أزيلوا الفاسد من بينكم (1كور 5 /13)
إقتناء الوداعة - لقداسة البابا شنودة الثالث
إقتناء الوداعة
لقداسة البابا شنودة الثالث
هناك من وُلدوا من بطون أمهاتهم ودعاء.
بطبع هادئ لم يتعبوا في اقتنائه. إنما نالوه عن طريق الوراثة.
أو هبةً من الله وهبهم إياها. بعكس الذين يولدون بطبع ناري يميل إلي العصبية أو إلي العنف..
ولسنا عن الوداعة بالطبع أو الميلاد أو الهبة.
نتكلم الآن. إنما نتحدث عن الوداعة بصفة عامة. في اقتنائها أو فقدها
اقتناء الوداعة
الإنسان الذي يصل إلي الوداعة بجهاد وضبط نفس ومحاولات للسيطرة علي أعصابه وعلي إرادته. هذا يكون أجره عند الله أكبر
إنه يجاهد - ربما بتداريب كثيرة - لكي يضبط ذاته.
ويضبط أفكاره وألفاظه وحركاته. ويقتني كل أنواع الهدوء.
ويتخلص من الغضب والنرفزة بكل صورها وكل نتائجها.. إنها وداعة ليست طبيعية وإنما مكتسبة.
وما دام الله يطلب منا هذه الفضيلة.
إذن لابد أنه قد وضع في طبيعتنا إمكانية الوصول إليها.. فكيف ذلك؟
تدرّب يأخي إذن علي الهدوء. وابدأ مثلاً بهدوء الصوت:
في حديثك العادي. ابعد عن الصوت العالي.
وحاول أن يكون صوتك خفيفاً هادئاً.
ولا شك أن هذا أمر سهل. تدرّج منه إلي الصوت غير الحاد. فلا تتكلم بعنف ولا بشدة. بل احتفظ بأعصابك هادئة حينما تتكلم. متحكماً في نبرات صوتك..
فإن تدربت علي هدوء الصوت. تدرّب أيضاً علي هدوء الملامح
لأن الشخص الغضوب. يظهر غضبه في ملامحه وفي نظرات عينيه. وفي تجهمه وفي تقضيب جبينه.
فإن وجدت أنك قد وصلت إلي هذا كله أو إلي بعض منه. قل لنفسك إن شكلي الآن قد أصبح لا يليق. وربما أصبح منفراً..
وحينئذ حاول أن تهدّئ ملامحك وستجد أنك مضطر في نفس الوقت أن تهدّئ انفعالاتك الداخلية..
نقطة ثالثة هي هدوء حركاتك:
الشخص الغضوب قد يظهر غضبه في عدم هدوء حركاته. وبخاصة حركات يديه. في العسكرية لا يستطيع جندي أن يحدث أحد رؤسائه وهو يحرّك إحدي يديه. بل يقال له "اثّبت". كذلك أنت: حاول أن تضبط ليس فقط حركات يديك. بل كل حركاتك.. وكن هادئاً في جلستك وفي مشيتك. ولا تتململ. ولا تبدو منفعلاً أو عصبياً..
وفي كل ذلك تدّرب علي هدوء ألفاظك:
غير الودعاء تصدر عنهم ألفاظ قاسية عنيفة. أو ألفاظ متهكمة تثير محدثيهم. أو ألفاظ تدخل في نطاق التجريح والإهانة. أو أنهم إذا تكلموا. لا يراعون دقة الألفاظ فتُمسك عليهم أخطاء.. وقد يكونون في كلامهم غير مهذبين يستخدمون ألفاظاً غير لائقة. تخرج عن حدود الحشمة والوقار.. وكل هذا ضد الوداعة..
أما الوديع. فإنه يضبط ألفاظه. وإن لم يستطع ذلك في غضبه. فإنه يضبط غضبه. أو علي الأقل فإنه يصمت. و"يضع حافظاً لفمه وباباً حصيناً لشفتيه" كما يقول المزمور.
علي أن أهم من هذا كله. هدوء القلب ووداعته:
فالوداعة في أصلها هي وداعة القلب. والقلب الوديع يكون وديعاً في كل شيء: في صوته. في ملامحه. في ألفاظه. في أعصابه. في حركاته. لأن كل هذه مظاهر خارجية تعبر عن حالة القلب من الداخل. ومع ذلك فالتدرب عليها يوصل إلي وداعة القلب. أو ينبه القلب إلي الالتزام بالوداعة..
علي أن وداعة القلب تلتزم أو ترتبط بفضائل أخري كثيرة:
يدخل في مقدمتها التواضع. فالإنسان المتواضع يتصرف في وداعة. كذلك المحبة: إن عاش الإنسان فيها. يحيا بالضرورة في حياة الوداعة. فالمحبة تتأني وتترفق. ولا تحتد. ولا تظن السوء. وتحتمل كل شيء.. وكل هذه من صفات وعناصر الوداعة أيضاً.
كذلك الوداعة ترتبط بفضائل أخري:
مثل اللطف. والهدوء. وطول البال وسعة الصدر. والتسامح. والحكمة. والعمل علي ربح النفوس. فمن يقتني هذه الفضائل وأمثالها. يقتني الوداعة أيضاً.
والوداعة تُقتني بعمل النعمة في القلب
ويحتاج الإنسان أن يطلب ذلك في صلاته. لكي يمنحه الله نعمةً يصير بها وديعاً. وإن منحه الله النعمة يتجاوب معها مشتركاً بإرادته.. وإن اقتني الوداعة. يحرص ألا يفقدها..
فقد الوداعة
هناك أسباب إذا سلك الإنسان فيها بأسلوب خاطيء. فإنها تفقده وداعته. أو لا تساعده علي اقتنائها من بادئ الأمر. نذكر من بينها:
السلطة والمركز. والغني. وسائر نواحي العظمة:
أحياناً يتولي إنسان منصباً رفيعاً. فيظن أنه من مستلزمات المنصب أن يأمر وينهي. ويزجر وينتهر. ويتعالي وينظر إلي الآخرين من فوق.
وهكذا يفقد وداعته وتواضعه أيضاً.. ويدخله روح التسلط!
ولكن ليست المناصب العليا أمراً مانعاً للوداعة فهناك عظماء ودعاء. جمعوا بين الرئاسة والوداعة مثل موسي النبي الذي قيل عنه "كان الرجل موسي حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين علي وجه الأرض". ومثل داود النبي الذي قيل عنه "اذكر يارب داود وكل دعته"..
لكن الذي يستغل المنصب والعظمة استغلالاً خاطئاً. فهذا هو الذي يفقد وداعته. وكذلك من يستغل الغني والمال. ومع ذلك يوجد أغنياء كثيرون ودعاء ومتواضعون. يختلطون بالفقراء في محبة وبساطة ويحلون لهم مشاكلهم..
وقد يفقد البعض وداعتهم. إذا ما دخلوا في مجال إصلاح الغير بطريقة خاطئة..
يظن هؤلاء أن وسيلة الإصلاح لا تأتي إلا بالعنف والشدة. أو أن الدفاع عن الحق لا يأتي إلا بالتشهير وإدانة المخطئين أو من يظنونهم مخطئين! وذلك بسبّهم علناً وتحريض الناس ضدهم..
مشكلة أولئك وأمثالهم أنهم يفقدون وداعتهم. ويرتكبون العديد من الخطايا. دون أن يدركوا ذلك. بل علي العكس يفتخرون بما يفعلون! وأكثر من ذلك يحسبون أنفسهم أبطالاً ومصلحين..!
يذكرني هذا بأشخاص يُعهد إليهم بتنظيم أحد الاجتماعات:
وباسم العمل علي حفظ النظام. ينتهرون ويصيحون. بل ويمنعون ويطردون. ويستخدمون كل القسوة في عملهم. وأحياناً لا نسمع أي ضوضاء في الاجتماع. إلا ما يصدر من أصوات المنظمين!!
لماذا لا يعمل أولئك علي حفظ النظام في هدوء وفي غير عنف؟!
لماذا لا يقلدون الراعي الذي يستخدم عصاه في تنظيم سير الغنم. بمجرد الإشارة واللمس والتوجيه. دون أن يضرب..
البعض يفقد وداعته باسم الصراحة وقول الحق!
وبحجة الصراحة يجرح شعور الآخرين بطريقة منفرة ومؤذية..!
والعجيب أنه يقول في افتخار: "أنا أنسان صريح. أقول للأعور: أنت أعور. في عينه!". ولماذا يا أخي تجرح هذا الشخص وتؤلمه. بصراحتك هذه الخالية من المحبة ومن اللياقة؟! أما كان ممكناً أن تستخدم أسلوباً آخر. تراعي فيه إحساسه. ولا تفقد فيه الرقة والوداعة؟!
إن السيد المسيح كان رقيقاً في التعامل مع كثير من الخطاة والخاطئات. وبلطفه اجتذب كل أولئك إلي التوبة. وإلي الإيمان.
يدخل في موضوع الصراحة أيضاً: لون من العتاب
فقد يوجد إنسان - بالعتاب - يربح أخاه بينما آخر يفقد الوداعة في عتابه. فيفقد صديقه أيضاً. وقد قال الشاعر في هذا:
ودَعْ العتابَ فربّ شرّ كان أوله العتابا
إنسان آخر يفقد وداعته بسبب الحزم!
والحزم ليس معناه بالضرورة العنف. فما أسهل أن يكون الإنسان حازماً ووديعاً: يأخذ موقفاً حازماً. وفي نفس الوقت يشرح سبب هذا الحزم بطريقة مقنعة لا تفقده محبة من يستخدم الحزم معهم.
وهكذا يفعل الأب مع أبنائه. يتصرف بحزم ممزوج بالمحبة والإقناع. وبمثل هذا الحزم أيضاً يتصرف رئيس مع مرؤوسيه.. ولكن بحزم بعيد عن الغضب والنرفزة. بل بحكمة رصينة هادئة.
البعض يفقد وداعته بسبب الحرص علي كرامته الشخصية
وهذا أمر ردئ. فالكرامة الحقيقية هي أن يحتفظ الإنسان بالصورة المثالية التي تجلب له احترام الكل. وليس بفقدان الوداعة والظهور بمظهر إنسان أثير ولم يستطع ضبط نفسه!
الوداعة من الشجاعة
الوداعة هي الطيبة واللطف والهدوء. ولكن لا يصح أن تُفهم فهماً خاطئاً. وكأن الوديع يبقي بلا شخصية ولا فاعلية لا يتدخل في أي شيء! كلا. فهذا الوضع يفقد الوداعة صفتها كفضيلة..
حقاً إن الإنسان الوديع هو شخص طيب وهادئ. ولكن هذه هي نصف الحقيقة. أما النصف الآخر فهو أن الوداعة ليست منفصلة أو متعارضة مع باقي الفضائل كالشهامة مثلاً أو الشجاعة.
وإنما كما يقول الحكيم "لكل شيء تحت السموات وقت"
وهكذا بالنسبة إلي الوديع: يعرف - في حكمة - متي يهدأ ومتي ينفعل؟ متي يصمت. ومتي يتدخل؟ وكيف يتصرف في كل حالة من الحالات..
الطيبة هي الطبع السائد عن الوديع. ولكن عندما يدعوه الموقف إلي الشهامة أو الشجاعة أو الشهادة للحق. فلا يجوز له أن يمتنع عن شيء من ذلك بحجة التمسك بالوداعة..
لأنه لو فعل ذلك. وامتنع عن التحرك نحو الموقف الشجاع. لا تكون وداعته حينئذ حقيقية. إنما تصير رخاوة في الطبع. وعدم فهم لمعني الوداعة. بل عدم فهم للروحانية بصفة عامة فالروحانية ليست تمسكاً بفضيلة واحدة تُلغي معها باقي الفضائل - إنما الروحانية هي اجتماع كل الفضائل معاً متجانسة ومتعاونة في جو من التكامل..
إن السيد المسيح كان وديعاً جداً. وفي نفس الوقت كان قوي الشخصية
في قوة قام بتطهير الهيكل من عبث اليهود. وطرد منه الصيارفة والباعة. وفي قوة وبخ قادة اليهود قائلاً لهم "إنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس. فلا تدخلون أنتم. ولا تدعون الداخلين يدخلون"! فهل كان ممكناً - باسم الوداعة - أن يتركهم يغلقون أبواب الملكوت؟! إن الوداعة فضيلة عظيمة. ولكنها لا تمنع الغيرة المقدسة ولا الشهادة للحق..
موسي النبي كان حليماً جداً. ومع ذلك غضب غضبة مقدسة. لما عبد اليهود عجلاً ذهبياً قد صنعوه فكسّره ووبخهم..
فالوداعة لا تمنع أحياناً من تنبيه الخاطئ أو تحذيره أو حتي توبيخه.. فهل إذا رأيت صديقاً أو قريباً علي وشك أن يتزوج زواجاً غير شرعي. من قرابة ممنوعة. أو ما يسمونه بالزواج العرفي. أو ما شاكل ذلك.. هل تمتنع باسم الوداعة عن تنبيهه بأن ما ينوي عمله هو وضع خاطئ؟! كلا. بل من واجبك أن تنصحه. وليكن ذلك بأسلوب هادئ ومقنع.
هل إذا اتيحت فرصة للوديع أن ينقذ أحداً. معتدي عليه مثلاً أو في خطورة.. أتراه يمتنع عن ذلك باسم الوداعة؟!