنسان. وهو، بذلك، يشوّه صفحته ويناقض ذاته ويجرح كرامة الذين يمارسونه. في مثل هذه القرائن الثقافية والقانونية تمسي المعضلات الديموغرافية والاجتماعية والعيليّة الشائكة، التي تضغط على كثير من شعوب الأرض وتفرض تنبّهاً مسؤولاً وناشطاً على الجماعات الوطنية والدولية، معرّضةً لأن توجَد لها حلول زائفة وواهمة تناقض الحقيقة وتعارض خير الأفراد والشعوب.
إنها لمأساويّة النتيجة التي نفضي إليها: فلئن كان من الخطورة ودواعي القلق بمكان أن نلحظ الإجهاز على الآلاف من البشر البادئين في طريق الحياة أو المشرفين على نهايتها، فإنه ليس بأقلِّ خطراً ومدعاة إلى القلق أن نرى الضمير ذاته في شبه عماية من جراء خضوعه لمثل هذه التحوّلات العميقة وفي عجز متزايد عن التمييز بين الخير والشر في القضايا المتعلقة بالحياة البشريّة وقيمتها الأساسية.
في الشركة مع جميع أساقفة العالم
5- معضلة الأخطار المحدقة بالحياة البشرية في عصرنا كانت موضوع المجمع الاستثنائي للكرادلة الذي التأم في روما من 4 إلى 7 نيسان 1991. بعد بحثٍ مستفيض ومعمَّق في المعضلة وفي التحديّات التي باتت تستهدف الأسرة البشرية برمَّتها وبخاصة الجماعة المسيحية، طلب مني مجمع الكرادلة، باقتراع إجماعي، أن أؤكد ثانية، بسلطة خليفة بطرس، قيمة الحياة البشرية وحصانتها، في مواجهة الظروف الراهنة والتعديّات التي تهدِّدها اليوم.
لقد رحّبتُ بهذا الطلب، وفي عيد العنصرة من سنة 1991 وجّهت رسالة شخصية إلى كلٍّ من إخوتي في الأسقفية ليوافوني، في روح الجماعيّة الأسقفية، بقسطهم من التعاون لوضع وثيقة في هذه المسألة(6). وإني أشكر عميق الشكر لجميع الأساقفة أنهم استجابوا لطلبي وزوَّدوني بمعلومات وإيحاءات واقتراحات نفيسة. وبهذه الطريقة أيضاً أدّوا لي برهان مساهمتهم، بإجماع وصدق، في الرسالة التعليمية والرعوية التي تضطلع بها الكنيسة في قضية إنجيل الحياة.
في هذه الرسالة ذاتها، وقُبَيلَ الاحتفال باليوبيل المئوي للرسالة العامة في "الشؤون الحديثة"، لفتُّ انتباه الجميع إلى هذا الشبه الغريب: "كما أن الطبقة العمَّالية، منذ قرن، كانت هي المغموطة حقوقُها الأساسية، فتولَّت الكنيسة الدفاع عنها بكير من الجرأة وجاهرت بما يتمتع به العامل من حقوق مقدّسة، كذلك الآن، ونحن بإزاء فئة أخرى من الناس يُنتهك ما لها من حقّ أساسي على الحياة، تشعر الكنيسة بأن عليها أن تتسلح بنفس الجرأة وتعطي صوتاً لمن لا صوت له. إنها تستعيد دوماً صرخة الإنجيل في الدفاع عن بؤساء هذا العالم والمهدَّدين والمحتقرين والمحرومين حقوقهم الإنسانية" (7).
نحن نلحظ اليوم جمهوراً من الضعفاء والعزَّل المجحود حقُّهم الأساسي في الحياة، ومنهم خصوصاً الأولاد الموشكون أن يولدوا. فإذا كانت الكنيسة، في نهاية القرن السابق، لم يحقَّ لها أن تصمت عن المظالم القائمة آنذاك، فلا يحق لها اليوم أيضاً أن تصمت، وقد انضافت في غير جزءٍ من أجزاء العالم، إلى المظالم الاجتماعية السالفة التي لم تلقَ لها حلاً – حتى اليوم – مظالم وضغوط أشد خطراً، تُعتبر وسائل تقدم لإقامة نظام عمالي جديد؟
هذه الرسالة، وهي ثمرة تعاون الأساقفة في كل بلدان العالم، تود أن تكون تأكيداً مكرَّراً واضحاً وحازماً لقيمة الحياة البشرية وحصانتها، وفي الوقت نفسه، دعوةً لاهبة موجَّهة إلى الجميع وإلى كل فرد، باسم الله، أن: احترمْ وصُنْ وأحبِبْ واخدُمْ الحياة، وكل حياة بشرية! فعلى هذا الدرب فقط تلقى العدل والنموَ والحريّة الحقيقية والسلام والسعادة!
عسى أن تبلغ هذه الكلمات إلى كل أبناء وكل بنات الكنيسة! عساها أن تبلغ إلى الطيّبين الحريصين على خير كل رجلٍ وكل امرأة وعلى مصير المجتمع بأسره.
6- بعميق المشاركة مع كلٍ من إخوتي وأخواتي في الإيمان، وبدافع صداقة خالصة للجميع، أودّ أن أعود إلى "التمعن في إنجيل الحياة وأبشّر به سنىً" للحقيقة ينير الضمائر ونوراً ساطعاً يشفي الأبصار المظلمة، وينبوعاً لا ينضب من الثبات والشجاعة في مواجهة ما يعترضنا من تحديّات مستمرة.
وبينما أثوب بالفكر إلى الخبرات الثريّة التي عشناها خلال سنة العيلة، وبمثابة نتيجة للرسالة التي وجّهتها إلى "كل عيلة في كل أقطار الأرض" (8)، أرفع نظري، بثقة متجدّدة، إلى جميع العيل، متمنيّاً أن ينبعث ويتقوى، على جميع الأصعدة، تصميم الجميع على أن يدعموا العيلة لتستمرّ اليوم أيضاً – وسط مصاعب كثيرة وأخطار باهظة – وفيّة لقصد الله بان تكون "هيكلاً للحياة" (9).
إلى جميع أعضاء الكنيسة، وهم شعب الحياة المتجنّد للحياة، أوجّه ألحَّ نداءاتي لكي نتمكن معاً من أن نزوّد عالمنا بآيات جديدة للرجاء، باذلين جهدنا لإنماء العدالة والتضامن، وتدعيم حضارة جديدة للحياة البشرية وبناء مدنيّة صحيحة للحقيقة والحب.
الفصل الأول
إن صوت دماء أخيك صارخ إليَّ من الأرض
الأخطار المعاصرة المحدقة بالحياة البشرية
"وثب قايين على هابيل أخيه وقتله" (تك4/ 8):
جذور العنف المحق بالحياة
7- ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسرّه. لأنه إنما خلق الجميع للبقاء... إن الله خلق الإنسان خالداً وصنعه على صورة ذاته. لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم فيذوقه الذين هم من حزبه" (حك1/ 13- 14، 2/ 23- 24).
إنجيل الحياة الذي أُعلِن في البدء مع خلق الإنسان على صورة الله، لينعم بحياةٍ زاخرة وكاملة (تك 2/7 ، حك9/ 2- 3) قد ناقضته خبرة مُمَزِّقة، خبرة الموت الذي يدخل العالم ويلقي على الوجود البشري بأسره ظلَّ الفراغ. فالموت دخل العالم بسبب حسد إبليس (تك 3/1، 4- 5) وبسبب خطيئة والدينا الأوليّن (تك2/ 17، 3/ 17- 19). ولقد دخله من باب العنف، بسبب مقتل هابيل على يد أخيه قايين: "فلما كانا في الصحراء وثب قايين على هابيل أخيه وقتله" (تك4/ 8).
هذا المصرع الأول يصوّره سفر التكوين تصويراً بليغاً في صفة فريدة من صفحاته النموذجية: صفحة تُكتَب كل يوم في كتاب تاريخ الشعوب، بلا هوادة وبطريقة متكرّرة ومخزية.
فلنُعد معاً قراءة هذه الصفحة الكتابية التي تحمل لنا، بالرغم من عتاقتها وبساطتها المغرقة، تعاليم ثريّة جداً:
"كان هابيل راعي غنم وقايين كان يحرث الأرض. وكان بعد أيام أن قايين قدّم من ثمر الأرض تقدمة للرب. وقدّم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها. فنظر الرب إلى هابيل وتقدمته، وإلى قايين وتقدمته لم ينظر. فشقّ على قايين جداً وسقط وجهه. فقال الرب لقايين: لِمَ شقَّ عليكَ ولِمَ سَقَط وجهُك؟ ألا أنك إن أحسنتَ تنال وإن لم تُحسِن فعند الباب خطيئة رابضة وإليك انقياد أشواقها وأنتَ تسود عليها. وقال قايين لهابيل أخيه: لنخرج إلى الصحراء. فلما كان في الصحراء وثب قايين على هابيل أخيه فقتله.
فقال الرب لقايين: أين هابيل أخوك. فقال لا أعلم! ألعلّي حارس لأخي؟ فقال: ماذا صنعتَ؟ إن صوت دماء أخيك صارخ إليَّ من الأرض. والآن فملعونٌ أنتَ من الأرض التي فتحتْ فاها لتَقبَل دِماءَ أخيك من يدكَ. ,إذا حرثتَ الأرض فلا تعطيك قُوتَها أيضاً. تائهاً شارداً تكون في الأرض. فقال قايين للرب: ذنبي أعظم من أن يُغفر. إنكَ قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك أستتر وأكون تائهاً وشارداً على الأرض فيكون أن كل من وجدني يقتلني. فقال له الرب: لذلك كلّ من قبل قايين فسبعة أضعاف يُقاد به. وجعل الرب لقايين علامةً لئلا يقتله كلّ مَن وجده. وخرج قايين من أمام الرب فأقام بأرض نودٍ شرقيّ عدن" (تك4/ 2- 16).
8- لقد "شقّ على قايين جداً" وسقط وجهه لأن "الرب نظر إلى هابيل وتقدمته" (تك4/4). لا يكشف لنا النص الكتابي السبب الذي جعل الله يؤثر تقدمة هابيل على تقدمة قايين ولكنّه يبيّن لنا جليّاً أن الله، وإن آثر تقدمة هابيل، لم يقطع الحوار مع قايين. فهو ينبّهه ويذكّره بما يملكه من حريّة تجاه الشر: فالإنسان ليس مسيّراً للشر. صحيح أنه، مثل آدم، تساوره الخطيئة بقوّتها الشريرة، وتربض عند باب قلبه كوحش مفترس يترقب لحظة الوثوب على فريسته. ولكن قايين يبقى حراً تجاه الخطيئة، وبإمكانه بل عليه أن يسيطر عليها: "إليك انقياد أشواقها، وأنتَ تسود عليها" (تك4/ 7).
الحسد والغضب يتغلبان على إنذار الرب. ولذا فقايين يثب على أخيه ويقتله. وهذا ما ورد في "التعليم الديني الكاثوليكي": يكشف لنا الكتاب المقدس في رواية مقتل هابيل على يد أخيه قايين، منذ فجر التاريخ البشري، وجود الغضب والحسد في الإنسان نتيجة الخطيئة الأصلية، فغدا الإنسان عدواً لمثيله" (10).
الأخ يقتل الأخ! فكما في المقتل الأخويّ الأول، في كل مقتل تُنتَهك القربى "الروحية" التي تضمّ الناس أسرة كبيرة واحدة (11)، فيشترك الكل في الخير الأساسي الواحد: المساواة في الكرامة الشخصية. وليس من النادر أن تُنتهك، بطريقة متوازية، قربى "اللحم والدم"، عندما تتفاقم مثلاً الأخطارُ المحدقة بالحياة، في العلاقات بين الأهل والبنين، في حال الإجهاض، أو في حال القتل الرحيم، إذا انتقلنا إلى قرائن عيلية أو أهليّة أوسع.
بعد الجريمة يتدخّل الله لينتقم للضحيّة. فقايين في ردّه على الله الذي سأله عن مصير أخيه، بدلاً من أن يبدو عليه الاضطراب ويلتمس الصفح، نراه يتملّص من السؤال ويجيب بغطرسة: "لا أعلم! ألعلّي حارسٌ لأخي؟" (تك4/ 9). "لا أعلم!" فقايين بالكذب يحاول أن يُغطي جريمته. هكذا كانت الحال سابقاً في معظم الأحيان، وهكذا لا تزال الأمور تجري، كلّ مرة تسعى الإيديولوجيات، على اختلافها، إلى تبرير وتقنيع أشنع الجرائم المقترفة ضدّ الإنسان: "ألعلّي حارسٌ لأخي؟". فقايين يأبى أن يفكر في أخيه ويرفض أن يتحمل مسؤولية كل إنسان تجاه أي إنسان آخر. ويتبادر إلى ذهننا، بطريقة عفوية، النزعات المعاصرة التي تجرّد الإنسان من مسؤوليته تجاه مثيله. ونلحظ عن ذلك أعراضاً، من بين أعراض أخرى، في ضياع معنى التضامن تجاه المستضعفين من أبناء المجتمع – المسنين والمرضى واللاجئين والأولاد – وفي اللامبالاة الملحوظة غالباً في العلاقات بين الشعوب، حتى في ما يتعلّق بالقيم الإنسانية، قيم البقاء والحرية والسلام.
9- ولكن الله لا يستطيع أن يدع الجريمة بلا عقاب. فدمُ الضحية، من الأرض سُفِكَ عليها، يُطالِب الله بإقامة العدل (تك37/ 26، أش26/ 21،حز24/ 7- 8). من هذا النص استوحت الكنيسة عبارة "الخطايا التي تستصرخ انتقام الله"، وقد أُدخلت فيها، في رأس اللائحة، القتل المتعمّد (12). ففي نظر اليهود، كما في نظر الكثير من الشعوب القديمة، الدم هو مستقرّ الحياة (تك 12/ 23). والحياة، ولا سيما الحياة البشرية، هي مِلك الله وحده. ولذا فكل مَن يتعدّى على حياة الإنسان فكأنه يتعدّى على الله نفسه.
لقد نال قايين لعنة الله ولعنة الأرض التي لن تعطيه قوتها (تك4/ 11- 12). وقد حلَّ به العقاب فراح يسكن القفر والصحراء. إن العنف القتّال يغيّر تغييراً عميقاً البيئة التي تجري فيها حياة الإنسان. فالأرض التي كانت "جنة عدن" (تك4/ 14)،وموقع وفرة وعلاقات إنسانية هادئة وصاقة مع الله، أمست "بلا نود" (تك4/ 16): أرض البؤس والوحشة والنأي عن الله (تك4/ 14). وقد أمسى قايين "تائهاً شارداً" (تك4/ 14) وسوف يرافقه أبداً الشك والتقلّب.
ولكن الله المتحنن حتى في عقابه، جعل لقايين علامة، حتى لا يقتله كل من وجده" (تك 4/ 15). لقد جعل له علامةً فارقة لئلا يُحكم عليه بأن يكون منبوذاً عن الآخرين، ولكي يلقى حماية وحصانة في وجه يُضمرون قتله، وإن انتقاماً لموت هابيل.. فهو، مع كونه قاتلاً، لا يزال يملك كرامته الشخصية، والله نفسه في ذلك كفيل. هنا يتجلّى السرّ الغريب، سرّ عدالة الله المترفقة كما كتب في ذلك القديس أمبروسيوس: "لقد تم مقتل أخ على يد أخيه، وهو أعظم الجرائم ففي اللحظة التي تسلّلت فيها الخطيئة، انبسطت فوراً شريعة الرحمة الإلهية، وذلك بأن العقاب، لو حلّ فوراً بالمذنب، لما أمكن الناس، في إنزالهم العقوبات [ بالمجرمين ] أن يتسربلوا بسربال التسامح والوداعة، بل لكانوا أنزلوا فوراً العقاب بالمذنبين [ ..... ] لقد أقصى الله قاين عن وجهه، وإذ انتبذه أهلهن نفاه إلى أرض معزولة يسكن فيها لأنه انتقل من وداعة البشر إلى شراسة الوحوش الضارية. ولكن الله لم يشأ أن يُعاقَبَ القاتل بالقتل، لأنه يريد أن يهيب بالخاطئ إلى التوبة لا إلى الموت" (13).
"ماذا صنعت؟ (تك4/ 10): كُسوف قيمة الحياة
10- قال الرب لقاين: ماذا صنعت؟ إن صوت دماء أخيك صارخ إليّ من الأرض" (تك4/ 10) إن صوت الدم الذي يسفكه الناس لا يني يصرخ، من جيل إلى جيل، بأحجام ونبرات متنوعة وأبداً متجددة.
سؤال الرب: "ماذا صنعت؟ الذي لم يستطع قاين أن يتهرَّب منه، موجَّه أيضاً إلى الإنسان المعاصر ليعي مدى الخطورة في انتهاكات حرمة الحياة، التي لا يزال تاريخ البشرية موصوماً بها. إنه موجَّه إليه ليبحث عن الأسباب الكثيرة التي تحدث هذه التعديّات وتحرّض عليها وليفكّر جدّياً في ما ينجم عنها من تبِعات تهدّد وجود الأفراد والشعوب.
هناك تهديدات تنشأ عن الطبيعة ذاتها، ولكنها تتضخّم بسبب اللامبالاة المجرمة والتهاون الصادر عن الناس الذين يستطيعون، في معظم الأحيان، أن يجدوا لها علاجاً. وهناك بالعكس تهديدات أخرى ناجمة عن أحوال العنف والبغض أو عن المصالح المتضاربة التي تدفع الناس إلى التهجّم على أناس آخرين بأعمال القتل والحروب والمذابح والإبادات الجماعية.
وكيف لا نذكر العنف الممارس في حق الملايين من البشر وبخاصة الأطفال ضحايا البؤس وسوء التغذية والمجاعة، وذلك من جراء تقسيط جائر للثروات بين الشعوب أو بين الطبقات الاجتماعية؟ أم كيف لا نذكر العنف قبل ظهوره في الحروب، العنف المرتبط بتجارة الأسلحة المشينة التي تساهم في تصعيد الكثير من الصراعات المسلّحة مضرّجة العالم بالدماء؟ أم كيف لا نذكر أيضاً انتشار جراثيم الموت عن طريق الإخلال الغبي بالتوازنات البيئية، وتعميم المخدرات ونتائجها القتّالة، وتحبيذ تصرفات جنسيّة تنبئ بأخطار جسيمة على الحياة، علاوة على أنها مرفوضة أدبيّاً؟ من المتعذّر أن نسرد بطريقة وافية سلسلة الأخطار الطويلة المحدقة بالحياة البشرية، لكثرة ما ترتديه، في عصرنا، من أشكال سافرة أو مبيّتة.
11- ولكننا نريد أن نحصر انتباهنا خصوصاً في أشكال أخرى من التعدّيات التي تستهدف الحياة الناشئة أو الحياة في مراحلها الأخيرة، وتتميز بخاصيّات جديدة بالنظر إلى الماضي وتُثير معضلات على جانب كبير من الخطورة، وذلك بأنها تنزع إلى أن تتبرأ، في نظر الضمير الجماعي، من طابعها الإجرامي، وتتلبس، تلبساً غريباً، بطابع "الحق". والنتيجة أن هناك مَنْ يُطالب الدولة بأن تعترف بها اعترافاً شرعياً حقيقياً وراهناً، وتطبيقها، من ثم، تطبيقاً مجانياً، على يد المسؤولين في دوائر الصحة. هذه التعديّات تمسّ الحياة البشرية في أحوال شديدة الهشاشة، عزلى من كل قدرة على الدفاع. وأخطر من ذلك أنها تتم، على مدىً واسع، داخل الأسرة وبمبادرة الأسرة المدعوّة، بالعكس، ومن منطلق تكوينها، إلى أن تكون "حَرَم الحياة".
كيف بات بالإمكان الوصول إلى مثل هذه الحال؟ ثمة عوامل كثيرة يجب اتخاذها بعين الاعتبار. في الخلفيّة نلحظ أزمة عميقة في مجال الثقافة تولّد الريبة في أسس المعرفة والمسلكية وتصعّب أكثر فأكثر صفاء رؤية معنى الإنسان وحقوقه وواجباته. ويضاف إلى ذلك المصاعب الوجوديّة والعلاقيّة على أنواعها، يُوّتِرها واقع مجتمع معقّد يمسي فيه الأفراد والأزواج والعيل وحدهم غالباً في مواجهة معضلاتهم. وهناك أيضاً أوضاع حادة من الفقر والجزع والتوتر، حيث السعي المضني في سبيل البقاء، والعذاب المتاخم لحدود المحتمل والضغوط الممارسة على النساء، تجعل الخيارات الداعمة لشؤون الحياة وحمايتها وترقيتها على جانب من المشقة بل من البطولة.
كل هذا يفسّر، ولو جزئياً، أن قيمة الحياة يغشاها اليوم ضرب من "الكسوف"، وإن كان الضمير لا يزال يعرضها في معرض الشؤون المقدسة والحصينة. ونلحظ ذلك في أن الناس ينزعون إلى تغطية بعض الأخطاء التي تمس الحياة الناشئة أو المشرفة على مراحلها الأخيرة بعبارات مستمَدَّة من قاموس الصحة، تصرف الأنظار عمّا يكمن في ذلك من مساس بحق الفرد البشري في الوجود.
12- والواقع أنه وإن كانت هناك وجوه متعدّدة وخطيرة من وجوه المعضلة الاجتماعية بإمكانها أن تفسر نوعاً ما، جوّ الريبة الأدبيّة المتفشيّة، وتخفف المسؤولية الشخصية عند الأفراد، فإنه من الصحيح أيضاً أننا في مواجهة واقع أشمل يمكن اعتباره حقاً "بُنيةَ خطيئة"، يميّزها رجوح ثقافة تنافي معنى التضامن وتظهر، في أحوال كثيرة، وكأنها "ثقافة موت" حقيقية. هذه الثقافة تشجّعها تيارات ثقافيّة واقتصادية وسياسية عارمة، تملك عن المجتمع نظرة منفعيّة.
إذا نظرنا إلى هذه الأمور من هذا الملحظ، يمكننا التحدث، نوعاً ما، عن حرب المقتدرين على المستضعفين: فالحياة التي تتطلب قدراً أعظم من البشاشة والحب والعناية تُحسَب حياة عقيمة، أو تُعتبر عبئاً لا يُطاق وتمسي، من ثم، مرفوضة بألف أسلوب. فالإنسان الذي بسبب مرضه أو عائقته أو حتى بسبب مجرّد وجوده، يعكّر على المحظوظين رغد عيشهم ومألوف حياتهم، يمسي بسبب ذلك عدواً يجب اتقاؤه أو التخلص منه، ويعصف، من جراء ذلك، شبه "مؤامرة على الحياة". هذه المؤامرة لا تمسّ فقط الأشخاص في علاقاتهم الفردية والعيليّة والجماعية، بل توغل إلى أبعد من ذلك، إلى حد زعزعة وتشويه العلاقات بين الشعوب وبين الدول، على الصعيد العالمي.
13- وفي سبيل تشجيع الإجهاض على نطاق أوسع، أُنفِقَت ولا تزال تُنفَق أموال طائلة لتجهيز مستحضرات صيدليّة تمكّن من قتل الجنين في رحم أمّه من دون ضرورة اللجوء إلى خدمات الطبيب. في هذا المجال، يبدو البحث العلمي نفسه محصور الهمّ تقريباً في الحصول على منتجات على مزيد من البساطة والفاعلية ضد الحياة وقادرة، في الوقت نفسه، على أن تعفي الإجهاض من كل شكل من أشكال الرقابة والمسؤولية الاجتماعية.
لقد تواتر القول بأن منع الحَبَل، إذا أمسى مأموناً وفي متناول الجميع، هو العلاج الأنجع ضد الإجهاض. وتُتَّهم الكنيسة الكاثوليكية بأنها تشجع الإجهاض لأنها لا تزال تعاند في اعتبار منع الحمل وسيلة يحرّمها الشرع الأدبي. هذا الاعتراض، إذا أمعنا فيه النظر، يبدو في الحقيقة مشبوهاً. قد يحدث، ولا شك، أن كثيراُ من الذي يلجأون إلى وسائل منع الحمل، يُقْدِمون على ذلك أيضاً وفي نيّتهم أن يتحاشوا، فيما بعد مزلقة الإجهاض. ولكن المواقف السلبية الكامنة في "ذهنية منع الحمل" – وهي بعيدة جداً عن ممارسة الأبوّة والأمومة ممارسة مسؤولة، كما تتحقق في احترام الفعل الزوجي في ملء حقيقته – هذه المواقف هي من السلبية بحيث تجعل هذه التجربة أشدّ إغراءً في مواجهة حملٍ غير مرغوب فيه. والواقع أن الحضارة التي تدفع إلى الإجهاض تنمو نمواً خاصاً في الأوساط التي ترفض تعليم الكنيسة في منع الحمل. لا شك أن منع الحمل والإجهاض، من الناحية الأخلاقية، هما شرّان مختلفان اختلافاً نوعياً: فالأول ينافي حقيقة الفعل الجنسي، بوصفه تعبيراً عن الحب الزوجي، بينما الآخر يدمّر حياة كائن بشري. الأول يجافي فضيلة العفة الزوجية، بينما الآخر يناقض فضيلة العدالة وينتهك مباشرة الوصية الإلهية "لا تقتل".
ولكن منع الحمل والإجهاض، على اختلافهما في الطبيعة والوزن الأدبي، مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، وكأنهما ثمرتان من نبتة واحدة. لا شك أن ثمة أحوالاً تضطَرُّ الإنسان إلى استعمال منع الحمل والإجهاض بضغط ظروف حياتية، ولكنها لا تعفي البتة من واجب الامتثال الكامل لشريعة الله. إلاّ أن هذه الممارسات، في أحوال أخرى كثيرة جداً، تتجذّر في ذهنية مُتْعيَّة وتجرّد من المسؤولية في ما يتعلق بالحياة الجنسية، وتفترض نظرة أنانية إلى الحرية تعتبر الإنجاب عائقاً يعترض نموّ الشخصية البشرية. وهكذا تمسي الحياة التي يمكن أن تنشأ من العلاقة الجنسية هي العدو الذي لا بدّ من محايدته بكل وسيلة، ويمسي الإجهاض هو الجواب الممكن الأوحد والعلاج في حال فشل منع الحمل.
ومن المؤسف أن الصلة الوثيقة الملحوظة في الذهنيات بين ممارسة منع الحمل وممارسة الإجهاض تظهر أكثر فأكثر. والدليل على ذلك ما يتحقق، بطريقة مقلقة، من تجهيز مستحضرات كيماوية وأجهزة داخل الرحم ولقاحات تُوَّزع هي ووسائل منع الحمل بنفس السهولة، وتفعل، في الحقيقة، فعل الوسائل الإجهاضية في المراحل الأولى من نموّ الحياة في الكائن الجديد.
14- تقنيات الإنجاب الاصطناعي، على أنواعها، وهي تبدو في خدمة الحياة، وتتضمّن هذه النية في عدد من الأحوال، إنما تُشرّع الباب على اعتداءات جديدة على الحياة. وعلاوة على أن هذه التقنيات مرفوضة أدبياً لأنها تعزل الإنجاب عن العمل الزوجي وسياقه الإنساني المتكامل (14)، فهي تُسجّل نِسَباً عالية من الفشل، ليس فقط على صعيد التلقيح، بل في ما بعد أيضاً، على صعيد نموّ الجنين، المعرَّض لخطر الموت، بعد فترات قصيرة جداً، بوجه الإجمال. ويفوق أحياناً عدد المُضَغ ما هو ضروري لزرعها في رحم المرأة، وهذه "المُضَغ الفائضة"، كما تسمى، تُلقى أو تُستعمل في بحوث تُخفِّض، في الحقيقة، الحياة البشرية، بحجة التقدّم العلمي أو الطبي، إلى مستوى "سلعة بيولوجية"، يمكن المرء أن يتصرف بها على هواه.
التشخيص السابق للولادة، الذي لا يثير مشاكل أدبيّة إذا استُعمِل لتحديد العلاجات التي يمكن أن تكون ضرورية للولد المشرف على الولادة، قد يمسي أحياناً كثيرة فرصة لاقتراح الإجهاض أو لإجرائه. هو الإجهاض النسالي*، الذي تنشأ شرعيته، في الرأي العام، من ذهنية تُعتبر بخطأٍ، على انسجام مع المقتضيات "العلاجية"، ولا ترحّب بالحياة إلاّ مشروطة وبراءً من الإعاقة والعاهة.
في خط هذا المنطق، هناك من يرفض العلاجات الأساسية المألوفة، وحتى التغذية لأولاد ولدوا في حالات من الإعاقة أو المرض الثقيل. وإلى ذلك، تمسي المسرحية المعاصرة أدعى إلى البلبلة والحيرة من جراء المقترحات المقدّّمة هنا وهناك والهادفة إلى تشريع قتل الأطفال، في خط المطالبة بحق الإجهاض، وفي هذا ما يرتدَّ بنا إلى طور من البربرية حسبناه ولّى إلى غير رجعة.
15- ثمة أخطار لا تقلًّ جسامة تحدق أيضاً بالمرضى المزمنين والمدنفين، في سياق اجتماعي وثقافي يضخّم صعوبة مواجهة الألم وتحمّله، فيقوّي النزعة إلى حلّ مشكلة الألم باقتلاعه من جذوره، واستعجال الموت في اللحظة التي تُحسَبُ مناسبة.
وتحبيذاً لهذا الخيار، نجدُ أحياناً كثيرة عناصر من طبيعة أخرى تلتقي كلها – لسوء الحظ – في ذات المخرج المخيف. فعاطفة الجزع والتوتر وحتى اليأس عند المريض الناجمة عن خبرة ألم شديد ومديد، يمكن أن تؤدي إلى نتيجة حاسمة. وفي هذا ما يزعزع توازنات الحياة الفردية والعيليّة، على كونها مضطربة في حدّ ذاتها أحياناً، وذلك لأن المريض، من جهة، قد يتعرض لأن يلفي ذاته رازحاً تحت عبء هشاشته، بالرغم مما أحرزته الرعاية الطبيّة والاجتماعية من فاعلية متنامية، ولأن ذلك قد يبعث، من جهة أخرى، في الأشخاص المرتبطين مباشرة بالمريض، شعوراً من الشفقة معقولاً وإن تمّ فهمه خطأ. كل هذا يُمسي أشدّ خطراً من جراء بيئةٍ ثقافية لا تتوسّم في العذاب أي معنىً ولا أي قيمة بل ترى فيه ذروة الشر الذي لا بدّ من استئصاله بأي وسيلة. ونلحظ هذا خصوصاً في الأحوال التي تخلو من أي نظرة دينية تساعد في فهم سرّ العذاب فهماً إيجابياً.
ولكن القرائن الثقافية في جملتها لا تخلو من أن تخضع لنوع من الشعور البروميتي* الذي يدفع الإنسان إلى الاعتقاد بقدرته على أن ينصّب ذاته سيّد الحياة والموت يقرّرهما كما يريد، بينما هو، في الواقع، مقهور ومسحوق تحت وطأة موت مقفل إقفالاً مبرماً دون أي إطلالة معنى أو بريق رجاء. هذا كله نجد له صورة مأساوية في انتشار القتل الرحيم، مقنّعاً ومُبيّتاً أو سافراً بل مشرعاً. فإذا استثنينا شيئاً من الشفقة المزيّفة، تجاه عذاب المريض، نرى أن القتل الرحيم يُبرَّر أحياناً باعتبارات منفعيّة قوامها الإقلاع عن تكاليف مالية عقيمة ترهق المجتمع. وهكذا يُصار إلى التفكير في إلغاء أطفال مشوّهين أو أشخاص معاقين إعاقة خطيرة أو عاجزين أو مُسنين، ولا سيّما إذا كانوا على غير اكتفاء ذاتي، أو مرضى في طورهم الأخير. إنه لا يسوغ لنا أن نسكت عن أشكال أخرى من القتل الرحيم أشدَّ دهاءً وإن لم تكن أقل خطراً وواقعية. وذلك مثلاً، عندما يُعمد إلى الاستزادة من الأعضاء البشرية لزرعها، فتُقتلع هذه الأعضاء بلا تقيّد بالضوابط الموضوعية المناسبة للتثبّت من وفاة المعطي.
16- كثيراً ما تقترن الأخطار والتعدّيات المحدقة بالحياة بظاهرة أخرى معاصرة وهي الظاهرة الديموغرافية. وتعتلن هذه الظاهرة بطريقة تختلف بين منطقة وأخرى من مناطق العالم: ففي البلاد الثرية والمتطورة، نلحظ تقلصاً وتدهوراً مريعين في عدد الولادات. وأما البلاد الفقيرة فهي تتميز إجمالاً بنسبة عالية من النمو الأنامي يصعب تحملها في ما هي عليه من نموّ اقتصادي واجتماعي ضعيف أو من تخلّف فادح. في مواجهة هذا الاكتظاظ السكاني في البلاد الفقيرة نلحظ تقصيراً، على الصعيد الدولي، في التدخلات الشاملة: السياسات العيليّة والاجتماعية الرصينة، وبرامج التطوّر الثقافي والإنتاجي والتوزيع العادل للموارد- بينما نلحظ استمراراً في تطبيق السياسات المناقضة للتطوّر الأنامي.
من الواضح أن منع الحمل والتعقيم والإجهاض يجب أن نعتبرها من الأسباب المؤديّة إلى خلق أحوالٍ من التقلص الأنامي الشديد. ففي أحوال "التفجر الأنامي"، يسهل الركون إلى هذه الوسائل وسائل ما هنالك من أصناف التعدّي على الحياة.
عندما شعر فرعون قديماً بالقلق من وجود أولاد إسرائيل وتكاثرهم راح يسومهم كلَّ أنواع الجور والطغيان وأمر بقتل كل ولد ذكرٍ مولودٍ من أمهات عبرانيات (خر1/ 7- 22). هناك كثرة من المقتدرين في الأرض لا يزالون حتى اليوم يتصرفون بنفس الطريقة. هم أيضاً يجزعون من التكاثر الأنامي الراهن ويخشون من الشعوب الأكثر تكاثراً وفقراً أن تُمسي خطراً يهدّد ما تتمتع به بلادهم من بحبوحة وطمأنينة. وبناءً على ذلك، فبدلاً من أن يواجهوا هذه المشكلات الخطيرة ويعالجوها باحترام كرامة الأفراد والعيل، وبمراعاة ما يتمتع به كل إنسان من حق منيع في الحياة، يؤثرون أن يدعموا وفرضوا، بكل الوسائل، مخططات كثيفة لتحديد النسل. وحتى المساعدات الاقتصادية التي كان بودّهم أن يتبرعوا بها، يخضعونها، بطريقة جائرة، لشرط القبول بسياسة تحديد النسل.
17- البشرية المعاصرة تقدّم لنا مشهداً مروّعاً عندما نلحظ لا القطاعات التي تستفحل فيها التعدّيات على الحياة وحسب، بل أيضاً نسبتها العددية الكبيرة والدعم القوي الذي يُوفره لها إجماع اجتماعي واسع النطاق، واعتراف شرعي متواتر ومساهمة جزءٍ من المسؤولين في قطاع الصحة.
وقد تحدّثتُ عن ذلك بشدّة في دنفر، في مناسبة اليوم العالمي الثامن للشبيبة، فقلت: " إن الأخطار المحدقة بالحياة لا تَضعُف مع الزمن، بل تتّخذ، بالعكس، أبعاداً جسيمة. هذه الأخطار لا تصدر فقط من الخارج، من قوى الطبيعة ومن أمثال "قايين" الذين يقتلون "هابيل"، بل هي أخطار مبرمجة بطريقة علمية ومنظمة. فالقرن العشرون سوف يكون حقبة حافلة بالتعديّات الفظيعة على الحياة، وسلسلة لا نهاية لها من الحروب ومجزرة متواصلة تستهدف الأبرياء. فالأنبياء الدّجالون والمعلّمون المزَّيفون قد أحرزوا أكبر قدر ممكن من النجاح(15).
"ألعلّي حارس لأخي؟" (تك4/ 9): انحراف في تصوّر الحرية
18- إن المشهد الذي أتينا على وصفه يجب أن نحيط به لا من ناحية ما يتميّز به من ظاهرات الموت وحسب، ولكن من ناحية الأسباب المتعددة التي تفرزه أيضاً. سؤال الرب: "ماذا صنعت بأخيك؟" (تك4/ 10) يبدو وكأنه نداء موجّه إلى قايين ليتخطى ماديّة الجرم الذي اقترفه، ويدرك خطورته على صعيد الحوافز التي أدّت إليه والتبعات الناجمة عنه.
الخيارات ضد الحياة توحيها أحياناً أوضاع شائكة بل فاجعة من الألم السحيق والعزلة وانقطاع الأمل في تحسين وضع اقتصادي، والانهيار والجزع من المستقبل.
مثل هذه الأحوال بإمكانها أن تُخففن حتى إلى حدٍّ بعيد، المسؤولية الشخصيّة وعبْ الذنب لدى الذي يتخذون هذه الخيارات الأثيمة في حدّ ذاتها. ولكن المشكلة تتخطى اليوم مجرّد الإقرار – وإن ضرورياً – بهذه الأوضاع الشخصية. فالمشكلة مطروحة أيضاً على الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي، وهنا يظهر وجهها الهدّام والمُقلق، بسبب النزعة المتنامية في ذهنيّة المجتمع إلى اعتبار هذه التعدّيات على الحياة تعابير شرعية عن الحرية الفردية، يجب الاعتراف بها والدفاع عنها دفاعنا عن حقوق راهنة.
ونُفضي هكذا إلى منعطف فاجع النتائج في مسار تاريخي طويل يصطدم اليوم بتناقض مذهل، بعد اكتشاف فكرة "حقوق الإنسان" – بصفتها حقوقاً فطريّة لكل فرد، سابقة لكل دستور ولكل شرعة في الدول – ففي الوقت الذي نعلن فيه رسمياً ما يتمتع به الفرد من حقوق منيعة، ونؤكد أمام الملأ قيمة الحياة، نرى أن الحق في الحياة مرفوض ومنتهك عملياً، وخصوصاً في مرحلتين من أهم مراحل الوجود: الولادة والموت.
من جهة نلحظ أن ما يُعلَن في شأن حقوق الإنسان والمبادرات الكثيرة المستوحاة من هذه الحقوق تُبيّن، في العالم كله، تطوّر حسٍ أدبيّ أكثر أهبة للاعتراف بقيمة الحياة وكرامة كل إنسان في حدّ ذاته، بصرف النظر عن كل تفرقة في العرق أو في البلد أو في الدين أو في الرأي السياسي أو في الطبقة الاجتماعية.
ولكن، من جهة أخرى، نرى أن هذه الإعلانات النبيلة ينافيها الواقع المأسوي منافاة مؤسفة، ومما يدعو إلى مزيد من الحيرة بل من التشكيك، أن هذه الأمور تحدث، بالضبط، في مجتمع يجعل هدفه الأول وفخاره في المجاهرة بالحقوق الإنسانية والذود عنها. فكيف يمكن التوفيق بين هذه التأكيدات المبدئية المتكرّرة مع ما هنالك من تفاقم متواصل وتشريع متواتر للتعدّيات على الحياة البشرية؟ وأين الانسجام بين هذه التصريحات واتنباذ المستضعف والأعزل والمُسِنّ والجنين؟ هذه الاعتداءات تتوجّه في اتجاه مناقضٍ تماماً لاحترام الحياة وتمثل تهديداً مباشراً لكل ما تنوّه به حضارة حقوق الإنسان. وهي، في أقصى المطاف، تشكل خطراً على معنى التعايش الديمقراطي بالذات: فبدلاً من أن تكون مدائننا مجتمعات تحتضن "الحياة المشتركة"، يُخشى من أن تمسي مجموعات من المنبوذين والمهمَّشين والمُستبعدين والمحذوفين. وإذا أفسحنا النظر إلى أفقٍ عالمي، كيف يمكننا ألاّ نفكّر أن إعلان حقوق الأفراد والشعوب كما نسميه في المحافل الدولية العُلْيا ليس إلاّ مجرّد كلام عقيم ما دام لم يُكشَف قناع الأنانية في البلاد الثريّة التي تسُدُّ على البلاد الفقيرة باب الوصول إلى النموّ أو تخضعه لمحرّمات خرقاء تمس قضية الإنجاب وتقيم تعارضاً بين الازدهار المادي والنموّ البشري؟ أفلا يجب أن نعيد النظر في الأنماط الاقتصادية المعتمدة اعتماداً متواتراً لدى الدول وبخاصة تلك الأنماط المرهونة بضغوط دوليّة والتي تولّد وتغذّي أحوالاً من الظلم والعنف تمسي معها حياة شعوب برمتها خاضعة للمهانة والقهر؟
19- أين جذور مثل هذا التناقض الغريب؟
بالإمكان أن نكتشفها انطلاقاً من تقييم شامل للنظام الثقافي والأخلاقي، وابتداءاً بالذهنيّة التي تعمل على توتير معنى الذاتيّة وتشويهه، فلا تعترف بقابليّة الحقوق إلاّ لمن ينعم باستقلاليّة تامة، أو أقلّه في البداية، ويخلو من كل تبعيّة للآخرين. ولكن كيف التوفيق بين هذه الرؤية والإعلان القائل بأن الإنسان كائن "حصين"؟ نظريّة الحقوق الإنسانية إنما ترتكز على اعتبار أن الإنسان، خلافاً للبهائم والأشياء، لا يمكن أن يخضع لسيطرة أحد. ولا بدّ من أن نشير أيضاً إلى المنطق الجانح إلى إقامة المعادلة بين الكرامة الشخصية وقدرة الإنسان على الاتصال الكلامي الصريح والذي – على كل حال – يمكن اختباره. من الواضح أن مع مثل هذه المسلّمات لم يعد من مكان، في العالم، للكائن الضعيف، كالمشرف على الولادة أو المشرف على الموت، والذي يبدو واقعاً كلياً تحت سلطة أشخاص آخرين ومرتبطاً ارتباطاً جذرياً بهم وعاجزاً عن الاتصال إلاّ بلغة الصمت، لغة التعايش العاطفي. وهكذا تمسي القوّة مقياس كل خيار وتصرّف في العلاقات ما بين الأشخاص وفي الحياة المجتمعيّة. وهذا يناقض تماماً ما أرادت الدولة، تاريخياً، أن تعلنه بقولها إنها الجماعة التي تحلُّ فيها "قوة المنطق" محل "منطق القوة".
على صعيد آخر، نلحظ أن التناقض القائم بين تأكيد حقوق الإنسان رسمياً ونفيها المأساوي عملياً ينبع من نظرة إلى الحرية تنوّه بالفرد تنويهاً مطلقاً ولا تُعده للتضامن والانفتاح بلا تحفظ وخدمة القريب. ولئن صح أحياناً أن إلغاء الحياة الناشئة أو المدنفة هو من تبعات شعور منحرف بالتعاطف والشفقة، إلاّ أنه لا يمكن أن ننفي أن حضارة الموت هذه، في مجملها، تنبع من نظرة إلى الحرية مغرقة في الأنانية، تمسي في النهاية حريّة "الأقوياء" ضد الضعفاء الرازحين.
بهذا المعنى يمكننا أن نفسّر ردَّ قاين على سؤال الرب: "أين أخوكَ هابيل؟": "لا أعلم! ألعلي حارس لأخي!" (تك 4/ 9). أجل كل إنسان هو "حارس لأخيه"، لأن الله إنما يكِل الإنسان إلى الإنسان. ولأن الله يريد هكذا أن يكِل الإنسان إلى الإنسان، فإنه يمنُّ على كل إنسان بالحرية التي تكتسب بُعداً علاقياً جوهرياً. الحرية من مواهب الله الكبرى لأنها في خدمة الإنسان ليبلغ إلى الكمال ببذل الذات والانفتاح على الغير. ولكنها، بالعكس، عندما تُمسي مغرقة في الأنانية، فهي تفرغ من معناها الأول وتُنْتَقض دعوتها وكرامتها.
ثمة وجه آخر أعمق لا بدَّ من تأكيده: إن الحرية تنكر ذاتها وتدمّرها وتفضي إلى إلغاء الغير عندما لا تعود تُقِرُّ ولا تعود تحترم علاقتها الجوهرية بالحقيقة. فكل مرة تسعى الحرية إلى التملّص من كل تقليد وكل سلطة، وتعزل ذاتها عن أولى مسلّمات حقيقة موضوعية وشاملة، هي مرتكز الحياة الفرديّة والاجتماعية، ينتهي الإنسان بأن يتخذ بمثابة مقياس وحيد وحاسم لخياراته، لا الحقيقة التي توقفه على نواحي الخير والشر، بل مجرد رأيه الذاتي والمتقلب، بل حتى ما تمليه عليه مصالحه الأنانيّة ونزواته العابرة.
20- بهذه النظرة إلى الحرية، تتلف الحياة في المجتمع تلفاً ذريعاً. فإذا فُهِم كمال الأنا بمعنى الاستقلالية المطلقة، فلا بدّ من أن نُفضي إلى إلغاء الغير، وقد أمسى خصماً لا بدّ من اتقائه، ويغدو المجتمع هكذا مجموعة أفراد قائمين بعضهم بإزاء بعض، لا تربطهم علاقات متبادلة: كل واحد يسعى إلى تثبيت ذاته بمعزلٍ عن الآخر، ويرغب في ترجيح مصالحه الذاتية. ولكن، في مواجهة نفس المصالح التي يطالب بها الآخرون، يمسي من الضروري البحث عن حلٍّ وسط يضمن لكل فرد في المجتمع أكبر قدر من الحريّة. هكذا يزول كل تقيّد بالقيم المشتركة وبحقيقة مطلقة للجميع، وتتيه الحياة الاجتماعية في نسبيّة مطلقة ورمالها المتحركة، ومن ثم كل شيء يمسي مادّة تعاهدات ومساومات، حتى أول حقٍ من الحقوق الأساسية: أي الحق في الحياة.
والواقع أن هذا ما يحدث أيضاً في نفس الإطار السياسي في الدولة. فالحق في الحياة، وهو حق أصيل ومنيع، يمسي مادة جدال وإنكار، استناداً إلى اقتراع برلماني أو إلى إرادة جزء من السكان، قد يكون هو الأكثرية. وتلك نتيجة وخيمة من نتائج نسبيّة سائدة لا يتصدّى لها أحد: "فالحق" يكفّ عن أن يكون حقاً إذا لم يعد راسخاً على أساس الكرامة الحصينة التي يتمتع بها الشخص، بل أمسى مرهوناً بإرادة الأقوى. وهكذا تتوجّه الديمقراطية، بالرغم من مبادئها، نحو توتاليّة مميّزة. فلم تعد الدولة هي "البيت المشترك" حيث يستطيع الجميع أن يعيشوا حسب مبادئ المساواة الأساسية بل تحوّلت إلى "دولة مستبدة" تنتحل حق التصرف بالضعفاء والعُزَّل، من الولد الذي لم يولد بعد إلى الشيخ المسن، وذلك باسم منفعة عامة ليست، في الحقيقة، سوى مصلحة القلائل.
ويبدو هذا كلّه وكأنه يجري في أتمّ المراعاة للشرعية، أقله عندما يُصوَّت على القوانين التي تسوّغ الإجهاض والقتل الرحيم بموجب القواعد الديمقراطية المزعومة. والواقع أننا بإزاء مظهر فاجع من مظاهر الشرعيّة. والمثالية الديمقراطية التي لا تصح إلاّ بمقدار ما تعترف بكرامة كل شخص بشري وتحميها، نراها مبخوسة في مرتكزاتها نفسها: "كيف يمكن التحدّث بعد عن كرامة كل شخصٍ بشري عندما يُسوَّغ قتل الضعفاء والأبرياء؟ باسم أي عدالة تُمارس أظلم التفرقات بين الأشخاص، ويُعلن أن بعضهم يستحقون الحماية، والبعض الآخر تُرفض لهم هذه الكرامة؟" (16). عندما نلحظ مثل هذه التصرفات ففي ذلك إيذان ببدء متاهات تؤدّي إلى تذويب تعايشٍ بشري حقيقي وتصدّع قوام الدولة بالذات.
المطالبة بحق الإجهاض وقتل الجنين والقتل الرحيم والاعتراف به اعترافاً شرعياً، كل ذلك يؤدي إلى أنه نفرغ على الحرية البشرية معنىً فاسداً وجائراً، معنى سلطة مطلقة على الآخرين وضد الآخرين. ولكن في ذلك موت الحريّة الحقيقية: "الحق الحق أقول لكم: كل من يرتكب الخطيئة يكون عبداً للخطيئة" (يو8/ 34).
"من وجهك أستتر" (تك4/ 14): كُسوفُ معنى الله ومعنى الإنسان
21- عندما ننقّب عن الجذور العميقة التي يُفرخ منها الصراع بين "حضارة الحياة" و "حضارة الموت"، لا يمكن أن نتوقف على ما أتينا على وصفه من انحراف في تصوّر معنى الحرية. لا بدّ من أن نبلغ إلى صميم المأساة التي يعيشها الإنسان المعاصر: كسوف معنى الله ومعنى الإنسان. وهو ما يميّز المحيط الاجتماعي والثقافي الخاضع للعلمنة التي تمتد بمجسّاتها الطويلة إلى حدّ التنكيل بالجماعات المسيحية نفسها أحياناً. فالذين تدبّ فيهم عدوى هذه الحالة الذهنية، سرعان ما ينجرفون في تيار دائرة مفرغة رهيبة: فعندما يفقد الإنسان معنى الله، فهو يجنح إلى فقدان معنى الإنسان أيضاً، وكرامته وحياته. ثم إن انتهاك الشريعة الأخلاقية بطريقة منهجية وخصوصاً في المجال الخطير المتصل بالحياة البشرية وكرامتها يُحِدث نوعاً من الغشاوة المتكاثفة في قدرة الإنسان على إدراك حضور الله حضوراً حياً ومنقذاً.
بالإمكان أن نستوحي، مرّة أخرى، رواية قتل هابيل على يد أخيه قاين. فبعد اللعنة التي أنزلها الله على قاين، نسمعه يخاطب الرب بهذه الكلمات: "ذنبي أعظم من أن يُغفر. إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك أستتر وأكون تائهاً شارداً على الأرض فيكون أن كل من وجدني يقتلني" (تك 4/13- 14). إن قاين يحسب أن خطيئته لا يستطيع الرب أن يغفرها وأن مصيره المحتوم أن "يستتر من وجه الرب". فإذا كان قد توصّل إلى الاعتراف بأن خطيئته "عظيمة" فذلك بأنه أدرك أنه في مواجهة مع الله وحكمه العادل. والحقيقة أن الإنسان لا يستطيع أن يُقرّ بخطيئته ويعي كل فداحتها إلاّ أمام الرب. وتلك هي أيضاً خبرة داود الذي بعد أن صنع الشر أمام الرب وأنّبهُ النبي ناتان (2مل 11- 12) صرخ: "إنّي عارف بمعاصيّ وخطيئتي أمامي في كل حين" (مز 50/ 5- 6).
22- ولذا، فعندما يغرب معنى الله، يمسي معنى الإنسان أيضاً مهدَّداً ومفسوداً، على حدّ ما يعلنه المجمع الفاتيكاني الثاني بعبارة مقتضبة: "المخلوقات تتلاشى إذا انفصلت عن الخالق [......] وإن في نسيان الله والتغاضي عنه هو إظلاماً للخليقة نفسها". (17) من هنا عجز الإنسان عن أن يدرك ذاته "مختلفاً سريّاً" عن الخلائق الأرضية الأخرى، وكياناً عضوياً أكثر ما لديه أنه بلغ مرحلة متقدّمة جداً من الكمال. وبانحصاره ضمن حدود طبيعته المادية الضيّقة، يمسي، نوعاً ما، بمثابة "شيء" من الأشياء، ولا يعود يفطن لميزته "الراقية" وسموّ "وجوده كإنسان". ولا يعود يعتبر الحياة هدية سنيّة من يد الله، وحقيقة "مقدسة"، موكولة إلى مسؤوليته، ومن ثم، إلى حمايته ومحبته و"إجلاله". وتُمسي الحياة، في نظره، مجرد "شيء" يطالب به مِلكاً يحتكره ويسيطر عليه سيطرة كاملة ويتصرف به على هواه.
وهكذا، بإزاء الحياة الناشئة أو الحياة المدنفة، يمسي عاجزاً عن أن يتبنّى لحظاته الحاسمة بحريّة حقيقية. ولا يعود له من همّ إلاّ في "الإنجاز" فيُخلد إلى كل ما هنالك من تقنيات ممكنة ويبذل جهوداً كبيرة في تنظيم الولادة والموت، مسلطاً عليها رقابته وسيطرته. هذه الحقائق، وهي اختبارات أصيلة لا بدّ من أن تُعاش، تمسي في عداد الأشياء التي يَدَّعي مجرد "امتلاكها" أو "رفضها".
وعلى كلٍّ، عندما تُلغى المرجعيّة إلى الله فليس من المُغرِب أن يَفسُد معنى الأشياء كلها فساداً ذريعاً وأن تمسي الطبيعة نفسها، وقد كفّت عن أن تكون "أُماً"، مجرد "مادة" معرضة لكل التلاعبات. ويبدو أننا موّجَهون في هذا الاتجاه بتأثير عقلانية تقنيّة- علمية تسود الحضارة المعاصرة وتنفي حتى ضرورة الاعتراف بحقيقة الخلق، أو ضرورة احترام قصد الله في شأن الحياة. مثل هذا نلحظه أيضاً عند بعض الذي تقلقهم نتائج هذه "الحرية بلا قانون"، فينقلبون إلى موقف معاكس، موقف "القانون بلا حرية"، وهذا ما تقع فيه، مثلاً، ايديولوجيات تعترض على شرعية كل تدخّل في الطبيعة وكأنها "تؤلهها" فتنكر عليها، مرة أخرى، ارتباطها بقصد الخالق.
والحقيقة أن الإنسان عندما يتصرف "وكأن الله غير موجود" لا يفقد فقط معنى سرّ الله، بل معنى سرّ العالم أيضاً وسرّ كيانه.
23- كُسوف معنى الله والإنسان يفضي حتماً إلى المادية العملية التي تنشر بذار الفردانية والمنفعية والمتعيّة. وهنا أيضاً نلحظ فيمة ما كتبه الرسول من عبرة خالدة: "لمّا لم يَرَوا خيراُ في المحافظة على معرفة الله أسلمهم الله إلى فساد بصائرهم فأتوا كل منكر" (روم 1/ 2). هكذا استُبدلت قيم الذات بقيم ذات اليد. وأمسى البحث عن الرغد المادي الفردي هو الهدف الوحيد الذي يُحسب له حساب. وأما ما يزعمونه من "نوعية الحياة" فما هو، في الجوهر، سوى الفعالية الاقتصادية، والاستهلاك الفوضوي والجمال ومتعة الحياة الطبيعية، بصرف النظر عن معاني الوجود العميقة والنظام العلاقي والروحي والديني.
في مثل هذه القرائن التي يُمثّل فيها العذاب عبئاً ثقيلاً يلازم الوجود البشري وفي الوقت نفسه، فرصة للنمو الشخصي، نرى الناس "ينتقدونه" وينعتونه بالعقم ويحاربونه كشرّ لا بدّ من اتقائه دوماً وبأي ثمن. وعندما يتعذر التغلب عليه وتتلاشى صورة السعادة، أقله للمستقبل، تبدو الحياة وكأنها فقدت كل معناها، وتسوّل للإنسان نفسُه، أكثر فأكثر، أن يطالب بحق إلغائها.
وفي نفس هذه القرائن الحضارية، لم يعد الجسد في نظر البعض حقيقة شخصية مميّزة، علامةً ومكاناً للعلاقة مع الآخرين ومع الله ومع العالم، بل أمسى مجرّد كتلة ماديّة ومجموع أعضاء ووظائف وطاقات لا تستعمل إلاّ وفاقاً لمقاييس اللذة والفاعلية. وبالنتيجة يمسي الجنس هو أيضاً عارياً من طابعه الشخصي، وخاضعاً للاستغلال: فبدلاً من أن يكون علامة ومكاناً ولغة للحب، أي لبذل الذات والانفتاح على الغير في كل غنى شخصيته، يُمسي فرصة ووسيلة لتثبيت الأنا وإشباع الرغائب والغرائز. وهكذا يشوّه ويفسد معنى العلاقة الجنسية في مضمونها الأصيل: فالقِران والإنجاب، وهما المعنيان الملتصقان بطبيعة العمل الجنسي، يُعزَلان أحدُهما عن الآخر. وهكذا يُزَّيف القِران ويُمسي الإخصاب مرهوناً بتحكم الرجل والمرأة. ويصبح الإنجاب، من ثم، هو "العدو" الذي لا بد من اتقائه في ممارسة العمل الجنسي، ولا يُقبَل إلاّ بمقدار ما يلبّي شوق الإنسان أو رغبته في "أن يكون له ولد" بأي ثمن، بينما الإنجاب يجب أن يعكس حفاوة الإنسان بالآخر وانفتاحه على ثروة الحياة التي يحملها الولد.
الرؤية الماديّة التي أتينا على وصفها حتى الآن، تُفقِر العلاقات بين الأشخاص إفقاراً ذريعاً. وفي طليعة المتأذيّن بذلك: المرأة والولد والمريض والوجيع والمُسِن. مقياس الاحترام والمجانيّة والخدمة – يحلّ محلّه مقياس الفاعلية والوظيفيّة والمنفعيّة: فالآخر يقدّر لا "بما هو عليه" بل "بما يملك" وما "يُنتج"، والأقوى يتغلّب على الأضعف.
24- كُسوف معنى الله ومعنى الإنسان يتم في عمق الضمير الأدبي، مع كل ما يواكب ذلك من تبِعات كثيرة ووخيمة تمسّ الحياة. والمعنيُّ، أولاً، هو ضمير كل فرد، لأن الضمير في وحدته الباطنة وبطابعه الفريد يواجه الله وحده (18). ولكن "الضمير الأدبي" الذي يملكه المجتمع هو معنيّ أيضاً. فهو مسؤول، نوعاً ما، لا لأنه يتقبَّل أو يُشجّع تصرفات تناقض الحياة وحسب، بل لأنه يغذّي "حضارة الموت" أيضاً، ويذهب إلى حدّ العمل على خلق وتثبيت "بُنى خطيئة"، تُهدد الحياة. إن الضمير الأدبي، الفردي والاجتماعي، معرّض اليوم، أقلّه بسبب الوسائل الإعلامية الكثير وتأثيرها الزاحف، لخطر ثقيل جداً ومميت، خطر اللبس بين الخير والشر، في ما يتعلّق تحديداً بما يملكه الإنسان من حق أساسي في الحياة. ثمة جزء كبير من المجتمع المعاصر يبدو على شَبَهٍ مؤسف بأولئك الذين يصفهم بولس في الرسالة إلى الرومانيين بأنهم "يجعلون الحق أسيراً للظلم" (روم1/ 18). لقد أنكروا الله وحسبوا بإمكانهم أن يبنوا، بدونه، المدينة الأضية، "فتاهوا في آرائهم الباطلة، وأظلمت قلوبهم الغبية" (روم1/ 21)، وقاموا بأعمال خليقةٍ بالموت، "ولا يكتفون بفعلها بل يرضون عن فاعليها" (روم1/ 32). عندما يُقدم الضمير، وهو عين النفس النيّرة (متى6/ 22- 23) على أن يُسمّي "الخير شراً والشر خيراً" (أش5/ 20)، فهو ذاهب في طريق الانحطاط الأدعى إلى القلق والعمى الأدبي الأكثر ادلهاماً. ولكن جميع المؤثِرات والجهود المبذولة لفرض الصمت لا تفلح في إخراس صوت الرب الذي يدوّي في ضمير كل إنسان، لأنه من هذا الحَرَم الحميم، حَرَمِ الضمير، يمكننا استعادة الطريق إلى حب الحياة والاحتفاء بها والقيام بخدمتها.
"لقد اقتربتم من دمٍ مطهّر" (عب 12/ 22، 24) علامات رجاء ودعوة إلى الالتزام
25- "إن صوت دماء أخيك صارخ إليَّ من الأرض" (تك4/ 10) ليس فقط دم هابيل، أول بريء يُهدر دمه، هو الصارخ إلى الله، مصدر الحياة وموئلها. دم كل إنسان قتيل منذ هابيل هو أيضاً صوت يرتفع إلى الرب، وبطريقة فريدة، يصرخ إلى الله صوتُ دم المسيح الذي يرمز إليه هابيل البريء، في صورة نبويّة، كما يذكرنا بذلك صاحب الرسالة إلى العبرانيين: "أما أنتم فقد اقتربتم من جبل صهيون، من مدينة الله الحيّ،... من وسيط عهد جديد ودمٍ مطهِّر أفضل من دم هابيل" (عب12/ 22- 24).
دم مطهّر! وما كان دم الذبائح في العهد القديم، إلاّ علامة رمزية له وإشارة سابقة: دم الذبائح التي كان الله يكشف فيها عن إرادته في أن يهب ذاته للناس، مُطهِّراً لهم ومقدساً (خر24/8، أح17/11). كل هذا قد تحقق واعتلن في المسيح": فَرَشُّ دمه هو الذي يفتدي ويطهّر ويخلّص. إنه دم وسيط العهد الجديد، "المهراق من أجل جماعة كثيرة لغفران الخطايا" (متى 26/ 28). هذا الدم السائل من جنب المسيح المطعون وهو على الصليب (يو19/ 34)، أشدُّ بلاغةً من دم هابيل: إنه يعكس ويطلب "عدالة" أشدّ عمقاً، ولكنه يطلب خصوصاً الرحمة (19)، ويغدو وسيطاً لدى الآب من أجل الإخوة (عب7/ 25)، وينبوع فداء كامل وعطية حياة جديدة.
إن دم المسيح، الذي يكشف عظمة حبّ الله، يعلن أن الإنسان كريم في نظر الله وأن قيمة حياته لا تقدّر. وهذا ما يذكرنا به بطرس الرسول: "إعلموا أنكم لم تُعتقوا بالفاني من الفضة أو الذهب، من سيرتكم الباطلة التي ورثتموها، بل بدم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس" (1 بط1/ 18- 19). فالمؤمن بتأمله في دم المسيح الكريم برهان الموهبة التي يمن بها حبّاً للبشر (يو13/ 1) يتعلّم أن يكتشف ويقدّر ما يتمتع به كل إنسان من كرامة شبه إلهية، ويمكنه أن يهتف قائلاً بتعجب وشكر متجددين: "أي ثمن هو ثمن الإنسان في عيني الله، وقد استحقَّ مثل هذا الفادي العظيم (من صلوات أمسية الفصح) وبذل الله ابنه لكي لا يهلك الإنسان بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3/ 16).(20)
ثم إن دم المسيح يكشف للإنسان أن عظمته، وبالتالي دعوته، هي بذل ذاته بذلاً كاملاً. ولأن دم يسوع يُسفَك كعطية حياة، فهو لم يعد علامة موت وانفصال حاسم عن إخوته، بل وسيلة شركة وثروة حياة للجميع. فمن يشرب هذا الدم، في سرّ الافخارستيا، يثبت في يسوع (يو6/ 56) يُجرف في تيار حبه وبذل حياته، لكي يبلغ إلى قمة دعوته الأولى إلى الحب، وهي دعوة كل إنسان (تك1/ 27، 2/ 18- 24).
كل الناس يغرفون أيضاً من دم المسيح قدرة التطوع لخدمة الحياة. هذا الدم هو، بالتحديد، أقوى دواعي الرجاء، بل هو مرتكز اليقين المطلق أن الحياة في خُطّة الله سوف تنتصر: "لم يبقَ للموت وجود!"، ذاك كان الصوت العظيم الهاتف من عرش الله في أورشليم السماوية (رؤ21/ 4). ويؤكد لنا القديس بولس أن فوزنا على الخطيئة اليوم إنما هو علامةٌ وإيذان للانتصار الحاسم على الموت، عندما يتم قول الكتاب: "قد ابتَلَع الظَفَرُ الموت". فأين، يا موت، ظفرك؟ وأين، يا موت، شوكتك؟" (1قو 15/ 54- 55).
26- الحقيقة أننا نلحظ في مجتمعاتنا وفي ثقافاتنا علامات تنْبئ بهذا الظفر، وإن تميّزت بطابع شديد من "حضارة الموت". قد نرسم إذن لوحة ناقصة يمكنها أن تقودنا إلى فشل عقيم إذا لم نضِف إلى التشهير بالأخطار المحدقة بالحياة، نظرة إلى العلاقات الإيجابية الفعّالة في الوضع البشري المعاصر.
من المؤسف أن هذه العلاقات الإيجابية قلّما تظهر للعيان وقلّما يُكْتَرَث لها، وذلك، ولا شك، لأن وسائل الإعلام لا تُعيرها من الانتباه إلاّ قليلاً. إلاّ أن ثمة مبادرات كثيرة لمساعدة ومساندة الضعفاء والعزّل قد اعتُمِدت ولا تزال تُعتَمد في الجماعة المسيحية والمجتمع المدني على الصعيد المحلي والوطني والدولي ويقوم بها أفرادٌ وجماعاتٌ وحركاتٌ ومنظماتٌ متنوعة.
ثمة أزواج يتحملون بسخاء مسؤولية الإنجاب ويحسبون الأولاد أجمل "هدية من هدايا الزواج" (21). ولا يخلو المجتمع من عِيَل تتخطى خدمة الحياة اليومية وتُعير اهتمامها أولاداً مشرّدين، وشباباً في ضائقة، وأشخاصاً أو مسنّين لا سند لهم. ثمة مراكز كثيرة لنجدة الحياة، أو مؤسسات مماثلة يقوم بخدمتها، بكثير من التفاني والتضحية، أفراد أو جماعات يبذلون دعماً معنوياً ومادياً لأمهات يكابدْن من العسر ما يسوّل لهن الركون إلى الإجهاض. وهناك من يعمل أيضاً على خلق وإنماء مجموعات من المتطوعين تتجند لضيافة من ليس لهم من أسرة، ومن يُقاسون ظروفاً صعبة ومن هم بحاجة إلى محيط تربوي يساعدهم في التغلب على عادات مُضرّة والعودة إلى سراط حياة صحيح.
وأمّا الطب فيتجند له، بكثير من الاندفاع، باحثون وأعضاء مهن طبية يواصلون جهودهم للعثور على وسائل ناجعة أكثر فأكثر، ويحرزون اليوم من النتائج ما لم يكن يقع في خَلَد إنسان، وما يفسح آفاقاً واعدة لصالح الحياة الناشئة ونجدة الموجوعين والمرضى المتضايقين أو المدنفين. ثمة مؤسسات ومنظمات متنوعة تتجنّد لتشرك في منافع الطب المتقدّم البلاد الأكثر تعرّضاً للبؤس وللأمراض المستوطنة. وثمة أيضاً جمعيات وطنية ودولية من الأطباء الذين يهرعون لنجدة الشعوب التي تعاني من كوارث طبيعية أو من أوبئة وحروب.لا شك أننا لا نزال أبعد من أن نحقق عدالة دولية حقيقية كاملة في توزيع الفوائد الطبية، ولكن كيف لا نتوسم، في التقدّمات المُنْجَزة، دلائل تضامن متزايد بين الشعوب، وشعور إنساني وأدبي جدير بالثناء واحترامٍ أعظم للحياة.
27- في مواجهة التشريعات التي سمحت بالإجهاض والمساعي التي أفلحت، هنا وهناك، في تشريع القتل الرحيم، نشأت حركات ومبادرات في العالم كله لتحسيس المجتمع بضرورة الوقوف إلى جانب الحياة. هذه الحركات عندما تنقاد لإلهامها الصحيح وتعمل بحزم وتصميم، ولكن بدون الركون إلى العنف، تساعد في توسع الوعي لقيمة الحياة، وتبعث وتحرز تطوّعات أرسخ للذود عنها.
وكيف لا نذكّر، إلى ذلك بكل ما يُبذل يوميّاً من ضيافة وتضحية وعناية متجردة، يقوم بها عن حب عدد لا يُحصى من الأشخاص في العِيَل والمشافي والمياتم ومآوي العجّز وفي مراكز أخرى أو في جماعات تذود عن الحياة؟ لقد كانت الكنيسة دوماً باستلهامها قصة يسوع عن "السامري الرحيم" (لو10/ 29- 37) في طليعة جبهات المحبة هذه: كثيرون هم أبناؤها وبناتها، ولا سيما الراهبات والرهبان الذي كرّسوا ولا يزالون يكرّسون حياتهم لله، بطرق تقليديّة أو متجددة، ويقدمونها حباً بالقريب الأضعف والأفقر. إنهم يبنون في العمق "حضارة المحبة والحياة" التي بدونها يفقد وجود الإنسان، أفراداً ومجتمعاً، معناه الإنساني الأصيل. حتى وإن لم يتنبَّه لهم أحد، حتى وإن ظلّوا مستترين عن أنظار الأغلبية، فالإيمان يؤكد لنا أن الآب "الذي يرى في الخفية" (متى6/ 4) لن يكافئهم وحسب، بل سوف يوليهم الخصب منذ الآن، ويؤتيهم ثماراً تدوم لخير الجميع.
من بين علامات الرجاء، لا بد من أن نسجّل، لدى الكثير من شرائح الرأي العام، نمو شعور جديد يشتدُّ اعتراضاً على استعمال الحرب لحلّ الصراعات بين الشعوب، وأكثر اتجاهاً نحو البحث عن وسائل فعالة، ولكن "لا عنفية"، لصد العدوّ المسلّح. وفي نفس هذا السياق، لا بدّ من أن نُدرج أيضاً، لدى الرأي العام، اشمئزازاً متزايداً من عقوبة الموت، حتى وإن اعتُبِرت مجرّد وسيلة "دفاع شرعي" عن المجتمع، وذلك بداعي ما يملكه المجتمع المعاصر من وسائل فعّالة لكبح الجرم، فيُكَفَّ المجرمُ عن جرمه، من دون أن يُنتزَع منه نهائياً إمكان افتداء ذاته.
لا بدّ من أن نحييّ أيضاً تحية إيجابيّة التنبّه المتنامي لنوعية الحياة والبيئة، التي نلحظها خصوصاً في المجتمعات المتطوّرة، حيث لم يعد الناس يحصرون كل ترقباتهم في معضلات البقاء، بل في البحث عن تحسين مستوى الحياة في مجمل أوضاعها. استعادة البحث المسلكي في شؤون الحياة تكتسب اليوم أهميّة خاصة، وما نلحظه في علم مسلكية الحياة من تطوّر مستمر يساعد في إكمال الفكر والحوار – بين المؤمنين وغير المؤمنين، وبين المؤمنين من أديان مختلفة – في المسائل المسلكيّة الأساسية المتصلة بحياة الإنسان.
28- هذا المشهد الذي تخالطه ظلال وأضواء يجب أن يوعّينا كلنا على أننا اليوم في مواجهة صراع شديد ومأساوي بين الشر والخير، بين الموت والحياة، بين "حضارة الموت" و "حضارة الحياة". ولسنا فقط في "مواجهة هذا الصراع"، بل حتماً في وسطه: كلنا مدفوعون إليه دفعاً قويّاً، وليس بالإمكان أن نتملَص من مسؤوليتنا في اختيار الحياة اختياراً بلا شرط.
إن ما أمر به موسى أمراً واضحاً وحازماً يتوجه إلينا نحن أيضاً: "انظر إن قد جعلت اليوم بين يديك الحياة والخير والموت والشر...... لقد جعلت بين أيديكم الحياة والموت، البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا أنت وذريّتك" (تث 30/ 15- 19). هذا الأمر يتطبق علينا أيضاً نحن الملزمين أن نختار كل يوم بين "حضارة الحياة" و "حضارة الموت". بيد أن هذا النداء الوارد في سفر تثنية الاشتراع يبدو لنا أشد عمقاً لأنه يطالبنا بأن يكون خيارنا دينياً وأدبياً، بحيث نُفرغ على وجودنا وجهة أساسيّة، ونحيا بأمانة وانسجام مع شريعة الرب: "إني آمرك اليوم أن تحب الرب إلهك وتسير في طرقه وتحفظ وصاياه ورسومه وأحكامه....فاختر الحياة لتحيا أنت وذريتك. أحبب الربّ وأطِعْ أمرَهُ وتشبّث به لأن به حياتك وطول أيامك في الأرض...." (تث 30/ 16، 19- 20).
اختيارنا الحياة بلا شرط وقيد يكتسب ملء معناه الديني والأدبي، إذا نبع من الإيمان بالمسيح وتكوّن به وتغذّى منه. وليس ما يساعدنا في أن نواجه إيجابياً ما نحن غائصون فيه من صراع بين الموت والحياة، مثل الإيمان بابن الله الذي تأنس وجاء بين الناس "لتكون لهم الحياة وتفيض فيهم" (يو10/10): إنه الإيمان بمن قهر الموت بقيامته، إنه الإيمان بدم المسيح الأفضل من دم هابيل" (عب 12/ 24).
أمام تحديات الوضع الراهن وفي ضوء هذا الإيمان، تعي الكنيسة وعياً أشدّ ما يؤتيها الرب من نعمة ومسؤولية، لتعلن إنجيل الحياة وتحتفي به وتقوم بخدمته.
الفصل الثاني
أتيتُ لتكون لهم الحياة
البلاغ المسيحي في شأن الحياة
"لقد تجلّت الحياة فرأيناها" (1يو 1/ 2): لنرفع نظرنا إلى المسيح، "كلمة الحياة"
29- في مواجهة ما لا يُحصى من الأخطار الفادحة التي تضغط على الحياة في العالم المعاصر، قد يصيبنا شعور مرهق بعجز لا يمكن التغلب عليه: وهو أن الخير لن يكون أبداً من القوّة بحيث ينتصر على الشر!
من هنا دعوة شعب الله، ودعوة كل مؤمن فيه، إلى أن يجاهر، بتواضع وجرأة، بإيمانه بيسوع المسيح، "كلمة الحياة" (1يو 1/1). إنجيل الحياة ليس مجرد تأمل، وإن أصيلاً وعميقاً، في الحياة البشرية. وليس هو فقط مجرد وصيّة تتوخى تنبيه الضمير. إنجيل الحياة حقيقة ملموسة وشخصية، قوامها أن نبشر بشخص يسوع بالذات. فيسوع يُعلن لتوما الرسول ولكل إنسان من خلاله، أنه هو "الطريق والحق والحياة" (يو14/ 6). نفس هذه الهوية يعلنها أيضاً لمرتا أخت لعازر: "أنا القيامة والحياة. من آمن بي يحيا وإن مات. ومن يحيَ مؤمناً بي لا يمتْ أبداً" (يو 11/ 25- 26). يسوع هو الابن الذي يتلقى الحياة من الآب منذ الأزل (يو5/ 26)، وقد جاء بين الناس ليشركهم في هذه العطيّة: "لقد جئت لتكون لهم الحياة وتفيض فيهم" (يو10/10).
فمن منطلق كلام يسوع وعمله وشخصه، يستطيع الإنسان إذن أن "يعرف" الحقيقة كلها، في شأن الحياة البشرية، ومن هذا "النبع" يتلقى القدرة "ليعمل الحق" كاملاً (يو 3/ 21) أو ليضطلع بملء المسؤولية تجاه الحياة البشرية فيشملها بحبه وخدمته ويدافع عنها ويعمل على تطويرها.
ففي المسيح يُعلَن إعلاناً نهائياً ويُعطى كاملاً إنجيل الحياة هذا الذي نراه ماثلاً في وحي العهد القديم، وشبه مكتوب في قلب كل رجل وكل امرأة، ومُدوّياً في كل ضمير "منذ البدء"، أي منذ الخلق، بحيث يمكن أن نعرفه، عن طريق العقل، في ملامحه الأساسية، بالرغم ممّا يُحيق به من ظروف سلبية ناجمة عن الخطيئة. وقد جاء في المجمع الفاتيكاني الثاني أن المسيح "جاء يحضر بين البشر ويُظهر لهم ذاته، بأقواله وأعماله، ثم بآياته وعجائبه، وخاصة بموته وقيامته المجيدة من بين الأموات، وأخيراً بإرساله روح الحق. وهكذا أكمل مكشوفات الله للبشر، بعد أن أنجز في ذاته كل ما جاء في الوحي، وبعد أن ثبّت بشهادته الإلهية أن الله مقيم في ما بيننا، ليحرّرنا من ظلمات الخطيئة والموت وينهضنا إلى حياة لا تزول" (22).
30- نود إذن أن نشخص بنظرنا إلى الرب يسوع لنسمعه يردّد لنا "كلام الله" (يو3/ 34) ونتأمل ثانية في إنجيل الحياة وما ينطوي عليه. تأمّلُ هذا البلاغ الموحى في شأن الحياة البشرية قد أدرك يوحنا الرسول محتواه في أعمق معانيه وأكثرها أصالة. وقد كتب في مطلع رسالته الأولى: "ذاك الذي كان منذ البدء، ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بأعيننا، ذاك الذي تأملناه، ذاك الذي لمسته أيدينا من كلمة الحياة – لأن الحياة تجلَّت فرأيناها ونشهد لها، ونبشركم بتلك الحياة الأبدية التي كانت عند الآب فتراءت لنا – ذاك الذي رأيناه وسمعناه نبشركم به لتشاركونا أنتم أيضاً" (1يو/1- 3).
ففي يسوع، "كلمة الحياة" بشارة تُبَشّرنا بالحياة الإلهية الأبدية وتوهب لنا. بفضل هذه البشرى وهذه العطية تكتسب حياة الإنسان الجسدية والروحية، حتى في طورها الأرضي، ملءَ قيمتها ومعناها: فالحياة الإلهية والأبدية هي الهدف الذي يرمي إليه الإنسان العائش في هذا العالم وإليه يُدعى. وهكذا يتضمن إنجيل الحياة ما تُنبئ عنه الخبرة نفسها والعقل البشري من قيمة الحياة، فيتقبلها ويرتقي بها ويرفعها إلى ذروة كمالها.
"الرب عزّي وتسبيحي، لقد كان لي خلاصاً" (خر15/ 2): الحياة خير دائماً
31- الحقيقة أن قمة البلاغ الإنجيلي عن الحياة قد مُهِّد لها في العهد القديم. وقد اكتشف إسرائيل خصوصاً في أحداث سفر الخروج – وهي محور خبرة الإيمان في العهد القديم – إلى أي حدّ كانت حياته كريمة في عيني الله. ففي الوقت الذي خُيّل فيه إليه أنه مُعدٌّ للإبادة، بسبب الخطر المميت المحدق بجميع مواليده (خر1/ 15- 22) ظهر له الرب مخلِّصاً قادراً على أن يضمن مصيراً لمن لا رجاء له. وهكذا نشأ في إسرائيل وعي رهيف: وهو أن حياته ليست تحت سطوة فرعون يستطيع أن يستبدّ بها كما يشاء، بل هي بالعكس موضوع حب رقيق وعميق من قبل الله.
الإعتاق من العبودية هي عطيّة هويّة، واعتراف بكرامة حصينة، وبدء تاريخ جديد، حيث اكتشاف الله واكتشاف الذات يتحققان معاً. خبرة سفر الخروج هذه أساسية ومثالية. فقد تعلّم منها إسرائيل أنه، كلّ مرّة يُهدَّد في وجوده، يكفيه أن يلوذ بالله بثقة متجددة ليجد فيه دعامةً راسخة: "قد جبلتك فأنت عبد لي، وأنا لن أنساكِ، يا إسرائيل" (أش44/ 21).
هكذا اكتشف إسرائيل قيمة وجوده كشعب، فأخذ يتقدم أيضاً في استيعاب معنى الحياة وقيمتها في حدّ ذاتها. وأخذت تلك الفكرة تتطوّر في الأسفار الحكميّة، انطلاقاً من الخبرة اليومية لهشاشة الحياة ومن التنبّه للأخطار التي تحدق بها. في مواجهة تناقضات الوجود لا بدّ للإيمان من أن يجد لها ردوداً.
في طليعة المشكلات التي تتحدّى الإيمان وتمتحنه مشكلة الألم. كيف لا نجد في تأمل سفر أيوب صدىً لشكوى الإنسان في مداها الشامل. فالبريء الذي يسحقه الألم يفضي، بطريقة مفهومة، إلى التساؤل: "لِمَ يُعطى للشقي نور، وحياة لذوي الأنفس المُرّة، المتوقعين للموت فلا يكون، الباحثين عنه مثل الدفائن؟" (أي3/ 20- 21). ولكن حتى في كثافة الظلمة، يحدونا الإيمان إلى الإقرار "بالسر"، في روح الثقة والعبادة: "قد علمت أنك قادر على كل أمر، فلا يتعذر عليك أمر" (أي 42/2 ).
يعلّمنا الوحي، شيئاً فشيئاً، أن ندرك بجلاء أكثر فأكثر وضوحاً، ما زرعه الخالق في قلب البشر من بذار الحياة الخالدة: "أنشأ كل شيء حسناً في وقته وجعل ممرَّ الدهور أمام أعينهم...." (جا 3/ 11). بذار هذا "الكل" وهذا "الملء" ينتظر أن يتجلّى في الحب وأن يكتمل، بعطيّة مجانيّة من الله، في الاشتراك في حياته الأبدية.
"اسم يسوع قد ردّ القوّة على هذا الرجل" (رسل3/ 16): في هشاشة هذا الوجود البشري، يدفع يسوع معنى الحياة إلى ذروته".
32- خبرة شعب العهد تتجدّد في حياة كل "المساكين" الذين يلتقون يسوع الناصري. فكما أن الله "المحب الحياة" (حك11/27) قد أمَّن إسرائيل وسط الأخطار، كذلك يعلن ابن الله اليوم للمهدَّدين والمضايّقين في وجودهم أن حياتهم هبة يفرغ عليها حبّ الله معنى وقيمة. "العمي يبصرون والكسحان يمشون والبرص يبرأون والصمّ يسمعون والموتى يقومون والفقراء يُبشَّرون" (لو7/ 22). أقوال أشعيا النبي هذه (35/ 5- 6، 61/1) يَستشهد بها يسوع ليفسّر معنى رسالته: فالمصابون في وجودهم بضرب من ضروب الإعاقة، يسمعون منه البشرى الحسنة، بشرى رِفق الله بهم. ويتثبتون من أن حياتهم هي أيضاً عطيّة محفوظة حِفظاً شديداً بين يدي الله (متى6/ 25- 34).
ويخصُّ يسوع "الفقراء" بأقواله وأعماله. فجماهير المرضى والمهمَّشين الذين يتبعونه ويجدّون في إثره (متى4/ 23- 25) يكتشفون في كلامه ومآثره ما تتميّز به حياتهم من قيمة منيفة وما يرتكز عليه انتظار خلاصهم.
وتلك هي أيضاً مهمَّة الكنيسة، منذ مطلع تاريخها. فهي التي تبشِّر بأن يسوع الذي مضى من مكان إلى آخر يعمل الخير ويبرئ جميع الذين استولى عليهم إبليس، لأن الله كان معه" (رسل 10/ 38)، تعلم أنها هي أيضاً تحمل بلاغ خلاصٍ يدويِ، بكل جدّته، في أوضاع البؤس والفقر التي يجتازها الإنسان في حياته. هذا ما فعله بطرس عندما أبرأ المُقْعَد الذي كان يُضجع كل يوم على باب هيكل أروشليم المعروف "بالباب الحسن"، ليلتمس الصدقة. فقال له بطرس: "لا فضة عندي ولا ذهب، ولكني أعطيك ما عندي: باسم يسوع المسيح الناصري امشِ" (رسل 3/ 6). بالإيمان بيسوع "ملك الحياة" (رسل 3/ 15)، تستعيد الحياة الثاوية ههنا، مهملة "ومتوسّلة"، وعيَها لذاتها ولملء كرامتها.
أقوال يسوع وأعماله وأقوال الكنيسة وأعمالها لا تتوجّه فقط إلى من يعاني المرض والعذاب والتهميش على أنواعه، بل هي تُوغِل إلى أعمق من ذلك وتمسًّ كل إنسان في صميم معنى حياته وأبعادها الأدبية والروحية. فمن يُقرُّ بأن حياته موسومة بمرض الخطيئة يستطيع وحده، في لقائه يسوع المخلّص، أن يستردَّ حياته في حقيقتها وأصالتها، على حدّ قول يسوع : "ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب، بل المرضى. ما جئت لأدعو الأبرار إلى التوبة بل الخاطئين" (لو5/ 31- 32).
وأما مَن يتوهَّم، كالمزارع الموسر الذي ورد ذكره في المثل الإنجيلي، أنه يستطيع أن يضمن حياته بمجرّد امتلاكه الثروات المادية، فهو لا شك، مخطئ. فحياته ليست ملكه، وسرعان ما تُنزع منه قبل أن يُوفَّق في اكتناه معناه الحقيقي: "يا جاهل في هذه الليلة تُستَر نفسُك من، فلمن يكون ما أعددت؟" (لو12/ 20).
33- ونحن نلحظ، في حياة يسوع نفسها، من بدايتها حتى نهايتها، تلك "الجدلية" القائمة بين خبرة هشاشة الحياة البشرية، والتنويه بقيمتها. الواقع أن حياة يسوع، منذ مولده، موسومة بالهشاشة. لا شك الأبرار بادروه بالإيثار والترحيب، متحدين في ذلك بما أظهرته مريم من قبول فوري متهلّل (لو1/ 38)، ولكن ثمة أيضاً، منذ البدء، ذلك الرفض من قِبَل عالم يباديه بالعداوة باحثاً عن الصبي "ليقتله" (متى2/ 13)، أو مظهراً اللامبالاة وعدم الاكتراث لتحقيق سرّ هذه الحياة الوالجة في العالم: "ولم يكن لهما موضع في الفندق" (لو2/ 7). التعارض بين التهديدات والمخاطر من جهة، وقدرة عطيّة الله من جهة أخرى، يُبرز، بقوّة أعظم، سنى المجد النابع من بيت الناصرة ومن مزود بيت لحم: هذه الحياة الناشئة هلي للبشرية بأسرها مصدر خلاص.
تناقضات الحياة ومحاذيرها يتقبلها يسوع تقبّلاً كاملاً: "لقد افتقر لأجلكم، وهو الغني، لتغتنوا بفقره" (2قو 8/ 9). الفقر الذي يتكلم عنه القديس بولس ليس هو التجرّد من المزايا الإلهية وحسب، بل هو أيضاً المشاركة في الأحوال المعيشية الأشد تواضعاً وهشاشة في الحياة البشرية. (فيل2/ 6- 7). وقد مارس يسوع هذا الفقر طوال حياته كلها حتى لحظة الصليب الأخيرة: "لقد وضع نفسه وأطاع حتى الموت، الموت على الصليب. لذلك رفعه الله ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء (فيل2/ 8- 9). ولا شك أن يسوع بموته كشف كل عظمة الحياة وقيمتها، لأن تقدمة ذاته على الصليب قد غدت لجميع الناس ينبوع حياة جديدة (يو12/ 32). وعندما واجه يسوع تناقضات الحياة وتلاشيها، كان على يقين بأنها بين يدي الله، ولذا استطاع أن يخاطبه، وهو على الصليب، بقوله: "يا أبتِ في يديك أجعل روحي!" (لو23/ 46)، أي حياتي. ما أعظم قيمة الحياة البشرية حقاً، ما دام ابن الله قد تلبّسها وجعلها وسيلة خلاص للبشرية قاطبة.
مدعوون... إلى أن نكون على مثال صورة ابنه" (روم 8/ 28- 2): مجد الله يتألق في وجه الإنسان
34- الحياة خيرٌ في كل الأحوال: ذلك حدسٌ بل مُعطى من معطيات الخبرة على الإنسان أن يكْتَنِه معناه.
لماذا الحياة خير؟ سؤال يجول في كل صفحات الكتاب المقدس، ويلقى، منذ صفحاته الأولى جواباً حازماً ومعجباً. الحياة التي يمنّ بها الله على الإنسان تختلف وتتميّز عن حياة كل خليقة حيّة أخرى، وذلك بأن الإنسان، مع انتسابه إلى تراب الأرض (تك2/ 7، 3/ 19، أي 34/ 15، مز 103/ 13، 104/ 29) هو من (تك1/ 26- 27، مز 8/ 6)؟ وهذا ما أراد القديس إيرناوس أن ينوّه به أيضاً في عبارته المأثورة: "مجد الله هو الإنسان الحي".(23) فالإنسان قد حظي بكرامة رفيعة جداً ، تضرب جذورها في الرباط الحميم الذي يشدّه إلى خالقه: ففي الإنسان يسطع شعاع من حقيقة الله ذاتها.
هذا ما يؤكده سفر التكوين في روايته الأولى لمطالع الخلق، وفيها أن الله خلق الإنسان وجعله قمّةً في الكائنات وشبه إكليل لها، وذلك في نهاية تطور انطلق من حالة الخواء لينتهي إلى أكمل خليقة أبدعها الله. كل شيء في الخليقة، مسخّر للإنسان، وكل شيء مُخضَع له: "املأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا... على جميع الحيوان الدّاب على الأرض (تك 1/ 28). هكذا صدر أمر الله للرجل والمرأة. وثمة بلاغ آخر نقع عليه في الرواية الثانية لبداية الخلق: "وأخذ الرب الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها" (تك2/ 15). هكذا نلحظ أن الله يثبّت ثانية سلطة الإنسان على الأشياء، فالأشياء ملكه وموكولة إليه، إلاّ أنه لا يسوغ، أياّ ًكان السبب، أن يُستعبَد الإنسان لأمثاله من البشر، ولا أن يُحْدَرَ، نوعاً ما، إلى مستوى الأشياء.
في الرواية الواردة في الكتاب المقدس، الفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات واضح وجليّ، وذلك بأن خلق الإنسان وحده، يصوره لنا الكتاب نتيجة قرار خاص من قبل الله، وثمرة تشاور يقيم علاقة خاصة ومميزة بالخالق: "لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا" (تك1/ 26). فالحياة التي يمنُّ الله بها على الإنسان، عطيّة يشرك بها الله خليقته في شيءٍ من ذاته.
لقد تساءل إسرائيل طويلاً عن معنى هذه الصلة الخاصة والمميّزة القائمة بين الإنسان والله. سفر ابن سيراخ يعترف هو أيضاً بأن الله، عندما خلق البشر، "ألبسهم قوة بحسب طبيعته وصنعهم على صورته" (سير17/3). ويُنيط الكاتب المقدس بهذه الميّزة، لا تسلطهم على العالم وحسب، بل أخصّ ما ينعم به الإنسان من طاقات روحية، أي العقل وقدرة التمييز بن الخير والشر والإرادة الحرّة: "ملأهم من معرفة الحكمة وأراهم الخير والشر" (سير17/ 7). قدرة البلوغ إلى الحقيقة والحرية هي من مزايا الإنسان، وذلك بأنه خُلِق على صورة خالقه الإله الحق والعدل (تث32/4). الإنسان وحده، بين الخلائق، "بوسعه أن يعرف خالقه ويحبّه" (24). الحياة التي يكرم بها الله الإنسان هي أكثر من مجرّد وجود في الزمن. إنها امتداد إلى "ملء الحياة" وبذار وجودْ يتخطى حدود الزمن: "إن الله خلق الإنسان خالداً وصنعه على صورة ذاته" (تك2/ 23).
35- قصة الخلق في روايتها اليهويّة تعكس هذا اليقين عينه. فالرواية القديمة تتحدّث عن نسمة إلهية نفخها الله في الإنسان ليحيا: "إن الرب الإله جبل الإنسان تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار الإنسان نفساً حية" (تك2/ 7).
نسمة الحياة هذه النابعة من أصلٍ إلهي تفسّر ما يواكب الإنسان في سياق حياته من تململ دائم. فلقد خلق الله الإنسان حاملاً في ذاته سِمة إلهية لا تُبلى تجعله ينزع إلى الله نزوعاً فطرياً. وعندما يصغي الإنسان إلى همس قلبه العميق، لا يملك إلاّ أن يتبنّى الحقيقة التي تفوّه بها القديس أوغسطينوس بقوله: "ربّاه، لقد جعلتنا لك ولن يهدأ لنا قلب ما لم يخلد إليك!" (25).
وجدير بالملاحظة أن حياة الإنسان ظلّت فريسة الملل في جنة عدن، ما دام عالم النبات والحيوان هو بيئتها الوحيدة (تك2/ 20). فعندما ظهرت المرأة لحماً من لحمه وعظماً من عظامه (تك2/ 23) وفيها أيضاً روح الله الخالق، أصبح من الممكن إقامة حوارٍ بين شخصين، وهو مقتضى حيوي من مقتضيات الوجود البشري. ففي الآخر، رجلاً كان أم امرأة، ينعكس الله غايةً أخيرة تُروي كل إنسان.
"ما الإنسان حتى تذكره وابن البشر حتى تفتقده؟" (مز8/ 5). في رحابة هذا الكون يبدو في هذا التباين: "نَقَّصْتَه عن الملائكة قليلاً (ويمكن القول: "نقصته عن الله قليلاً") وكلَّلته بالمجد والكرامة" (مز8/ 6). مجد الله يتلألأ في وجه الإنسان. فيه يجد الله راحته، على حدّ ما جاء تفسير ذلك في تعليق القديس أمبروسيوس مفعم بالإعجاب والتأثر: "لقد انتهى اليوم السادس، وتمَّ خلق العالم بإبداع الإنسان رائعة الكون الذي يمارس سلطته على جميع الكائنات الحيّة، وهو بمثابة قمّة الكون ورائعة الخلق كله. في الحقيقة، علينا أن نلوذ بصمت خاشع، لأن الرب استراح من عناء الخلق كله. ثم استراح بعد ذلك في باطن الإنسان، استراح في روحه وفكره، وذلك بأن خلق الإنسان مُزيّناً بعقلٍ وقادراً على التشبه به ومجاراة فضائله، ومتعطشاً إلى نعمه الإلهية. في هذه العطايا الصادرة من عنده تعالى، يستريح الله الذي قال: "أين مقرّ راحتي؟ عند البائس والمنسحق الروح والمرتعد من كلمتي" (أش66/ 1- 2). إني أشكر الرب إلهنا أنه أبدع خليقة رائعة يصيب فيها راحته (26).
36- من المؤسف أن تَسَرُّبَ الخطيئة في التاريخ قد عاكس هذا المشروع الإلهي الرائع. بالخطيئة يتمرّد الإنسان على خالقه، ويتمادى في التمرّد إلى أن يجعل من الخليقة صنماً: "لقد اتقوا المخلوق وعبدوه من دون الخالق" (روم1/ 25). وهكذا لا يكتفي الكائن البشري بأن يلطخ صورة الله في ذاته، بل يُسوَّل إليه أن يُلحِقَ به الإهانة في الآخرين فيستبدل بصلات الشركة، مواقفَ ريبة ولا مبالاة وعداوة حتى الكراهية القتَّالة. فعندما نكفُّ عن اعتبار الله إلهاً، نتنكّر للإنسان في كنهه العميق، ونلحق الأذى بالشركة بين الناس.
في حياة الإنسان، تعود صورة الله إلى سابق إشراقها وتتجلّى في كامل سطوعها مع مجيء ابن الله واتخاذه جسداً بشرياُ: "هو صورة الله الذي لا يُرى" (قول1/ 15)، "وشعاع مجده وصورة جوهره" (عب1/ 3). إنه صورة الآب الكاملة!
مشروع الحياة الذي وكلّه الله إلى آدم الأول قد وجد أخيراً كماله في المسيح. فبينما عصيان آدم يفسد ويُشوّه قصدَ الله في حياة الإنسان ويُدخِل الموت إلى العالم، إذا بطاعة المسيح الفادية تصبح ينبوع نعمة تفيض على الناس وتفتح للجميع أبواب ملكوت الحياة (روم 5/12-21). وهذا ما يؤكده الرسول بولس بقوله: "كان آدم الإنسان الأول نفساً حية... وآدم الآخر روحاً محيياً" (1قو15/45).
كل الذي يَرضون باتباع المسيح يُعطَون كمال الحياة: فيهم تُرَمَّم الصورة الإلهية وتُجدَّد وتُساق إلى كمالها. هذا هو قصد الله في الخلائق البشرية: "أن يصبحوا على مثال صورة ابنه" (روم8/29). هكذا فقط، في سناء هذه الصورة، يستطيع الإنسان أن يتحرر من نير الصنميّة، ويعودَ إلى بناء الأخوّة المصدّعة، واسترداد هويته.
من يحيَ مؤمناً بي لا يَمُتْ أبداً" (يو11/26): عطية الحياة الأبدية
37- إن الحياة التي جاء ابن الله ليُسبغها على الناس لا تنحصر في نطاق الوجود الزمني. الحياة الكامنة "فيه" منذ الأزل، وهي "نور الناس" (يو1/4)، قوامها أن يكون الإنسان مولوداً من الله وأن يشترك في كمال حبه: "أما الذين قبلوه فقد أولاهم أن يصيروا أبناء الله، هم الذين آمنوا باسمه، الذين لا من دم ولا من مشيئة لحم ولا من رغبة رجل، بل من الله وُلدوا" (يو1/12-13).
الحياة التي أتى يسوع ليوفرها لنا لا يعرّفها أحياناً إلاّ بمجرد اسم "الحياة"، ويعتبر الولادة من الله شرطاً لا بدّ منه لبلوغ الغاية التي لأجلها خلق الله الإنسان: "ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلاّ إذا وُلِد من فوق" (يو3/3). توريث هذه الحياة هو هدف الرسالة التي يضطلع بها يسوع، "الذي نزل من السماء ليعطي العالم الحياة" (يو6/33)، وهذا ما يخوّله أن يؤكّد بملء الحق: "مَنْ يتبعني.... له نور الحياة" (يو8/ 12).
في ظروف أخرى يتكلّم يسوع عن حياة أبديّة، مستعملاً نعتاً لا يرمي فقط إلى منظور يتخطّى حدود الزمن. فالحياة "الأبدية" هي الحياة التي وعدناها يسوع وورَّثناها لأنها ملء اشتراكنا في حياة الله "الأبدي". فكل مَنْ يؤمن بيسوع ويتحد به له الحياة الأبدية (يو3/ 15، 6/ 40)، لأن منه يسمع الكلمات التي تستطيع وحدها أن تكشف له تورّثه ملء الحياة، إنها "كلمات الحياة الأبدية" التي يُقرّ بها بطرس في إعلان إيمانه: "ربّ إلى مَنْ نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك. نحن آمنا بكَ وعرفنا أنك قدوس الله" (يو6/ 68-69 ). الحياة الأبدية حدّدها يسوع نفسه عندما توجّه إلى الآب في صلاته الكهنوتية الفخيمة: "الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أن الإله الحق وحدك ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح" (يو 17/3). معرفة الله وابنه هي أن نتقبل سرّ شركة حب الآب والابن والروح القدس في حياتنا المشرعة، منذ الآن، على الحياة الأبدية، في المشاركة في الحياة الإلهية.
38- الحياة الأبدية هي إذن حياة الله نفسه وحياة ابن الله. ولا يستطيع المؤمن إلاّ أن يغشاه ذهول متجدّد وشكر لا يحدّ بإزاء هذه الحقيقة المدهشة والسامية التي تأتينا من الله في المسيح. ولا يسع المؤمن إلاّ أن يتبنّى قول الرسول يوحنا: "أنظروا أي محبّة خصّنا بها الآب لندعى أبناء الله، وإننا نحن كذلك..... أيها الأحباء، نحن منذ الآن أبناء الله، وما كُشِف لنا بعد عمّا نصير إليه. نحن نعلم أننا نصبح عند هذا الكشف أشباهه لأننا نراه كما هو" (1يو3 /1-2).
هكذا تفضي الحقيقة المسيحية في شأن الحياة إلى ذروتها. فكرامة الحياة لا ترتبط فقط بجذورها وبأنها من يد الله، بل ترتبط أيضاً بغايتها ومصيرها وهو أن تكون في شركة مع الله لمعرفته ومحبته. في ضوء هذه الحقيقة يوضح القديس إيرناوس تنويهه بالإنسان ويُتَوِّجُهُ: "فمجد الله" هو "الإنسان الحي" ولا شك، ولكن "حياة الإنسان هي رؤية الله" (27).
وينجم عن ذلك نتائج فورية للحياة البشرية حتى في وضعها الأرضي، حيث نبتت الحياة الأبدية ولا تزال تنمو. فإذا كان الإنسان يعشق الحياة بدافع الغريزة لأنها خير، فهذا الحب يجد دافعاً آخر وقوّة أخرى، ويكتسب اتساعاً وعمقاً جديدين نابعين من هذا الخير في أبعاده الإلهية: في مثل هذه الرؤية، لا يعود حب الإنسان للحياة مجرّد بحث عن وسيلة للتعبير عن ذاته وإقامة علاقة بالآخرين، بل يأخذ في النموّ في فرح اليقين من قدرته على أن يجعل من وجوده موقعاً لتجلّي الله ولقائه وإقامة الشركة معه. إن الحياة التي يَمَنُّ بها يسوع علينا لا تُخلي وجودنا الزمني من قيمته، بل تتكفّله وتقوده إلى غايته الأخيرة: "أنا القيامة والحياة.... من يحيا مؤمناً بي لا يمت أبداً" (يو11/ 25- 26).
"أي إنسان قبل أخاه اطلب منه نفس هذا الإنسان" (تك9/ 5): حياة الجميع يجب أن نبادرها بالإجلال والمحبة
39- حياة الإنسان من عند الله، فهي عطيته وصورته ووسمه ونصيب من نسمة حياته. فالله هو إذن وحده سيّد الحياة: ولا يسوع للإنسان أن يتصرّف بها. والله نفسه قد كرّر ذلك لنوح من بعد الطوفان: "أما دماؤكم، وهي حياتكم، فأطلبها من يد الإنسان، أي إنسان قبل أخاه أطلب منه نفس هذا الإنسان" (تك9/ 5). ويُعنى النص الكتابي بأن يؤكد أن الطابع القدسي الذي تتميّز به الحياة يرتكز على الله وعلى عمله الخلاّق: "لأنه بصورة الله صُنع الإنسان" (تك9/6).
حياة الإنسان إذن وموته هما بين يدي الله وتحت سلطانه: "في يده نفس كل حيّ – يقول أيوب – وأرواح البشر أجمعين" (أي 12/ 10). "الرب يميت ويُحيي، يُحدر إلى الجحيم ويُصعد" (1مل2/ 6)، ويسوغ له وحده أن يقول "أنا أُميتُ وأحيي" (تث 32/ 39).
ولكن الله لا يمارس السلطان بطريقة اعتباطية واستبدادية، ولكن على سبيل التدارك والعناية المُحبّة بخلائقه. فلئن صحَّ أن حياة الإنسان بين يدي الله، فمن الصحيح أيضاً أن هاتين اليدين تسيلان رقة، مثل يدي أمّ تحضن ابنها وتغذيه وتعتني به: "أنا مثل طفل عند أمه" (مز 130/ 2، أش49/ 15، 66/ 12- 13، هو11/4). هكذا لم يُعتبَر إسرائيل في تاريخ الشعوب وحياة الأفراد محض صدفة أو مجرّد قدرٍ أعمى بل نتيجة قصدٍ نابع من المحبة به يجبي الله كل طاقات الحياة، ويجابه قوى الموت الناجمة من الخطيئة: "ليس الموت من صُنع الله ولا هلاك الأحياء يسرُّه، لأنه إنما خلق الجميع للبقاء" (حك1/ 13- 14).
40- إذا كانت الحياة مقدسة، فهي تنعم بحصانة منقوشة، منذ البدء، في قلب الإنسان وفي ضميره. فالسؤال الذي طرحه الله على قاين بعد أن فتك بأخيه هابيل: "ماذا فعلت؟" (تك4/ 10) يُترجِم خبرة كل إنسان: ففي عمق أعماق ضميره يُنبَّه دائماً إلى وجوب التقيّد بحصانة الحياة – حياته وحياة الآخرين – باعتبارها واقعاً لا يملكه، لأنها مِلك لله وعطية من لدن خالقه وأبيه.
الوصية المتعلقة بحصانة الحياة البشرية تدوّي في قلب "الكلمات العشر"، يوم أعطي الميثاق في سيناء (خر34/ 28) هذه الوصية تحرّم القتل أولاً: "لا تقتل!" (خر 20/ 13)، "البريء والزكي لا تقتلهما" (خر23/ 7). ولكنها تحرم أيضاً – كما ورد تفسير ذلك لاحقاً في شريعة إسرائيل – كلَّ ضررٍ يُلحَق بالآخرين (خر21/12- 27). لا بدّ من الإقرار بأن اكتراث العهد القديم لقيمة الحياة – مع ثبوته – لا يضاهي بعد ما نلقاه من رهافة في عظة الجبل، وذلك ما نلحظه في بعض وجوه الاشتراع الاقتصاصي السائد في تلك الأيام، ويتضمّن عقوبات جسدية باهظة وحتى عقوبة الموت. ولكن بلاغ العهد القديم في مجمله، بانتظار ما سوف يجريه عليه العهد الجديد من دفع إلى الكمال، إنما هو دعوة ملحَّة إلى احترام قدسيّة الحياة الجسديّة وسلامة الجسم الإنساني، ويبلغ هذا البلاغ إلى ذروته في الوصية الإيجابية القاضية على كل فرد بأن يعامل قريبه معاملته لذاته: "أحبب قريبك كنفسك" (أح 19/18).
41- وصية "لا تقتل" المتضمّنة والمعمّقة في الوصية الإيجابية، الداعية إلى محبة القريب، يعود الرب يسوع إلى تثبيتها في كل قوّتها. فالشاب الغني الذي سأل يسوع: "يا معلم، ماذا أعمل من الخير لأنال الحياة الأبدية؟" أجابه يسوع: "إذا أردت أن تدخل الحياة، فاحفظ الوصايا" (متى19/ 16- 17). وذكر له يسوع، في طليعتها، وصية "لا تقتل!" (19/ 18). في عظة الجبل، طلب يسوع من تلاميذه أن يزيد بِرَّهم على برّ الكهنة والفريسيين في كل المجالات، ومنها احترام الحياة: "سمعتم أنه قيل للأوليين: لا تقتل، فإن مَن يقتل يستوجب حكم القضاء. أما أنا فأقول لكم: مَن غضب على أخيه استوجب القضاء" (متى5/ 21- 22),
وقد فسّر يسوع بعدئذٍ، بأقواله وأفعاله، ما تنطوي عليه وصية احترام الحياة من مقتضيات إيجابية. هذه المقتضيات كانت ملحوظة في العهد القديم، حيث كان الشرع يُعنى بحماية ووقاية الضعفاء والمهدَّدين في حياتهم، كالغريب والأرملة والمريض والفقير على وجه الإجمال، وحتى الحياة قبل الولادة (خر21/ 22، 22/ 20- 26). هذه المقتضيات الإيجابية اكتسبت، مع يسوع، قوّة ودفعاً جديدين، وتجلّت في كل مداها وعمقها: من ضرورة الاعتناء بحياة الأخ (المنتمي إلى ذات الأسرة، وذات الشعب، والغريب الساكن في أرض إسرائيل)، إلى الاهتمام بالغريب، فإلى محبّة العدوّ.
فالغريب لم يعد غريباً لمن يجب عليه أن يكون قريباً من كل ذي حاجة إلى حدّ الشعور بمسؤوليته عن حياته، كما يعلّمنا ذلك، بطريقة بليغة وحيّة، مَثَلُ السامري الرحيم (لو10/ 25- 37). حتى العدو لا يعود عدواً في نظر من هو مُلزَمٌ بمحبّته (متى 5/ 38- 48، لو 6/ 27- 35) و"بمبادرته بالخير" (لو 6/27- 33- 35)، والاضطلاع بحاجاته الحياتية بعجل وبروح المجانيّة (لو6/ 34- 35). هذه المحبة تتوّجها الصلاة من أجل العدوّ، انسجاماً مع محبة الله الرحيمة: "أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وادعوا لمضطهديكم فتكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه يُطلِع شمسه على الأشرار والأخيار ويُنزِل غيثه على الأبرار والفجّار" (متى5/ 44- 45، لو6/ 28، 35).
وصية الله القاضية بحماية حياة الإنسان تبلغ هكذا إلى أعمق مستوى بما تفرضه من حرمة وحب لكل إنسان ولحياته. هذا هو التعليم الذي يوجّهه الرسول بولس إلى المسيحيين في روما، مرجّعاً صدى أقوال يسوع (متى 19/17- 18): "إن الوصايا التي تقول: "لا تزنِ، لا تسرق، لا تشتهِ" وسواها من الوصايا، مجتمعة في هذه الكلمة: "أحبب قريبك حبّك لنفسك". فالمحبة لا تُنزل الشرّ بالقريب، والمحبة إذاً تمام العمل بالشريعة". (روم 13/ 9- 10).
أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها" (تك1/ 28): مسؤوليات الإنسان تجاه الحياة
42- حماية الحياة وترقيتها، واحترامها ومحبتها، مهمّة وكَّلَها الله إلى كل إنسان، وقد دعاه، هو صورته الحيّة، إلى مشاركته السيادة على العالم: "وباركهم الله وقال لهم: انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وطير السماء وجميع الحيوان الدّاب على الأرض" (تك1/ 28).
هذا النص الكتابي يُظهر السلطة التي أوكلها الله إلى الإنسان في كل مداها وعمقها. وهي أملاً السيادة على الأرض وعلى كل كائن حيّ، كما يذكّرنا بذلك سفر الحكمة: "يا إله الآباء، يا رب الرحمة.. يا فاطر الإنسان بحكمتك لكي يسود على الخلائق التي كوَّنتها ويسوس العالم بالقداسة والبِر" (حك1/ 2- 3). صاحب المزامير ينوّه، هو أيضاً، بسيادة الإنسان، دليلاً على المجد والكرامة اللذين نالهما من يد الخالق" "سلّطته على أعما يديك، وأخضعت كل شيء تحت قدميه، الغنم والبقر كلها وبهائم الصحراء أيضاً، وطير السماء وسمك البحر السائر في سُبُل البحار" (مز8: 7- 9).
يتحمّل الإنسان، وقد دعاه الله إلى أن يحرث جنّة العالم ويحرسها، مسؤولية مميّزة تجاه بيئة الحياة، أي تجاه الخليقة التي جعلها الله في خدمة الإنسان وكرامته الشخصية وحياته، وذلك لا للحاضر وحسب، بل للأجيال المُقبلة أيضاً. تلك هي مسألة البيئة – انطلاقاً من المحافظة على المآوي الطبيعية لمختلف أنواع الحيوانات وأشكال الحياة ووصولاً إلى "البيئة البشرية" بمعناه الحصري (28)- التي نجد لها، في هذه الصفحة من الكتاب المقدس درساً مسلكياً على جانب من الوضوح والقوّة، يلهمنا حلولاً تراعي حرمة الحياة – وهي الخير الأعظم – وكل حياة. ولكن "السيادة التي منحها الخالق للإنسان ليست، في الحقيقة، سيادة مطلقة، ولا يسوغ أن نعزو إلى الإنسان "حرية الاستعمال حتى التمادي" والتصرف بالأشياء على هواه. فالحدّ الذي فرضه الخالق نفسه منذ بدء الخليقة والذي يُعبِّر عنه ويرمز إليه تحريم "الأكل من ثمر الشجرة" (تك2/ 16-17) يُظهر بما يكفي من الوضوح أننا، في إطار الطبيعة المرئية، خاضعون لا لقوانين بيولوجية وحسب، بل لشرائع أدبية لا يمكن خرقها بلا قصاص" (29).
43- بعض مشاركة الإنسان في سلطة الله يتجلّى أيضاً في المسؤولية المميَّزة الموكولة إليه تجاه البشريّة في معناها الخصوصي. هذه المسؤولية تبلغ شأوها في الإنجاب، عندما يهب الرجل والمرأة الحياة في الزواج، كما يذكّر بذلك المجمع الفاتيكاني الثاني: "الله نفسه هو الذي قال: "لا يحسن أن يكون الإنسان وحده"(تك2/ 18)، و"إن الخالق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى" (متى19/ 4)، وقد أراد أن يشركه إشراكاً خاصاً في عمله الخلاّق، وبارك الرجل والمرأة قائلاً: "انموا واكثروا" (تك1/ 28)" (30).
عندما يتكلّم المجمع عن "اشتراك خاص" للرجل والمرأة في "عمل الله الخلاق"، فغايته التركيز على أن إنجاب البنين إنما هو شان إنساني صميم، وعمل ديني رفيع يلزم الزوجين، بما هما "جسد واحد"، ويّتِمُّ فيه حضور الله نفسه. وقد كتبتُ في رسالتي إلى الأسر: "عندما يولد إنسان جديد من قران اثنين في الزواج، فهو يحمل معه إلى العالم صورة وشبهاً خاصاً بالله نفسه: بيولوجية الإنجاب تنطوي على سُلالية النسب. فعندما نؤكّد أن الزوجين، بصفتهما والدين، يعاونان الله الخالق في تكوين وإنجاب كائن بشري جديد، لا نشير فقط إلى قوانين البيولوجيا، بل نريد أن نؤكد خصوصاً أن الله نفسه حاضر في الأبوة والأمومة البشريتين، بطريقة تختلف عما يجري في كل عمل إنجاب "على الأرض". ولا غرو، فالله وحده هو مصدر تلك "الصورة" وذلك "المثال" اللذين هما مزيّة الإنسان، كما جرى ذلك في الخلق. فعمل الإنجاب هو مواصلة لعمل الخلق (31).
هذا ما يعلّمه، في لغة بليغة ومعبّرة، النص المقدس الذي يروي لنا صيحة الفرح من فم المرأة الأولى، "أم كل حيّ" (تك3/20). فعندما عرفت حواء ما أكرمها به الله قالت: "قد رُزِقتُ رجلاً من عند الرب!"(تك 4/1). ففي الولادة، عندما تنتقل الحياة من الوالدين إلى الولد، تنتقل أيضاً، عبر خلق النفس الخالدة، (32) صورة الله نفسه ومثاله. هذا ما يعبّر عنه مطلع "كتاب سلالة آدم" : يوم خلق الله الإنسان، على مثال الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقه وباركه وسمّاه آدم يوم خُلِقَ. وعاش آدم مئة وثلاثين سنة وولد ولداً على مثاله كصورته وسمّاه شيتاً" (تك5/ 1-3). على هذا الدور، دور المتعاونين مع الله الذي ينقل صورته إلى الخليقة الجديدة، تقوم عظمة الزوجين "المؤهَّليْن للمساهمة في محبة الخالق والمخلّص الذي يريد، بواسطتهما، أن يوسع نطاق أسرته وينميها" (33). من هذا الملحظ ينوّه الأسقف أمفيلوكيوس "بالزواج الكريم الأسمى من كل موهبة في الأرض" لأنه "أشبه بمبدع بشرية ورسام الصورة الإلهية" (34).
هكذا يصبح الرجل والمرأة المتحدان بوثاق الزواج شريكين في عمل إلهي: وذلك بأنهما، بعمل الإنجاب، يستقبلان عطية الله، ويفتحان، أمام حياة جديدة، الطريق إلى المستقبل.
ولكن مهمة استقبال الحياة وخدمتها تتخطى الرسالة المميّزة التي يضطلع بها الوالدان وتتوجه إلى الجميع، ويجب أن تظهر خصوصاً "تجاه الحياة الخاضعة، أكثر من غيرها، لظروف الضعف. المسيح نفسه يذكّرنا بذلك عندما يطالبنا بأن نحبّه ونخدمه في إخوته المبتَلين بأي ضرب من ضروب العذاب: الجياع والعطاش والغرباء والعراة والمرضى والسجناء... فما نفعله لأحد هؤلاء، إنما نفعله للمسيح نفسه (متى 25/ 31- 46).
"أنت الذي جبل كليتيّ" (مز 138/13): كرامة الطفل الذي لم يولد بعد
44- تمر الحياة البشرية بوضع كثير الهشاشة عندما تدخل العالم وعندما تخرج من الزمن لتفضي إلى الأبدية. كلام الله لا يخلو من نداءات إلى أن نحيط الحياة بالعناية والحرمة ولاسيّما حياة المرضى والعجّز. إذا لم تكن ثمة دعوات مباشرة وصريحة إلى حماية الحياة البشرية في مطلعها، ولا سيما التي لم تولد بعد، والحياة المشرفة على نهايتها، فتفسير ذلك أن مجرّد إمكان الإساءة إلى الحياة أو الاعتداء عليها أو التنكّر لها في مثل هذه الظروف غريب عن المفاهيم الدينية والثقافية عند شعب الله.
في العهد القديم كان الناس يجزعون من العقم ويعتبرونه لعنة. وأمّا كثرة الأولاد فكانوا يحسبونها نعمة من الله: "إن البنين ميراث من الرب وثمرة البطن ثواب منه (مز 126/3، 127/ 3- 4). وينضاف إلى هذا اليقين اعتبار إسرائيل ذاته شعب العهد ومدعواً إلى التكاثر تحقيقاً للوعد الذي أُبرِم لإبراهيم: "أنظر إلى السماء واحصِ الكواكب إن استطعت أن تحصيها. وقال له: هكذا يكون نسلك" (تك 15/ 5). ولكن اللافت خصوصاً، في هذا المجال، الاعتقاد بأن الحياة التي ينقلها الوالدان مصدرها الله، كما تُثْبِتُ ذلك الصفحات الكتابية الكثيرة التي تتحدّث باحترام وحب عن الحَمْل ونشوء الحياة في رحم الأم والولادة والصلة الوثيقة بين اللحظة التي تبدأ فيها الحياة وعمل الله الخلاّق.
"قبل أن أُصوِّرك في البطن عرفتُكَ، وقبل أن تخرج من الرّحم قدَّستُك..."(إر 1/ 5): وجود كل إنسان، منذ البدء، مُدْرَجٌ في تصميم الله. ويتوقف أيوب، وهو في هوَّة عذابه، على تأمل عمل الله في الطريقة المعجزة التي تمَّ بها تكوين جسده في رحم أمه، ويستمدّ من ذلك مدعاة إلى الثقة، ويعرب عن يقينه بأن لله مقصداً في حياته: "يداك جَبلتاني وصوَّرتاني بجملتي، والآن تمحقني، اذكر أنك صوّرتني مثل الطين، أفتعيدني إلى التراب؟ ألم تكن قد صبْبتني كاللبن وجمَّدتني كالجبن، وكسوتني جلداً ولحماً وحَبَكْتني بعظام وعَصَب؟ وحياة ونعمة آتيتني وحفظَتْ عنايتك روحي" (أي 10/ 8- 12). ونسمع في المزامير أيضاً نعمات تعجّب وإجلال لتدخّل الله في الحياة الناشئة في أحشاء الأم (35).
كيف يمكننا أن نتصوّر أن لحظة واحدة في هذا السياق العجيب، الذي يفضي إلى ظهور الحياة، يمكن أن تُحيَّدَ عن عمل الخالق ورعايته الحكيمة والمُحِبّة وتُتركَ عرضةً لتحكُّم الإنسان. لا شك أن مثل هذا التفكير لم يكن ليخطر على بال أمّ الإخوة السبعة التي هبّت تعلن إيمانها بالله مبدأ الحياة وضمانها منذ لحظة تكوينها، إلى جانب كونه مرتكز رجاء الحياة الجديدة من بعد الموت: "إني لست أعلم كيف نشأتم في أحشائي ولا أنا منحتكم الروح والحياة ولا أَحكمْتُ تركيب أعضائكم. على أن خالق العالم الذي جبل تكوين الإنسان وأبدع لكل شيء تكوينه سيعيد إليكم برحمته الروح والحياة، لأنكم الآن تبذلون أنفسكم في سبيل شريعته" (2مك 7/22- 32).
45- وحي العهد الجديد يُثّبت قيمة الحياة منذ نشأتها والاعتراف بها اعترافاً لا مراء فيه. فالأقوال التي تعرب بها أليصابات عن فرحها بأنها حامل، تكشف عن حبورها بالخصب وحنينها المتوثّب إلى الحياة: "هذا ما صنع الرب إليّ.... ليُزيل عن العار بين الناس"(لو 1/25). ولكن قيمة الإنسان منذ تكوينه كانت مدعاة لاحتفاء أعظم في اللقاء ما بين مريم العذراء وأليصابات وبين جنينيهما. فالطفلان هما اللذان كشفا عن بدء الزمن المسيحاني، وقد بدأت تعمل، منذ لقائهما، القوّة الفادية النابعة من حضور ابن الله بين الأنام. وقد كتب القديس أمبروسيوس في ذلك: "لقد بدأت تظهر فوراً فوائد مجيء مريم وحضور الرب.... أليصابات كانت أوّل من سمع الكلمة، وأما يوحنا فأوّل من شعر بالنعمة. الوالدة قد سمعت سماعاً بحسب الطبيعة وأمّا الولد فقد ارتكض بحسب السرّ. هي عاينت مجيء مريم وهو مجيء الرب. المرأة عاينت مجيْ المرأة، والولد مجيءَ الولد. الإمرأتان تبادلتا أقوال نعمة، وأمّا الطفلان فقد أخذا يعملان في داخلهما ويحققان سرّ الرحمة ويتقدمان بوالدتيهما في طريقهما. وأخيراً تنبأت الأمّان، بمعجزة مزدوجة، بوحي من ولديهما. الولد جذل وتهلل والأم امتلأت من الروح القدس. لم تسبق الأم طفلها إلى الامتلاء من الروح القدس، ولكن عندما امتلأ الابن من الروح القدس، أسبغه على أمه" (36).
"آمنتُ ولذلك تكلّمت: إنّي عُنّيتُ جداً" (مز 115/ 10): الحياة في أوان الشيخوخة والعذاب
46- من المغالطة التاريخية أن ننتظر من الوحي الكتابي، في شأن اللحظات الأخيرة من الحياة، إشارة صريحة إلى المعضلة الراهنة المتصلة باحترام المسنين والمرضى، أو حكماً صريحاً على المساعي الهادفة إلى استعجال نهاية الحياة بالعنف. فنحن ههنا في محيط حضاري وديني بعيد كل البعد عن التعرّض لمثل هذه المحاذير، لا بل نراه يتوسّم، في المُسِنّ وما يحمله من حكمة وخبرة، ثروةً لا تُضاهى للأسرة والمجتمع.
تتمتع الشيخوخة بهالة من الهيبة وتنعم بالإكرام (2مك 6/23) ولا يطلب الصدّيق أن يُعتَقَ من الشيخوخة وأعبائها، بل نراه بالعكس يصلّي هكذا: "أنك أنتَ رجائي أيها السيد الرب، أنتَ متّكلي منذ صبائي... وفي أيام الكِبَر أيضاً والمشيب لا تخذلْني يا الله حتى أُخبِر هذا الجيل بقدرتك والأجيال المقبلة بجبروتك (مز 70/5، 18). ويُعتبر نموذجاً للزمن المسيحاني الزمن الذي "لا يكون فيه شيخ لم يستكمل أيامه..." (أش 60/ 20).
ولكن كيف السبيل إلى أن نواجه، مع الشيخوخة، ما لا بدَّ منه من دنوّ أجَل الحياة؟ ما هو موقفنا من الموت؟ يعلم المؤمن أن حياته بين يدي الله: "الرب حظ قسمتي" (مز15/ 5)، ويقبل الموت من يده: "لا تخشَ قضاء الموت... هذا هو قضاء الرب على كل ذي جسد، لِمَ ترفض ما هو مرضاة العلي؟" (سير 41/4). فكما أن الإنسان لا يملك على الحياة، فهو لا يملك أيضاً على الموت. ففي حياته كما في موته، عليه أن يلوذ "بمرضاة العلي"، ويخضع لقصد حبّه.
وعندما يحلّ المرض بالإنسان عليه أيضاً أن يركُنَ إلى إرادة الرب ويجدّد بالله مرتكز ثقته، "هو الذي يشفي جميع أمراضه" (مز 102/3). وعندما يُغلَقُ دونه كلُّ أمل بالصحة، بحيث يُلجأ إلى القول: "أيامي كظلٍ مائلٍ وقد يبستُ كالعشب" (مز101/ 12)، حتى عندئذٍ يظل قلب المؤمن حافلاً بإيمان لا يتزعزع بقدرة الله المحيية. فالمرض لا يدفعه إلى اليأس ولا إلى إلتماس الموت، بل إلى دعاء مُفعمٍ بالرجاء: "آمنت حتى حين قلت: إن بؤسي لشديد!" (مز 115/10)، "أيها الرب إلهي إليك صرخت فشفيتَني، يا رب من مثوى الأموات أصعدتَني ومن بين الهابطين في الهاوية أحييتني" (مز 30/ 3- 4).
47- رسالة يسوع مع ما رافقها من أشفية كثيرة، دليل على أن الله يهتم أيضاً بحياة الإنسان الجسدية. فهو "طبيب الجسد والروح" (37)، أرسله الآب ليبشّر الفقراء ويجبر القلوب المنكسرة (لو4/18، أش 61/1). وقد أرسَلَ هو أيضاً تلاميذه إلى العالم ووكل إليهم رسالة يترافق فيها شفاء المرضى والبشارة بالإنجيل: "أعلنوا في الطريق أن قد اقترب ملكوت السماوات، اشفوا المرضى وأقيموا الموتى وأبرئوا البرص واطردوا الشياطين" (متى 10/7- 8، مر6/13، 16/18).
لا شك أن حياة الجسد، في حالتها الأرضية، ليست قيمة مطلقة في نظر المؤمن: فقد يُطلَب منه أن يتخلّى عنها في سبيل خير أعظم، على حدّ قول يسوع: "من يريد أن يُخلّص حياته يفقدها، وأمّا الذي يفقد حياته في سبيلي وفي سبيل البشارة فإنه يخلصها" (مر8/35). وإننا لنجد في ذلك عدداً من الشواهد في العهد الجديد. فيسوع لا يتردد في أن يبذل ذاته ويجعل من حياته تقدمة حرّة لأبيه (يو10/ 17) ولأصدقائه (يو10/ 15). وموت يوحنا المعمدان، سابق المخلّص، يشهد أيضاً أن الوجود الأرضي ليس هو الخير المطلق: فالأمانة لكلام الله أهمُّ بكثير حتى وإن كلّفت الإنسان حياته (مر6/ 17-29). وعندما حُكِمَ على اسطفانوس بأن تُنتزَع منه حياته الأرضية، لأنه كان شاهداً أميناً لقيامة الرب، نراه يتشبّه بمعلمه وينطق بكلمات صفح عن الذي يرجمونه (رسل7/ 59- 60)، مفتتحاً بذلك الطريق لجمهور لا يُحصى من الشهداء الذين تكرّمهم الكنيسة منذ مطلع تاريخها.
بيد أنه لا يحق لأحد أن يختار، على هواه، بين الموت والحياة، لأن بيد الخالق وحده مطلقية هذا الخيار، هو الذي "فيه حياتنا وحركتنا وكياننا" (رسل 17/28).
"كل من تمسّك بها (أي الشريعة) فله الحياة، (با 4/1): من شريعة سينا إلى موهبة الروح
48- إن الحياة تحضن حقيقتها منقوشة فيها نقشاً لا يزول. فالإنسان الذي يتلقّى عطية الله، عليه أن يصون الحياة طبقاً لهذه الحقيقة التي هي قوام جوهرها. وكل مَن يحيد عنها فهو يزجّ نفسه في الطريق المسدود والبلاء وما ينجم عن ذلك من أنه هو نفسه يمسي خطراً لحياة الآخرين بسبب تفجّر الحواجز التي تضمن للحياة في جميع أحوالها الاحترام والحماية.
حقيقة الحياة كشفها الله لنا في وصيّته. كلام الرب يُبيّن لنا بدقة الوجهة التي يجب على الحياة أن تتجه فيها لتظلّ في احترام حقيقتها وصون كرامتها. فليست الوصية المحددة القائلة: "لا تقتل!" (خر20/13، تث 5/17) هي التي تضمن وحدها الحياة: فشريعة الرب كلها مطوّعة لهذه الحماية، لأنها تكشف الحقيقة التي تستطيع فيها الحياة أن تصيب معناها الكامل.
لا عجب إذن أن يرتبط عهد الله مع شعبه ارتباطاً وثيقاً بفكرة الحياة حتى في مكوّناتها الجسدية. فالوصية، في نظر هذا الميثاق، هي طريق الحياة: "انظر! إني قد جعلت اليوم أمامك الحياة والخير، والموت والشر. إذا سمعت وصايا الرب إلهك التي أنا آمركَ بها اليوم، محباً الرب إلهك وسائراً في سبله وحافظاً وصاياه وفرائضه وأحكامه، تحيا وتكثر ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لترثها" (تث 30/15- 16). ليست القضية هنا قضية أرض كنعان أو شعب إسرائيل وحسب، بل قضية العالم كله، اليوم وغداً، وقضية البشرية بأسرها. والواقع أنه ليس من الممكن، ولا بوجه من الوجوه، أن تظل الحياة أصيلة وزاخرة إذا انقطعت عن الخير، والخير، هو أيضاً، مرتبط ارتباطاً أساسياً بوصايا الرب، أي "بشريعة الحياة" (سير17/ 11). فالخير الذي علينا أن نحققه لا يُضاف إلى الحياة إضافة عبء باهظ، وذلك بأن غاية الحياة هي الخير، والحياة لا تقوم إلاّ على عمل الخير.
الشريعة في مجملها هي التي تحفظ إذن حياة الإنسان حفظاً كاملاً. وفي هذا ما يفسّر صعوبة الأمانة لوصية "لا تقتل" إذا انعدم التمسك "بكلمات الحياة" الأخرى (رسل7/ 38) التي تلتحق بها هذه الوصية. بمعزلٍ عن هذه النظرة تمسي الوصية مجرّد إلزامٍ خارجي سُرعان ما يُصار إلى اكتشاف محدوديته ومعالجته بالتخفيفات والاستثناءات. عبارة "لا تقبل!" لن تستعيد وهجها بوصفها خيراً للإنسان في كل مجالاته وعلاقاته إلاّ إذا استوعبنا ملء الحقيقة في شأن الله والإنسان والتاريخ. من هذا الملحظ نستطيع أن تدرك ملْ الحقيقة المتضمنة في سفر تثنية الاشتراع، الذي يستشهد به يسوع في ردّه على التجربة الأولى: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الرب" (تث8/ 3ن متى 4/4).
الإنسان، بسماعه كلام الرب، يمكنه أن يحيا في ملء الكرامة والبر، وباتباعه شريعة الله يمكنه أن يحمل ثمار حياة وسعادة: "كل من تمسَّك بها فله الحياة والذي يهملونها يموتون" (با 4/1).
49- يبيّن لنا تاريخ إسرائيل أنه من الصعب أن يبقى الإنسان أميناً لشريعة الحياة التي نقشها الله في قلب الإنسان وأعطاها لشعب العهد في سيناء. وأمّا الذين راحوا يفتشون عن طرق أخرى تناقض مشيئة الله في شأن الحياة، فقد ذكّر الأنبياء خصوصاً تذكيراً صارماً بأن الرب وحده هو مصدر الحياة الحقيقي. وقد كتب إرميا: "إن شعبي صنع شرّين: تركوني أنا ينبوع الحياة الحية، وحفروا لأنفسهم آباراً، مشققة لا تمسك ماءً" (إر2/ 13). ويشير الأنبياء بإصبع الاتهام إلى الذين يحتقرون الحياة وينتهكون حقوق الإنسان: "يدوسون رؤوس الضعفاء على تراب الأرض"(عا2/7)، "تركوني ... وملأوا هذا المكان من دم الأبرياء" (إر 19/4). ويندّد النبي حزقيال، غير مرة بمدينة أورشليم ويسمّيها "مدينة الدماء" (حز 22/2، 6/9)، "والمدينة التي يُسفك الدم في وسطها" (حز 22/3).
ولكن الأنبياء، عندما يندّدون بالانتهاكات التي تستهدف الحياة، يتوّخون خصوصاً أن يبعثوا في النفوس ترقّب مبدأ حياة جديد قادر على أن يُرسي علاقات مجدّدة بين الإنسان والله وبين الإنسان وإخوته، ويفسح المجال لإمكانات عجيبة وخارقة لتفهّم جميع مقتضيات إنجيل الحياة ووضعها موضع التنفيذ. ولا يكون هذا ممكناً إلاّ بفضل عطية الله التي تنقّي وتجدّد: "وأرشّ عليكم ماً طاهراً، فتطهرون من كل نجاستكم، وأطهّركم من جميع قذاراتكم. وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً" (حز 36/25-26 ، إر31/31-34). مع هذا القلب الجديد، يصبح بالإمكان أن نستوعب ونحقق معنى الحياة في مضمونه الأصح والأعمق: وهو أن الحياة عطية تَكمُل في عطية الذات. وذاك هو البلاغ الساطع في شأن قيمة الحياة، النابع من صورة خادم الرب: "إذا قرّب نفسه ذبيحة إثم يرى ذريّة وتطول أيامه..... بسبب عناء نفسه يرى النور" (أش 43/10-11).
وتكمل الشريعة في سيرة يسوع الناصري والقلب الجديد الذي يأتينا من روحه. ولا غرو، فيسوع لا يلغي الشريعة بل يكمّلها (متى5/17)، ويتلخّص الناموس والأنبياء في القاعدة الذهبية، قاعدة المحبة المتبادلة (متى7/12). ففي يسوع، تغدو الشريعة نهائياً "إنجيلاً" وبشرى سيادة الله على العالم تعيد الوجود كله إلى جذوره وآفاقه الأصيلة. هي الشريعة الجديدة "شريعة الروح الذي يهب الحياة في المسيح يسوع" (روم8/2). هذه الشريعة عبارتها الأساسية بذل الذات حباً بالإخوة، على مثال الرب الذي بذل نفسه في سبيل أحبائه (يو15/13): "نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب إخوتنا" (1يو3/ 14). إنها شريعة حرية وفرح وغبطة.
"سينظرون إلى من طعنوا" (يو19/37): على شجرة الصليب يكتمل إنجيل الحياة
50- في ختام هذا الفصل الذي تفحّصنا فيه البلاغ المسيحي في شأن الحياة، أودّ أن أتوقّف مع كل واحد منكم على تأمل ذاك الذي طعنوه والذي جذب إليه البشر أجمعين. (يو19/37، 12/ 32). عندما ننظر إلى "مشهد" الصليب (لو23/48)، بوسعنا أن نكتشف في هذه الشجرة المجيدة اكتمال إنجيل الحياة كله وملء انكشافه.
في الساعات الأولى من بعد ظهر الجمعة المقدسة "انحجبت الشمس فخيّم الظلام على الأرض كلها....... وانشق ستار المقدِس من الوسط" (لو23/44-45)، وكان ذلك رمزاً لانقلاب كوني وصراع مريع بين قوة الخير وقوى الشر، بين الحياة والموت. ونحن اليوم أيضاً وسط صراع فاجع بين "حضارة الموت" و"حضارة الحياة". ولكنَّ سنى الصليب لا يحجبه هذا الديجور، لا بل نرى الصليب يظهر بنتوء ووضوح أعظم، ويبدو للتاريخ كله ولحياتنا البشرية كلها محوراً ومعنىً وهدفاً.
لقد سُمِّرَ يسوع على الصليب ورُفِعَ عن الأرض، واختَبَرَ "عجزه" في أعمق درجاته وبدت حياته عرضة لتهكّم أعدائه وفريسة بين أيدي جلاديه، فَهُزِئَ به وسُخِرَ منه واهين (مر15/ 24- 36). ومع ذلك صرخ قائد المئة الروماني، أمام هذا المشهد كلّه، وقد رآه يلفظ الروح: "كان هذا الرجل ابن الله حقاً!" (مر15/39). هكذا اعتلنت هوية ابن الله، وهو في أعمق ضعفه، وتجلّى مجده على الصليب.
لقد أنار يسوع بموته لكل إنسان معنى حياته ومعنى موته. وقد صلّى يسوع إلى أبيه، قُبَيل موته، وطلب الصفح لمضطهديه (لو23/34)، واللص الذي سأله أن يذكره في ملكوته، أجابه قائلاً: "الحقَّ أقول لك، اليوم ستكون معي في الفردوس" (لو23/34-43). وبعد موته "تفتّحت القبور، فقام كثير من أجساد القديسين الراقدين" (متى27/52). الخلاص الذي حققه يسوع هو عطية حياة وقيامة. وقد حقق يسوع الخلاص مدة وجوده على الأرض، بإجرائه الأشفية وعمل الخير للجميع (رسل 10/38). ولكن المعجزات والأشفية وإقامة الأموات نفسها ما كانت سوى علامات تؤذن بخلاصٍ آخر قوامه الصفح عن الخطايا، أي اعتاق الإنسان من مرضه الأنكد والارتقاء به إلى حياة الله بالذات.
على الصليب تجددت وتحققت، في ملء الكمال وبطريقة حاسمة، آية الحية التي رفعها موسى في البرية (يو3/14-15، عد 21/8-9). واليوم أيضاً كل إنسان مهدد في وجوده، إذا شخص بنظره إلى ذاك الذي طعنوه، وجد من راسخ رجاء ما يخوّله الحصول على نعمة التحرر والفداء.
51- ولكن هناك حدثاً معيّناً آخر يسترعي نظري ويبعث فيّ لهيب التأمل: "لمّا تناول يسوع الخلّ قال: "تمَ كل شيء"، ثم حنى رأسه وأسلم الروح"(يو19/30).
وطعنه جندي روماني "بحربة في جنبه فخرج لوقته دم وماء" (يو19/34).
كل شيء بلغ إذن إلى ذروة تمامه. فالعبارة "أسلم روحه" تصف موت يسوع شبيهاً بموت كل كائن بشري، ولكنها قد تلهم أيضاً "موهبة الروح" التي بها افتدانا من الموت وأشرع لنا الطريق إلى حياة جديدة.
لقد أُعطيَ الإنسان أن يشارك الله حياته ذاتها. هي الحياة المنقولة باستمرار، بواسطة أسرار الكنيسة التي يرمز إليها الدم والماء الخارجان من جنب المسيح إلى أبناء الله الذين يصبحون بذلك شعب العهد الجديد. فمن الصليب ينبوع الحياة يولد "شعب الحياة" وينتشر.
التأمل في الصليب يقودنا هكذا إلى أعمق جذور ما حدث. فيسوع الذي قال عند دخوله العالم: "هاأنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك" (عب10/9) أراد أن يطيع أباه في كلّ شيء. وإذ كان قد أحبّ خاصته الذين في العالم، بلغ به الحب إلى أقصى حدوده" (يو13/1) باذلاً نفسه لأجلهم بذلاً كاملاً.
وهو الذي "لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم ويفدي بنفسه جماعة الناس" (مر10/45)، بلغ، وهو على الصليب، ذروة الحب: "ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبائه" (يو15/13). وقد مات هو نفسه من أجلنا إذ كنا خاطئين (روم5/8).
هكذا أعلن يسوع أن الحياة عندما تُبذَل تبلغ شأوها ومعناها ومِلْأها. وهنا يغدو التأمل حمداً وشكراً، ويحثّنا، في الوقت نفسه، على التشبّه بيسوع والسير في خطاه (1بط2/21).
إننا مدعوون نحن أيضاً إلى أن نبذل حياتنا من أجل إخوتنا، محققين بذلك، في ملء الحقيقة، معنى وجودنا ومصيره.
وبإمكاننا أن نحقق ذلك لأنك أنت، يا رب، أعطيتنا القدوة وأوليتنا قوة روحك. بإمكاننا أن نحقق ذلك إذا أطعنا الآب، كل يوم، معك ومثلك، وعملنا بمشيئته.
أعطنا إذن أن نصغي، بقلب طيّع وسخيّ، إلى كل كلمة تخرج من فم الله، فنتعلّم هكذا ألاّ نقتل حياة الإنسان، لا بل أن نجلّها ونحبّها وندعمها.
الفصل الثالث
لا تقتل!
شريعة الله المقدسة
"إذا أردت أن تدخل الحياة، فاحفظ الوصايا" (متى 19/ 17) الإنجيل والوصية
52- "إذا برجل يدنو فيقول له: "يا معلم ماذا أعمل من صالحٍ لأنال الحياة الأبدية؟" (متى19/16)، فأجابه: "إذا أردتَ أن تدخل الحياة الأبدية فاحفظ الوصايا" (متى19/17). المعلم يتكلم عن الحياة الأبدية، أي عن الاشتراك في حياة الله نفسها. ونبلغ إلى هذه الحياة بحفظ وصايا الرب، ومن ضمنها وصية "لا تقتل". هي أولى الوصايا العشر التي يذكّر بها يسوع الشاب الذي جاء يسأله ما هي الوصايا التي عليه أن يحفظها: "فقال يسوع: "لا تقبل. لا تزنِ. لا تسرق..." (متى 19/18).
وصية الله لا تُفْصـَل أبداً عن محبة الله: إنها دوماً عطيةٌ من الله لنموّ الإنسان وابتهاجه. وهي، في حدّ ذاتها، ملمح جوهري وعنصر من عناصر الإنجيل لا يمكن التخلّي عنه! لا بل يتمثل لنا "إنجيلاً"، أي بشرى حسنة ومبهجة. إنجيل الحياة هو أيضاً عطية جزيلة من عطايا الله، وفي الوقت نفسه واجب يُلزم الإنسان. هذه الوصيّة تبعث في الإنسان الحرّ دهشاً وامتناناً وتتطلب منه أن يتقبّلها ويحفظها ويستثمرها ويعنى بها بروح المسؤولية الدقيقة: فالله عندما يهب الإنسان الحياة يُلزمه بأن يحترمها ويحبّها ويطوّرها. وهكذا تصبح العطية وصية والوصية عطية.
الإنسان هو صورة الله الحيّة وقد أراده خالقه ملكاً وسيّداً: "ولقد صنع الله الإنسان – يقول القديس غوريغوريوس النيصي – بحيث يكون أهلاً للسلطة الملكيّة على الأرض [....] الإنسان ملك أيضاً. فالطبيعة البشرية التي خُلِقَت لتسود العالم، بسبب شُبهها بملك الكون، قد صُنِعتْ صورةً حية تشارك في المثال الأعلى بالكرامة"(38). لقد دُعِي الإنسان إلى أن ينمو ويكثر ويُخضِع الأرض ويسود الخلائق الأخرى (تك1/ 28). فهو من ثم ملك وسيد لا على الأشياء وحسب بل أيضاً وخصوصاً على ذاته (39)، وبطريقة ما، على الحياة التي وُهبت له والتي يستطيع أن ينقلها بفعل الولادة، إذا تمّ في الحب واحترام قصد الله. ولكن سيادته ليست مطلقة، بل هي خدمة، وانعكاس حقيقي لسيادة الله الوحيدة واللامتناهية. ولذا، على الإنسان أن يمارس هذه السيادة بحكمة ومحبة وفي روح المشاركة في حكمة الله ومحبته اللتين لا قياس لهما.
ويتحقق هذا في الخضوع لشريعته المقدسة، خضوعاً حراً وجَذِلاً (مز 119) ينبع ويتغذّى من الشعور بأن وصايا الرب هي عطية من عطايا النعمة، عُهِد بها إلى الإنسان دوماً وأبداً لخيره ليصون بها كرامته ويسعى لسعادته.
ليس الإنسان إذن هو السيد المطلق ولا الحَكَم اللامنازع على الأشياء، وبأولى حجةً على الحياة – وعلى هذا تقوم عظمته التي لا يضاهيه فيها أحد – بل هو "في خدمة القصد الذي أقامه الخالق (40). لقد عُهد بالحياة إلى الإنسان كنزاً يجب ألا يبذّره ووزنة يجب استثمارها. وعلى الإنسان أن يؤدّي للرب عنها حساباً (متى 35/ 14- 30، لو 19/12- 27).
"من يد كل إنسانٍ أطلُبُ نفس أخيه" (تك9/5): الحياة البشرية مقدسة ولا يسوغ انتهاكها
53- "حياة الإنسان مقدّسة لأنها تفترض، منذ البدء، عمل الله الخلاّق، وتظلّ أبداً في علاقة خاصة مع الخالق، هدفها الوحيد. فالله هو سيد الحياة من بدايتها حتى نهايتها: ولا يسوغ لأحد، أياً كانت الظروف، أن يدّعي لنفسه حق القضاء مباشرة على كائن بشري بريء" (41). بهذه الكلمات تعرض وثيقة "عطية الحياة" المحتوى الأساسي لما أوحاه الله في شأن قدسيّة الحياة البشرية وحصانتها.
الواقع أن الكتاب المقدس يوجّه إلى الإنسان وصية "لا تقتل" على أنها أمرٌ إلهي. (مز30/13 تث 5/17). هذه الوصية – وقد شدّدت على ذلك – متضَمّنة في الوصايا العشر، في صميم الميثاق الذي عقده الرب مع الشعب المصطفى. ولكن هذه الوصية كانت متضمنة من قبل، في الميثاق الأصلي الذي عقده الله مع البشرية، بعد العقاب المطهّر الذي أحدثه الطوفان نتيجة لانتشار الخطيئة والعنف (تك9/ 5-6).
إن الله يعلن سيدته على حياة الإنسان الذي فطره على صورته ومثاله (تك1/ 26-27). ومن ثم فالحياة البشرية تملك طابعاً من القدسيّة والحصانة، تنعكس فيه حصانة الخالق نفسه. وعليه، فإن الله سوف يحكم حكماً شديداً على كل انتهاك لوصية "لا تقتل!"، التي أقامها الله في أساس كل تعايش في المجتمع. إنه "غوئيل" أي المدافع عن البريء (تك 4/9-15، أش 41/14، إر 50/34، مز 18/5). وهكذا يبيّن الله أيضاً أنه "لا يسرّه موت الأحياء" (حك 2/24). "كان منذ البدء مهلكاً للناس.. وكذاباً وأبُ الكذب" (يو8/44): إنه يخدع الإنسان ويسوقه إلى الخطيئة وإلى الموت مزيّناً له أنهما غاية الحياة وثمرتها.
54- وصية "لا تقتل" تملك صراحة معنىً سلبياً شديداً: فهي تبيّن الحدّ الأقصى الذي لا يمكن أن نتخطاه، ولكنها، ضمنياً، تحمل الإنسان على أن يتمسّك بموقف إيجابي من الاحترام المطلق للحياة يفضي به إلى تعزيزها والتقدم في طريق المحبة وما تقتضيه من بذل وانفتاح وخدمة. فشعب الميثاق كان قد أخذ ينضج في هذا الاتجاه، بالرغم مما تعثّر فيه من تباطؤ وتناقض، متأهّباً بذلك لما أعلنه المسيح إعلاناً سامياً من أن محبّة القريب وصية تضاهي وصية محبة الله: "بهاتين الوصيتين ترتبط الشريعة كلها والأنبياء" (متى 22/ 36-40). ويؤكد بولس "أن الوصية التي تقول...... لا تقتل...... وسواها من الوصايا تتلخص في هذه الكلمة: "أحبب قريبك حُبَك لنفسك!" (روم 13/9، غل 5/14). وصية "لا تقتل!" التي استعادتها الشريعة الجديدة وكمّلتها تظلُ شرطاً لا يمكن التخلّي عنه لدخول الحياة" (متى19/ 16-19). من هذا الملحظ أيضاً تكتسب كلمات الرسول يوحنا معنىً حاسماً: "من أبغض أخاه فهو قاتل. وأنتم تعلمون أن ما من قاتل له الحياة الأبدية فتقيم فيه" (1يو 3/15).
وصية "لا تقتل" قد ذكّر بها التقليد الحيّ في الكنيسة، منذ بزوغه، بطريقة قاطعة، كما تشهد بذلك الذيذاخيا وهي أقدم وثيقة مسيحية غير كتابية: "ثمة طريقان: طريق الحياة وطريق الموت، بيد أن البون شاسع بين الطريقين [....] إليك الآن طريق الموت: الذي لا يشفق على الفقير، ولا يعبأ ولا يؤمن بخالقه: هؤلاء يحبطون عمل الله فيصدّون المحتاج ويرهقون المظلوم، يذبّون عن الأغنياء ويحكمون ظلماً على المساكين. إنهم طغمة العصاة المزمنين! عساكم، يا أبنائي، أن تظلوا بمنأى عن كل هذا" (42).
لقد علّم التقليد الكنسي دوماً، عبر الأزمنة وبالإجماع، وصية "لا تقتل" ونادى بقيمتها المطلقة والدائمة. ونعلم أن القتل، في القرون الأولى من تاريخ الكنيسة، كان يُعدّ في لائحة الكبائر الثلاث – مع الجحود والزنى – ويستتبع عقاباً علنياً بالغ المشقة والمدة قبل أن يُمنح القاتل التائب الصفح والعودة ثانية إلى حضن الشركة الكنسيّة.
55- ولا غرابة في ذلك، فقتل الكائن البشري الذي تَمثُلُ فيه صورة الله خطيئة بالغة الخطورة. فالله وحده سيّد الحياة. ولكننا كثيراً ما نلحظ لدى الأفراد وفي المجتمع حالاتٍ مأساوية قد حملت المؤمنين منذ القِدَم على تدبّرها للبلوغ إلى تفهّم أكمل وأعمق لما تحرِّمه وصيّة الله وتأمر به (43). هناك أوضاع تبدو فيها القيم المتضمنة في الشريعة الإلهية على شيء من التناقض. تلك هي، مثلاً، حالة الدفاع المشروع عن النفس وفيها تظهر مشقة التوفيق عملياً بين حق الدفاع عن الحياة وواجب الامتناع عن إلحاق الأذى بحياة الآخرين. ومما لا شك فيه أن قيمة الحياة في ذاتها والواجب الذي يلزمنا بأن نحب نفسنا كما نحبَّ الآخرين يخوّلاننا حقاً صريحاً في أن ندافع عن نفسنا. هذه الوصية التي تفرض علينا محبّة الآخرين والتي أقرّها العهد القديم وثبّتها يسوع تفترض محبة الذات المقترنة بها: "أحبب قريبك حُبّك لنفسك" (مر12/31). لا يسوغ إذن لأحد أن يتخلّى عن حقّه في الدفاع عن نفسه انطلاقاً من زهدنا في حب الحياة أو في حب نفسنا، ولكن انطلاقاً فقط من محبة بطوليّة تُعمِّق وتُجلّي محبة الذات انسجاماً مع روح التطويبات الإنجيلية (متى5/ 38- 48) ومع روح العطاء الكامل الذي نجد له مثالاً أعلى في سيرة الرب يسوع.
من جهة ثانية قد يكون "الدفاع عن النفس لا مجرّد حقّ وحسب، بل واجب ثقيل على من يحمل مسؤولية حياة غيره أو مسؤولية الصالح العام في الأسرة أو في الوطن"(44). فقد يتفِق أحياناً، - ويا للأسف!- أن ضرورة صدّ المعتدي عن الإيذاء تفرض أحياناً التخلّص منه. في مثل هذه الحال يجب أن نعزو هذا المخرج المميت إلى المعتدي نفسه الذي عرّض له ذاته وإن اتفق له أن لا يكون مسؤولاً، أدبياً، عن عمله، بسبب قصورٍ في استعمال عقله (45).
56- من هذه الزاوية أيضاً يجب أن ننظر إلى مسالة الحكم بالإعدام التي نلحظ، في شأنها، في الكنيسة كما في المجتمع، نزعةً متنامية إلى المطالبة بتطبيقها بطريقة محدودة جداً، أو حتى بإلغائها. هذه المعضلة يجب أن نبحثها في إطار عدالة اقتصاصية أكثر انسجاماً مع كرامة الإنسان ومع إرادة الله، نهايةً، في الإنسان والمجتمع. والواقع أن ما يُنزله المجتمع من قصاص، غايته الأولى وضع حدٍ للفوضى الناجمة عن الخطأ (46). فالسلطات العامة عليها أن تواجه بالصرامة كل انتهاك للحقوق الشخصية والاجتماعية، فتنزل بالمجرم ما يعوّض به عن خطئه تعويضاً مناسباً، شرطاً للسماح له بأن يتمتع ثانية بحريته. بهذه الطريقة، تتمكن السلطة أيضاً من أن تهدف إلى صيانة النظام العام وأمن الأفراد، وأن توفّر للمذنب، في الوقت نفسه، حافزاً وعوناً للتأدب والاصطلاح (47).
للبلوغ إلى كل هذه الأهداف، لا بدَّ من أن يُقدَّر ويُحدَّد بدقة حجم العقوبة ونوعها، ولا يمكن أن يفضيا إلى الحد الأقصى بالإجهاز على المذنب إلاّ في حالة الضرورة المطلقة، عندما تتعذّر حماية المجتمع بطريقة أخرى. ولكن هذه الحالات أصبحت اليوم نادرة بل شبه معدومة، بسبب ما تحقق من تقدم فعّال في تنظيم المؤسسة الجزائية.
في كل الأحوال يبقى المبدأ المثبت في كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي الجديد صالحاً في ما ينصّ عليه من أن "الوسائل اللادمويّة إذا أفلحت في حماية الناس من شرّ المعتدي والذود عن النظام العام وأمن الأفراد، فعلى السلطة أن تكتفي بها لأنها أكثر تلبية للخير العام في ظروفه الواقعيّة، وأكثر مراعاة لكرامة الشخص البشري" (48).
57- إذا كان لا بدَّ إذن من أن نولي كلَّ حياة، حتى حياة المذنب والمعتدي الغاشم، مثل هذا الاحترام، فوصية "لا تقتل" تكتسب قيمة مطلقة عندما توصي بالبريء. ويصح هذا خصوصاً في الإنسان الضعيف والأعزل الذي لا يجد إلاّ في مطلقيَّة الوصية الإلهية حماية أكيدة تردع عنه تحكّم الآخرين واستبدادهم.
ولا غرو فالحصانة المطلقة التي تتمتع بها الحياة البشرية البريئة، قد نادى بها الكتاب المقدس، وثبت عليها التقليد الكنسي وأجمعت عليها السلطة التعليمية. هذا الإجماع هو ثمرة ثمرات "حاسة الإيمان الفائقة الطبيعة التي يوقظها الروح القدس ويسندها والتي تعصم شعب الله من الضلال وتضفي على الحقائق الإيمانية والأدبية صفة الإلزام الإجماعي"(49).
في مواجهة ما نلحظه في النفوس والمجتمع من تضاؤل الشعور بلا شرعية الإجهاز المباشر على كل حياة بشرية بريئة، ولا سيما في بدايتها أو نهايتها، وعدم الاكتراث بخطورته المطلقة، عمدت السلطة التعليمية في الكنيسة إلى تكثيف تدخلاتها للذود عن الحياة البشرية وما يميّزها من قدسية وحصانة. ولقد انضمّ دوماّ إلى السلطة التعليمية الحبرية المُلحَّة، سلطة الأساقفة وما صدر عنها من وثائق تعليمية ورعوية كثيرة وخطيرة، سواء من قبل المجالس الأسقفية أم من قبل أساقفة أفراد، علاوة على الوثيقة البليغة والمقتضبة التي صدرت عن المجمع الفاتيكاني الثاني(50).
وعليه فبالسلطة التي سلَّمها المسيح إلى بطرس وخلفائه، وبالشركة مع جميع أساقفة الكنيسة الكاثوليكية، أثبّتُ أن كل من يقتل كائناً بشرياً بريئاً قتلاً مباشراً ومتعمَّداً يرتكب خطأً فادحاً. هذه العقيدة المرتكزة على الشريعة غير المكتوبة التي يكتشفها كل إنسان في قلبه في ضوء العقل (رو2/14- 15) يرسّخها الكتاب المقدس ويتوارثها التقليد الكنسي وتُمليها السلطة التعليمية العادية والجامعة(51).
كل نيّة تتعمّد الإجهاز على حياة بشرية بريئة هي دوماً عمل سيءٌ من الناحية الأدبية، ولا يمكن قط تسويغها لا كهدف ولا كوسيلة لهدف جيّد. إنها انتهاك ثقيل للشريعة الأدبية، بل هي تمرّد على الله بالذات خالقها وحاميها. وهي تناقض فضيلتيّ العدالة والمحبة مناقضة جوهريّة: "ليس ثمة شيء ولا أحدٌ بإمكانه أن يسوّغ قتل كائن بشري بريء، أنطفةً كان أم جنيناً، طفلاً أم بالغاً، مُسنّاً أم مريضاً مزمناً أو مدنفاً. ولا يسوغ لأحد أن يطلب القبل لذاته أو لغيره من الموكولين إليه، بل لا يسوغ له أن يذعن لذلك، بطريقة صريحة أو مضمرة. وليس من سلطة يجوز لها أن تأمر بذلك أو تسوّغه" (52).
كل كائن بشري بريء يتساوى وجميع الآخرين تساوياً مطلقاً في ما يتعلّق بحقه في الحياة. هذه المساواة هي أساس كل العلاقات الاجتماعية الصحيحة التي لا يمكن أن تكون سليمة حقاً إلا إذا ارتكزت على الحقيقة والعدالة، وأقرّت لكل رجل وكل امرأة حقّهما في الحماية باعتبارهما بشراً لا متاعاً سائباً. وأما في شأن القاعدة الأدبية التي تحرّم القضاء المباشر على كائن بشري بريء "فليس من امتياز ولا استثناء لأحد". فسيّان في ذلك سيد العالم وآخر "البؤساء" على وجه الأرض: فنحن كلنا سواسية على الإطلاق تجاه الملزِمات الأدبية" (53).
"رأتني عيناك جنيناً" (مز 138/16): الإجهاض جرم شنيع
58- ما بين جميع الجنايات التي يستطيع الإنسان أن يُلحقها بالحياة يتميّز الإجهاض المتعمَّد بملامح تجعله على جانب من الخطورة النكراء. فالمجمع الفاتيكاني يصفه بأنه "هو وقتل الجنين جريمتان منكرتان" (54).
ولكن الشعور بخطورة الإجهاض أمسى اليوم في وعي الكثيرين على انحسارٍ متزايد. قبول الإجهاض في الذهنيات والسلوك وحتى في الشرع نفسه لهو دليل بليغ لما يعتري الحاسة الأدبية من أزمة خطيرة جداً، وقد أمست عجز متزايد عن التمييز بين الخير والشر، حتى في شأن الحق الأساسي في الحياة. في مواجهة وضع في مثل هذه الخطورة، يمسي في غاية الضرورة أن ننظر إلى الحقيقة كما هي، ونسمّي الأشياء بأسمائها، ولا ننقاد إلى مساومات رخيصة نضلَّل بها ذواتنا. في هذا السياق يدوّي صوت النبي مؤنباً بنبرة قاطعة: "ويل للقائلين للشر خيراً وللخير شراً، الجاعلين الظلمة نوراً والنور ظلمة" (أش 5/20). ونلحظ في حالة الإجهاض بالتحديد رواج مفردات ملتبسة "كوقف الحمل" مثلاً، ترمي إلى تمويه طبيعته الحقيقية والتخفيف من خطورته في الرأي العام. هذه الظاهرة اللغوية هي، ولا شك، دليل قلقٍ تشكو منه الضمائر. ولكن ليس ثمة كلام بوسعه أن يغيّر حقيقة الأشياء: فالإجهاض المفتعل قتل متعمَّد ومباشر، أيّاً كانت طريقته، يستهدف كائناً بشرياً لا يزال في الطور الأول من وجوده، في الفترة ما بين الحمل والإنجاب.
الإجهاض المفتعل تظهر خطورته الأدبية في كل حقيقتها إذا اعترفنا بأنه جريمة قتل، وخصوصاً إذا نظرنا إليه في الظروف الخاصة التي تميّزه. فالمقتول إنما هو كائن بشري بدأ يعيش، وهو إذن في المطلق أكثر الناس براءة، ولا يمكن أن نعدّه من المعتدين، ولا نستطيع خصوصاً أن نعدّه من المعتدين الظالمين. فهو ضعيف أعزل لا يملك حتى أوهى وسائل الدفاع، وهي ما يملكه الوليد من قدرة التوسل بالصراخ والدموع. إنه موكول كلياً إلى حماية وعناية من تحمله في أحشائها. ومع ذلك فقد يحدث أحياناً أن الأم نفسها تقرّر وتطلب التخلّص منه، بل وتنفّذه أحياناً.
صحيح أن اعتماد الإجهاض كثيراً ما يرتدي، في نظر الأم، طابعاً مأساوياً ومؤلماً، فقد يُتَّخّذ قرار التخلص من جنى الحَمْل لا لأسباب تمليها الأنانية والترغد، بل رغبة في الحرص على مصالح خطيرة كالصحة أو نوعية حياة تليق بسائر أعضاء الأسرة. وقد يُخشى أحياناً أن يولد الطفل في أوضاع تحمل على الاعتقاد بأنه خيرٌ له ألاّ يولد. ولكن هذه الأسباب وغيرها، أيّاً كان مدى خطورتها ومأساويتها، لا يمكن أن تبرَّر أبداً قتل كائن بشري بريء قتلاً متعمَّداً.
59- قرار موت الطفل الذي لم يولد بعد، لا يعود إلى الأم فقط، بل إلى عددٍ من الأشخاص حولها، أحياناً كثيرة. في طليعة هؤلاء والد الطفل الذي قد يقترف ذنباً لا عندما يدفع المرأة دفعاً صريحاً إلى الإجهاض وحسب، ولكن أيضاً عندما يشجّع قرارها بطريقة غير مباشرة فيدعها وحدها في مواجهة المعضلات الناشئة عن الحمل (55). بهذه الطريقة تبتلى الأسرة بجرح مميت وتُنتهك في طبيعة كونها شركة وفي دعوتها إلى أن تكون "حَرَم الحياة". ولا يمكننا أن نسكت أيضاً عن الدوافع الصادرة أحياناً عن المحيط العيلي الأوسع وعن الأصدقاء. وكثيراً ما تخضع المرأة لضغوط قويّة تضطَّرها نفسيّاً إلى الرضوخ للإجهاض. لا شكَّ أن المسؤولية الأدبية، في هذه الحال، تقع خصوصاً على الذين أجبروها على الإجهاض، مباشرة أو مداورة. ويقع تحت المسؤولية أيضاً الأطباء والأجهزة الصحية عندما يطوّعون للموت الكفاءات التي أحرِزت لدعم الحياة.
ولكن المسؤولية تنال أيضاً المشرّعين الذين دعموا وقرروا قوانين الإجهاض، كما تنال أيضاً مديري الأجهزة المعنيّة بتنفيذ عملية الإجهاض، على قدر تواطئهم في ذلك. ثمة أيضاً مسؤولية بذات الخطورة تشمل كل الذين ساهموا في نشر ذهنية الإباحة الجنسية وازدراء الأمومة، كما تشمل كل الذين كان عليهم أن ينهجوا – ولكنهم أحجموا! – سياسات عيليّة واجتماعية فاعلة لدعم العيل، وبخاصة العيل الكبيرة أو التي تعاني مصاعب اقتصادية وتربوية خاصة. ولا يمكننا أخيراً ألاّ نلحظ شبكة التواطؤات المتنامية الساعية إلى إشراك أجهزة دوليّة ومؤسسات وجمعيات نتاضل بانتظام لتشريع الإجهاض ونشره في العالم. بهذا المعنى، يتخطى الإجهاض مسؤولة الأفراد وما يَلحقُهم من أذى، ويكتسب بُعداً اجتماعياً واضحاً: إنه جرح خطير جداً يُلحِقُه بالمجتمع وبحضارته من يُفْترَضُ فيهم أن يكونوا بُناته وحُماته. وقد كتبتُ في "الرسالة إلى الأسر": "إننا نواجه خطراً فادحاً لا يهدّد حياة الأفراد وحسب، بل الحضارة بأسرها" (56): نواجه ما يمكن أن نصفه بأنه "بنية خطيئة" تتهدّد الحياة البشرية قبل أن تولد.
60- هناك محاولات لتبرير الإجهاض بأن ثمرة الحمل، أقلّه قبل بضعة أيام، لا يمكن أن نعتبرها حياة بشرية شخصية. ولكن في الواقع "أنه فور تلقيح البويضة، تنشأ حياة ليست حياة الأب ولا حياة الأم، بل هي حياة كائن بشري جديد ينمو لذاته. ولن يكون هذا الكائن بشرياً إذا لم يُحسب كذلك منذ اللحظة الأولى. هذه الحقيقة البديهية الموروثة منذ القدم [....] قد أضفى عليها العلم الوراثي الحديث إثباتات قيّمة. فلقد بيّن هذا العلم أنه، منذ اللحظة الأولى، يرتسم برنامج ما سيكون هذا الحي. بشخصه وفرديته وميّزاته المحددة. فمنذ لحظة التلقيح تبدأ مغامرة حياة بشرية، كلّ طاقة من طاقاتها الكبرى تقتضي ردحاً من الزمن لتتكوَّن وتعمل"(57). حتى وإن لم يكن بالإمكان أن نلمس بوسيلة اختبارية وجود نفس روحية، إلاّ أن نتائج العلم في شأن الجنين البشري تزوّدنا بدلائل قيّمة للتثبُّت علمياً من وجود شخصي، مع أول بزوغ حياة بشرية: فكيف يمكن ألاّ يكون فرد بشري شخصاً بشرياً"؟(58).
وعلى كلٍّ، فالرهان هو من الأهمية بحيث يكفي، من وجهة الإلزام الأدبي، أن يكون هناك مجرّد احتمال وجود كائن بشري لتبرير أقصى الامتناع عن كل تدخّل يفضي إلى قتل الجنين البشري. ولهذا السبب بالذات، وبقطع النظر عن المباحثات العلمية – وحتى عن التأكيدات الفلسفيّة التي لم تَخُض فيها السلطة التعليمية الكنيسة خوضاً صريحاً – نرى أن الكنيسة قد علّمَت دوماً ولا تزال تعلّم أن ثمرة الإنجاب البشري يجب أن تتمتع منذ أول لحظة وجودها بالاحترام المطلق المفروض أدبياً للكائن البشري في جملته ووحدته الجسدية والروحية: "الكائن البشري يجب أن يُحتَرم ويُعامَل معاملة الشخص الإنساني منذ لحظة الحبل به، ويجب، من ثم، أن يُعترف له، منذ تلك اللحظة، بالحقوق التي يتمتع بها الإنسان، وفي طليعتها ما ينعم به كل كائن بشري من حق في الحياة لا يمكن انتهاكه". (59).
61- نصوص الكتاب المقدس لا تتكلم أبداً عن الإجهاض المتعمَّد، وبالتالي لا تتضمن أحكاماً مباشرة ومميزة في هذا الشأن، ولكنها تتضمن من عمق الاحترام للجنين في رحم أمِّه ما يفرض ضرورة الاستنتاج منطقياً أن وصية الله "لا تقتل" تشمله هو أيضاً.
الحياة البشرية مقدسة وحصينة في كل أطوار وجودها حتى في الفترة الأولى التي تسبق الولادة. فالإنسان منذ وجوده في رحم أمِّه هو مِلكٌ لله الذي يفحص كل شيء ويعرف كل شيء، والذي كوَّنه وصنعه بيديه ويراه وهو لا يزال نطفةً صغيرة لا شكل لها، ويتوسّم فيها إنسان الغد المعدودة أيامه والمدوّنة دعوته في "سفر الحياة" (مز 138/ 1، 13- 16). هنا أيضاً، عندما يكون الإنسان لا يزال في حشا أمّه – كما تشهد بذلك نصوص كتابية كثيرة –(60) نراه موضوع عناية الله المفعمة حباً أبويّاً.
منذ الأزمنة الغابرة وحتى اليوم – كما يتضح ذلك في البيان الذي نشره، في هذا الشأن، مجمع عقيدة الإيمان –(61) التقليد المسيحي صريح ومُجْمِعٌ على وصف الإجهاض بأنه خلل أدبيّ بالغ الخطورة. فمنذ أن اصطدمت الجماعة المسيحية الأولى بالعالم اليونان – الروماني حيث كان الإجهاض وقتل الأطفال من الممارسات المألوفة، تصدّت جذرياً، عقيدةً وسلوكاً، للعادات الرائجة في ذلك المجتمع، كما يشهد بذلك كتاب "الذيذاخيا" الذي ذكرناه آنفاً(62). ويذكّر أتيناغوروس، وهو من الكتّاب الكنسيين في العالم اليوناني، أن المسيحيين كانوا يُدخِلون في عِداد القتلة النساء اللواتي يعمدن إلى الوسائل المانعة للحمل، لأن "الله يعنى بالأولاد" (63) وإن كانوا لا يزالون في بطن أمّهم. ويؤكد ترتوليانوس، وهو من الكتّاب اللاتين: "إنه قبل مُسْبَق أن نمنع الولد من أن يولد، وسيّان أن نستأصل النفس المولودة أو أن ندمّرها في لحظة الولادة. فإن إنسان ذاك العتيد أن يكون إنساناً" (64).
هذه العقيدة ذاتها عبر تاريخا الألفي الثاني، قد علّمها دوماً آباء الكنيسة والرعاة والملافنة. وحتى الجدل العلمي والفلسفي في شأن اللحظة المحددة التي تحلُّ فيها النفس لم يخامره أقلَّ تردد في الحكم الأدبي على الإجهاض.
62- منذ أمدٍ عير بعيد، عادت السلطة التعليمية الحبرية إلى المناداة، بكثير من الحزم، بهذه العقيدة. ونخص بالذكر البابا بيوس الحادي عشر الذي دحض في رسالته العامة: "الأزواج الأعفة" ما هنالك من مزاعم لتبرير الإجهاض (65). وقد حرّم البابا بيوس الثاني عشر كل إجهاض مباشر، أي كل فعل يرمي مباشرة إلى تدمير الحياة البشرية، قبل ولادتها، "سواء اعتُبِر هذا الفعل هدفاً أم مجرّد وسيلة لنيل الهدف" (66). وقد عاد البابا يوحنا الثالث والعشرون إلى التأكيد أن الحياة البشرية مقدّسة، وذلك بأنها، منذ البداية، تقتضي عمل الله الخلاق" (67). وأما المجمع الفاتيكاني الثاني فقد جرم الإجهاض – كما ذكرنا بذلك آنفاً – بحزم شديد: "يجب أن نصون الحياة منذ لحظة الحمل، بأقصى قدر من العناية: فالإجهاض وقتل الأطفال كلاهما جريمة نكراء" (68).
منذ القرون الأولى فرض الحق القانوني الكنسي عقوبات جزائية على الذين كانوا يتلطّخون بخطيئة الإجهاض، وقد ثبتت هذه الممارسة، في مختلف حقب التاريخ، على فرض عقوبات تتفاوت في الخطورة. وقد أمر الحق القانوني الصادر سنة 1917 بإنزال الحرم على مرتكبي الإجهاض (69). وينضمّ الحق القانوني المجدّد إلى هذا الخط نفسه عندما يصرِّح بأن "من يرتكب إجهاضاً مكتملاً يُعاقَب بالحرم الفوري (70)، ويُنزِل الحرم بكل الذي يرتكبون هذه الجريمة وهم على علم بالعقوبة المستوجبة، ومن ضمنهم الشركاء الذين لولاهم لما أُنجِزت الجريمة (71). فالكنيسة، إذ تُثَبِّت هذه العقوبة، تَصِف هذه الجريمة بأنها من أبهظ الجرائم وأخطرها وتدفع الذين يرتكبونها إلى الاهتداء ثانية إلى طريق التوبة. وذلك بأن الحُرم في الكنيسة يهدف إلى توعية الإنسان توعية كاملة لخطورة بعض الخطايا الخاصة، وتأهيبه لما يوافقه من هداية وندامة.
بإزاء مثل هذا الإجماع في التقليد الكنسي، عقيدةً ومسلكاً، استطاع البابا بولس السادس أن يصرّح بأن هذا التعليم لم يتغيّر البتّة وأنه غير قابل للتغيير (72). ولذا، بالسلطة التي أولاها المسيح بطرس وخلفاءه، وبالشركة مع الأساقفة – الذين جرَّموا الإجهاض غير مرّة وأجابوا على الاستفتاء الذي أتينا على ذكره سابقاً، وهم موزّعون في كل أنحاء العالم، وأعربوا بالإجماع عن موافقتهم على هذا المعتقد – أُعْلِنُ أن الإجهاض المباشر المتوخَّى غايةً أو وسيلة، هو دائماً خلل أدبي باهظ، بصفته قتلاً متعمَّداً لكائن بشري بريء. هذه العقيدة ترتكز على الشريعة الطبيعية وعلى كلام الله المكتوب، وقد ورثناها عن طريق التقليد الكنسي وتُعلِّمها السلطة الكنسية العادية والجامعة (73).
ليس ثمة ظرف أو غاية أو قانون في العالم بإمكانه أن يسوّغ عملاً لا شرعياً في ذاته بسبب منافاته لشريعة الله المكتوبة في قلب كل إنسان والتي يميّزها العقل وتعلنها الكنيسة.
63- تقييم الإجهاض أدبياً يجب أن يُطبَّق أيضاً على أساليب التدخّل الحديثة الجارية على الأجنَّة البشرية. هذه الأساليب تفترض القتل حتماً وإن توخَّت أهدافاً شرعية في حد ذاتها. تلك هي الحال في تسليط الاختبار على الأجنّة، وقد بدأ يشيع، أكثر فأكثر في مجال البحث الأحيائي – الطبي وأمسى مُشرّعاً في بعض البلدان. "إذا كان لا بدَّ من تسويغ عمليات التدخّل في الجنين البشري بشرط أن تُحتَرَم حياة الجنين وكموليَّته وألاّ تجرَّ عليه أخطاراً محرجة بل تتوخّى له الشفاء وتحسين أحواله الصحية وبقاءه على قيد الحياة" (74)، بيد أنه يجب التأكيد أن وضع الأجنَّة والنُطَف البشرية موضع الاختبار جريمة تمسّ كرامتها بصفتها كائنات بشرية يحق لها من الاحترام ما يتوجب للطفل المولود ولكل شخص (75).
نفس هذه الإدانة الأدبية تشمل أيضاً طريقة استغلال الأجنَّة أو النُطَف البشرية الحية – التي تُنتَج أحياناً لهذا الغرض بالتحديد، بواسطة التلقيح المخبري – إمّا "كمادة بيولوجية" للاستعمال وإمّا كمصدر أعضاء أو أنسجة للزرع في علاج بعض الأمراض. والحقيقة أن قتل كائنات بريئة، وإن آل ذلك لمنفعة الغير، هو من قبيل الأفعال المرفوضة على الإطلاق.
تقييمنا الأدبي لتقنيات التشخيص السابق للولادة يجب أن نعيره انتباهاً خاصاً، وذلك بأنها تُظهِر بوضوح وبطريقة مبكّرة ما قد يشكو منه الجنين من عللٍ محتملة. هذا التقييم يجب أن يتم بكثير من العناية والدقّة بسبب ما تتميّز به تلك التقنيات من تعقّد. هذه التقنيّات مشروعة أدبياً إذا لم يرافقها أخطار محرجة تهدِّد الولد أو الأم وإذا كانت الغاية منها إمكان القيام بعلاج مبكّر أو المساعدة في تقبّل الولد المشرف على الولادة تقبّلاً هادئاّ وواعياّ. ولكن بما أن إمكانات العناية بالطفل قبل الولادة لا تزال، حتى اليوم، قليلة فقد تُستعمل هذه التقنيات أحساناً كثيرة لأغراض جِناسيّة تقبل الإجهاض الانتقائي لتحول دون ولادة أطفال يشكون من عللٍ مختلفة. هذه الذَِهنيّة تدعو إلى الخجل وتستحق التأنيب دائماً لأنها تدّعي قياس قيمة الحياة البشرية بمقاييس "الصحة" والرفاه الجسدي وحسب، مفسحة الطريق إلى تشريع قتل الأطفال والقتل الرحيم.
ولكن الحقيقة أن ثمة عدداً كبيراً من إخوتنا المصابين بأمراض ثقيلة يقضون حياتهم في الشجاعة والطمأنينة إذا نالوا منا ما يحقّ لهم من رضىً ومحبة، وهم يؤدّون بذلك شهادة بليغة للقيم الحقيقية التي تميّز الحياة وتجعلها نفيسة للذات وللآخرين حتى في الظروف الصعبة. إن الكنيسة هي إلى جانب الأزواج الذين يتقبّلون، وإن بكثير من القلق والألم، الأولاد المصابين بإعاقات خطيرة، وهي تشكر أيضاً لكل العيّل ما تقوم به بالتبّني من استقبال الأولاد الذين تخلّى عنهم ذووهم بسبب ما يشكون منه من عِلل وأمراض.
"أنا أُميت وأُحيي" (تث 32/39): مأساة القتل الرحيم
64- في غروب الحياة يجدُ الإنسان نفسه في مواجهة سرّ الموت. ولكن بسبب تقدّم الطب وفي محيط ثقافي مغلق غالباً دون الله، تتميّز خبرة الموت، في أيامنا، ببعض الملامح الجديدة. فعندما تُرجَّح نزعة الإنسان إلى الانصراف عن تذّوق الحياة إلاّ بمقدار ما يستلذّ بها ويرغد، يظهر العذاب بمظهر الفشل الذي لا يُطاق، والذي لا بدّ من الانعتاق منه بأي ثمن. فالموت الذي يُعتبر "لُغزاً" منكراً إذا أوقف فجأة مجرى حياة لا تزال مُطِلّةً على مستقبلٍ حافل باختبارات شيّقة، يمسي بالعكس "انعتاقاً يُطالَبُ به عندما يُعتَبر الوجود مجرّداً من كل معنى إذا استُغرق في الألم وحُكِمَ عليه حُكماً مبرماً بعذاباتٍ تزداد كل يوم حدَّة وتبريحاً.
ثم إن الإنسان عندما يرفض أو ينسى علاقته الأساسية بالله يتوهّم أنه أصبح هو ذاته معياراً ومقياساً لذاته، ويرى أنه يحقّ له أن يطالِب المجتمع بأن يضمن له الإمكان والوسائل ليقرّر مصير حياته، في ملء الاستقلالية. إنسان البلاد المتطوّرة هو الذي يتميّز بهذا التصرف خصوصاً، وذلك بسبب ما يراه من تقدّم مستمر في مجالات الطب وتقنياته المتطوّرة. فالعلم والممارسة الطبيّة، بما يستخدمانه من أساليب وآلات متطوّرة، قد أصبح بإمكانهما الآن أن يعالجا أمراضاً كانت تعتبر من قبل مستعصية، ويفلحا في تخفيف الألم أو إزالته، وأصبح بإمكانهما أيضاً إبقاء المرضى في قيد الحياة وتطويل أعمارهم حتى في حالات الضعف الشديد، وإحيائهم اصطناعياً بعد أن أصيبت وظائفهم البيولوجية الأساسية بعللٍ فجائية، والعمل على تأهيب أعضاء عليلة لعملية الزرع.
في هذا السياق تمسي تجربة القتل الرحيم على مزيد من الإغراء، وهي تجربة التحكّم بالموت وإحداثه قبل الأوان، فيضع الإنسان هكذا، بطريقة وئيدة، حدّاً لحياته أو لحياة الغير. هذا الموقف قد يبدو منطقياً وإنسانياً، ولكنه يتضح، في الحقيقة، لا معقولاً ولا إنسانياً، إذا توغّلنا في تمحيصه. فنحن ههنا بإزاء مظهر من أرهب مظاهر "حضارة الموت" التي تتوغل خصوصاً في المجتمعات المترَفَة المطبوعة بطابع الذهنية المنفعيّة والتي باتت تستثقل وتستفدح زيادة عدد المسنين والمعاقين. هؤلاء يعيشون، في معظم الأحيان، بمعزلٍ عن عِيَلِهم وعن المجتمع الذي بدأ ينتظم بحيث لا يعبأ تقريباً إلاّ يمقاييس الفعالية الإنتاجية، فتمسي الحياة بلا معنى إذا أصابها عجز لا شفاء منه.
65- لا بدّ أوّلاً من أن نحدد بوضوح معنى القتل الرحيم قبل أن نحكم عليه حكماً أدبياً صحيحاً. فالقتل الرحيم، بمعناه الحصري، هو كل عمل أو كل إهمال يؤدّي إلى الموت، بذاته أو بالنيّة، بهدف إلغاء كل ألم. "فالقتل الرحيم يوزن إذن بميزان النوايا وميزان الوسائل المستعملة" (76).
يجب أن نميّز بين القتل الرحيم وقرار العدول عمّا يسمّى "بالمعالجة العنيدة"، أي عن بعض الإجراءات الطبّية التي لم تعد تناسب وضع المريض الحقيقي، لأنها أمست على غير نسبة مع النتائج المرجوّة، أو لأنها أمست عبئاً باهظاً على المريض وعلى أسرته. في هذه الأحوال، عندما يصبح الموت وشيكاً لا مفرَّ منه، بالإمكان ضميرياً الإقلاع عن علاجات لا تؤدي إلا إلى مهلة حياة هشّة وشاقة، ولكن من غير أن تُوقَف العلاجات العادية التي تحق للمريض في مثل هذه الحال" (77). من الثابت أن الإنسان ملزم أدبياً بأن يتعالج ويلقى العلاج من غيره، ولكنَّ هذا الإلزام يجب أن يُقارن بالواقع في أوضاعه الراهنة، فيُنظَر إلى الوسائل العلاجيّة المتوفرة هل تتناسب وما هنالك من أمل في التحسن. التخلي عن العلاجات الخارقة واللامتناسبة، بل يعبّر عن الخضوع للوضع البشري تجاه الموت(78).
إن ما يُسمى "بالعلاجات المخففة" يكتسب في حالة الطب المعاصر أهمية خاصة. هذه العلاجات هدفها التخفيف من الوجع في الطور الأخير من المرض وتوفير ما يحتاج إليه المريض من مرافقة ومساندة. في هذا الإطار تُطرَح، في جملة المسائل المطروحة، شرعيّة اللجوء إلى المخدرات والمسكنات الهادفة إلى التخفيف من أوجاع المريض. بالإمكان، ولا شك، أن نخصّ بالثناء من يرضى طوعاً بالألم، ويتخلّى عن استعمال المسكّنات ليظل في تمام وعيه أو، إذا كان مؤمناً، ليشارك بطريقة واعية في آلام الرب. ولكن مثل هذا التصرف "البطولي" لا يمكن اعتباره ملزماً للجميع. لقد أعلن البابا بيوس الثاني عشر شرعية لجم الألم بواسطة المنوّمات، حتى وإن أدَّى ذلك إلى تخفيف الوعي وتقصير الحياة، "إذا لم تكن هناك وسائل أخرى أو إذا لم يَحُلْ ذلك، في الظروف الراهنة، دون القيام بواجبات أخرى دينية أو أدبية" (79). في هذه الحال، لا يكون الموت هدفاً مطلوباً أو مقصوداً، وإن كان هناك خطر التعرّض للموت لأسباب معقولة: فليس ثمة سوى مجرّد الرغبة في التخفيف من الألم بالركون إلى المسكّنات التي بإمكان الطب أن يتصرف بها. ولكن "يجب ألاّ يُحرَم المُدنِف، إلاّ لأسباب قاهرة، أن ينعم بوعيه": (80) فعند دنوّ الأجل يجب أن يكون الناس على أهبة القيام بواجباتهم الأدبية والعيليّة، وعليهم خصوصاً أن يستعدّوا، بكامل وعيهم، لمواجهة الله مواجهة حاسمة.
بعد هذه الملاحظات التي أَدْلَيْتُ بها بالتوافق مع تعليم أسلافي (81)، وبالشركة مع أساقفة الكنيسة الكاثوليكية، أؤكد أن القتل الرحيم هو انتهاك خطير لشريعة الله، بصفته قتلاً متعمَّداً لشخص بشري، مرفوضاً أدبياً. هذه العقيدة ترتكز على الشريعة الطبيعية وعلى كلام الله المكتوب، وهي متوارثة في التقليد الكنسي وتُعلّمها السلطة الكنسية العادية والشاملة (82).
مثل هذا العمل يتضمّن، حسب الظروف، نفس ما يتميّز به الانتحار والقتل من قبحٍ وشرّ.
66- والواقع أن الانتحار مرفوض أدبياً بنفس صفة القتل. ولقد تنكّرت له الكنيسة واعتبرته شرّاً باهظاً (83). هناك، ولا شك، ظروف نفسيّة وثقافية واجتماعية قد تدفع إلى ارتكاب فعل ينافي منافاة جذريّة ما يكنَّه كل إنسان من ميل طبيعي إلى الحياة، وتؤدي من ثم إلى تخفيف المسؤولية الشخصية أو إلغائها، إلاّ أن الانتحار، من الوجهة الموضوعية، هو خطيئة باهظة لأنه يفترض رفض محبة الإنسان لذاته والتخلّي عن واجبات العدالة والمحبة تجاه القريب، وتجاه الجماعات المختلفة التي ينتسب إليها، وتجاه المجتمع في جملته (84). الانتحار، في مبدئه الصميم، إنما هو رفض لسيادة الله المطلقة على الحياة والموت كما نادى بها قديماً حكيم إسرائيل في دعائه: "لأن لك سلطان الحياة والموت فتُحدِر إلى أبواب الجحيم وتُصعِد" (حك 16/13، طو13/12).
مشاركة شخص آخر في نيّته الانتحاريّة ومساعدته في تنفيذها، وهو ما يسمى بالمساعدة في الانتحار، معناه التواطؤ وأحياناً الضلوع المباشر بفعلةٍ لا يمكن قط تبريرها وإن جاء ذلك استجابة لطلب. وقد كتب القديس أوغسطينوس، في هذا الشأن، كلاماً مذهلاً تخاله موجهاً إلى أهل زماننا: "لا يحلٌّ أبداً أن يُقتَلَ إنسان آخر حتى وإن أراد ذلك، حتى وإن طلب ذلك لأنه معلَّق بين الحياة والموت ويتوسّل أن يُساعَد في إعتاق نفسه المجاهدة ضد قيود الجسد ويرغب في التخلّص منها، لا يحلُّ ذلك حتى وإن لم يعد المريض قادراً على العيش" (85). حتى وإن لم يكن السبب هو الرفض الأناني لتحمّل أعباء حياة المريض المتألّم، يجب القول في القتل الرحيم إنه ضرب من الشفقة الزائفة، لا بل إنه "انحراف" مقلق لمعنى الشفقة: ولا غرو "فالرحمة" الحقيقية تقوم على التضامن مع عذاب الغير، ولكنها لا تميت من لا نقوى على تحمل عذابه. ويعظم شر هذه الفعلة بمقدار ما تصدر عمّن يُفترض فيهم – كأفراد الأسرة – أن يُسعِفوا قريبهم بصبر ومحبة، أو عمّن هم بحكم وظيفتهم – كالأطباء – مُلزمون بمعالجة المريض حتى في الظروف الصعبة التي يشرف فيها على نهاية حياته.
ويمسي اللجوء إلى القتل الرحيم أشد خطورة عندما يمارسه آخرون في حق إنسانٍ لم يطلب منهم ذلك البتّة، ولم يوافق قط عليه. وأمّا ذروة التحكّم والظلم ففي ما يدَّعيه البعض، من أطباء ومشترعين، من سلطة التقرير في من يجب أن يعيش ومن يجب أن يموت. وفي ذلك تكرار لما تعرَّض له الإنسان الأول من إغراء في جنّة عدن: أن يكون، على غرار الله، "عارفاً للخير والشر" (تك3/5). ولكن لله وحده سلطان الحياة والموت: "أنا أُميت وأحيي" (تث 32/39، مل 5/7، 1مل2/ 6). ويستعمل الله هذا السلطان بوحي من حكمته وحبه، ليس إلاّ. وعندما ينتحل الإنسان هذا السلطان، بدافع من الغباوة والأنانية، فهو يفضي حتماً إلى الظلم والموت، فتمسي حياة الضعيف بين يدي القوي، ويفقد المجتمع معنى العدالة، وتتآكل في جذوره الثقة المتبادلة ركيزة كل علاقة حقيقية بين الناس.
67- هذا الطريق ليس هو، طريق المحبة الحقيقية والشفقة الحقيقية الذي تتلمّسه طبيعتنا البشرية المشتركة والذي يُنيره إيماننا بالمسيح الفادي الذي مات وقام، بأنوارٍ جديدة. إن ما يصعد من قلب الإنسان في مواجهته الأخيرة للعذاب والموت، وخصوصاً عندما ينطوي على ذاته في اليأس ويكاد يتلاشى فيه، إنما هو أولاً التماس من يرافقه ويؤازره ويُسعفه في محنته. إنه استغاثة ليستمر في الأمل، عندما تتلاشى الآمال البشرية. وهذا ما يذكّرنا به المجمع الفاتيكاني الثاني بقوله: "أمام الموت يبلغ لغز الوضع البشري ذروته في نظر الإنسان وهو بحكم وحي صحيح من قلبه يستنكر ويتأبى الإنهيار الكامل والفشل الذريع في شخصه الإنساني. إن زرع الخلود الذي يحمله في ذاته والذي لا ينتهي في المادة، يتمرّد على الموت" (86).
هذا النفور الفطري من الموت وبذار رجاء الخلود يستنيران ويكملان في الإيمان المسيحي الذي يعدنا ويخوّلنا الاشتراك في غلبة المسيح القائم، غلبة من بموته الفادي أعتق الإنسان من الموت جزية الخطيئة (روم 6/23)، ووهبه الروح عربون قيامة وحياة (روم 8/11). يقين الخلود المرتقب ورجاء القيامة الموعودة يلقيان على سر العذاب والموت ضوءاً جديداً، ويضعان في قلب المؤمن قوة خارقة تمكّنه من الاستسلام لإرادة الله.
وقد أعرب الرسول بولس عن هذه النظرة الجديدة في صيغةٍ من الانتماء الجذري إلى الرب تشمل الإنسان في كل ظروفه: "ما من أحد منا يحيا لنفسه، وما من أحد يموت لنفسه فإذا حيينا فللرب نحيا وإذا متنا فللرب نموت: سواء حيينا أم متنا فإنّا للرب!". (روم 14/7- 8) فأن نموت للرب مفاده أن نجعل من موتنا أسمى عمل طاعة للآب (فيل2/8)، فنُرحِّب به في "الساعة" التي يريدها ويختارها الله (يو 13/1) الذي يستطيع وحده أن يحدّد متى ينتهي شوطنا الأرضي. أن نحيا للرب مفاده أن نعترف أيضاً بأن العذاب، وإن ظلَّ في ذاته شراً ومحنة، يمكن أن يصبح دائماً مصدر خير. وإنما يصبح العذاب خيراً إذا احتملناه في حب وبحب، مشاركة في عذاب المسيح المصلوب نفسه، وذلك بعطيّة من الله واختيار شخصي حرّ. هكذا من يحتمل عذابه في الرب يزيد تشبّهاً به (فيل 3/10، 1بط 2/21) ويشترك اشتراكاً حميماً في عمله الفدائي في سبيل الكنيسة والبشرية (87). تلك هي خبرة الرسول التي يُدعى كل إنسان متألم إلى اعتناقها: "يسرني الآن ما أُعاني لأجلكم، فأُتِمُّ في جسدي ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (قول 1/24).
"الله أحقّ بالطاعة من الناس" (رسل5/29): الشرع المدني والشرع الأدبي
68- من الملامح التي تُميّز الاعتداءات على الحياة البشرية، في أيامنا – وقد ذكرنا ذلك آنفاً غير مرة – النزعة إلى المطالبة بتشريعها القانوني، وكأنها حقوق، على الدولة أن تعترف بها للمواطنين، أقلّه تحت بعض الشروط. وهي، من ثم أيضاً، النزعة إلى ادّعاء ممارسة هذه الحقوق بمساعدة مضمونة ومجانيّة من الأطباء وأجهزة الصحة العامة.
ومن المزاعم المتواترة أن حياة من لم يولد بعد أو المُصاب بإعاقة خطيرة ليس لها سوى اعتبار نسبي: فبِحُكم منطق النسبيات أو مجرّد الحسابات، يجب أن تُقارَن بقيم أخرى وتقاس بمقياس هذه المقارنة. ويُعتبر أيضاُ أن المحكوم بوضع معيّن والمتورّط به شخصياً هو وحده المؤهَّل لأن يروز هذه القيم بصورة سليمة. وينجم عن ذلك أنه يحق له وحده أن يحدّد أدبيّة قراره. وعلى الدولة من ثَمّّ، حرصاً على التعايش المدني والتناغم الاجتماعي، أن تحترم هذا القرار، إلى حدّ القبول بالإجهاض والقتل الرحيم.
في ظروف أخرى يُعتبر الشرع المدني عاجزاً عن أن يُلزم جميع المواطنين بأن يمارسوا مستوى من الأخلاق أرقى مما يقبلون ويتقيدون به. في مثل هذه الظروف لا بدّ للشرع من أن يعكس دوماً رأي الأكثرية وإرادتها، ويُقرّ لها، أقلّه في بعض الأحوال القصوى، بحق الإجهاص والقتل الرحيم. وعلى كل فمواجهة الإجهاض بالتحريم والتغريم في هذه الأحوال يفضي، بلا محالة – على حدّ زعمهم – إلى تفاقم عدد الممارسات اللاشرعية التي لا تعود خاضعة، من جهة أخرى للرقابة الاجتماعية اللازمة، وتتمُّ بمعزلٍ عن الضمانة الضرورية التي تشرف عليها أجهزة الإسعاف الطبي. وهناك تساؤل إضافي: ألاّ يؤدّي الدفاع عن قانون لا يمكن تطبيقه عملياً في آخر المطاف، إلى نسف جميع القوانين الأخرى؟
أمّا الآراء المغرقة في التشدّد، فتخلص إلى التأكيد على أن المجتمع المعاصر والتعددي يجب أن يُقر لكل فرد بأن يتصرف بحياته وحياة الطفل الذي لي يولَد بعد، بملء الحرية والاستقلالية، وذلك بأن الخيار بين مختلف الآراء الأدبية، في نظرهم، لي ملك الشرع، وليس بإمكان هذا الشرع أن يدّعي فرض خيارٍ ولا يعبأ بالخيارات الأخرى.
69- ونجد، في كل حال، في الحضارة الديمقراطية المعاصرة، رأياً شائعاً على نطاق واسع، أن النظام القانوني، في مجتمع ما، يجب أن يكتفي بتدوين آراء الأكثرية وقبولها، وعليه بالتالي ألا يرتكز إلاّ على ما تقول به الأكثرية وتعتبره شرعياً. فإذا رأى المجتمع أن ثمة حقيقة شائعة وموضوعيّة ولكنها صعبة المنال، فاحترام حرية المواطنين – الذين يعتبرهم الحكم الديمقراطي أسياد الموقف – يقضي باعتراف الدولة، على صعيد الاشتراع، باستقلالية الضمير الفردي. وعلى الدولة، من ثم، ألاّ تتقيّد إلاّ بإرادة الأكثرية، أيا كانت، عندما تَسنُّ القواعد التي لا بدّ منها، في كل حال، للتعايش ضمن المجتمع. من هنا أن كل رجل سياسي عليه أن يميّز جيداً، في عمله، بين نطاق الضمير الفردي ونطاق العمل السياسي.
نلحظ إذن نزعتين متناقضتين، في الظاهر، كل التناقض. فمن جهة يطالب الأفراد لذواتهم بأكبر قدر ممكن من الاستقلالية الأدبية في الخيار، ويطلبون من الدولة ألاّ تتبنّى وألاّ تفرض أي نظرية أخلاقية، بل أن تقصُر همها على أن تضمن لكل فرد أوسع مدىً ممكن من الحرية، على ألاّ يحدّه، في الممارسة الخارجية، إلاّ منع التعدّي على حيّز الاستقلالية الذي يحق أيضاً لكل مواطن آخر. ومن جهة أخرى، في ممارسة الوظائف العامة والمهنية، يُعتبر أن احترام حرية الخيار لدى الغير يفرض على كل فرد أن يُقلع عن يقينيّاته الخاصة لينحاز لكل طلب من المواطنين يحظى باعتراف القوانين وحمايتها، وألاّ يعتمد في ممارسة وظائفه، من المقاييس الأخلاقية، إلاّ ما تحدّده تلك القوانين. في هذه الأحوال، تنتقل المسؤولية الشخصية إلى الشرع المدني مع ما يفترضه ذلك من التنازل عن الضمير الأدبي، أقلّه في نطاق العمل الحكومي.
70- كل هذه النزعات لها جذورها المشتركة في النسبويّة الأخلاقية التي يتميّز بها حيّز كبير من الثقافة المعاصرة. كثيرون يعتبرون هذه النسبويّة شرطاً من شروط الديمقراطية، لأنها تضمن وحدها التسامح وتبادل الاحترام بين الناس والانحياز إلى قرارات الأكثرية، بينما القواعد الأدبية قد تقود إلى التسلّط والتعصّب إذا أُسنِد إليها طابع الموضوعية والإلزام.
ولكن المسأليّة في شأن احترام الحياة تُظهِر بوضوح ما يتلطَّى وراء هذه النظرية من ملابسات وتناقضات ترافقها مغبّات واقعية مخيفة.
صحيح أن التاريخ يسجل حالات ارتُكِبَتْ فيها جرائم باسم "الحقيقة"، ولكن، باسم "النسبويّة الأخلاقية" ارتُكِبَتْ أيضاً ولا تزال تُرتَكَبُ جرائم لا تقل خطورة عن تلك، وتصدّيات للحرية لا تقل تعسّفاً عن تلك. عندما تقرر أكثرية برلمانية أو اجتماعية شرعية الإجهاز على الحياة البشرية في الرحم، حتى مع بعض الشروط، أفلا تعتمد قراراً مستبداً، يستهدف الكائن البشري الأضعف والأعزل؟ الضمير العالمي ينتفض بحقٍّ تجاه ما اختبره عصرنا اختباراً مجزناً من جرائم تستهدف البشرية. هذه الجرائم أتَكُفُّ عن كونها جرائم لأن الشعب قرّر شرعيتها، عوضاً من أن يأمر بها طغاة بلا ضمير؟
الحقيقة أن الديمقراطية لا يمكن أن نرفعها إلى مستوى الأسطورة بحيث تحتل محلَّ الشريعة الأدبية، أو بحيث تصبح الدواء للإنفلات الخلقي. الديمقراطية ليست سوى "نظام" ومجرّد وسيلة، لا غاية في حدِّ ذاتها. طابعها "الأدبي" لا تملكه بطريقة آلية، بل هو رهن بانطباقه على الشريعة الأدبية، التي لا بدَّ للديمقراطية من أن تخضع لها خضوع كل تصرف بشري: فهو إذن رهن بخلقيّة الأهداف المتوخاة والوسائل المستعملة. إذا كنا نلحظ اليوم شبه إجماع على قيمة الديمقراطية، فيجب أن نعتبر ذلك "علامة إيجابية من علامات الأزمنة" كما أكدَّت ذلك، غير مرة، السلطة التعليمية في الكنيسة(88). ولكن قيمة الديمقراطية تثبت أو تتلاشى، طبقاً للقيم التي تجسّدها وتنميها: ولا شك أن كرامة كل إنسان واحترام حقوقه الحصينة والراسخة هي من القيم الأساسية التي لا محيد عنها، وكذلك الاعتراف "بالصالح المشترك"، غايةً ومقياساً وميزاناً للحياة السياسية.
هذه القيم لا يمكن أن ترتكز على "أكثريات" في الرأي وقتيّة ومتموّجة، بل على الاعتراف بشريعة أدبية موضوعية هي مرجع وقاعدة للشرع المدني، وذلك بصفتها شريعة طبيعية، محفورة في قلب الإنسان. فعندما تُقدِم الريبيّة، بسبب ما يتعرض له الضمير الجماعي من كسوف مأساوي، على التشكيك حتى بالمبادئ الأساسية التي ترتكز عليها الشريعة الأدبية، يتخلخل النظام الديمقراطي في أساساته، ويتحوّل إلى مجرّد آلة للتنسيق العملي بين مصالح مختلفة ومتناقضة(89).
هناك من قد يفكّر أن دور النظام الديمقراطي يجب أن يُقدَّر باعتبار فائدته للسلام الأهلي، على الأقل. هذا الرأي يتضمن، ولا شك بعض الحقيقة، ولكنه من الصعب ألاّ يتبيَّن لنا أن الديمقراطية نفسها، إذا لم ترسُ على قاعدة أدبية راسخة، لن تتمكن من أن توفّر للمجتمع سلاماً ثابتاً، وذلك بأن كل سلامٍ لا يرتكز على قيم الكرامة البشرية والتضامن بين جميع الناس يبقى غالباً ضرباً من الأوهام. حتى في الأنظمة الآخذة بمبدأ المشاركة، لا يتم ضبط المصالح غالباً إلاّ لمنفعة الأقوياء لأنهم الأقدر لا على تحريك مقاليد السلطة وحسب بل على تحقيق الإجماع. في مثل هذا الوضع تمسي الديمقراطية بسهولة لفظةً جوفاء.
71- من المُلِحّ إذن لمستقبل المجتمع ولنموّ ديمقراطية سليمة، أن تكتشف ثانية وجود قيم إنسانية وأخلاقية، جوهرية وأصيلة، تنبع من حقيقة الكائن البشري نفسها وتعبّر عن كرامة الإنسان وتحميها: إنها قيم لا يستطيع البتَّة أي إنسان ولا أي أكثرية ولا أي دولة أن تضعها أو تُعدِّلَها أو تلغيها، بل علينا أن نعترف بها ونحترمها ونرقّيها.
في هذا السياق لا بدّ من أن نستعيد نظرية العلاقات بين الشرع المدني والشريعة الأدبية في عناصرها الأساسية، كما تقترحها الكنيسة والتي تشكل أيضاً جزءاً من تُراث البشرية وتقاليدها الاشتراعية الكبرى.
من الثابت أن دور الشرع المدني يختلف عن دور الشريعة الأدبية وله حيّز أضيق. ومن ثم "فالشرع المدني لا يستطيع أن يحل محلَّ الضمير، في أي مجال من مجالات الحياة، ولا أن يُملي من القوانين ما ليس من صلاحيته"(90) التي تقوم على تأمين الخير المشترك للأفراد، بالإعتراف بحقوقهم الأساسية والدفاع عنها، وتوطيد السلام والآداب العامة(91). ولا غرو، فدور الشرع المدني يقوم على تأمين تعايش أهلي منظم، في ظلّ العدالة، "لنحيا حياة سالمة مطمئنة بكل تقوى وكرامة": (1طيم 2/2). وهذا هو، بالتحديد، السبب الذي يُلزم الشرع المدني بأن يضمن لجميع أعضاء المجتمع احترام بعض الحقوق الأساسية التي يملكها الفرد أصلاً والتي يجب على كل شرع وضعيّ أن يحترمها ويكفلها. في طليعة هذه الحقوق الأساسية ما يملكه كل كائن بشريّ بريء من حق في الحياة لا يمكن انتهاكه. فإذا كان يحق للسلطات العامة أحياناً التخلّي عن قمع ما يمكن أن يُحدث بمنعه شراً أعظم (92)، فذلك لا يخوّلهم أبداً أن يُشرّعوا بما يراعي حق الأفراد – حتى وإن كان هؤلاء أكثرية أعضاء المجتمع – ويُلحق الضيم بأشخاص آخرين، بتجاهل حقهم الأساسي في الحياة. فالسماح الشرعي بالإجهاض والقتل الرحيم لا يمكن أن يرتكز، ولا بوجه من الوجوه، على احترام ضمير الغير، وذلك بأن المجتمع يحق له بل يجب عليه أن يحمي ذاته من التعسّفات التي يمكن أن تستهدفه باسم الضمير وبحجة الحرية(93).
لقد ذكَّر البابا يوحنا الثالث والعشرون، في رسالته العامة "السلام على الأرض" ببعض ما يمُتُّ إلى هذا الموضوع: "الخير المشترك، في نظر الرأي العام المعاصر، يقوم خصوصاً على صيانة ما يعود على الشخص البشري من حقوق وواجبات. ومن ثم، فدور الحكام يقوم خصوصاً على ضمان الاعتراف بالحقوق واحترامها والتوفيق بينها والعمل على نشرها، وبالتالي تسهيل القيام بالواجبات التي تقع على كل مواطن. وذلك بأن "المهمة الجوهرية التي تقع على كل سلطة سياسية هي أن تحمي ما يتمتع به الكائن البشري من حقوق حصينة، وأن تعمل بحيث يتمكن كل فرد أن يضطلع، بمزيد من اليسر، بوظيفته الخاصة". ومن ثم، فإذا أقدَمت السلطات العامة على تجاهل حقوق الإنسان أو انتهاكها، فهي لا تُخلُّ بواجب وظيفتها وحسب، بل تتجرّد تدابيرها من كل قيمة قانونية" (94).
72- تعليم الكنيسة في شأن التوافق الضروري بين الشرع المدني والشريعة الأدبية هو تواصل مع تقليد الكنيسة برمّته، كما يظهر ذلك، مرة أخرى، في رسالة البابا يوحنا الثالث والعشرين التي أتينا على ذكرها: "السلطة التي يقتضيها النظام الأدبي تنبع من الله. فإذا اتفق للقادة أن يسنّوا القوانين أو أن يتَّخذوا من التدابير ما ينافي النظام الأدبي، وبالتالي الإرادة الألهية، فهذه الإجراءات لا تلزم الضمائر. [.....] وأخطر من ذلك أن السلطة، في مثل هذه الحال، تتلاشى وتتحول طغياناً"(95). ذاك هو التعليم النيّر الذي أدلى به القديس توما الأكويني، وقد كتب في هذا الشأن: "الشرع البشري له صفة الشرع بقدر ما يتوافق مع العقل السديد، ويتضح أنه، بهذه الصفة، ينبثق من الشريعة الأبدية. ولكن بمقدار ما يحيد عن العقل يُعلَنُ شرعاً جائراً، وتسقط عنه صفة الشرعية ويمسي ضرباً من العنف"(96). وأيضاً: "كل شرع من وضع الناس لا يملك صفة الشرع إلاّ بمقدار ما ينبثق من الشريعة الطبيعية. فإذا، حادّ في قضية ما، عن الشريعة الطبيعية، فهو يَبطل أن يكون شرعاً ويُمسي شرعاً فاسداً" (97).
في الوضع الحاضر، أوّل وألحُّ تطبيق لهذا التعليم يتعلّق بالشرع البشري الذي يتجاهل ما يتمتع به ويتميّز به كل إنسان من حق في الحياة، أساسي وأصيل. وهكذا فالقوانين المتعلقة بالإجهاض والقتل الرحيم التي تُعلِن شرعية الإجهاز المباشر على كائنات بشرية بريئة، تناقض مناقضة كليّة لا مفرَّ منها، ما يتميّز به جميع الناس من حق في الحياة لا يمكن انتهاكه، وتتنكّر من ثمَّ لمبدأ تساوي الجميع أمام القانون. يمكن الاعتراض بأن القتل الرحيم لا يدخل في هذا النطاق إذا طلبه صاحب العلاقة بوعيه الكامل. بيد أن حكومةً تُشرِّع هذا الطلب وترخِّص تنفيذه قد تصل إلى حدّ تشريع الانتحار والقتل، على نقيض المبادئ الأساسية القائلة بمناعة الحياة وحماية كل حياة بريئة. بهذه الطريقة نساهم في التقليل من حرمة الحياة وإفساح الطريق لتصرفاتٍ تقضي على الثقة في العلاقات الاجتماعية.
القوانين التي تسوَّغ وتشجَّع الإجهاض والقتل الرحيم تناقض لا منفعة الفرد وحسب بل المنفعة العامة، وتمسي بالتالي مجرّدة من كل شرعية قانونية صحيحة. ولا غرو، فتجاهل حق الإنسان في الحياة، لأنه يفضي، بالتحديد، إلى إلغاء الفرد الذي جُعل المجتمع لخدمته، هو أشد ما يتصدّى تحقيق الخير العام، بطريقة مباشرة لا تعوّض. وينجم عن ذلك أن كل قانون مدني يشرِّع الإجهاض والقتل الرحيم يبطل، بالفعل نفسه، أن يكون قانوناً مدنياً حقيقياً ملزماً إلزاماً أدبياً.
73- الإجهاض والقتل الرحيم هما إذن من الجرائم التي لا يجوز لأي قانون بشري أن يدَّعي تشريعها. مثل هذه القوانين لا تُلزِم الضمير، لا بل تحمّل المواطنين واجب التصدي لها، بالاعتراض الضميري، وهو واجب خطير ودقيق. منذ فجر تاريخ الكنيسة تلقّى المسيحيون من الكرازة الرسولية واجب الطاعة للسلطات العامة المنصَّبة شرعياً (روم13/1- 7، بط2/13- 14). ولكنهم تلقّوا أيضاً إنذاراً حازماً "بان الله أولى بالطاعة من الناس" (رسل5/29). ونجد أيضاً في العهد القديم، وبالتحديد في شأن مهدّدات الحياة، مثالاً بليغاً في التصدّي للسلطة والتمرّد على أوامرها المجحفة. فالقابلتان العبرانيتان تصدّيتا لأمر فرعون بقتل كل بكرٍ ذكر: "لم تصنعا كما قال لهما ملك مصر، فاستبقيتا الذكران" (خر1/17). ولكن لا بدّ من الوقوف على ما أملى عليهما هذا الموقف من حافزٍ عميق: "لقد خافت القابلتان الله" (نفس المرجع). فالطاعة لله – الذي يحق له وحده أن يُخاف، اعترافاً بسيادته المطلقة – هي التي تُولّد القوة والشجاعة لمناهضة القوانين البشرية الجائرة. هاتان القوة والشجاعة هما من نصيب المستعدِّين لأن يُلقَوا في السجن ويُقتَلوا بحدِّ السيف، يقيناً منهم أنه بذلك "يتجلّى صبر الصديقين وإيمانُهم" (رؤ13/ 10).
كل قانون جائر في ذاته كالقانون الذي يُحلِّل الإجهاض والقتل الرحيم، لا يجوز الامتثال له "ولا المشاركة في حملة إعلامية تسانده، ولا التصويت عليه"(98). قد تطرأ معضلة ضميرية خاصة عندما يتّضح أن ثمة تصويتاً برلماناً قد يكون حاسماً في دعم قانون تقييدي، يهدف إلى حصر عدد الإجهاضات المرخّصة، بدلاً من قانون أشد تساهلاً معمول به أو مطروح للتصويت. مثل هذه الأحوال ليست نادرة. فثمة مناطق في العالم تتواصل فيها الحملات الداعية إلى إدخال قوانين تساند الإجهاض، وتدعمها، في معظم الأحيان، منظماتٌ دولية قديرة. بينما هناك، بالعكس، مناطق أخرى – وبخاصة المناطق التي أخذت بتلك التشريعات المتساهلة وذاقت خبرتها المرّة – بدأت تظهر فيها بوادر فكرٍ جديدة. في الحالة المفترضة هنا، من الواضح أنه إذا تعذّر على عضوٍ في البرلمان أن يتجنّب أو أن يُلغيَ تماماً قانوناً يُجيز الإجهاض، فإنه يسوغ له، في حال اعتلان معارضته الشخصية المطلقة على الإجهاض، وشيوعها عند الجميع، أن يُدلي بدعمه لمقترحاتٍ تهدف إلى الحدّ من أضرار مثل هذا القانون والتخفيف من مفاعيله السلبيّة على صعيد الثقافة والخلاق العامة. فإذا تصرف هكذا فهو لا يقوم بمساهمة لا شرعية في قانون ظالم، بل يضطلع بمسعى شرعي بل بواجب يؤول إلى الحدّ من مفاعيله الجائرة.
74- إدخال تشريعات مُجحفة كثيراً ما يضع النفوس الخلوقة في مواجهة معضلات ضميرية شائكة في شأن المشاركة، على اختلاف أنواعها، وذلك بسبب ما يتوجّب على هؤلاء الناس من تثبيت حقهم في ألاّ يُفرّضَ عليهم الاشتراك في أعمال ذميمة أدبياً. الخيارات المفروضة تؤلم أحياناً ويمكن أن تُلزِمَهم التضحية بمراكز مهنيّة مثبَّتة أو التخلي عن إمكانات مشروعة للترقّي في الوظيفة. ثمة أحوال أخرى يمكن أن تتحقق فيها إجراءات حياديّة في ذاتها أو حتى إجراءات إيجابية تَلحظُها تدابير تشريعية جائرة في مجملها، ويمكن أن ينجم عنها صيانة خلائق بشرية مهدَّدة. ولكن، من جهة ثانية، قد يُخشى بحقٍ أن يجرَّ القيام بمثل هذه الأعمال إلى التشكيك وإضعاف المعارضة ضد الاعتداءات على الحياة، لا بل إلى التدرج شيئاً فشيئاً إلى مزيد من الإذعان لمنطق التساهل.
لا بدَّ من التذكير، تنويراً لهذه المعضلة الأدبية الشائكة، بالمبادئ العامة، في شأن المشاركة في الأعمال السيئة. المسيحيون بل جميع الناس المخلصين مدعوون بداعي واجب ضميري ثقيل، إلى الامتناع عن مساهمتهم الصريحة في الممارسات التي تنافي شريعة الله، على كونها مقبولة في الشرع المدني. فمن الناحية الأدبية، لا يجوز قطعاً المشاركة الصريحة في الشر. هذه المشاركة تتم كل مرّة يتصف العمل الذي نقوم به، سواء من جهة طبيعته أم من جهة نوعيّته في إطار معيّن، بأنه اشتراك مباشر في فعلٍ يستهدف الحياة البشرية البريئة أو بأنه إذعان لنيّة الفاعل الرئيسي وقصده اللا أخلاقي. هذه المشاركة لا يجوز البتة تبريرها بحجّة احترام حرية الغير أو من مرتكز كونها ملحوظة ومطلوبة في الشرع المدني: فالأفعال التي ينفّذها كل واحد شخصياً منوطة بمسؤولية أدبيّة لا يجوز لإنسان أن يتملَّص منها، وعليها سوف يحاكَم كلُّ امرئ أمام الله (روم2/ 12-14).
رفض المشاركة في ارتكاب الظلم ليس واجباً أدبياً وحسب بل هو أيضاً حق بشري أساسي. ولو لم يكن الأمر على هذا النحو لأُرغِمَ الشخص البشري على ارتكاب فعلٍ يجافي في الصميم كرامته، وأمست حرمته نفسها مهدَّدة في جذورها، وهي التي ترتكز، معنىً وغاية، على التوجّه في اتجاه الحقيقة والخير. القضية إذن قضية حق جوهري يجب أن يجد له في الشرع المدني نفسه مكاناً وحمايةً. في هذا المنحى يجب أن يُقّرَّ للأطباء والأجهزة المُساعِدة والمؤسسات الاستشفائية والعيادات والمراكز الصحية إمكان رفض المشاركة في مثل هذه التعديات على الحياة في أطوارها الاستشارية والإعدادية والتنفيذية. الذين يركنون إلى الاعتراض الضميري يجب أن يُعفَوا لا من العقوبات الجزائية وحسب، بل من كل ضرر يلحق بهم على صعيد القانون والنظام والاقتصاد والوظيفة.
"أحبب قريب حبَّك لنفسك" (لو10/27): "دافع عن الحياة.
75- وصايا الله ترشدنا إلى طريق الحياة. الأوامر الأدبية السلبيّة أي الأوامر التي تنهى عن عمل معيّن، لها طابع المطلقية في ممارسة الحرية البشرية: وهي تصِحُّ دوماً وفي كل ظرف بلا استثناء، وتُبيِّن لنا أن الإقدام على بعض التصرفات ينافي منافاة جذرية محبتنا لله وكرامة الإنسان المخلوق على صورته: ولذا لا يمكن أن نعوِّض عن هذه التصرفات بحسن النيّة أو بحسن النتيجة لأنها في تناقض عُضال مع الشركة بين الناس، وفي تعارض مع تصميمنا الأساسي على التوجه بحياتنا نحو الله(99).
في هذا المعنى، تقوم الوصايا الأدبية الناهية بوظيفة إيجابية بالغة الأهمية. "فالّلا" التي تفرضها بلا شرط تعكس الحدّ الذي لا يمكن اختراقه ولا يجوز للإنسان الحر أن ينحدر دونه، وهي تبيّن له، في الوقت نفسه، الحدّ الأدنى الذي عليه أن يحترمه، ومن منطلقه عليه أن يلفظ "النعم؟ ألف مرة، بحيث تصبح وجهة الخير، شيئاً فشيئاً، أُفُقَه الوحيد (متى5/48). الوصايا، وبخاصة النواهي الأدبية، هي نقطة الانطلاق والمرحلة الأولى اللتين لا بدّ منهما للسير في الطريق المؤدية إلى الحرية. وقد كتب القديس أوغسطينوس: "الحرية الأولى هي التنكّب عن الجرائم [....] كالقتل والزنى والفسق والسرقة والغش وانتهاك المقدسات وما سوى ذلك. فعندما يبدأ الإنسان في مجانبتها – وهو واجب كل مسيحي – يبدأ ينهد برأسه إلى الحرية. ولكن هذا بداية الحرية، ولا الحرية الكاملة"(100).
76- وصية "لا تقتل" هي منطلق مسيرة على طريق الحرية الحقيقية تهيب بنا إلى تعزيز الحياة وتنشيطها واتخاذ مواقف واضحة والقيام بمساعٍ محددة لخدمتها. فإذا فعلنا ذلك مارسنا مسؤوليتنا تجاه الأشخاص الموكولين إلينا، وأبدينا، في الأفعال وفي الحقيقة، شكرنا لله لما أكرمنا به من عطية سابغة هي عطية الحياة (مز138/ 13- 14).
لقد وكل الخالق إلى الإنسان مسؤولية الحياة وواجب العناية بها لا ليتصرَّف بها على هواه بل ليحافظ عليها بفطنة، ويعيشها بأمانة ومحبة. لقد وكل إله العهد حياة كل إنسان إلى الآخر، إلى أخيه، وفقاً لسُنَّة تبادل الأخذ والعطاء وبذل الذات واستقبال الغير. فلما بلغ ملء الزمان تجسد ابن الله وذل حياته في سبيل الإنسان وبيّن لنا إلى أي سموّ وإلى أي عمق يمكن أن تبلغ سُنَّة التبادل هذه. وقد أفرغ المسيح، بموهبة روحه، معنى ومحتوىً جديدين على سُنَّة التبادل وائتمان الإنسان على الإنسان. والروح، مصدر الشركة في المحبة، يُجري بين الناس تياراً جديداً من التآخي والتضامن، انعكاساً حقيقياً لما يقوم في سر الثالوث المقدس من تبادل وتواهب. ويصبح الروح نفسه هو السُنَّة الجديدة، يجود على المؤمنين بالقوة ويستدعي مسؤوليتهم ليعيشوا في تبادل العطاء واستقبال الغير، مشتركين في محبة يسوع المسيح، كلّ بمقداره.
77- هذه السُنَّة الجديدة هي التي تنعش أيضاً وترسم ملامح وصية "لا تقتل". فعلى المسيحي، من جهته، أن يفهم ما يترتب عليه، في النهاية، من واجب الاحترام والمحبة والتعزيز لحياة جميع إخوته وفقاً لمقتضيات وعظمة محبة الله في يسوع المسيح: "وإنما عرفنا المحبة، بأن ذاك قد بذل نفسه في سبيلنا فعلينا نحن أيضاً أن نبذل نفوسنا في سبيل إخوتنا" (1يو 3/16).
وصية "لا تقتل" تُلزِم كل إنسان، حتى في محتواها الإيجابي، وما يمليه من واجب الاحترام والمحبة والترقية للحياة البشرية. ولا غرو، فهي تدوّي في ضمير كل إنسان ووعيه الأدبي، وكأنها صدىً لا يبلى للوعد الأصيل الذي عقده الله الخالق مع الإنسان، هذه الوصية، بإمكان الجميع أن يدركوها في ضوء العقل، وبإمكانهم أن يمتثلوها بسر قوة الروح الذي يهبُّ حيث يشاء (يو3/ 8)، ويُلهم ويحرّك كل إنسان يعيش في هذا العالم.
الخدمة التي نحن كلنا مدعوون إلى تأديتها للغير، هي إذن خدمة محبة تدفعنا إلى أن نعمل دوماً على حماية حياة القريب وترقيتها، ولا سيما حياة الضعيف والمهدَّد. تلك مسؤولية فردية واجتماعية أيضاً، علينا جميعاً أن نعمل على تنميتها فنجعل من احترام الحياة البشرية، بلا قيد ولا شرك، ركيزة مجتمع متجدد.
إن ما يُطلب منا هو أن نعامِل بالمحبة والإكرام حياة كل إنسان وكل امرأة، ونسعى بثبات وجرأة، ونحن في زمان تسوده أمارات الموت، إلى أن تبدأ أخيراً حضارة جديدة، حضارة حياة تنبع من الحقيقة والمحبة.
الفصل الرابع
"فلي قد فعلتموه"
حضارة جديدة للحياة البشرية
"إنكم شعب اصطفاه الله للإشادة بعجائبه" (1بط2/ 9): شعب الحياة وشعب للحياة
"78- لقد تلقَّت الكنيسة الإنجيل بشرة وينبوع فرح وخلاص. تلقّتْه عطيةً من يسوع الذي أرسله الآب "ليبشر المساكين" (لو4/ 18). تلقّته من الرسل الذين أرسلهم يسوع إلى العالم أجمع (مر 16/15، متى 28/ 19- 20). وتوجس الكنيسة كل يوم، وقد وُلِدت من هذه البشارة، صدى إنذار الرسول: "الويل لي إن لم أُبشّر" (1قو9/ 16). وقد كتب بولس السادس: "البشارة هي ما يميّز الكنيسة نعمةً ودعوة، وما يحدّد صميم هويتها. لقد وُجِدتْ لتُبشّر" (101).
البشارة عمل متكامل وناشط يدفع الكنيسة إلى المساهمة في رسالة الرب يسوع النبويّة والكهنوتية والملكية. وتتضمن، من ثم، وبطريقة مترابطة، عمل البشارة والاحتفال وخدمة المحبة. إنها، في الصميم، عمل كنسي يجنّد كل المتطوعين للإنجيل، وكلاًّ بحسب مواهبه وخدمته.
تلك هي أيضاً بشارة إنجيل الحياة، وهي جزءٌ لا يتجزأ من الإنجيل الذي هو يسوع المسيح. نحن خَدَمَة هذا الإنجيل. يُساندنا فيه أننا تلقّيناه عطيّة وأنّنا أُرسِلْنا لننادي به للبشرية جمعاء "وحتى أقاصي الأرض" (رسل1/ 8). ومن ثم، فنحن نكنّ هذا الشعور بأننا شعب الحياة في خدمة الحياة، وهكذا نريد أن نعرّف بأنفسنا أمام الجميع.
79- نحن شعب الحياة لأن الله، في مجانيّة حبه، وهبنا إنجيل الحياة، ولأن هذا الإنجيل غيّرنا وخلّصنا. "سيد الحياة" (رسل3/ 15) افتدانا بدمه الكريم (1قور 6/20، 7/23، 1بط1/19) بفسل المعمودية ردَّنا إليه أغصاناً تستمد من الشجرة نفسها ماويتها وخصبها (يو 15/5). لقد جُدِّدنا شعباً للحياة وعلينا أن نتصرف هكذا.
نحن مُرسَلون: وكوننا في خدمة الحياة ليس مدعاة عُجْب وكبرياء بل واجب ينبع من إدراكنا أننا "شعب اصطفاه الله للإشادة بآياته" (1بط 2/9). شريعة المحبة تهدي خُطانا وتساند مسيرتنا، المحبة التي نجد مصدرها ونموذجها في ابن الله المتأنس الذي "بموته وهب العالم الحياة" (102).
ذاك الذي رأيناه وسمعناه نبشّركم به" 1يو1/ 3): إعلان إنجيل الحياة
80- "ذاك الذي كان منذ البدء، ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعيوننا، ذاك الذي تأملناه، ذاك الذي لمسته يدانا من كلمة الحياة.... نبشركم به لتشاركونا أنتم أيضاً" (1يو1/ 1- 3). يسوع هو الإنجيل الوحيد، وما من أحد غيره ننادي به ونشهد له.
عندما نبشر بيسوع إنما نبشر بالحياة، لأنه "كلمة الحياة" (1يو1/ 1) وبه "تجلّت الحياة" (1يو 1/2)، لا بل هو نفسه "الحياة الأبدية، التي كانت عند الآب، فتراءت لنا" (1يو 1/2).
هذه الحياة قد انتقلت إلى الناس بموهبة الروح، ولا تكتسب حياتنا الأرضية معناها الكامل إلاّ بمقدار ما تتوخّى الحياة في ملئها، أي الحياة الأبدية.
وما دمنا نستنير بإنجيل الحياة هذا، فنحن بحاجة إلى أن نعلنه ونشهد له بما يتّسم به من جدّة مذهلة، ولأن الإنجيل هو يسوع نفسه مصدر كل جدّة(103) وقاهر "التهرّم" الناجم عن الخطيئة والمفضي إلى الموت (104) فهو يتخطّى كل ما يتوقعه الإنسان ويكشف إلى أي شاهق منيف رُفِعت، بالنعمة، كرامة الشخص البشري. وهذا ما عبّر عنه القديس غوريغوريوس النيصي في أحد تأملاته: "الإنسان الذي لا يُحسَب شيئاً بين الكائنات، الإنسان التراب والقذى والهباء، ما إن يصبح بالتبنّي ابن إله الكون حتى يصيرَ أليفاً لذاك الكائن الذي لا يستطيع إنسان أن يراه ويسمعه ويدرك سموّه وعظمته. وبأي كلام وأي فكر وأي وثبة روح يمكن الإشادة بهذه النعمة السابغة؟ فيها يتخطّى الإنسان طبيعته: هو المائت يصبح خالداً، والفاني يصبح لا فانياً والزمنيُّ يصبح أبدياً والإنسان يصبح إلهاً" (105).
إن ما يتملّكنا من عاطفة شكر وفرح لهذه الكرامة التي يَنْعَمُ بها الإنسان بوجه لا يقاس، يدفعنا إلى أن نُشرك جميع الناس في الإفادة من هذا البلاغ: "إن ما رأيناه وما سمعناه نبشركم به لتشاركونا أنتم أيضاً" (1يو 1/3). من الضروري أن نوصل إنجيل الحياة إلى قلب كل رجل وكل إمرأة وندخله إلى أقصى تلافيف المجتمع بأسره.
81- علينا أولاً أن نُعلن قلب هذا الإنجيل، وهو البشارة بإله حيّ قريب يدعونا إلى الاتحاد به اتحاداً حميماً، ويفتح قلبنا على رجاء الحياة الأبدية، وهو تأكيد الرباط القائم بين الإنسان وحياته وجسديته، واعتبار الحياة البشرية حياةَ علاقة وهبةً من الله وثمرةً وآية من آيات حبه، وهو إعلان الصلة المذهلة بين يسوع وكل إنسان والتي تجعلنا نتوسَّم وجه يسوع في كل إنسان، وهو إعلان "العطاء الكامل" واجباً ومجالاً تتحقق فيه الحرية إلى أقصى حدودها.
ويجب في الوقت نفسه، أن نُظهِر جميع مفاعيل هذا الإنجيل الذي يمكن أن نلّخصه بما يلي: الحياة البشرية عطية نفيسة من عطايا الله، وموهبة مقدّسة لا يمكن انتهاكها. وينجم عن ذلك خصوصاً أن الإجهاض المتعمّد والقتل الرحيم مرفوضان رفضاً باتاً. فالحياة البشرية لا يكفي أن نحرّم قتلها، بل يجب أن نحميها بكل ما لدينا من عناية ومحبة. فالحياة تكتسب معناه في الحب نقبله ونهديه، وهكذا يبلغ الجنس والإنجاب، عند الإنسان، ذروة حقيقتهما ويصبح للعذاب وللموت أيضاً، في غمرة هذا الحب، معنىً، ويمكن أن يصيرا أداة خلاص وإن استمرّ السرّ الذي يكتنفهما. حرمة الحياة تفرض على العلم وعلى التقنية أن يتوخّيا الإنسان ونموّه الكامل، وعلى المجتمع بأسره أن يحترم ويحمي ويعزّز كرامة شخص بشري في كل مراحل وجوده وظروف حياته.
82- لكي نكون حقاً شعباً يتطوّع لخدمة الحياة علينا أن نعلن هذا البلاغ بجرأة وثبات، منذ أُولى مناداة بالإنجيل، ثم في التعليم المسيحي وكل أنماط الكرازة، في الحوار الشخصي وفي كل مسعىً تربوي. ويقع على المربّين والمدرِّسين وأساتذة التعليم المسيحي واللاهوتيين واجب النتويه بالأسباب الأنتروبولوجيّة التي تعلّل وتدعم احترام كل حياة بشرية. بهذه الطريقة، وإلى جانب سعينا إلى إظهار إنجيل الحياة في جدّته الأصيلة والمتألقة، يمكننا أن نساعد جميع الناس في أن يكتشفوا أيضاً، في ضوء العقل والخبرة، كيف يستطيع البلاغ المسيحي أن يُفيض النور على الإنسان ويكشف له معنى كيانه ووجوده. ويمكننا أن نقع أيضاً على ما هو نفيس من مواطن اللقاء والحوار مع غير المؤمنين، فنسعى كلّنا معاً إلى إنشاء حضارة جديدة للذود عن الحياة.
وفيما تهاجمنا الآراء المعارضة من كل جانب، وإذ ينبذ الكثيرون العقيدة الصحيحة في شأن الحياة البشرية، نشعر أن بولس يتوجه إلينا نحن أيضاً بما ناشد به طيموتاوس: "أعلن كلام الله وألحّْ فيه بوقته وبغير وقته ووبّخ وأنذِر وعِظ بصبرٍ ورغبة في التعليم" (2طيم 4/2). هذه المناشدة يجب أن تجد صدىً بليغاً جداً في قلب كل الذين، في الكنيسة، يشاركون مباشرة ومن مختلف المناصب، رسالة الكنيسة "معلمة" الحقيقة. وعلينا أولاً، نحن الأساقفة، أن نتَّعظ بها فنصير لإنجيل الحياة رُسلاً لا يكلّون. وعلينا أيضاً واجب السهر على أن ننقل، بأمانة وبغير انتقاص، التعليم الذي عدنا إلى إثباته في هذه الرسالة، وأن نتخذ الإجراءات اللازمة لتحصين المؤمنين ضد كل عقيدة تنافيه. ويجب أن نحرص خصوصاً على أن تُنشَر وتُفسّر وتعمَّق معرفة العقيدة المقدّسة في كليّات اللاهوت والإكليريكيات وسائر المؤسسات الكاثوليكية (106) هذه المناشدة يجب أن يسمعها أيضاً كل اللاهوتيين والرعاة وجميع القيّمين على التدريس والتعليم المسيحي والإرشاد الروحي: فمن منطلق اقتناعهم من الدور الموكول إليهم، عليهم ألاّ يتحمّلوا البتة مسؤولية التنكّر للحقيقة ولرسالتهم بالإدلاء بأفكار شخصية تنافي إنجيل الحياة الذي تنطق به السلطة الكنسية وتفسّره بأمانة.
عندما نعلن هذا الإنجيل يجب ألاّ نهاب العداوة والجفاء وأن نرفض كل تواطؤ وكل التباس يُعيداننا إلى ذهنية هذه الدنيا (روم 12/2). علينا أن نكون في الدنيا لا من الدنيا (يو15/ 19، 17/16) وهذا بفضل القوة التي تأتينا من المسيح الذي غلب العالم بموته وقيامته (يو 16/33).
"أشكر لك كل هذه المعجزات" (مز 138/14): الاحتفال بإنجيل الحياة.
83- نحن مبعوثون، إلى هذا العالم "شعباً في خدمة الحياة". وعلينا، من ثم، أن نجعل من بشرانا احتفالاً حقيقياً بإنجيل الحياة. وإلى ذلك، يجب أن يصبح هذا الاحتفال، بما يتضمَّنه من شعائر ورموز وطقوس بليغة الإيحاء، مكاناً مميزاً ومرموقاً لنقل هذا الإنجيل، بكل روعته وعظمته، إلى الآخرين.
ولذا، من المُلِحّ قبل كل شيء، أن نتعَّهد فينا ولدى الآخرين نظرة تأملية(107). هذه النظرة تولد من الإيمان بإله الحياة الذي خلق الإنسان وجعل منه عَجَباً (مز 138/ 14). هي نظرة من يرى الحياة في عمقها ويدرك ما هي عليه من مجّانية وروعة ودعوة إلى الحرية والمسؤولية. هي نظرة من لا يدّعي السيادة على الحياة، بل يتقبّلها عطيّة، ويتوسّم في كل شيء شعاع الخالق وفي كل إنسان صورته الحية (تك 1/27، مز8/6). هذه النظرة لا تنساق إلى الجزع أمام المريض والمعذّب والمهمّش أو المشرف على الموت، بل تتحسس هذه الأوضاع وتسعى إلى اكتشاف معناها، وهي، في هذه الظروف، مستعدة أن توجس في وجه كل إنسان نداءً إلى اللقاء والحوار والتضامن.
لقد حان لنا، وقد أخذ منا الذهول الديني كل مأخذ، أن تكون لنا جميعاً هذه النظرة، فنعود ثانية إلى معاملة كل إنسان بالإجلال والإكرام، كما دعانا إلى ذلك بولس السادس في بلاغ من بلاغاته الإذاعية في مناسبة الميلاد(108). شعب المفتدَين الجديد لا يمكنه بحافز هذه النظرة التأملية إلاّ أن يصدح بأناشيد فرح وتسبيح وشكر لما ناله من الله من عطية حياة تتخطّى كل ثمن، ولسرّ دعوة كل إنسان إلى أن يكون له نصيب بالمسيح في حياة النعمة، وفي شركة لا نهاية لها مع الله خالقه وأبيه.
الاحتفال بإنجيل الحياة هو الاحتفال بإله الحياة:
84-"يجب أن نحتفل بالحياة الأبدية مصدر كل شكل آخر من أشكال الحياة. منها يتلقّى الحياة كل كائن يشارك، بطريقة ما، في الحياة بمقدار طاقاته. هذه الحياة الإلهية الأسمى من كل شكل من أشكال الحياة وتحفظها. كل شكل من أشكال الحياة وكل حركة حياة تنبعان من هذه الحياة التي تفوق حياتنا وكل مبدأ حياة. منها تستمد النفوس خلودها وبها أيضاً تحيا الحيوانات كلها والنبات ومنها تقتبس أصغر شرارة. وأمّا الناس المصنوعون من روح ومادة، فالحياة تعطيهم الحياة. وإذا اتفق لنا أن نتخلّى عنها، فالحياة تثيبنا وتردّنا إليها بفيض حبها للبشر، لا بل تَعِدُنا بأن تقودنا، أجساداً ونفوساً، إلى الحياة الكاملة وإلى الخلود. هذه الحياة قليلٌ أن نقول فيها: إنها حيَّة! إنها مبدأ حياة، سبب الحياة ونبعها الوحيد. كل كائن حيّ عليه أن يتأملها ويسبّحها: إنها الحياة التي تُفيض الحياة بغزارة" (109).
نحن أيضاً، في الصلاة اليومية الفرديّة والجماعية، نسبّح مثل صاحب المزامير، ونبارك الله أبانا الذي نَسَجَنا من جوف أمهاتنا ورأتنا عيناه أجنَّة (مز 138/ 13، 15- 16)، ونتهلّل ونفيض فرحاً قائلين: "نعترف لك لأنك أعجزتَ فأدهشْت. إنما أعمالك معجزات" (مز 138/ 14). نعم، "هذه الحياة الفانية، بالرغم من مضايقها وغوامضها وآلامها وهشاشتها المحتومة، هي حقيقة مذهلة ومعجزة متجدّدة ومؤثّرة وحدثٌ جدير بأن نسبحه ونمجّده متهلّلين" (110). هذا ولا يبدو لنا الإنسان وحياته رائعةً من أعظم روائع الخلق وحسب: بل منحه الله كرامة شبة إلهية (مز8/ 6-7). ففي كل طفل يولد وفي كل إنسان يحيا أو يموت، نكتشف صورة مجد الله: هذا المجد نحتفل به في كل إنسان، آية الله الحي وأيقونة يسوع المسيح.
نحن مدعوّون إلى الإعراب عن إعجابنا وشكرنا للحياة التي تلقيناها عطيّة، إلى تقبل إنجيل الحياة وتقديره وإيصاله لا في الصلاة الشخصية والجماعية وحسب بل في الاحتفال بالسنة الليترجية خصوصاً. ولا بدّ من أن نذكر هنا خصوصاً الأسرار وهي علامات فاعلة لحضور الرب يسوع في حياة المسيحي وعمله الخلاصي: إنها تصيِّر الناس شركاء الحياة الإلهية بما توفّره لهم من قوّة روحية لا بدّ منها ليدركوا، في ملء الحقيقة، معنى الحياة والعذاب والموت. الاحتفالات الليترجية، وبخاصة الاحتفالات بالأسرار، إذا اكتشفنا حقيقة مغزى طقوسها، وقدّرناها حقّ قدرها، فهي قادرة على أن تعبّر أكثر فأكثر عن ملء الحقيقة في شأن الحياة والعذاب والموت وتساعدنا في أن نعيشها بالاشتراك في سرّ المسيح الفصحي الذي مات وقام.
85- عندما نحتفل بإنجيل الحياة، علينا أن نقدِّر ونبرز أيضاً الطقوس والرموز التي تحفل بها التقاليد والأعراف الثقافية والشعبية على أنواعها. إنها أوقات لقاء وأشكال لقاء يتجلّى فيها، عبر البلاد والثقافات، فرح الحياة المتفتحة، واحترام كل حياة بشرية وحمايتها، والاهتمام بالمعذّب والمحتاج، ومرافقة المُسِنّ والمدنف، والمشاركة في أسى المحزونين ورجاء الخلود والتشوّق إليه.
في هذا الصدد، وبالموافقة على فكرة الكرادلة الملتئمين في مجمع 1991، أقترح أن يُحتَفَل كل سنة في مختلف بلدان العالم، "بيوم الحياة" كما بدأ يتحقق ذلك بمبادرة بعض المجالس الأسقفية. ويجب أن يُهيَّأ هذا "اليوم" ويُحتفل به بمشاركة جميع عناصر الكنيسة المحليّة، ومساهمتها الناشطة. والهدف الأساسي من إقامة هذا "اليوم" أن يتغلغل في الضمائر والعِيل، في الكنيسة في المجتمع، الاعتراف بمعنى الحياة البشرية وقيمتها، في كل مراحلها وف كل ظروفها، مع لفت الانتباه خصوصاً إلى خطورة الإجهاض والقتل الرحيم، ولكن من دون أن نتجاهل بقية صروف الحياة ووجوهها التي تستحق أن نتنبّه لها في أوضاعها الخاصة، بمقتضى ما يُوحيه تطوّر كل وضع على حدة.
86- في روح العبادة الروحية المَرْضيَّة عند الله (روم12/ 1)، يجب أن يتم الاحتفال بإنجيل الحياة خصوصاً في الواقع اليومي، في محبة القريب وبذل الذات. هكذا يصبح وجودنا كله انفتاحاً على الحياة حقيقياً ومسؤولاً، وتسبيحاً خالصاً وشكراً لله الذي أكرمنا بهذه الهدية. وهذا ما يتحقق في كثير من التقادم المتواضعة والخفيّة يقوم بها رجال ونساء، أطفال وبالغون، شبّان وشيوخ، مرضى وأصحاء.
هذه القرائن الغنية بالإنسانية والمحبّة هي مَنْبَت البطولات، التي بها يتم الاحتفال بأبّهةٍ بإنجيل الحياة، لأنها تُعلن هذا الإنجيل ببذل الذات تضحيةً كاملة، وبها تتجلّى المحبة في أسمى بهائها وأسمى ذروتها: وهي بذل الذات في سبيل من نحبّ (يو15/ 13). إنها الاشتراك في سر الصليب الذي به أظهر يسوع أي ثمن تقتضيه، في نظره حياة كل إنسان، وكيف تكمُل هذه الحياة ببذل الذات بذلاً كاملاً. إلى جانب الأعمال الخارقة، هناك البطولة اليومية القائمة على أعمال صغيرة أو كبيرة من المشاركة تُثري الحياة في وجهها الحضاري الصحيح. من هذه الأعمال لا بدّ من أن نذكر خصوصاً التبرّع بالأعضاء. هذا التبرع، إذا تم بمقتضى القواعد الأخلاقية، يتيح للمرضى اليائسين أحياناً من الشفاء، فرصةً جديدة لاستعادة الصحة بل الحياة.
هذه البطولة اليومية يدخل في حسابها الشهادة الصامتة – وما أخصبها وأبلغها! – شهادة "جميع الأمهات الجريئات اللواتي يكرّسن ذواتهن بلا حدود لعيالهّنَّ ويتعذبْن عندما ينْجِبْنَ الأولاد ويتحمَّلن كل الأتعاب ويواجهْنَ كل التضحيات ليورثْنَهم أجمل ما عندهنَّ "(111). هؤلاء "الأمهات البطلات لا يلقَيْن دائماً، في القيام برسالتهن، سنداً في محيطهن، وبالعكس، فإن نماذج الحضارة المعاصرة التي تدعمها وتنشرها وسائل الاتصال الاجتماعي لا تشجّع الأمومة. فباسم التقدّم والحداثة تُعلَن فضائلُ الأمانة والعفّة والتضحية التي مارسها ولا يزال يمارسها جمهور من الزوجات والأمهات المسيحيات قيماً قد عفى عليها الزمن [.....] إننا نشكر لكُنَّ، أيها الأمهات البطلات، حُبَّكن المظفّر! أشكر لكُنَّ ثقتكن المقدامة بالله وبمحبته. نشكر لَكُنَّ التضحية بحياتكن [......] إن المسيح، في سرّه الفصحي، يعيد إليكُنَّ العطية التي قدّمْتُنَّها. فهو قادرٌ أن يعيد إليكُنَّ الحياة التي قدّمْتُنَّها له قرباناً" (112).
"ماذا ينفع الإنسان، يا إخوتي، أن يدّعي الإيمان بلا أعمال؟" (يع2/ 14): خدمة إنجيل الحياة.
87- بحكم المشاركة في وظيفة المسيح الملكية، علينا أن ندعم ونعزّز الحياة البشرية، عن طريق خدمة المحبة. هذه الخدمة تترجمها شهادة السيرة الشخصية ومختلف أنماط التطوّع المجاني والإنعاش الاجتماعي والالتزام السياسي. ونجدنا هنا بإزاء ضرورة ملحّة جداً في الوقت الحاضر، حي "حضارة الموت" هي في تجابه عنيف مع "حضارة الحياة" وكأنها هي الغالبة! ولكن، قبل هذان نحن بإزاء ضرورة نابعة من "الإيمان العامل بالمحبة" (غل 5/6)، على حد ما جاء في رسالة يعقوب: "ماذا ينفع الإنسان، يا إخوتي، أن يدَّعي الإيمان بلا أعمال؟ أبوسع الإيمان أن يخلِّصه؟ فلو كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ليس لهما قوت يومهما، وقال لهما أحدكم: "اذهبا بسلام فاستدفئا واشبعا، ولم تُعطوهما شيئاً مما يحتاج إليه الجسد، فماذا ينفع قولكما؟ وكذلك الإيمان فإن لم يقترن بالأعمال صار ميتاً في حد ذاته" (يع2/ 14- 17).
خدمة المحبة تفترض حالة ذهنية يجب أن تنعشنا وتميّزنا: علينا أن نعتني بالآخر بصفته إنساناً وَكَلَهُ الله إلى مسؤوليتنا. نحن مدعوّون، بصفتنا تلاميذ يسوع، إلى أن نكون "أقرباء" كل إنسان (لو10/ 29- 37)، مع إيثار ملحوظ للأكثر فقراً وعزلة وحاجة. عندما نُسعِف الجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والسجين – وكذلك الطفل المشرف على الولادة والمريض المعذب والمشرف على الموت – فإنما نُسعِف يسوع كما صرّح بذلك نفسه: "كلّما صنعتم شيئاً من ذلك لواحدْ من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه" (متى 25/40). ولذا لا نستطيع أن نحسب أنفسنا مُفلتين من نداء وقضاء كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم التي لا يزال وقعها قائماً حتى اليوم: "أتودّ أن تكرّم جسد المسيح؟ لا تحتقره إذا وجدته عارياً. لا تكرمه هنا، في الكنيسة، بأقمشةٍ من حرير، في حين تدعه خارجاً يقرص من البرد والعري" (113).
خدمة المحبة تجاه الحياة، يجب أن تتناغم تناغماً عميقاً: فليس من المسموح أن تأتي هذه الخدمة على شيء من التحيّز والتفريق، لأن الحياة البشرية مقدسة وحصينة في كل مراحلها وأوضاعها: إنها من الخيور التي لا تتجزأ. فعلينا إذن أن نُعنَى بكل الحياة وحياة الكل، بل ألأولى أن نتوغّل إلى أعمق ن ذلك لنبلغ إلى جذور الحياة والحب.
فمن منطلق حب عميق يشمل كل رجل وكل امرأة، تكوّنت، عبر القرون، حكاية حب عجيبة أدخلت على الحياة الكنسيّة والمدنيّة مؤسسات في خدمة الحياة تثير إعجاب كل مراقب نزيه. هذه الحكاية يجب على كل جماعة مسيحية أن تواصل تدوينها عبر عمل راعوي واجتماعي متنوّع وبروح مسؤولية متجددة. ولهذه الغاية يجب أن نستعمل، في مرافقة الحياة الطالعة، أنماطاً واعية وناشطة، وأن نكون إلى جانب الأمهات اللواتي لا يُحجمن عن إنجاب ولد وتحمُّل أعباء تربيته، حتى بمعزل عن مساعدة الأب. ويجب أن نعنى كذلك بالحياة المهمّشة أو المعذّبة ولا سيما في مراحلها الأخيرة.
88- كل هذا يستدعي عملاً تربوياً صبوراً وشجاعاً يحمل كل إنسان على النهوض بأعباء الآخرين (غل6/2)، وهذا يتطلب دعم التطوّعات للخدمة ومساندتها المستمرة، ولا سيما في صفوف الشبيبة، كما يفترض إقامة مبادرات ومشاريع محددة وثابتة ومستوحاة من الإنجيل.
ثمة وسائل كثيرة يمكن استثمارها بمهارة وجدّية في التزام شؤون الحياة الطالعة. لا بدّ من تشجيع مراكز تنظيم النسل بالوسائل الطبيعية واعتبارها سنداً راسخاً للأبوّة المسؤولة والأمومة المسؤولة، فيؤول ذلك إلى الاعتراف بكل إنسان، ابتداءً من الولد، واحترامه في حدّ ذاته، ويصبح كل خيار معلّلاً وموجّهاً وموزوناً بميزان العطاء وبذل الذات الكامل. هناك أيضاً مستشارو الأزواج والعيل الذين يقومون بعمل مميّز في نطاق المشورة والوقاية، في ضوء انتروبولجية تتناغم والرؤية المسيحية إلى الشخص والأسرة والجنس، وبإمكانهم أن يؤدوا مساعدة قيّمة في اكتشاف معنى الحب والحياة، ويساندوا ويرافقوا كل أسرة في رسالتها وصفتها "معبدا للحياة". مراكز دعم الحياة ومراكز استقبال الحياة ودُورُها هي أيضاً في خدمة الحياة البازغة. بفضل نشاط هذه المراكز استطاع أزواج معذّبون كثيرون وأمهات عازبات كثيرات أن يكتشفوا ثانية دواعي حياة وقناعات وأن يحظوا بعون ودعم ليتغلّبوا على مصاعبهم ومخاوفهم بإزاء حياة منتظرة عن قريب أو دخلت العالم منذ قليل.
في مواجهة أوضاع مُربكة وحالات انحراف أو مرض أو تهمّش تقوم مؤسسات أخرى: منها جماعات تأهيل المدمنين وجماعات استقبال القُصَّر ومرضى العقل ومراكز العناية بمرض السيدا وجمعيات التضامن وبخاصة للمعاقين. هذه المؤسسات هي تعبير بليغ لما تستطيع المحبة أن تستنبطه لتعطي كل إنسان دواعي جديدة للرجاء وإمكانات راهنة للعيش.
وأخيراً، عندما تُشرف الحياة البشرية على نهايتها، على المحبة أيضاً أن تجد الطرق المناسبة ليتمكَّن المُسنّون وبخاصة العجزة، والمرضى في طورهم الأخير، من الاستفادة من مساعدة بشرية حقيقية، وتلقّي الأجوبة التي تُلبّي حاجاتهم ولا سيما ما يتعلق بمخاوفهم وعزلتهم. في هذه الأحوال، ما من شيء يمكن أن يحلّ محلّ الأسرة، ولكن الأسرة تستطيع أن تلقى عوناً في مؤسسات الغوث الاجتماعية، وإذا دعت الضرورة، في العلاجات المخففة، والاستغاثة بالأجهزة الصحية والاجتماعية المناسبة التي تقوم بنشاطها في مراكز إقامة أو في مراكز عناية عامة أو منزلية.
ويجب إعادة النظر خصوصاً في المستشفيات والعيادات ودُور العناية: فهوّيتها الحقيقية لا تنحصر في كونها مؤسسات تُعنى بالمرضى المُشرفين على الموت، بل في كونها أولاً أمكنةً حيث الألم والعذاب والموت تُفهم وتُفسَّر في معناها البشري الأصيل والمسيحي المميّز. وبطريقة خاصة يجب أن تتجلّى هذه الهوية صراحة وفعلاً في المؤسسات التابعة للرهبان والراهبات، والمرتبطة بطريقة ما بالكنيسة.
89- هذه البُنى والأمكنة المخصصة لخدمة الحياة، وكذلك جميع المبادرات الأخرى الهادفة إلى التعاضد والتضامن والتي توحيها الظروف في كل حالة، بحاجة إلى منشّطين أسخياء ومتفرّغين، ومقتنعين اقتناعاً عميقاً من أهمية إنجيل الحياة لخير الأفراد والمجتمع.
هناك مسؤولية مميّزة موكولة إلى الجهاز الصحي: الأطباء والصيادلة والممرضين والممرضات والمرشدين والرهبان والراهبات والمديرين والمتطوّعين. إنهم، بحكم الوظيفة، حَرَسةُ الحياة البشرية وخَدَمَتُها. في القرائن الحضارية والاجتماعية الراهنة، ربما تعرّض هؤلاء المسؤولون لخطر التلاعب بمقدّرات الحياة، لا بل لخطر التحكم بقرار الموت، وذلك بسبب ما قد تؤدي إليه العلوم والفنون الطبّية من الإغضاء عن مبادئ الأخلاق النابعة من الطبيعة. في مواجهة هذه التجربة، تتعاظم اليوم مسؤوليتهم التي لا بدّ من أن تستمدَّ معناها الأعمق ودعمها الأقوى من تلك المبادئ الأخلاقية التي ترتكز عليها وظائف الصحة، وهي مبادئ ملتصقة بتلك الوظائف التصاقاً عضوياً، ولا يمكن التهاون فيها، كما يُقرُّ بذلك قَسًم هيبوقراطوس الذي لا يزال حديثاً رغم قِدَمِه والذي يُلزم كل طبيب أن يتعهَّد احترام الحياة البشرية وقُدسِيّتها احتراماً مطلقاً.
الاحترام المطلق لكل حياة بشرية بريئة يقتضي أيضاً ممارسة الاعتراض الضميري حيال الإجهاض المتعمَّد والقتل الرحيم. "فالقتل" لا يمكن البتة أن يُعتبَر علاجاً طبّياً، حتى وإن كانت النيّة الاستجابة فقط لطلب المريض: فذلك ينافي، بالعكس، مهنة الطب التي تُعرف بأنها "نَعَم" للحياة قوية وعنيدة. وحتى البحث في الشؤون الحياتية – الطبية، وما ينطوي عليه من وعود باهرة تؤذن البشرية بفوائد جديدة وجليلة، يجب أن يتأبّى دوماً من الاختبارات والمباحث والتطبيقات ما يجافي كرامة الإنسان وحصانته، فلا يعود في خدمة الناس بل يتحوّل إلى وسائل قهر، وإن بدا في الظاهر لوناً من ألوان النجدة الإنسانية.
90- المتطوّعون في الخدمة المجانية لهم مهمّة مميّزة: إنهم يؤدّون مساهمة قيّمة في خدمة الحياة إذا جمعوا بين الكفاءة المهنية والمحبة السخيّة المجانية. إنجيل الحياة يحثّهم إلى أن يَسْموا بعواطفهم من مجرد التعاطف البشري إلى ذروة محبة المسيح، وأن يستردّوا كل يوم، بالجهد والنَصَب، وَعْيَهم للكرامة التي ينعم بها كل إنسان، وأن يسعوا لاكتشاف حاجات الأفراد، مفتتحين – إذا اقتضى الأمر – طرقاً جديدة حيث تُلحُّ الحاجة، وحيث ينقص الانتباه والمساندة.
إن المحبة في واقعيتها الملحاحة، تقتضي بأن يُنشر إنجيل الحياة أيضاً بأساليب من الإنعاش الاجتماعي والالتزام السياسي تتكفّل الدفاع عن الحياة والتنويه بقيمتها في مجتمعاتنا الآخذة في مزيد من التعقّد والتعددية. فعلى الأفراد والعيل والجماعات والاتحادات أن تتحمل، بصفاتٍ وطرق متنوعة، مسؤولية الانعاش الاجتماعي ووضع مشاريع ثقافية واقتصادية وسياسية وتشريعية تساهم، باحترام الجميع وبمقتضى منطق الحياة الاجتماعية الديمقراطية، في بناء مجتمع يحترم ويحمي كرامة كل فرد ويذود عن حياة المجتمع ويعززها.
هذه المهمة تقع خصوصاً على المسؤولين عن الحياة العامة. إنهم مُلزَمون، من منطلق دعوتهم إلى خدمة الإنسان والصالح العام، اتخاذ الخيارات الجريئة في صالح الحياة، وبخاصة في نطاق الإجراءات التشريعية. في طريقة الحكم الديمقراطي حيث القوانين والقرارات تُحدّد على أساس توافق واسع النطاق، قد يتضاءل حسُّ المسؤولية الشخصية في ضمير المشاركين في السلطة. ولكن لا يجوز قط لأحد أن يستعفي من هذه المسؤولية، خصوصاً إذا أُسنِدت إليه وكالة اشتراعية أو سلطة تنفيذية. مثل هذا الانتداب يحمّله مسؤولية الجواب، أمام الله وأمام ضميره وأمام المجتمع بكامله، عن خيارات قد تكون منافية لحقيقة الصالح العام. إذا صحّ أن القوانين ليست هي الوسيلة الوحيدة للدفاع عن الحياة البشرية، بيد أن لها دوراً في غاية الأهمية، بل حاسماً أحياناً في تكوين الذهنيات والأعراف. إني أكرّر، تارة أخرى، أن كل قانون ينتهك ما يملكه الإنسان البريء من حق طبيعي في الحياة، هو قانون جائر، وليس له، من ثم، قوة الإلزام. ولذا أجدّد بقوة ندائي إلى جميع السياسيين وأناشدهم ألاّ يُصدروا من القوانين ما يُجحف بكرامة الإنسان وينسف حياة المجتمع المدني في جذوره.
تَعْلَمُ الكنيسة أنه من الصعب، في وضع الديمقراطيات التعددية، وبسبب ما يحكمها من تيارات ثقافية قويّة ومتضاربة، أن تتوفر للحياة حماية شرعية فعّالة. ولكن الكنيسة، بدافع يقينها من أن الحقيقة الأدبية لا يمكن إلاّ أن تترك صدىً في صميم الضمائر، تُشجّع السياسيين، بدءاً من المسيحيين، على ألاّ يذعنوا للواقع، وأن يقرّوا من الخيارات ما يؤدّي، باعتبار الإمكانات المتوفرة، إلى إعادة نظام عادل يؤكد قيمة الحياة ويعزّزها. في هذا الإطار، لا بدّ من التنبيه إلى أنه لايكفي إلغاء القوانين الجائرة، بل يجب مكافحة الأسباب التي تشجع الاعتداءات على الحياة، وذلك خصوصاً بتوفي الدعم الذي يحق للأسرة والأمومة: فالسياسة العيلية يجب أن تكون هي المحور والمحرّك لكل السياسات الاجتماعية. ولذا لا بد من إطلاق مبادرات اجتماعية وتشريعية تضمن للمواطنين شروط حرية صحيحة في الخيارات المتعلقة بالأبوّة والأمومة. ولا بد، بالإضافة إلى ذلك، من إعادة النظر في سياسات العمل والحياة المدنية والسكن والخدمات، لكي يتم التوازن بين أوقات العمل والأوقات المحفوظة للعيلة، بحيث يصبح بالإمان فعلاً الاهتمام بالأولاد والمسنّين.
91- المعضلات الديمغرافية هي اليوم وجه هام من وجوه السياسة لأجل الحياة. على السلطات العامة من تضطلع، ولا شك، باتخاذ المبادرات الآئلة إلى "توجيه ديمغرافية السكان" (114)، ولكن هذه المبادرات يجب أن تفترض وتحترم دائماً المسؤولية الأولى والتي لا يمكن أن يتخلّى عنها الأزواج والعيل. ولا يمكن أن تتضمن الركون إلى أساليب لا تراعي الشخص وحقوقه الأساسية وفي طليعتها حق كل إنسان بريء في الحياة. من المفروض إذن أدبياً، في تنظيم النسل، أن يُعمد إلى تشجيع بل إلى فرض استعمال وسائل منع الحمل والتعقيم والإجهاض وما سوى ذلك.
ثمة وسائل أخرى كثيرة لحل المشكلة الديمغرافية: على السلطات الحاكمة والمؤسسات الدولية أن تسعى أولاً إلى توفير شروط اقتصادية واجتماعية وطبية وصحية وثقافية تمكّن الأزواج من تحديد خياراتهم في نطاق الإنجاب بكل حرية وبمسؤولية حقيقية. وعليها أيضاً أن تسعى إلى "زيادة وسائل العيش، وتوزيع ثروة الأرض توزيعاً أكثر عدالة ليتمكّن الجميع من المشاركة بإنصاف في خيور الدنيا. لا بدّ من العثور على حلول بمستوى العالم، وبناء اقتصاد حقيقي، اقتصاد تضامن ومشاركة في الأرزاق، على الصعيد الدولي كما على الصعيد الوطني" (115).
خدمة إنجيل الحياة هي إذن مهمة واسعة ومعقّدة، وهي تبدو لنا، أكثر فأكثر، إطاراً مشوّقاً ومشجّعاً للتعاون الفعّال مع إخوتنا في الكنائس والجماعات الكنسية الأخرى في خط التعاون المسكوني الذي حبذه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بسلطته (116). ثم إن إنجيل الحياة هو فسحة ربانية للحوار والتعاون مع مؤمني الديانات الأخرى ومع كل المُخلصين: فحماية الحياة وتعزيزها ليسا حكراً على أحد بل هما واجب الجميع ومسؤوليتهم. هناك تحدٍّ مرير علينا أن نواجهه ونحن عند عتبة الألف الثالث. ولن نستطيع إلاّ بالتعاون والتنسيق بين جميع الذي يؤمنون بقيمة الحياة، أن نتجنّب خطر الإخفاق في بناء الحضارة وما يجرّه ذلك من مغبّات لا يمكن أن نحسب لها حساباً.
"إن البنين ميراث من الرب وثمرة البطن ثواب منه" (مز 126/2): الأسرة حَرَم الحياة
92- للأسرة مسؤولية حاسمة، في نطاق "شعب الحياة المجنّد للحياة": مسؤولية تنبع من ذات طبيعتها، من حيث هي أسرة حياة وحبّ، مؤسسة على الزواج، ومن رسالتها الهادفة إلى "حماية الحب وإشعاعه وتوريثه" (117). هذا الحب هو حب الله بالذات وقد أقام الله الوالدين أعواناً له يترجمون حبه في توريث الحياة وفي التربية، وفاقاً لقصد الآب (118), هذا الحب يتحوّل إذن مجانيّة وبشاشة وعطاء: ففي الأسرة، كلٌّ يحظى بالاحترام والإكرام لأنه إنسان. وإذا ألمّت بأحدهم حاجة، تكثفت حوله الرعاية والعناية.
"للأسرة دور تقوم به ما دام أعضاؤها في الوجود، من المهد إلى اللحد. إنها حقاً "حرم الحياة"، والمكان الذي تجد فيه الحياة – وهي عطيّة الله – ما تحتاج إليه من رعاية وحماية في وجه التعديات الكثيرة التي تتعرّض لها، هي المكان الذي تنمو فيه الحياة، وفقاً لمقتضيات النموّ الإنساني الصحيح" (119). ولذا، فللأسرة دور حاسم ولازم لبناء حضارة الحياة.
على الأسرة، بوصفها "كنيسة بيتية" أن تبشّر بإنجيل الحياة احتفالاً وخدمة. والأزواج هم المعنيّون الأولون بتلك الرسالة، وقد دعاهم الله إلى توريث الحياة، مستندين إلى وعي متجدد بلا انقطاع لمعنى الإنجاب، بصفته فعلاً متميزاً يتجلّى من خلاله أن الحياة البشرية عطية يتلقاها الإنسان ليهبها ثانية. عندما يُنجب الوالدان حياة جديدة يدركان أن الولد "إنما هو ثمرة عطية حبهما المتبادل ويصبح، بدوره، عطية لكليهما: عطية تنبع من العطية!" (120).
بتربية الأولاد خصوصاً تضطلع الأسرة بمهمة إعلان إنجيل الحياة. فبالكلام والمثال، وفي العلاقات والخيارات اليومية، وبالأفعال والدلائل الملموسة، يدرّب الأهل أبناءهم على الحرية الحقيقية بممارسة العطاء الكامل، ويزرعون فيهم احترام الغير ومعنى العدالة والانفتاح الرقيق والحوار والخدمة السخيّة والتضامن وسائر الفضائل الأخرى التي تساعدهم في أن يجعلوا من حياتهم حياة عطاء. العمل التربوي الذي يقوم به الوالدون المسيحيون يجب أن يدعم إيمان الأولاد ويساعدهم في تلبية الدعوة التي يوجهها الله إليهم. ويدخل أيضاً في رسالة الوالدين التربوية أن يلقّنوا أبناءهم معنى العذاب الصحيح ومعنى الموت، ويؤدوا لهم في ذلك شهادة، ويصبح ذلك ممكناً إذا استوعبوا جميع الآلام التي يصادفونها حولهم، وإذا عرفوا، قبل كل شيء، أن يقفوا وقفةً واقعية إلى جانب المرضى والعجّز في محيطهم العيلي للمساندة والمشاركة.
93- وتحتفل الأسرة بإنجيل الحياة أيضاً بالصلاة اليومية، الفردية والعيلية: ففي الصلاة تُسبّح الرب وتشكر له عطية الحياة وتلتمس منه تعالى نوراً وقوة لمواجهة فترات الضيق والألم وتظلّ صامدة في الرجاء. ولكن الاحتفال الذي يُكسِب كل شكل آخر من أشكال الصلاة والعبادة معناه، إنما هو الاحتفال الذي ينعكس في حياة الأسرة اليومية إذا قامت على المحبة والعطاء.
هكذا يغدو الاحتفال خدمة لإنجيل الحياة، بالتضامن الذي تمارسه الأسرة ضمنها وحولها إلتفاتةً رقيقة ويَقْظةً متعاطفة في الأحداث اليومية الصغيرة والمتواضعة. وينعكس هذا التضامن بوجه خاص عندما ترضى الأسرة بأن تتبنّى أو تتعهّد أولاداً تخلّى عنهم أهلهم أو أمسَوا في أوضاع مرهقة. فالحب الوالدي الحقيقي يتخطّى علائق اللحم والدم ويستقبل أيضاً أولاداً من عيل أخرى، ويزّودهم بما يحتاجون إليه ليعيشوا وينتعشوا انتعاشاً كاملاً.
من أشكال التبنّي، التبنّي عن بعد أو التعهد، ويمكن اقتراحه بالأفضلية في الحالات التي يأتي التخلّي عن الولد نتيجة ما تعانيه الأسرة من عوزٍ شديد. هذه الطريقة في التبنّي توفّر للأهل ما يحتاجونه لإعالة أولادهم وتربيتهم، من غير أن يُنتزعوا من محيطهم الطبيعي.
هذا التعاضد، إذا اعتبرناه "تصميماً راسخاً ودؤوباً على العمل في سبيل الصالح العام" (121)، فهو يتطلب منّا أن نمارسه أيضاً عن طريق مشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية، وبالتالي فخدمة إنجيل الحياة تفترض أن العيل، ولا سيما إذا انخرطت في جمعيات، تسعى إلى ألاّ تُجحِفَ البتة قوانين الدولة ومؤسساتها بحق الناس في الحياة، منذ نشأتها حتى موتها الطبيعي، بل تدافع عنها وتساندها.
94- لا بدّ من أن نفسح للمسنّين مكاناً خاصاً. عند بعض الحضارات يلبث المتقدّمون في السن مندمجين في الأسرة حيث يقومون بدور بالغ الأهمية. ولكن في بعض الحضارات الأخرى يُعتبر المُسِنّ عبئاً لا فائدة منه ويُترَك لمصيره. في مثل هذا الوضع يُمسي القتل الرحيم حلاًّ مغرياً.
لا يمكن السماح بتهميش المسنين أو انتباذهم. وجودهم في الأسرة أو غير بعيد عن الأسرة – إذا لم يكن ثمة حلّ آخر بسبب ضيق المساكن أو لأي سبب آخر – له أهمية جوهرية في خلق جوّ غني الفائدة من التبادل والتعايش بين مختلف الأجيال. من الأهمية إذن بمكان أن نحافظ على نوع من "الميثاق" بين الأجيال أو أن نعيده إذا بطل، لكي يجد الأهلون المُسِنّون الذين أشرفوا على غروب حياتهم، بقرب أبنائهم، ما تلقّوه هم أنفسهم من أهلهم من ترحيب ومؤازرة عند فجر حياتهم: ذاك هو مقتضىً من مقتضيات الوصية الإلهية القاضية بإكرام الأب والأم (خر 20/12، أح 19/3). ولكن ثمة ما هو أكثر من ذلك. فالمُسِنّ يجب ألاّ يُعتَبَر فقط موضوع عناية حميمة وخادمة، بل له قسطه المفيد في تعزيز إنجيل الحياة. فهو، بفضل ما لديه من تراث خبرة تجمَّع له مدى السنين، يستطيع بل يجب عليه أن يورِّث الحكمة ويشهد للرجاء والمحبة.
إذا صحّ أن "مستقبل البشرية يمرّ بالأسرة" (122)، فلا بدّ منالإقرار بأن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تجعل تطوّع الأسرة لخدمة الحياة أشد صعوبة ومشقّة. فلكي تتمكن الأسرة من أن تلبّي داوتا إلى أن تكون "حرم الحياة" ونواة مجتمع يُحب الحياة ويبشر لها، من الضروري بل من الملحّ أن يوفّر لها ما تحتاجه من عونٍ وسند. على المجتمعات والدول أن تؤدي كل الدعم، ومن ضمنه الدعم الاقتصادي، لتتمكن العيل من أن تواجه مشكلاتها الإنسانية على أكمل وجه. وعلى الكنيسة، من جهتها، ألاّ تكفَّ عن تعزيز رعية عيليّة تؤهل كل أسرة لأن تكتشف ثانية رسالتها تجاه إنجيل الحياة وتمارسها في الشجاعة والفرح.
"سيروا سيرة أبناء النور" (أف5/8): لا بدّ من منعطف حضاري
95- "سيروا سيرة أبناء النور... تبيّنوا ما يُرضي الرب. ولا تشاركوا في أعمال الظلمة العقيمة" (أف 5/ 10- 11). في الوضع الاجتماعي الراهن، وما يميّزه من تجابه فاجع بين "حضارة الحياة" و"حضارة الموت"، لا بدّ من أن ننمّي فينا حاسة تمييز مرهف، لنتبيّن القيم السليمة والحاجات الحقيقية.
ومن الملحّ أن نعمد إلى تجييش الضمائر على الصعيد العام وإلى القيام بمجهود أخلاقي مشترك، لتحريك استراتيجية واسعة في خدمة الحياة. ولا بدّ من أن نبني كلنا معاً حضارة جديدة لدعم الحياة: وتقوم جدّتها على كونها مؤهّلة لأن تواجه وتحلّ المشاكل المستحدثة المطروحة اليوم في شأن الحياة البشرية. وتقوم جدّتها أيضاً على كونها قادرة على إيقاظ مباحثة ثقافية جدّية وشجاعة بين الجميع. ملحاحية هذا المنعطف الثقافي ترتكز على الوضع التاريخي الذي نخوضه، ولكنها تنبع خصوصاً من مهمة البشارة نفسها المنوطة بالكنيسة. ولا غرو، فالإنجيل إنما يهدف إلى "تغيير الباطن وتجديد البشرية نفسها" (123). إنه أشبه بالخميرة التي تخمّر العجين كله (متى 13/ 33)، وهو يهدف، بصفته ضميراً، إلى التغلغل في تضاعيف كل الثقافات وإحيائها من الداخل (124) لتعبّر عن الحقيقة كلها في شأن الإنسان وحياة الإنسان.
لا بدّ من البدء بتجديد حضارة الحياة داخل الجماعات المسيحية نفسها. المؤمنون وحتى المساهمون مساهمة ناشطة في الحياة الكنسية كثيراً جداً ما يقعون في وجهٍ من وجوه الفصل بين الإيمان المسيحي وملزماته الأخلاقية في شأن الحياة، فينتهون هكذا إلى الشخصانية الأدبية وبعض المواقف المرفوضة. لا بدّ، آنذاك، من أن نتساءل بكل تبصّر وجرأة، ما هي طبيعة حضارة الحياة المنتشرة اليوم بين المسيحيين والعيل والمجموعات والجماعات القائمة في أبرشياتنا. وعلينا أن نحدد أيضاً، بنفس الوضوح ونفس التصميم، الإجراءات التي علينا أن نقوم بها خدمة للحياة في ملء حقيقتها. وعلينا، في الوقت نفسه، أن نقيم نقاشاً رصيناً وعميقاً مع الجميع وحتى مع غير المؤمنين، في المعضلات الأساسية المتصلة بالحياة البشرية، وذلك في مواطن صياغة الفكر كما في مختلف الأوساط المهنية والأماكن التي تجري فيها حياة الناس كل يوم.
96- أول عمل أساسي نقوم به للبلوغ إلى هذا المنعطف الحضاري، تنشئة الضمير الأدبي في شأن ما تتمتع به كل حياة بشرية من قيمة لا يمكن قياسها ولا انتهاكها. وإنه لفي غاية الأهمية أن نكشف ثانية العلاقة الوثيقة بين الحياة والحرية: فالحياة والحرية خيران لا يمكن فصلهما : فإذا تضرّر أحدهما تضرّر الآخر أيضاً. فليس من حرية حقيقية حيث لا تحظى الحياة بالمحبة والرعاية، وليس من حياة كاملة إلاّ في الحرية. هاتان الحقيقتان لهما مرجع أول ومميّز يربط بينهما ربطاً محكماً، وهو الدعوة إلى الحب. هذا الحب، بصفته عطيّة ذاتٍ كاملة (125)، يمثّل الحياة والحرية في أكمل معانيها.
اكتشاف الرباط الصميم بين الحرية والحقيقة لا يَقِلُّ أهميةً في تنشئة الضمير. لقد قلت هذا غير مرّة: الفصل جذرياً بينا لحرية والحقيقة الموضوعية يحول دون إسناد حقوق الإنسان إلى مرتكز عقلاني متين، ويفسح الطريق، في المجتمع، إلى خطر التعسّف الفوضوي لدى الأفراد والتسلط الوبيل لدى السلطات العامة (126).
وإنه لمقتضىً أساسي أيضاً أن يعترف المرء ببداهة مخلوقيّته، وتقبّله من الله عطية الحياة ومسؤوليتها: فالإنسان لا يمكنه أن يحقق ملء حياته وحريته، كما لا يمكنه أيضاً أن يحترم احتراماً كاملاً حياة الغير وحياته إلاّ إذا تقبّل حقيقة تبعيّته الكيانية. ويتبيّن لنا ههنا خصوصاً أنه "في صميم كل حضارة يكمن موقف الإنسان من أعظم سرّ في الحياة، وهو سر الله" (127). فعندما ننكر وجود الله، ونعيش وكأنه غير موجود، أو أقلّه كأننا لا نكترث لوصاياه، فسرعان ما نتوصل إلى أن ننكر أو نهدّد كرامة الإنسان ومناعة حياته.
97- ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بتنشئة الضمير العمل التربوي الذي يساعد الإنسان في أن يزداد دوماً في الإنسانية، ويولجه دوماً أكثر في طريق الحقيقة، يوجهه نحو مزيد من احترام الحياة ويُعدُّه ليقيم مع الإنسان علاقات سليمة.
ولا بدّ خصوصاً من تربية الإنسان على فهم قيمة الحياة، ابتداءً من جذورها. من الوهم الاعتقاد بإمكان بناء حضارة حقيقية للحياة البشرية، إذا لم نساعد الشبيبة في فهم وعيش الجنس والحب والوجود كله والإقرار بفحواها الحقيقي وترابطها الوثيق. فالجنس، وهو ثروة كل الإنسان، "يتجلّى معناه الحميم في حمل الفرد على أن يهب ذاته هبةً كاملة في الحب" (128). ابتذال الجنس هو من أهم عوامل امتهان الحياة الناشئة: الحب الحقيقي يعرف وحده كيف يُحافظ على الحياة! لا يمكن إذن أن نعفي أنفسنا من أن نعرض على الشبان والفتيان خصوصاً تربية صحيحة في شؤون الجنس والحب، تتضمن التنشئة على العفّة، وهي الفضيلة التي تساهم في إنضاج الإنسان وإعداده لاحترام الجسد وقيمته "التزاوجيّة".
ما نقوم به من مسعى للتربية على الحياة، يتضمن تنشئة الأزواج على الإنجاب المسؤول. الإنجاب المسؤول، في مرماه الحقيقي، يفترض انقياد الأزواج لنداء الرب وسلوكهم مسلك الأمناء في التعبير عن إرادته: ويكونون هكذا عندما يفسحون مجالاً سخياُ في عيلهم "لحياتاتٍ" جديدة، ويمكثون، في كل حال، في وضع انفتاح وخدمة تجاه الحياة، حتى وإن اضطرّوا أحياناً، لأسباب خطيرة وفي احترام الشرع الأدبي، إلى اجتناب حمل جديد، لفترة معينة أو لأجَلٍ غير مسمى. ويُلزِمهم الشرع الأدبي، في كل الأحوال، أن يكبحوا نزعات غرائزهم وأهوائهم وأن يحترموا القوانين البيولوجية المكتوبة في ضمائرهم. وهذا هو، بالضبط، الموقف الذي يُسوّغ الركون إلى الوسائل الطبيعية لتنظيم النسل، للمساعدة في ممارسة الإنجاب المسؤول: هذه الوسائل توضَّحت علمياً مع الأيام، وتوفر للأزواج إمكانات ملموسة لاتخاذ خيارات تتناغم والقيم الأخلاقية. إن ما يتوفر لنا من ملاحظة نزيهة للنتائج الراهنة يجب أن يُسقِط الأوهام الرائجة حتى الآن ويقنع الأزواج، وكذلك المسؤولين في أجهزة الصحة والخدمات الاجتماعية، من أهمية القيام بتربية مناسبة في هذا المضمار. إن الكنيسة تعترف بجميل الذي ينهجون طريق البحث في هذه الأساليب ويعمّمون استعمالها مع ما يكلّفهم ذلك من تفانٍ وتضحيات شخصية مغموطة في كثير من الأحيان، وهم يقرنون إلى ذلك ما تفترضه وظيفتهم من تنمية التربية على القيم الأدبية.
هذا المسعى التربوي لا يمكنه إلاّ أن يشمل أيضاً اعتبار الألم والموت. والواقع أن الألم والموت جزء من الخبرة البشرية، ومن الباطل بل من الخطأ أن نسعى إلى إخفائهما أو إلى تنحيتهما. بل بالعكس يجب أن نساعد كل إنسان في فهم سرهما العميق في حقيقته القاسية والراهنة. حتى الألم والعذاب يكتسبان معنىً وقيمة إذا عشناهما في علاقة وثيقة بالحب الذي نُعطاه ونعطيه. من هذا المنظار، أردت أن يُحتَفَل، كل سنة، باليوم العالمي للمريض، منوّهاً "بقيمة العذاب وطابعه الخلاصي والقرباني، فإذا تحمّلناه بالاشتراك مع المسيح، فهو من جوهر سر الفداء" (129).
وعلى كلًّ، فالموت نفسه هو أبعد ما يكون عن مجرّد مغامرة بلا رجاء: إنه باب الوجود المشرع على الأبدية وهو، للذين يتقبّلونه في المسيح، خبرة المشاركة في سر موته وقيامته.
98- يمكننا القول، بموجز الكلام، إن المنعطف الحضاري الذي نتمنّاه يتطلب من الجميع جرأة الولوج في نمط جديد من الحياة، يتبنّى سُلّماً صحيحاً للقيم، يكون مُرتَكَزاً للخيارات العملية على الصعيد الشخصي والعيلي والاجتماعي والدولي: وهو تفضيل الكيان على المقتنى (130)، والأشخاص على الأشياء (131). هذا النمط من الحياة المتجددة يفترض أيضاً الانتقال من حالة اللامبالاة إلى حالة الإلتفات إلى الغير، ومن حالة الانتباذ إلى حالة الاستقبال: فليس الآخرون منافسين يجب الاحتراز منهم بل هم إخوة وأخوات علينا أن نحبّهم لذواتهم.
يجب ألاّ يشعر أحد بأنه مستثنى من هذا التطوّع لحضارة جديدة للحياة. فالجميع لهم دور هام يقومون به. رسالة المعلمين والمربّين، إلى جانب رسالة العيل، لها فائدة خاصة. فإنه منوط بهم، إلى حدّ بعيد، أن تعرف الشبيبة المدرّبة على الحرية حق التدرب، كيف تحفظ لذاتها وتنشر حولها نماذج حياة حقيقية وكيف تنمو في احترام وخدمة كل إنسان في الأسرة وفي المجتمع.
وكذلك المثقفون بإمكانهم أن يساهموا مساهمة كبيرة في بناء حضارة جديدة للحياة البشرية. المثقفون الكاثوليك لهم دور خاص في هذا المجال، لأنهم مدعوون إلى أن يكون لهم حضور فاعل في المواقع المنظورة حيث تتكون الثقافة، في عالم المدرسة والجامعة، وفي أوساط البحث العلمي والتقني، وفي دوائر الإبداع الفني والفكر الأنَسي. إنهم يستمدون وَحْيَهم وعملهم من قراح ماوية الإنجيل، وعليهم من ثم أن يسعوا جهدهم لتعزيز حضارة حياة جديدة بالمساهمة في بحوث رصينة ووثيقة بإمكانها أن تلفت انتباه الجميع وتكسب احترامه، بما تتميز به من مستوى رفيع. ولهذا بالتحديد، أسَّسْتُ الأكاديمية الحبرية للذود عن الحياة، وهدفها "أن تعالج بالدرس والإعلام والتربية أهم قضايا البيولوجية – الطبية والحقوقية المتصلة بتوفير الحياة وحمايتها، وخصوصاً في العلاقة المباشرة بالمناقبية المسيحية وتوجيهات السلطة التعليمية في الكنيسة" (132).
القيّمون على وسائل الاتصال الاجتماعي على اختلاف فئاتهم يتحمّلون مسؤولية خطيرة وباهظة: عليهم أن يبذلوا جهدهم لينقلوا التعاليم المتعلقة بالحياة نقلاً فاعلاً فتساهم في تعزيز حضارة الحياة. عليهم أن يقدموا أمثلة حياة رفيعة ونبيلة ويفسحوا مجالاً لشهادات حياة إيجابية وبطولية أحياناً في المحبة الإنسانية، ويعرضوا قيم الجنس والحب باحترام كبير، بدون ما توقّف على ما يفسد الكرامة البشرية ويحقّرها. وعليهم، عندما يُقبلون على قراءة الحقيقة، أن يرفضوا التنويه بما يمكن أن يوحي أو يضخّم مشاعر أو مواقف لامبالاة أو احتقار أو تنكّر للحياة. ومع تمسكهم بحقيقة الأشياء تمسكاً دقيقاً لهم أن يقرنوا إلى حرية الإعلام احترام جميع الأشخاص وشعوراً إنسانياً عميقاً.
99- للوصول إلى هذا المنعطف الحضاري في خدمة الحياة، تقوم المرأة، بفكرها ونشاطه، بدور فريد وحاسم: فإنه يعود لها أن تعزز "المطالبة بحقوق المرأة" بأسلوب جديد، ولكن من غير أن تنقاد لإغراء التشبه بالنماذج "الرجُلية"، فتعترف بالعبقرية النسويّة الحقة وتعبر عنها في كل مظاهر الحياة المجتمعية، وتسعى إلى أن تتخطى كل شكل من أشكال التفرقة والعنف والاستغلال.
أوجِّه أن أيضاً إلى النساء هذا النداء الملحّ الذي ضمّنه المجمع الفاتيكاني الثاني بلاغه الأخير: "صالحوا الناس مع الحياة" (133) إنكنَّ مدعوات إلى الشهادة لمعنى الحب الحقيقي، وبذل الذات، والانفتاح على الغير التي تتحقق في العلاقة الزوجية، بوجه خاص، وفي إنعاش كل علاقة أخرى بين الناس أيضاً. خبرة الأمومة تعزّز عندكنّ شعوراً مرهفاً بقيمة الغير وتسند إليكنَّ، في الوقت نفسه، مسؤولية مميّزة: "إن الأمومة تفترض مشاركة خاصة في سر الحياة تنضج في أحشاء المرأة [.....] هذا النمط الوحيد في ملامسة الكائن البشري الجديد أثناء الحمل، يكوّن، بدوره، موقفاً من الإنسان – لا من الابن وحسب، بل من الإنسان بعامّة – يطبع شخصية المرأة بطابع مميّز عميق" (134). ولا غرو، فالمرأة تستقبل وتحمل في ذاتها شخصاّ آخر، وتمكّنه من أن ينمو فيها وتفسح له المكان الذي يرجع له، محترمة غيريّته. وهكذا تدرك المرأة وتعلم أن العلاقات البشرية لا تصِحُّ إلاّ بمقدار ما تنفتح على الغير فتشمله بالاعتراف والمحبة، بداعي كرامته الإنسانية لا بدوافع أخرى كالمنفعة والقوة والنباهة والجمال والصحة. تلك هي المساهمة الأساسية التي تنتظرها الكنيسة والبشرية من المرأة، وتلك من الممهدات التي لا بد منها في المنعطف الثقافي الراهن.
أود أن أوجه إليكنَّ التفاتة خاصة، أيتها النساء اللواتي عَمَدْنَ إلى الإجهاض. تعرف الكنيسة الظروف الكثيرة التي يمكن أن تكون قد ضغطت على قراركن. وهي لا تشك في أن هذا القرار، في كثير من الأحوال، كان مدعاة إلى الألم والأسى. جرح النفس هذا من المحتمل ألاّ يكون قد التأم بعد. لا شك أن ما جرى كان ولا يزال على كثير من الظلم. ولكن لا تنسقْنَ إلى اليأس ولا تتخلَّينَ عن الرجاء، بل افهمن، بالأحرى، ما حدث وفسّرنَهُ في ضوء الحقيقة. افتحنَ قلبكنَّ للندم بتواضع وثقة، وإذا كنتنَّ لم تُقبِلنَ بعد على ذلك: فإن أبا المراحم ينتظركنَّ ليقدم لكنَّ الصفح والسلام في سر المصالحة: فَتُدْرِكْنَ إذ ذاك أنه لم يفت الأوان. ويمكنكنَّ أيضاً أن تستغفرن الطفل الذي باتت حياته في الربّ. إذا وقف إلى جانبكنَّ أصدقاء أكفاء يسعفونكنَّ بنصحهم وحضورهم، فسوف تصبحنَ من أبلغ المقتنعين وأشد المناضلين عن حق الجميع في الحياة بشهادتكنّ المتألمة. إذا تجندتُنَّ لخدمة الحياة وفي توّجتنَّ كفاحكنَّ بولادة خلائق جديدة ومارستُنَّ هذه الخدمة بروح الانفتاح والتنبّه لمن هم بأمسّ الحاجة إلى حضور دافئ فسوف تساهِمْنَ في خلق نظرة جديدة إلى حياة الإنسان.
100- في هذا المسعى لإنشاء حضارة جديدة في خدمة الحياة، نجد ما يدعمنا وينعشنا في ثقتنا بأن إنجيل الحياة، كملكوت الله، ينمو ويؤتي ثماراً وافرة 0مر4/ 26- 29). لا شك أن ثمة خللاً فادحاً في النسبة بين الوسائل الهائلة والقديرة التي نجدها في حوزة القوى الساعية إلى "حضارة الموت" والوسائل التي يركن إليها الداعون إلى "حضارة الحياة والحب". ولكننا نعرف كيف نعوّل على معونة الله الذي لا يستحيل عليه شيء (متى 19/ 26).
مع هذا اليقين في قلبنا، ومع ما يحدونا من عطفٍ يشوبه القلق على مصير كل إنسان وكل إمرأة، أكرر اليوم للجميع ما قلتُه للعيل المتجنّدة لمهامها التي تُصعِّبها المكائد التي تتهددها: (135) لقد أصبحنا بحاجة ماسة إلى صلاة كبيرة لأجل الحياة تخترق العالم بأسره. ألا فلتتصاعد من كل الجماعات المسيحية وكل المجموعات والحركات وكل العيل، ومن قلب كل المؤمنين، عبر مبادرات استثنائية وفي الصلاة المألوفة، ابتهال لاهب نحو الله الخالق المحب الحياة! وقد علّمنا يسوع نفسه بمَثَلِهِ أن الصلاة والصوم هما السلاحان الأهم والأمضى في مكافحة قوى الشر (متى 4/1- 11)، وأوعز إلى تلاميذه أن من الشياطين ما لا يمكن طرده إلاّ بهذه الوسيلة (مر 9/ 29). لنسْتَعِد إذن ما لا بدّ منه من تواضع وشجاعة لنصلي ونصوم وننال القوة من العلاء لتتداعى أسوار الخداع والدجل التي تحجب عن أعين الكثيرين من إخوتنا وأخواتنا طبيعة الخبث الكامن في المواقف والقوانين المعادية للحياة، ولتنفتح القلوب على ما توحيه حضارة الحياة والحب من قرارات ونوايا.
"نكتب إليكم بذلك ليكون فرحنا تاماً" (1يو 1/ 4): إنجيل الحياة في خدمة المدنيّة الإنسانية
101- "نكتب إليكم بذلك ليكون فرحنا تاماً" (1يو 1/ 4). لقد كُشِفَ لنا إنجيل الحياة كنزاً نوزّعه على الجميع لكي يصير الناس كلهم في شركة معنا ومع الثالوث ( 1يو 1/ 3). نحن أيضاً لا نستطيع أن نكون في غمرة الفرح إذا لم ننقل هذا الإنجيل إلى الآخرين، واحتفظنا به لأنفسنا.
إنجيل الحياة لا يقتصر على المؤمنين بل هو للجميع. فمسألة الحياة والذود عنها وتعزيزها، وإن تلقّت من الإيمان نوراً وقوة خارقين، ليست امتيازاً للمسيحيين وحدهم، بل تَمُتُ إلى كلِّ ضمير بشري يصبو إلى الحقيقة ويبالي مصير البشرية ويحرص عليه. لا شك أن الحياة تتضمن قيمةً قدسيّة ودينية، إلاّ أنه لا يمكن القول، ولا بوجه من الوجوه، بأن قضية الحياة لا تسترعي إلاّ المؤمنين: وذلك بأن قيمة الحياة، كل إنسان يستطيع أن يدركها في ضوء العقل، ومن ثم فكل الناس معنيّون بها حتماً.
وبالتالي فما نقوم به، نحن شعب الحياة وفي سبيل الحياة، يجب أن يتفهمه الآخرون تفهّماً منصفاً، ويتقبّلوه تقبّلاً ودّياً. فعندما تعلن الكنيسة أن ما يملكه كل إنسان بريء من حقٍ مطلق في الحياة – من لحظة الحبل به إلى ساعة موته الطبيعي – إنما هو ركيزة من ركائز كل مجتمع مدني، فهي "لا تتوخى إلاّ العمل على تعزيز دولة إنسانية، تعترف بأن واجبها الأول هو الذود عن الحقوق الأساسية التي يتمتع بها كل شخص بشري، وخصوصاً حقوق المستضعفين" (136).
إنجيل الحياة هو لمنفعة المجتمع البشري. فالعمل في خدمة الحياة يساهم في تجديد المجتمع، بتحقيق الصالح العام. فليس من الممكن أن يتحقق الخير العام بدون الإقرار بحق الإنسان في الحياة والذود عنه، وهو الأساس الذي عليه ترتكز وبه تتطوّر جميع ما هنالك من حقوق إنسانية أخرى لا يجوز الإطاحة بها. ولا يستطيع مجتمع أن يقوم على أساس متين، إذا اعترف بالكلام بقيم الكرامة والعدالة والسلام، وناقض نفسه مناقضة جذرية، بالرضى أو بالتغاضي عن مختلف أشكال الإزدراء بالحياة البشرية والتعرض لها وبخاصة الحياة الضعيفة أو المهمّشة. احترام الحياة يستطيع وحده أن يؤمّن مرتكزاً وضمانة لأكثر خيور المجتمع قيمة وضرورة، كالديمقراطية والسلام.
والحقيقة أنه لا يمكن أن تقوم ديمقراطية صحيحة، إذا أنكرت كرامة كل شخص ولم تحترم حقوقه.
ولا يمكن أيضاً أن يقوم سلام حقيقي، إذا خلا المجتمع ممّن يدافع عن الحياة ويساندها، كما ذكَّر بذلك بولس السادس: "كل جريمة ضد الحياة هي جريمة ضد السلام، خصوصاً إذا انتُهكت أخلاق الشعب [.....] ولكن حيث تُعلن حقاً حقوق الإنسان ويُعترَف بها ويُدافَع عنها علناً فالسلام يصبح هو الجو الذي يعيش فيه المجتمع في غمرة الفرح والفاعلية" (137).
إن "شعب الحياة" يُسعده أن يقاسم الآخرين عهوده، فيزداد "شعب الحياة" يوماً بعد يوم يغدو بإمكان الحضارة الجديدة، حضارة الحب والتضامن، أن تتطوّر وتنمو لخير المجتمع البشري الحقيقي.
خاتمة
102- في نهاية هذه الرسالة العامة، يعود النظر، بطريقة عفوية، إلى الرب يسوع، إلى "الولد الذي وُلِدَ لنا"، (أش9/ 5)، لنتأمل فيه "الحياة" "التي تجلّت" (1 يو 1/2). في سر هذا الولد، يلتقي الله الإنسان، ويبتدئ طريق ابن الله على الأرض، الطريق التي بلغت ذروتها في عطية ذاته على الصليب: بموته انتصر على الموت وأضحى للبشرية كلها مبدأ حياة جديدة.
قد تلقّت "الحياة"، باسم الجميع ولخير الجميع، مريمُ الأم البتول، فكان لها مع إنجيل الحياة صِلاتٌ شخصية وثيقة جداً. فقبول مريم للبشارة وأمومتها ينبعان من سر الحياة التي جاء المسيح ليعطيها هدية للناس (يو 10/ 10). فاستقبالها حياة الكلمة المتجسد وحبها له قد وفّرا على حياة الناس الحكم بالموت النهائي والأبدي.
ولذا فمريم "كالكنيسة التي ترمز إليها، هي أم كل الذي يولدون ثانية للحياة. إنها حقاً أم الحياة التي تحيي الناس أجمعين، وبإنجابها الحياة جددت، نوعاً ما، ميلاد كل المزمعين أن يحيوا بها" (138).
وتكتشف الكنيسة، عندما تتأمل أمومة مريم، معنى أمومتها، وكيف تُدعى إلى التعبير عنها. وفي الوقت نفسه، تفسح الكنيسة بخبرتها الأمومية، أعمق الآفاق لتفهم خبرة مريم بصفتها نموذجاً لا يُضاهى لاقتبال الحياة والحدب على الحياة.
"ثم ظهرت آية بيّنة من السماء: امرأة ملتحفة بالشمس" (رؤ 12/ 1): أمومة مريم والكنيسة"
103- المقارنة بين سر الكنيسة ومريم يظهر جلياً في "الآية البيّنة" التي يصفها سفر الرؤيا: "ظهرت آية بيّنة في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً" (رؤ 12/1). وترى الكنيسة في هذه الآية صورة سرّها: فهي مع غوصها في التاريخ، تشعر أنها تسمو عليه لأنها في الأرض هي "بذرة ملكوت الله وبدؤه" (139). وترى الكنيسة في مريم تَحقُّق هذا السر تحقُّقاً تاماً ومثالياً. فإنها هي المرأة المجيدة التي تمّ فيها قصد الله على أكمل وجه.
"المرأة الملتحفة بالشمس" – كما يصوّرها سفر الرؤيا – كانت حاملاً" (رؤ 12/2)، فالكنيسة تعي تمام الوعي أنها تحمل مخلّص العالم، المسيح الرب، وأنها مدعوّة إلى أن تهبه للعالم، ليجدد ميلاد الناس لحياة الله بالذات. ولكنها لا يمكن أن يغرب عن بالها أن رسالتها غدت ممكنة بأمومة مريم التي حملت وولدت للعالم "الإله المولود من الإله" و"الإله الحق المولود من الإله الحق". فالعذراء هي حقاً أم الله، الثيوطوكس"، بأمومتها تتمجد غاية التمجّد الدعوة إلى الأمومة التي وضعها الله في كل امرأة. هكذا تبدو مريم نموذجاً للكنيسة المدعوّة إلى أن تكون "حواء الجديدة. أمّ المؤمنين وأمّ الأحياء" (تك 3/20).
بيد أن أمومة الكنيسة الروحية لا تتحقق – والكنيسة تدرك هذا أيضاً – إلاّ في وسط الشدائد و"ألم المخاض" (رؤ 12/2)، أي في التجاذب الدائم مع قوى الشر التي لا تني تخترق العالم وتقضُّ قلب الإنسان، وتتصدّى للمسيح: "فيه كانت الحياة، والحياة نور الناس والنور يشرق في الظلمات. والظلمات لم تدركه" (يو1/ 4).
لقد أَلجئت مريم إلى أن تعيش أمومَتَها، كما عاشتها الكنيسة، في ظل العذاب: "لقد جُعِلَ هذا الطفل ليكون للناس آية ينكرونها. وأنتِ سينفذ سيف في قلبك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة" (لو2/ 34- 35). الكلمات التي وجهها سمعان إلى مريم منذ فجر وجود المخلص، تلخِّص رفض العالم ليسوع ولمريم معه، وقد بلغ أقصاه عند الجلجلة: "بقرب صليب يسوع" اشتركت مريم في ذبيحة ابنها، فقدّمته ووهبته وولدته لأجلنا ولادة لا عودة عنها. فـ "النعم" التي نطقت بها مريم يوم البشارة، قد نضجت نضوجاً تاماً يوم الصليب، عندما آن لمريم أن تستقبل وتلد كل إنسان أصبح تلميذاً ليسوع، وتسربله بحب ابنها الفادي: "وإذ رأى يسوع أمه وإلى جانبها التلميذ الحبيب إليه، قال لأمه: "أيتها المرأة هذا ابنك". ثم قال للتلميذ: "هذه أمّك" (يو19/ 26).
"ووقف التنين قبالة المرأة... ليبتلع ولدها حين تضعه" (رؤ 12/4): الحياة التي تهدّدها قوى الشر
104- في سفر الرؤيا، نرى "الآية البيّنة"، "آية المرأة المتلحفة بالشمس"، ترافقها "آية أخرى ظهرت في السماء: تنّين عظيم أشقر" (رؤ12/ 3) يُمثّل الشيطان بصفته قوّة شخصية غاشمة، ويمثّل في الوقت نفسه جميع قوى الشر التي تعمل في التاريخ معرقلة رسالة الكنيسة.
هنا أيضاً تُطِلُّ مريم بنورها على جماعة المؤمنين: فعداوة قوى الشر تتصدى لمريم أم يسوع قبل أن تنال تلاميذه بالأذى. وقد اضطرت مريم إلى الهرب إلى مصر مع يوسف والطفل (متى2/ 13- 15) إنقاذاً لابنها من يد الذين باتوا يتوجسونه خطراً داهماً.
هكذا تساعد مريم الكنيسة في أن تدرك أن الحياة هي دوماً رهان صراع عنيف بين الخير والشر، بين النور والظلمة. فالتنّين يريد أن يبتلع "الولد فور ولادته" (رؤ 12/ 4)، وهو رمز المسيح الذي ولدته مريم "عندما حان ملء الزمان"، (غل 4/4) والذي يجب على الكنيسة أن تقدّمه باستمرار للناس في مختلف حقب التاريخ. ولكن هذا الطفل هو أيضاً صورة كل إنسان، وكل طفل وكل خليقة ضعيفة ومهدّدة خصوصاً، وذلك بأن "ابن الله بتجسده اتحد نوعاً ما بكل إنسان" – على حد ما يُذكِّرنا به المجمع – (140). ففي "جسد" كل إنسان لا ينفك المسيح يتجلّى ويتّحد بنا، بحيث يمسي كل رفض لحياة الإنسان، بكل أشكاله، رفضاً للمسيح بالذات. تلك هي الحقيقة الأخّاذة والصارمة التي يكشفها لنا المسيح، ولا تنفك الكنيسة تردّدها: " من قَبِلَ طفلاً مثله إكراماً لاسمي، فإياي يقبل" (متى18/5)، "الحق أقول لكم: كلما صنعتم شيئاً من ذلك لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه" (متى 25/ 40).
"لم يبقَ للموت وجود" (رؤ21/4): سنى القيامة
105- بشارة الملاك للعذراء تتلخّص في هذه الكلمات المُطَمْئِنة: "لا تخافي يا مريم"، "ما من شيء يُعجز الله" (لو1/ 30- 37). الحقيقة أن وجود الأم العذراء يظلّله اليقين أن الله بقربها ويرافقها بعنايته الودودة. هكذا حال الكنيسة التي تجد لها "ملاذاً" في القفر، وهو موطن المحنة، وفي الوقت نفسه، الموضع الذي تتجلّى فيه محبة الله لشعبه (هو2/16). مريم هي كلمة الحياة والتعزية للكنيسة في كفاحها ضد الموت. وعندما تُظهِر لنا ابنها فهي تؤكد لنا أن قوى الموت قد سُحِقَتْ به: "الموت والحياة تجابها في نزال هائل. لقد ما سيد الحياة، ولكنه حيّ يملك" (141).
الحمل الذبيح يحيا حاملاً سمات العذاب في سنى القيامة. هو وحده يسود أحداث التاريخ، "ويفضُّ الختم" (رؤ5/ 10)، وفي الزمان وفي ما بعد الزمان يعلن قدرة الحياة على الموت، في "أورشليم الجديدة" أي في العالم الجديد الذي يشخص إليه تاريخ البشر: "لن يبقى للموت وجود، ولا للبكاء ولا للصراخ ولا للألم، لأن العالم القديم قد زال" (رؤ 21/ 4).
وعندما نسير، نحن شعب الله الحاج، شعب الحياة المتجند للحياة، ونتقدم بثقة نحو "سماء جديدة وأرض جديدة" (رؤ21/1)، نشخص ببصرنا إلى من هي لنا "آية رجاء وضمان تعزية" (142).
يا مريم،
فجر العالم الجديد،
وأمّ الأحياء،
نكل إليكِ قضية الحياة:
انظري، يا أمنا، إلى ما لا يحصى من عدد الأولاد الذي يُمنَعون من أن يولدوا،
إلى الفقراء الذين أمست ضحايا عنف شرس،
إلى العجّز والمرضى المقتولين بدافع اللامبالاة أو بدافع شفقة كاذبة.
أعطي المؤمنين بابنك
أن يعلنوا لأهل زماننا،
بحزمٍ ومحبة
إنجيل الحياة.
اسألي لهم أن يتقبلوه
عطيّة دائمة التجدّد،
وأن يفرحوا بالاحتفال به بشكر
في كل مراحل وجودهم
وأن يشهدوا له بشجاعة ودأب نشيط
ليبنوا مع جميع الناس الطيّبين،
حضارة الحق والحب.
لإكرام وتمجيد الله خالق الحياة.
لقد أُعطي هذا النص في روما، بقرب كنيسة القديس بطرس، في 25 آذار 1995 في مناسبة عيد البشارة، في السنة السابعة عشرة من حبريتنا.
يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) لا شك أن عبارة "إنجيل الحياة" لا نقع عليها في الكتاب المقدس في مؤداها اللفظي، إلاّ أنها تعكس وجهاً جوهرياً من وجوه البلاغ الكتابي.
2) "الكنيسة في عالم اليوم" فقرة 22.
3) يوحنا بولس الثاني "فادي الإنسان" (4 آذار 1979)، عدد 10، أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979) ص 275.
4) المرجع نفسه، فقرة 14، ص 285.
5) "فرح ورجاء"، فقرة 27.\
6) رسالة إلى إخوتي في الأسقفية في "إنجيل الحياة" (19 أيار 1991)، تعاليم 14، 1 (1991) ص 1293- 1296.
7) المرجع نفسه، ص 1294.
8) رسالة إلى الأسر (2 شباط 1994) فقرة 4، أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994)، ص 871.
9) يوحنا بولس الثاني، "السنة المئة" ( 1 أيار 1991) فقرة 39: أعمال الكرسي الرسولي 83، ص 842.
10) فقرة 2259
11) القديس أمبروسيوس، نوح، 26، 94- 96: GSEL، 32، ص 480- 481
12) تعليم الكنيسة الكاثوليكية، فقرة 1867 و 2268.
13) قاين وهابيل، 2، 10، 38، GSEL 32، ص 408.
14) مجمع العقيدة والإيمان "رسالة تعليمية في حرمة الحياة البشرية الناشئة وكرامة الإنجاب، هبة الحياة (22 شباط 1987) أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، ص 70- 102.
· الهادف إلى تحسين النسل.
· نسبة إلى بروميتية في الأساطير الإغريقية القديمة وهو من أطلق الحضارة البشرية وقد اختلس النار من السماء ونقلها إلى الناس. ويعتبر نموذجاً من نماذج التجبّر والتمرّد على إرادة الآلهة.
15) خطاب أمسية الصلاة في مناسبة اليوم العالمي الثامن للشبيبة، دنفر (14 آب 1993) 2، فقرة 3. أعمال الكرسي الرسولي 86 (2994)، ص 419.
16) يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى المشتركين في الحوار حول "الحق في الحياة وأوروبا" (18 كانون الأول 1987): تعاليم 10، 3 (1987) ص 1446- 1447.
17) الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 36.
18) الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 16.
19) غوريغوريوس الكبير، أخلاقيات حول سفر أيوب، 23، 23،A CCL 134 ص 683.
20) يوحنا بولس الثاني، فادي الإنسان (4 آذار 1979) فقرة 10، أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979) ص 274.
21) المجمع الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 50.
22) الوحي الإلهي، فقرة 4.
23) ضد الهرطقات، 4، 20، 7، المصادر المسيحية 1002، ص 648-649 .
24) المجمع الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 12.
25) اعترافات 1، 1،CCL 27- 1.
26) في الأيام الستة، 6، 75-76،CSEL 32، ص 260-361.
27) ضد الهرطقات، 4، 20، 7: المصادر المسيحية 1002 ص 648-649.
28) يوحنا بولس الثاني، السنة المئة (1 أيار 1991)، فقرة 38: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991) ص 840- 841.
29) يوحنا بولس الثاني، الاهتمام بالشأن الاجتماعي 030 كانون الأول 1987)، فقرة 34: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 560.
30) الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 50.
31) رسالة إلى الأسر 20 شباط 1994) فقرة 9: أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994)، ص 878. راجع بيوس الثاني عشر، الجنس البشري (12 آب 1950): أعمال الكرسي الرسولي 42 (1950)، ص 574.
32) "يأمرنا الإيمان الكاثوليكي بالاعتقاد بأن النفوس يخلقها الله تواً" بيوس الثاني عشر، الجنس البشري (12 آب 1950): أعمال الكرسي الرسولي 42 (1950)، ص 575.
33) الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 50، راجع يوحنا بولس الثاني: في وظائف العائلة المسيحية (22 تشرين الثاني 1981) فقرة 28: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982) ص 114.
34) مواعظ 2، 1: CCSG3، ص 39
35) راجع، مثلاً المزامير 22/21، 10-11،71/70، 6، 139/ 138، 13-14.
36) عرض لإنجيل لوقا، ص، 22-23،CCL 14، 40-41، المصادر المسيحية 45، ص 82.
37) أغناطيوس الأنطاكي، الرسالة إلى أهل أفسس 7،2: المصادر المسيحية 10، ص 65.
38) في خلق الإنسان، فقرة 4، الأباء اليونانيون 44، 136.
39) يوحنا الدمشقي، في الإيمان المستقيم 2، 12، الآباء اليونانيون 94، 920، 922، وقد استشهد به القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية 1- 2، المقدمة.
40) بولس السادس، الحياة البشرية (25 تموز 1968) فقرة 13: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص 489.
41) مجمع العقيدة والإيمان، هبة الحياة (22 شباط 1987)، المقدمة فقرة 5: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، ص 76- 77، راجع أيضاً: التعليم المسيحي الكاثوليكي، فقرة 2258.
42) ذيذاخيا، 1، 1، 2، 1- 2 ن 5، 1، 3، المصادر المسيحية 248ن ص 141، 149، 176، 160، راجع أيضاً: رسالة برنابا المزعوم، 19، المرجع ذاته، ص 90- 93.
43) التعليم المسيحي الكاثوليكي، فقرة 2263 إلى 2269، راجع أيضاً: التعليم المسيحي في المجمع التريدنتيني 3، فقرة 327 إلى 332.
44) التعليم المسيحي الكاثوليكي، فقرة 2265.
45) القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية 2/2، المسألة 64 أ، القديس ألفونس الليغوري، اللاهوت الأدبي 1/3، الجزء 4 الفصل 1، المسالة 3.
46) التعليم المسيحي الكاوليكي، فقرة 2266.
47) المرجع نفسه.
48) المرجع نفسه، فقرة 2267.
49) المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، فقرة 12.
50) الكنيسة في عالم اليوم فقرة 27.
51) المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، فقرة 25.
52) مجمع العقيدة والإيمان، تصريح في القتل الرحيم (5 أيار 1980) 2: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980) ص 546.
53) يوحنا بولس الثاني، تألق الحقيقة (6 آب 1993)، فقرة 96: أعمال الكرسي الرسولي 85 (1993)، ص 1209.
54) الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 51.
55) يوحنا بولس الثاني، كرامة المرأة (15 آب 1988) فقرة 14: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 1686.
56) الفقرة 21: أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994)، ص 920.
57) مجمع العقيدة والإيمان، في الإجهاض المتعمَّد (18 تشرين الثاني 1974) فقرة 12- 13: أعمال الكرسي الرسولي 66 (1974)، ص 738.
58) مجمع العقيدة والإيمان، هبة الله (22 شباط 1987) 1، فقرة 1: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 78- 79.
59) المرجع نفسه ص 77.
60) هكذا يتكلم النبي إرميا: "قبل أن أصوِّرك في البطن عرفتك وقبل أن تخرج من الرحم قدّستك وجعتك نبياُ للأمم" (1/4- 5). وصاحب المزامير يتوجه إلى الرب هو أيضاً، بهذه الكلمات: "عليك اعتمدت من الحشا ومن بطن أمي أنت منعم عليّ" (مز 70/6، أش 46/3، أي 10/8- 12، مز 21/ 10- 11). في حادثة اللقاء العجيب بين الأُمَّين أليصابات ومريم والولدين يوحنا المعمدان ويسوع وهما لا يزالان في الرحم (لو1/ 39- 45)، يروي لوقا الإنجيلي أن الطفل (يوحنا) شعر بوجود الطفل الإلهي وارتكض فرحاً.
61) بيان في الإجهاض المتعمّد (18 تشرين الثاني 1974): أعمال الكرسي الرسولي 66 (1974) ص 740- 747.
62) "لا تقتل الطفل إجهاضاً ولا تُمِثْه بعد الولادة" : 5، 2، المصادر المسيحية 248، ص 169.
63) عريضة في شأن المسيحيين، فقرة 35: الآباء اليونانيون 6، 969، المصادر المسيحية 379، ص 205.
64) دفاع، 9، 8CSEL 69، 24.
65) الأزواج الأعفة (31 كانون الأول 1930)، 2 أعمال الكرسي الرسولي 22 (1930) ص 562- 592.
66) الخطاب الموجه إلى الاتحاد الطبي البيولوجي "القديس لوقا" (12 تشرين الثاني 1944): خطابات وبلاغات إذاعية، 6 (1944- 1945)، ص 191، راجع الخطاب الموجه إلى الاتحاد الكاثوليكي الإيطالي للقابلات (29 تشرين الأول 1951) 2: أعمال الكرسي الرسولي 43 (1951) ص 838.
67) الرسالة العامة، أم ومعلّمة (15 أيار 1961)، 3ك أعمال الكرسي الرسولي 53 (1961) ص 447.
68)الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 51.
69) القانون 2350 البند 1.
70) الحق القانوني الغربي، بند 1398، راجع مجموعة قوانين الكنائس الشرقية القانون 1450، بند 2.
71) الحق القانوني الغربي 1829، مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، قانون 1417.
72) خطاب إلى رجال القانون الكاثوليكي الإيطاليين (9كانون الأول 1972): أعمال الكرسي الرسولي 64 (1972)، ص 777، الرسالة العامة في "الحياة البشرية" (25ت تموز 1968)، فقرة 14: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968) ص 490.
73) المجمع الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 25.
74) مجمع العقيدة والإيمان، هبة الحياة (22 شباط 1987) 1، فقرة 3: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، ص 80.
75) شرعة حقوق العيلة (22 تشرين الأول 1983)، بند 4 ب : مطبعة الفاتيكان 1983، مجلة الوثائق الكاثوليكية 1983، ص 1155.
76) مجمع العقيدة والإيمان، في القتل الرحيم (5 أيار 1980)، 2: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980) ص 546.
77) المرجع نفسه، ص 551.
78) المرجع نفسه.
79) خطاب إلى مجموعة دولية من الأطباء (_24 شباط 1957)، 3: أعمال الكرسي الرسولي 49 (1957) ص 147. راجع مجمع العقيدة والإيمان، في القتل الرحيم، حقوق وخيور (5 ايار 1980) 3: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980) ص 547- 548.
80) بيوس الثاني عشر، خطاب إلى مجموعة دولية من الأطباء (24 شباط 1967)، 3: أعمال الكرسي الرسولي 49 (1957)، ص 145.
81) بيوس الثاني عشر، خطاب إلى مجموعة دولية من الأطباء (24 شباط 1947): أعمال الكرسي الرسولي 49 (1957)، ص 129- 147، المجمع المقدس، في القتل المباشر (2 كانون الأول 1940): أعمال الكرسي الرسولي 32 (1940)، ص 553- 554، بولس السادس، بلاغ إلى التلفزيون الفرنسي: "كل حياة مقدسة" (27 كانون الثاني 1971): تعاليم 9 (1971)، ص 57-58 (الوثائق الكاثوليكية 1971، ص 156) خطاب إلى المعهد الدولي للجراحين (1حزيران 1972): أعمال الكرسي الرسولي 64 (1972)، ص 432- 436، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في عالم اليوم فقرة 27.
82) المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، فقرة 35
83) القديس أوغسطينوس، مدينة الله 1، CCL20 47، 22 القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية 2-2 المسألة 6 أ، 5.
84) مجمع العقيدة والإيمان في القتل الرحيم: حقوق وخيور 5( أيار 1980) ، 1: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)ص 545ن التعليم المسيحي الكاثوليكي، فقرة 2281- 2283.
85) الرسالة 204: CSEL 57، 320.
86) الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 18.
87) البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة في الألم الخلاصي، (11 شباط 1984)، فقرة 14- 24: أعمال الكرسي الرسول (1984) ص 214- 234.
88) يوحنا بولس الثاني، السنة المئة (1 أيار 1991)، فقرة 46: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991)، ص 850، بيوس الثاني عشر، بلاغ إذاعي في مناسبة الميلاد (24 كانون الأول 1944): أعمال الكرسي الرسولي 37 (1945) ص 10- 20.
89) يوحنا بولس الثاني، تألق الحقيقة (16آب 1993) فقرة 97 و99: أعمال الكرسي الرسولي 85 (1992) ص 1209- 1211.
90) مجمع العقيدة والإيمان، هبة الحياة (22 شباط 1987)، 3: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، ص 98.
91) المجمع الفاتيكاني الثاني، في الحرية الدينية، فقرة 7.
92) القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، 1- 2، المسألة 96 أ 2.
93) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، في الحرية الدينية، فقرة 7.
94) "السلام على الأرض" (11 نيسان 1963)، 2: أعمال الكرسي الرسولي 55 (1963)، ص 273- 274، المقطع الوارد في صلب النص مأخوذ من البلاغ الإذاعي للبابا بيوس الثاني عشر في مناسبة العنصرة سنة 1941 (1 حزيران 1941): أعمال الكرسي الرسولي 33 (1941)، ص 200. وتستشهد هذه الرسالة، في إحدى حواشيها، بالبابا بيوس الحادي عشر، الهم المقلق (14 آذار 1937)، 3: أعمال الكرسي الرسولي 29 (1937)، ص 79، بيوس الثاني عشر، البلاغ الإذاعي بمناسبة الميلاد (24 كانون الأول 1942): أعمال الكرسي الرسولي 35 (1943)، ص 9- 24.
95) السلام على الأرض (11 نيسان 1963)، المرجع المذكور ص 271.
96) الخلاصة اللاهوتية، 1- 2، المسألة 93 أ، 3. الرد على الاعتراض الثاني.
97) المرجع نفسه، 1-2، المسألة 95، أ، 2. يستشهد الأكويني بالقديس أوغسطينوس في قوله: "ليس بشرع كل شرعٍ يحيد عن العدل" De libero arbitrio I, 5, 11: PL 32, 1227.
98) مجمع العقيدة والإيمان، الإجهاض المتعمَّد (18 كانون الأول 1974) فقرة 22: أعمال الكرسي الرسولي 66 (1974) ص 744.
99) التعليم المسيحي الكاثوليكي فقرة 1753- 1755، يوحنا بولس الثاني، تألق الحقيقة (6 آب 1993) فقرة 81- 82: أعمال الكرسي الرسولي 85 (1993) ص 1198- 1199.
100) في إنجيل يوحنا، 41، 10:CCL 36 ص 363، راجع أيضاً يوحنا بولس الثاني، تألق الحقيقة (6 آب 1993)، فقرة 13: أعمال الكرسي الرسولي 85 (1993) ص 1144.
101) غرشاد في واجب إعلان الإنجيل (8 كانون الأول 1975)، فقر 14: أعمال الكرسي الرسول 68 (1967)، ص 13.
102) كتاب القداس بالطقس الروماني، صلاة المحتفل قبل المناولة.
103) القديس إيريناوس، ضد الهرطقات، 4، 34، 1: المصادر المسيحية 100/2، ص 846- 847.
104) القديس توما الأكويني، قراءة مزامير داود، 6، 5.
105) عظة في التطويبات 7، الآباء اليونان 44، 1280.
106) يوحنا بولس الثاني، تألق الحقيقة (6 آب 1993)، فقرة 116: أعمال الكرسي الرسولي 85 (1993)، ص 1224.
107) يوحنا بولس الثاني، السنة المئة (1 أيار 1991) فقرة 37: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991) ص 840.
108) بلاغ في مناسبة ميلاد 1967: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968* ص 40.
109) ديونيسيوس الأريوباجي المزعوم، في الأسماء الحسنى، 6، 1- 3، الآباء اليونان 3، ص 856- 857.
110) بولس السادس، خواطر في الموت، معهد بولس السادس بريشيا 1988 ص 24.
111) يوحنا بولس الثاني، عظة في تطويب إيسيدور باكنجا، إليزبتا كانوري مورا وجانا بريتا مولاّ (24 نيسان 1994): الأسيرفاتوري رومانو 25- 26 نيسان 1194، ص 5.
112) المرجع نفسه.
113) مواعظ في إنجيل القديس متى، 50، 3: الآباء اليونان 58، 508.
114) التعليم المسيحي الكاثوليكي. فقرة 2372.
115) يوحنا بولس الثاني في خطابه إلى الجمعية العمومية الرابعة لأساقفة أميركا اللاتينية، في سان دومنغو (12 تشرين الأول 1992)، فقرة 15: أعمال الكرسي الرسولي 85 (1993) ص 819.
116) الحركة المسكونية، فقرة 12، الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 90.
117) يوحنا بولس الثاني، في وظائف العائلة المسيحية (22 تشرين الثاني 1981)، فقرة 17: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982) ص 100.
118) المجمع الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 50.
119) يوحنا بولس الثاني، السنة المئة (1 أيار 1991)، فقرة 39: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991) ص 842.
120) يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى المشتركين في المؤتمر السابع لأساقفة أوروبا، بعنوان: "المواقف المعاصرة تجاه الولادة والموت: تحدّ للبشارة" (17 تشرين الأول 1989)، الفقرة 5: التعاليم 12، 2 (1989)، ص 945 [الوثائق الكاثوليكية، عدد 1994 (1989)، ص 1021 ]. في نظر التقليد الكتابي، الأولاد هم عطية من الله (مز 126/3) ودليل بركة للإنسان الذي يسير في طرق الله (مز 127/3- 4).
121) يوحنا بولس الثاني، الاهتمام بالشأن الاجتماعي (30 كانون الأول 1987) فقرة 38: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 565- 566.
122) يوحنا بولس الثاني، في وظائف العائلة المسيحية (22 تشرين الثاني 1981) فقرة 86: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982) ص 188.
123) بولس السادس، إرشاد في واجب إعلان الإنجيل (8 كانون الأول 1975) فقرة 18: أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976)، ص 17.
124) المرجع نفسه، فقرة 20، الوثيقة نفسها ص 18.
125) المجمع الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في عالم اليوم، فقرة 24.
126) يوحنا بولس الثاني، السنة المئة (1 أيار 1991) فقرة 17: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991) ص 814، تألق الحقيقة (6 آب 1993)، فقرة 95 إلى 101، أعمال الكرسي الرسولي، أعمال الكرسي الرسولي 85 (1993)، ص 1208- 1213).
127) يوحنا بولس الثاني، السنة المئة (1 أيار 1991)، فقرة 24: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991) ص 822.
128) يوحنا بولس الثاني، إرشاد في وظائف العائلة المسيحية (22 تشرين الثاني 1981)، فقرة 37: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982) ص 128.
129) رسالة في تأسيس اليوم العالمي للمرضى (13 أيار 1992) فقرة 2، تعاليم 15، 1 (1992)، ص 1410 [الوثائق الكاثوليكية، عدد 2052 (1992) ص 567].
130) المجمع الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في عالم اليوم. فقرة 35: بولس السادس، ترقي الشعوب (26 آذار 1967) فقرة 15: أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967)، ص 265.
131) يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى الأسر (2 شباط 1994) فقرة 13: أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994) ص 892.
132) في سر الحياة (11 شباط) فقرة 4: أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994) ص 386- 387.
133) نداءات المجمع إلى البشرية (8 كانون الأول 1965): إلى النساء.
134) يوحنا بولس الثاني في "كرامة المرأة" (15 آب 1988) فقرة 8: أعمال الكرسي الرسولي، 8 (1988) ص 1696.
135) يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى الأسر (2 شباط 1994)، فقرة 5: أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994) ص 872.
136) يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى المشتركين في مؤتمر "الحق في الحياة وأوروبا" (18 كانون الأول 1987)، تعاليم 10، 3 (1987) ص 1446.
137) بلاغ في مناسبة يوم السلام العالمي 1977: أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976) ص 711- 712.
138) ب. غريّك دينيي، (B.GUERRIC D'IGNY) عظة في عيد الانتقال، 1، 2، الآباء اللاتين 185- 188.
139) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، فقرة 5.
140) الكنيسة في عالم اليوم، فقرة22.
141) كتاب القداس الروماني، مقطع من صلوات عيد الفصح.
142) نور الأمم، فقرة 68.
الموسوعة العربية المسيحية