أورشليم أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أبناءك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها! فلم تريدوا ( مت 23 /37)
فضيلة البشاشة - بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
البشاشة
بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
البشاشة فضيلة اجتماعية مميزة.
فالإنسان البشوش يسعد الناس ببشاشته، ويشركهم معه في فرحه أو في سلامه وهم يستبشرون به
إذ ينقلهم إلى نفس مشاعر البهجة التي له.
إنه يشيع السلام حوله. ويبعث الطمأنينة في قلوب الآخرين.
وبشاشته تشع من نظرات عينيه، ومن ابتسامته، ومن ملامح وجهه، ومن أسلوب حديثه.
إنه نفس مستريحة من الداخل، وقادرة على إراحة الغير. تُشعر مَن حولها بأنه لا يوجد ما يدعو إلى الكآبة
بل هناك فرح على الرغم من كل شيء.
الإنسان البشوش لا يسمح للمشاكل بأن تحصره داخلها. إنما يكسر دائرتها
ويفتح له باباً ليخرج منها.
إنه لا يعتمد على عقله وحده، إنما على الإيمان بالأكثر.
أي الإيمان باللَّه الذي يحب البشر، ودائماً يعمل معهم خيراً. فإن كُنا لا نرى هذا الخير
فذلك قصور منا لا يمنع من وجود الخير أو من انتظار مجيئه.
الإنسان البشوش، حتى إن حاربته الأحزان من كل جانب
يقول لنفسه: " وما ذنب الناس في أن يروني عابس الوجه فيحزنوا؟! "
لذلك فهو في نبل نفسه ـ إن أدركه الحزن ـ يحتفظ به لذاته وحده. ويقدم بشاشته للآخرين.
فهو لا يشركهم في الحزن بل في الفرح ...
الإنسان البشوش ينتصر على المتاعب، ولا تنتصر المتاعب عليه
إنه لا يقع في الحصر النفسي، ولا تكون نفسه عدوة له في داخله. وهنا يكون عقله صديقاً له، ودائماً يريحه. أمَّا الكئيب، فعقله يكون ألدّ أعدائه، لأنه يصوّر له متاعب، رُبَّما لا وجود لها.
ودائماً يضخّم له ما يمكن أن تنتظره من مشاكل. ويغلق أمامه أبواب الحلول..!
وإن أراد أن يخرج من بيته، يقول له: لا تنس المتاعب التي ستقابلك!
الإنسان البشوش حقاً، هو الذي يتمتع بالبشاشة الداخلية. فهو ليس فقط بشوشاً
في مظهره، من الخارج. بل البشاشة تملك أعماق قلبه وفكر
وتنبع من داخله. فلا يحمل همَّاً...
إذا أخطأ: فبدلاً من أن يفقد بشاشته، يعمل على إصلاح الخطأ. وحينئذ يعيش في سلام داخلي، وفي سلام مع اللَّه...
كثيرون إذا وقعوا في خطأ أو في مشكلة، يكون الرد الطبيعي عندهم هو الكآبة.
ولكن الكآبة ليست حلاً عملياً للمشاكل. أمَّا الشخص البشوش
فإنه يبحث عن الحل العملي الذي يتخلَّص به من المشكلة وينقذه من الكآبة.
فإن وجد الحل، تزول المشكلة،
ويملكه الفرح.
أمَّا الكئيب: فإن المشكلة تستولي على كيانه كله.
وبالأكثر عقله ومشاعره. فيظل
يُفكِّر في المشكلة وأعماقها وأبعادها، وكيف حدثت، وما يتوقعه من نتائج سوداء لها ...
فيزداد كآبة، ولا يُفكِّر مطلقاً في حل المشكلة.
وإن فكَّر في حلٍّ، فإنه يستصعبه ويضع
أمامه العقبات ... أو يتخيل أنه لا حلّ..! وهنا تشمل الكآبة كل تفكيره.
فلا يبصر الحل وهوموجود! وهكذا يستمر في كآبته، بل تزداد تلك الكآبة.
ولا يستطيع أن يكون بشوشاً...
الإنسان البشوش إن لم يجد حلاًّ لمشاكله، يتركها إلى اللَّه
وينساها في يديه الإلهيتين.
أمَّا الكئيب، فلا يستطيع أن ينسى مشاكله. إنها قائمة دائماً أمام عينيه، تتعبه وتزعجه.
وكُلَّما فكَّر فيها، ترهق أعصابه.
ورُبَّما يحتاج إلى طبيب نفسي، يعطيه منوماً أو مهدئاً،
لكي تستريح أعصابه. على أن تلك المهدئات، هى مُجرَّد علاج من الخارج، بينما الداخل
في تعب...
حسن أن الإنسان البشوش يعطي لنفسه فرصة يعمل فيها اللَّه. وإن أتعبته مشكلة،
وعجز فكره عن حلَّها، يُصلِّي واثقاً أن اللَّه لابد سيتدخل
ولا داعي مُطلقاً للقلق...
البشوش يجعل اللَّه بينه وبين المشكلة، فتختفي المشكلة وراء اللَّه.
أمَّا الكئيب فيضع المشكلة بينه وبين اللَّه، فلا يرى اللَّه يعمل.
البشوش لا يعطي للمتاعب وزناً فوق وزنها الطبيعي.
وكثير من الأمور يأخذها ببساطة، فلا تتعقَّد أمامه.
وبطبيعة نفسه لا يتضايق إلاَّ من الأمور التي هى فوق الاحتمال ..
وهو في العادة له قلب واسع لا يتضايق لأي سبب، ولا يفقد بشاشته.
إن الإنسان عموماً قد يفقد بشاشته بسبب عدم الإكتفاء. أي أنه لا يكتفي بما عنده،
بل يتطلَّع باستمرار إلى طموحات عالية رُبَّما لا تكون سهلة المنال. فإن لم ينلها يكتئب.
ولهذا فالإنسان القنوع الراضي بما قسم اللَّه له، يكون دائماً بشوشاً شاكراً.
إنَّ الطامع في منصب كبير أو في مستوى عالي، إن لم تتحقق آماله، فإنه يكتئب
ويفقد بشاشته. ومن العجيب أن كبار الأغنياء قد يفقدون بشاشتهم أيضاً
إن أرادوا نمواً لثرواتهم ولم يتحقَّق ذلك. وقد يتحقَّق لهم ما يريدون، ومع ذلك يفقدون البشاشة إذ يجدون أمامهم ضرائب ومستحقات للدولة لا يحبون دفعها كلها. وإن لجأوا إلى التهرب الضريبي، تصدمهم قضايا وأحكام تفقدهم البشاشة أيضاً!!
الإنسان البشوش يحب أن يكون جميع الناس بشوشين مثله. فلذلك هو يحاول دائماً أن ينسيهم أحزانهم، ويشع فيهم الإطمئنان، ويبحث عن حلول لمشاكلهم، ويعطيهم تعليلاً مريحاً لكل الضيقات
ويجلب البهجة لهم مهما حدث...
إنه يخفف من قدر المتاعب، ولا يحسب لها ثقلاً. وفي كل مشكلة تحل لغير
يريحه بأن الرب الحنون المُحب
يقول: " تعالوا إليَّ يا جميع التعابى والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم ".
الإنسان البشوش لا يعيش في التعب الحاضر، إنما بالرجاء يعيش في الفرح المقبل.
يعيش سعيداً ولو في الخيال. وله إيمان أن اللَّه لابد سينقذه من تعبه.
إنه مؤمن بالمعونة الإلهية التي لا يشك مطلقاً في وصولها إليه.
إن لم يكن اليوم، فغداً.
هناك مشكلة في موضوع البشاشة وهى أن البعض يخلط بين الجدية والعبوسة،
وبين الضحك والخطيئة.
وكأن الذي لا يكون عابساً، فهو بالضرورة يكون عابثاً!!
أو على الأقل يكون ساهياً عن نفسه، أو غافلاً عن الاهتمام بأبديته وناسياً لخطاياه.
ومن هنا نرى أن بعض المتدينين أو رجال الدين يحرصون دائماً أن يتصفوا بالجدية أو بالتَّزمُّت. وهذا يقودهم إلى أن يكون كل منهم عابساً.
ويعتبرون المرح أو البشاشة حراماً..!
وهذا التَّزمُّت له خطورته، لأنهم يخيفون الناس من التدين.
أو هم يقدمون للناس صورة عن التدين غير سليمة.
ونقول: لماذا لا يكون الإنسان متديناً، ومرحاً وبشوشاً في نفس الوقت؟
وهل معنى التدين أن ينفصل الإنسان عن الحياة الاجتماعية وما فيها من مرح وبهجة؟
وهل إذا ضحك المتدين يبكته ضميره؟
وماذا عن الحفلات التي تتميز بالمرح، هل مستواها هابط؟
وماذا عن الطفل الذي يحب أن يضحك، ويحب مَن يضحكه؟ هل نعلّمه التَّزمُّت؟!