لا تَستَحْيِ أَن تَعتَرِفَ بخَطاياكَ ولا تُقاوٍ م مَجْرى النَّهْر (سي 4/ 26)
الاتضاع ـ بقلم القمص ميخائيل جرجس صليب
إذا كانت الكبرياء قد أسقطت رئيس ملائكة من السماء .
. عندما قال فى قلبه
"أصعد إلى السموات أرفع كرسى فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع أصير.. أصير مثل العلى"(1).ـ
لذلك فالاتضاع هو الحل العملى لعدم السقوط.
وقد علمنا رب المجد درس عملى فى الاتضاع بأن ولد فى مزود بقر، إذ لم يكن له مكان فى المنزل
(2).ـ
يقول القديس ماراسحق
[ ليس من يذكر زلاته وخطاياه لكى يتواضع يسمى
تواضعاً وأن يكن ذلك حسناً جداً، إلا أنه يدنو فقط من التواضع، ويحاول أن يصل إليه أما المتواضع الحقيقى فلا يحتاج إلى أن يقنع نفسه أو ذاته أو يغصب فكره للشعور بالتواضع أو خلق أسبابه بل صار طبيعياً عنده أن لا يحسب ذاته شيئاً بلا تعب ].ـ
وقال القديس يوحنا الدرجى
[ ليس من يذم نفسه ويلومها هو المتضع لأنه من ذا الذى لا يستطيع أن يحتمل نفسه ؟ إنما المتضع الحقيقى هو الذى يحتمل تعيير ومذمة غيره ولا ينقص حبه له ].
ويقول القديس مكسيموس [ من أحكم الاتضاع فقد أحكم كل الفضائل ].ـ
قال القديس برصنوفيوس [ إقتن الاتضاع فإنه يكسر جميع فخاخ العدو].ـ
يقول القديس يعقوب السروجى [ الاتضاع هو بيت اللاهوت وأينما وجد سكن الله فيه ].ـ
والاتضاع درجات لذلك يجب على المؤمن أن يأخذ تداريب الاتضاع درجة درجة حتى يصل إلى ما يسمح به الله بعد جهاده المستمر.
(1)- (أش14: 13). (2)- (لو2: 7).
ولإتقان الاتضاع حاول أن تطبق التدريبات الآتية
:
ـ1ـ إعرف نفسك جيداً
وقد قال القديس ماراسحق [ الإنسان الذى عرف ضعفه وعجزه، قد وصل إلى حد الاتضاع ].ـ
ويقول القديس يوحنا ذهبى الفم [ تفطن أيها الإنسان فى ضعف طبيعتك ويكفيك هذا فى اقتناء الاتضاع دائماً لأنك حينئذ تعرف أنك تراب ورماد، والموت قريب منك ومرافق لك ]. ـ
ـ2ـ طـاعـة الآخـرين ..
القديس يوحنا الدرجى يقول [ المستكبر يحب الرئاسة والمتضع يحب الطاعة .. فمن الطاعة تعمل للاتضاع، ومن الاتضاع تحصل على الشفاء من الأوجاع ].ـ
ويقول القديس أنبا بفنوتيوس [ عليك يا ابنى أن تطيع وتتضع للآباء الروحانيين ولا تسقط مثل الشياطين لأنهم بالعظمة والمعصية لأبى الأرواح سقطوا وهلكوا ].ـ
يقول القديس أنبا بيمن [ عوّد جسدك لطاعة نفسك وعوّد نفسك لطاعة الله ].ـ
ـ3ـ لا تـدين أحـداً ..
السيد المسيح يقول "لا تدينوا لكى لا تدانوا لأنكم بالدينونة التى بها تدينون تدانون وبالكيل الذى به تكيلون يُكال لكم ولماذا تنظر القذى الذى فى عين أخيك وأما الخشبة التى فى عينيك فلا تفطن لها"(1).ـ
يقول القديس أنبا باخوميوس [ لا تدين أحداً من الناس ولو رأيته ساقطاً فى الخطية لأن الدينونة تأتى من تعظم القلب، أما المتضع فإنه يعتبر كل الناس أفضل منه ].ـ
يقول القديس توما الكمبيسى [ إذا رأيت أحداً يخطئ جهراً أو يأتى إحدى الكبائر فليس لك أن تعد نفسك أفضل منه وتدينه لأنك لا تدرى كم من الزمان يمكنك أن تدوم ثابتاً فى الصلاح ].ـ
ـ4ـ لا تحتقر أحـداً ..
الكتاب يقول "لا تحتقر أمك إذا شاخت"(2)، ويقول أيضاً "من يحتقر قريبه يخطئ"(3).ـ
يقول القديس أنبا أشعياء [ كما أن الميت لا يتكلم البتة كذلك المتضع لا يزدرى بأحد ولا يحتقر أحداً حتى ولو رآه للأصنام ساجداً ].ـ
ويقول القديس توما الكمبيسى [ لا يضرك شيئاً أن تتذلل لجميع الناس إنما يضرك كثيراً أن تتعاظم ولو على واحد من الناس ]. ـ
(1)- (مت7: 1). (2)- (أم23: 22).
(3)- (أم14: 21).
ـ5ـ لا تهتم بمديح الناس ..
لأن كثرة المديح يفسد قلب الإنسان ويعتقد فى نفسه أنه أحسن الناس، وبالتالى قد يصل إلى الكبرياء، ويفقد تواضع القلب. يقول بولس الرسول "ليس من مدح نفسه هو المُزكى بل من يمدحه الرب"(1). ـ
يقول الأنبا موسى الأسود [ على مثال الصدأ الذى يأكل الحديد كذلك مديح الناس الذى يفسد القلب إذا مال إليه، وكما يلتف اللبلاب على الكرم فيفسد ثمره، كذلك السبح الباطل يفسد نمو الإنسان إذا كثر حوله ].ـ
فإذا جاءنا مديح من الناس على عمل معين فإننا ننسب هذا العمل إلى الله وإلى فضل الله وإحسانه علينا.
ويقول القديس مارإسحق [ من عدا وراء الكرامة هربت منه، ومن هرب منها بمعرفة تبعته وأرشدت الناس إليه ].ـ
بولس الرسول اختطف للفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها(2).. ولم يرد أن يذكر اسمه بل قال "أعرف إنسان فى المسيح .. واعرف هذا الإنسان أفى الجسد أم خارج الجسد لست أعلم الله يعلم"(3).ـ
وعندما أراد أن يفتخر قال "من جهة هذا أفتخر ولكن من جهة نفسى لا أفتخر إلا بضعفاتى"(4).ـ
6- احتمل الإهانة والتوبيخ ..
يقـول القديـس برصنوفيوس [ هذا هو الاتضاع الكامل أن نحتمل الشتيمة والعار، وكل شئ أصاب معلم الفضيلة ربنا يسوع المسيح ].
والسيد المسيح قال لتلاميذه "سيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان لأنه يسلم إلى الأمم ويستهزأ به ويشتم ويتفل عليه ...إلخ"(5).
(1)-(ـ(2كو10: 18). (2)- (2كو12: 4). (3)- (2كو12: 2، 3
(4)- (2كو12: 5). (5)- (لو18: 32).
وتم ذلك بالحرف الواحد ..
ويقول بطرس الرسول عنه "فإن المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكى نتتبع خطواته الذى لم يفعل خطية ولم يوجد فى فمه مكر. الذى إذا شُتم لم يكن يشتم عوضاً وإذا تألم لم يكن يهدد بل كان يُسلم لمن يقضى بعدل"(1).ـ
وبولس الرسول يقول "لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح لأنى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى "(2).
ويقول القديس بطرس الرسول "غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة بل بالعكس مباركين عالمين أنكم لهذا دعيتم لكى ترثوا بركة"(3).ـ
وعندما شتم شمعى بن جيرا الملك داود قال له "أبيشاى بن صروية للملك لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدى الملك دعنى أعبر وأقطع رأسه فقال الملك .. دعوه يسب لأن الرب قال له سب داود .. لعل الرب ينظر إلى مذلتى ويكافئنى خيراً عوض سبته بهذا اليوم"(4).ـ
فتواضع الملك داود منعه من أن يرد على أحد أفراد الشعب عندما شتمه وترك الأمر لله ويقول فى اتضاع "لعل الرب ينظر إلى مذلتى ويكافئنى".
وهكذا نتعلم ألا نرد الشر بالشر أو الشتيمة بالشتيمة بل نجعل الرب هو المنتقم لنا حيث يقول بولس الرسول "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لى النقمة أنا أجازى يقول الرب"(5)،(6).ـ
ـ7ـ لا تغضب ولا تُغضب أحداً ..
القديس برصنوفيوس يقول [ من كان متضعاً فإنه لا يغضب ولا يخاصم ولا يدين أحد، ولكنه يرى الناس كلهم أخير منه ].ـ
(1)- (1بط2: 21- 23). (2)- (2كو12: 10).
(3)- (1بط3: 9). (4)- (2صم16: 9- 11).
(5)- (تث32: 35). (6)- (رو12: 19).
ورب المجـد قال فى عظته على الجبل "إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم"(1).ـ
وبولس الرسول يقول لأهل أفسس "ليُرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث. وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضاً فى المسيح"(2).ـ
ويقول سليمان الحكيم "تعقل الإنسان يبطئ غضبه وفخره الصفح عن معصية"(3).ـ
ونقول تدريب لسريعى الغضب : إعط لعقلك ربع دقيقة ليفكر بالصواب قبل أن تسرع فى الرد الخطأ لأن الله أعطى عقلاً حكيماً للإنسان ليفكر به وليجاوب كل من يسأل بترو.
ـ8ـ المتواضع يخدم الكل ..
السيد المسيح أعطانا مثلاً فى الخدمة المتواضعة عندما غسل أرجل تلاميذه وأوصاهم أن يفعلوا ذلك مثله. ثم بعـد ذلك أخـذ يشـرح لهم ما فعـله فقـال " أتفهمون ما قد صنعت بكم. أنتم تدعوننى معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأنى أنا كذلك. فان كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض. لأنى أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً. الحق الحق أقول لكم أنه ليس عبد أعظم من سيده ولا رسـول أعظم من مرسله"(4).ـ
القديس يوحنا ذهبى الفم يقول [ اتضع أيها الإنسان ولا تتكبر على من تجتمع به ولا تسـتح من أن تخـدم الغريب .. أليـس أنك تخـدم نظيرك فى العبودية ؟ وكفاك أنك تتمثل برب المجد الذى غسل أرجل تلاميذه ].ـ
وعندما تقدمت أم ابنى زبدى إلى السـيد المسـيح طالبة أن يكون ابناها عن
(1)- (مت5: 22). (2)- (أف4: 31، 32).
(3)- (أم19: 11). (4)- (يو13: 12- 16).
يساره وعن يمينه فى ملكوت السموات فقال لها يسوع "لستما تعلمان ما تطلبان أتستطيعان أن تشربا الكاس التى سوف أشربها أنا .. ثم قال أنتم تعلمون أنه رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً .. كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين"(1).ـ
ـ9ـ المتواضع يحتمل التجارب بفرح ..
المسـيح كمثال لنا جُـرب لكى يعين المجربين .. كما يقول بولس الرسول "من ثم كان ينبغى أن يشبه اخوته فى كل شئ لكى يكون رحيماً ورئيـس كهنة أميناً فى ما لله حتى يكفر خطايا الشعب. لأنه فى ما هـو قـد تألـم مجرباً يقدر أن يعين المجربين"(2).ـ
يقول القديس ماراسحق [ يسمح الله بالتجارب والعوارض أن تأتى علينا حتى للقديسين لكى ندوم فى الاتضاع، فإذا قسيت قلوبنا تجاه التجارب يشدد الله التجارب ويصعَّبها أما إذا قابلنا التجارب باتضاع وقلب منسحق فالله سوف يخرج التجربة بالرحمة ].ـ
والقديس يعقوب الرسول يقول "أحسبوه كل فرح يا اخوتى عندما تقعون فى تجارب متنوعة. عالمين أن امتحان إيمانكم ينشئ صبراً وأما الصبر فليكن له عمل تام لكى تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين فى شئ وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطب من الله الذى يعطى الجميع بسخاء ولا يُعير"(3).ـ
وبولس الرسول أصيب بمرض معين فقبله بفرح، فيقول "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة فى الجسد. ملاك الشيطان ليلطمنى لئلا أرتفع. من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقنى فقال لى تكفيك نعمتى لأن قوتى فى الضعف تكمل. فبكل سرور أفتخر بالحرى فى ضعفاتى لكى تحل على نعمة المسيح"(4).ـ
(1)- (مت20: 20- 38). (2)- (عب2: 17، 18).
(3)- (يع1: 2- 5). (4)- (2كو 12: 7- 9).
والقديس توما الكمبيسى يقول [ التجارب تفيد الإنسان فائدة عظمى، ولو أنها مزعجة ومرهفة إلا أنه بسببها يتضع الإنسان ويتأدب ويتنقى ].ـ
ـ10ـ يجب أن يسلك الإنسان بتواضع فى حياته كلها ..
ومن أجمل الآيات التى نبتدأ بها فى صلاة باكر قول بولس الرسول "أسألكم أنا الأسير فى الرب أن تسلكوا كما يحق للدعوة التى دعيتم إليها بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة محتملين بعضكم بعضاً فى المحبة"(1).ـ
والإنسان المتضع هادئ فى حديثه متضع فى جلسته، ومشيته، وفى ألفاظه .. ومؤدب فى حديثه، ويعامل الجميع برقـة وببشاشـة .. طالباً بركة الجميع وصلواتهم لذلك يحبه الجميع.
وهو يهرب من المتكآت الأولى، ومن الرئاسة والكرامة ولا يتحدث عن نفسه مطلقاً، وإن ذكر شئ من حسناته أو فضائله فهو ينسب كل شئ إلى الله.
وهو يفعل الخير فى الخفاء .. بعيداً عن الرياء والتظاهر غير ناظر مطلقاً إلى إعجاب الناس بل إلى إرضاء الله وحده.
وإن وضع فى مركز كبير لا يأمر ولا يتسلط وإنما يحتفظ بسلوكه المتواضع فيعامل الكل كإخوة .. يحمل أثقال الكل، ويحاول أن يخدم الجميع، ولا يتشبث بفكره، ولا مانع عنده أن يُغير رأيه إذا ثبت خطأه، وبكل بساطة وصراحة يعترف بخطئه، ولا يحاول مطلقاً أن يبرر ذاته أو يلتمس لنفسه الأعذار.
لذلك فهو بعيداً عن العناد وسهل فى معاملاته .. سهل فى أخذه وعطائه .. سهل فى التفاهم معه .. قابل للنصيحة والإرشاد، ومستعد للتعلم حتى من هم أقل منه.
وهو أيضاً طويل الأناة .. طويل الروح .. لا يغضب بسرعة .. متسامح إلى أقصى حد .. قنوع فى حياته .. شاكر الله كل حين.
(1)- (أف4: 1- 4).