في ضيقي الرَّبَّ دَعَوتُ وإِلَيه إِلهي صَرَختُ فسَمعَ صَوتي مِن هَيكَلِه وبَلَغَ صُراخي مِسمَعَيه ( مز 18 /7)
بمناسبة احد زيارة السيدة العذراء لنسيبتها اليصابات - العذراء مريم و مراحل نمونا الروحي - من الكتابات المسكونية الأرثوذكسية
|
العذراء مريم |
زيارة العذراء لأُم يوحنا المعمدان:
لما أراد داود النبي أن ينقل تابوت العهد إلى صهيون إلى مدينته، لم يفكر في وضعه ومركزه بين شعب الله، بل إنه اندفع بالفرح وأخذ يرقص أمام تابوت العهد (راجع 2صم 6: 16). ومريم العذراء تمثِّل التابوت الحي الذي للعهد الجديد، فهي التي حملت الكلمة الإلهي في أحشائها، وعَبَرَت به جبال اليهودية لكي تصل إلى أليصابات نسيبتها التي كانت هي الأخرى حاملاً في يوحنا المعمدان: «فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا، ودخلت بيت زكريا وسلَّمت على أليصابات» (لو 1: 40،39).
هذه هي الزيارة التي التقى فيها الحشاءان، التقت مريم مع أليصابات ونظرهما مصوَّبان إلى الداخل إلى حيث إعلانات الله. لقد أسرعت العذراء لا لكي تزور أليصابات فحسب، بل وأيضاً لكي تُفرِح يوحنا المعمدان (وهو في أحشاء أُمه) وتشجِّعه على رسالته.
ويوحنا الذي تقدَّس وتكرَّس وهو في بطن أُمه، التقط البُشرَى وفرح بها حتى أنه ارتكض في أحشاء أليصابات (ارجع إلى لو 1: 44). وبسبب هذا الحدث يُطلق التقليد على يوحنا المعمدان لقب ?نبي الفرح?، لأنه أول شخص - بعد العذراء - استقبل البشارة المُفرحة. ويوحنا المعمدان يعرف رسالته حق المعرفة، فهو من بطن أُمه يعي تماماً أن فرحه هو للمسيح وفي المسيح، ولهذا فهو نفسه يقول بعد ذلك بثلاثين عاماً:
«مَن له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فَرَحاً من أجل صوت العريس. إذاً فرحي هذا قد كَمَلَ» (يو 3: 29).
فلقد ذاق يوحنا المعمدان طعم الفرح الحقيقي وهو ما يزال في بطن أُمه. لذلك فهو لم يتوانَ بل بذل حياته من أجل أن يصل الناس إلى سر هذا الفرح، إلى التوبة وملء العلاقة مع الله:
«وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه... اصنعوا أثماراً تليق بالتوبة... والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطَع وتُلقَى في النار» (لو 3: 7-9).
إن يوحنا المعمدان بُشِّر به بالفرح، ووُلِد بالفرح. لذلك كان مُهيئاً لأن يُستعلن له سر الثالوث في مياه الأردن: «... جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن. وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت، والروح مثل حمامة نازلاً عليه» (مر 1: 10،9).
لقد رأى يوحنا المعمدان وتيقَّن أن الحب والفرح هما أساس شركتنا مع الله وأنهما عطية مجانية من الآب لأولاده. لقد عرف ذلك عندما سمع صوت الآب آتياً من السماء مُخاطباً الابن قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ».
لذلك فيمكن القول إن العذراء مريم ويوحنا المعمدان كانا أول شاهدَيْن على العهد الجديد: مريم باعتبارها أُمّاً لهذا العهد، ويوحنا المعمدان بوصفه المنادِي والمبشِّر بقدومه.
والاثنان أيضاً كانا أول من أدرك قدوم ملء الزمان، لذلك فهما أول مَن سبَّح لقدومه: مريم في تسبحتها «تعظِّم نفسي»، ويوحنا سبَّح ابتهاجاً وارتكض وهو ما يزال في بطن أُمه.
الفرح هو الذي سيحفظ زماننا:
إن لحظات الفرح التي كانت تعيشها العذراء كانت نتيجة لشعور فريد أحسَّت به في نفسها، شعور بأنها تحمل في أحشائها المسيح، الله المتجسِّد. لقد وجدت العذراء ملء الزمان، فأصبح الزمن بالنسبة لها ملئاً. لقد أدركت العلاقة بين الزمني والأبدي، إذ كانت حاملة للاثنين. فالله الآب أرسل كلمته، أرسل ابنه الوحيد إلى زماننا، لكي يحفظ به الزمن ليمتدَّ ويصل إلى الأبدية.
فكل مَن يحمل المسيح في داخله، سيكون له هذا الإحساس وهذه القوة عينها، سيصبح في هذا العالم كمَن يعيش في مَعْبَد، فهو كائن في زمن مائت، ولكنه في نفس الوقت يأخذ من هذا الزمن فرصة للانتقال إلى الأبدية.
وكل لحظة نمرُّ بها تمثِّل لنا عهداً مع الله، ذلك إن نحن أردنا ذلك، إن أصبحنا بكل كياننا نعم. إذ سيصير فراغ زماننا ملئاً زمنياً. ولكي نصيرنعم يجب أن نلتحم، بحبٍّ، بكل لحظة من هذا الزمن، أن نطوِّع لحظات الزمن المائتة ونمتطيها لكي نقوم من على ظهر الزمن بزيارة إلى ما بعد الزمن. زيارة نستَرِق فيها السمْع، وننصت بفرحٍ، لسماع أناشيد الأبدية.
ذلك بالضبط ما فعلته العذراء مريم التي لم تُضيِّع الوقت، وذهبت لتُشارك أليصابات فرحتها، فازداد فرحها هي؛ ذهبت لتبشِّر يوحنا المعمدان بالفرح، ففَرِح وهو في بطن أُمه، وفرحت العذراء من أجل استعلان رسالة يوحنا.
لذا فعلينا أن ننتبه للعالم، ونتيقظ من محاولاته المستمرة للتسلُّط علينا، نتنبَّه ونتيقظ بالفرح الدائم الذي يمكِّننا من تطويع ما في العالم وجَعْلِه أداة لتحقيق شركتنا الروحية مع شخص المخلِّص يسوع المسيح حيث لا تنطبع علينا - بعد - هموم العالم، بل نطبع نحن عليها صورة المسيح، فنصبغها بصبغته، فتتقدَّس لنا.
فإما أن نحب العالم ونخدمه، ونُشقي أنفسنا ومَن حولنا بهذه الخدمة؛ وإما أن نحب الله ونخدمه، فنَسعد نحن، ونُسعِد مَن حولنا بهذا الحب وبهذه الخدمة: «لا يقدر خادم أن يخدم سيِّدَيْن، لأنه إما أن يُبغض الواحد ويُحِب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (لو 16: 13).
نظرة الله للإنسان:
لقد ذكرنا أن الكآبة كانت تغيب تماماً عن قلب العذراء مريم، إذ حيث يكون قلبك هناك يكون أيضاً كنزك. فالعريس المسيح لم يكن غائباً أبداً عن قلب العروس (مريم)،
لهذا فهي كانت في حالة فرح دائم بغضِّ النظر عمَّا يحيط بها، وهذا ما توضِّحه لنا تسبحتها: «تعظِّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلِّصي» (لو 1: 46).
لذلك فمَن يتبع المسيح - حاملاً إيَّاه في قلبه - ليس له أن يقول إن هذا الوقت يحمل لي فرحاً، وذاك يحمل حزناً؛ بل إن كل لحظة - في حقيقتها - هي بشارة بالفرح، عليَّ أن أستقبلها شاكراً حتى أكتشف فيها حقيقة الله المُحِب:
+ «والآن هكذا يقول الرب خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل: لا تخف لأني فديتُك، دعوتُك باسمك. أنت لي. إذا اجتزتَ في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيتَ في النار فلا تُلْذع، واللهيب لا يُحرِقُكَ، لأني أنا الرب إلهك قدوس إسرائيل، مُخلِّصك. جعلتُ مصر فِدْيَتَك، كوش وسبا عِوَضك. إذ صرتَ عزيزاً في عينيَّ، مكرَّماً، وأنا قد أحببتُك، أُعطي أُناساً عِوَضك، وشعوباً عِوَض نفسك» (إش 43: 1-4).
نعم لقد كانت الفتاة مريم تعيش، بقوة هذه النبوَّة، وهذا ما أخرجها من أُفقها المحدود، كفتاة صغيرة، وضمَّها إلى أُفق الله الواسع، وهكذا قالت للملاك:
«ليكُن لي كقولك».
لقد قدَّمَت مريم تسبحتها بفرح، لأنها كانت قد ارتاحت إلى رحمة الله الواسعة: «... ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتَّقونه». وكلمة رحمة التي ذُكِرَت في تسبحة العذراء تعني في اللغة العبرية: حب الله المطلق واهتمامه بالإنسان وعطفه عليه.
وهذه فعلاً هي نظرة الله للإنسان، هذه هي رحمته التي أدهشت السامرية، وجعلت زكا يُصاب بدهشة داخلية، وأوقفت متى عن عمله لكي يتبع الرب. هذه هي نظرة الله لنا، والتي جعلت المرأة الخاطئة تسكب دموعها عند قدميّ يسوع، هذه هي النظرة التي كان لها من القوة ما يجعل لعازر يقوم من قبره.
على أن نظرة الله للإنسان، بالرغم من قوتها، إلاَّ أنها لطيفة تعمل فقط في الذين يقبلونها. والعذراء مريم قبلت هذه النظرة بفرح، بل وتهلَّلت بها، بدايةً من البشارة حيث لم تَرَ إلاَّ عمل الخلاص،
وختاماً بالصليب حينما نظر المسيح إليها بعينيه الداميتين والتي فهمت منهما أنها يجب أن تفرح بالخلاص، بالرغم من السيف الذي أصابها كأُمٍّ ترى وحيدها مُعلَّقاً يُعاني آلام الموت وهو على الصليب.